المصالح والمفاسد


المصالح والمفاسد ، أهميتها وضوابطها وقواعدها وخواطر عليها !

مقدمة :

الأحكام الشرعية هي نفسها الراعي الحقيقي لجلب المصالح ودرء المفاسد، والشريعة إنما بنيت على ذلك، ولا يقتصر هذا على تعارض المصالح مع المفاسد، بل يتناول أيضا مراعاة جلب أعلى المصلحتين عند التعارض، ودرء أعلى المفسدتين عند التزاحم، وإنما يحكم بذلك الراسخون في العلم، العارفون بمقاصد الشرع، المميزون لرتب الأحكام وتفاوتها!

.......      ........

أولاً :معني كلمة المصلحة لغةً وإصطلاحاً :

المصلحة لغة:

المصلحة كالمنفعة وزناً ومعنى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة بمعنى النفع، أو هي اسم للواحدة من المصالح، 

وفي اللسان: والمصلحة الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح. 

وفي الصحاح: المصلحة واحدة المصالح مأخوذة من الصلاح ضد الفساد، والاستصلاح نقيض الاستفساد..

 فكل ما كان فيه نفع - سواء كان بالجلب  والتحصيل كاستحصال الفوائد واللذائذ، أو بالدفع والاتقاء، كاستبعاد المضار والآلام - فهو جدير بأن يسمى مصلحة.

المصلحة اصطلاحاً:

 المصلحة كما قال الإمام الغزالي: المحافظة على مقصود الشرع من الخلق خمسة:

 أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة..

 فهذه  ولا ريب منفعة قصدها الشارع الحكيم لعباده من خلال حفظ هذه الأصول الخمسة، والمنفعة هي: اللذة أو ما كان وسيلة إليها، ودفع الألم أو ما كان وسيلة إليه، أو كقول الرازي: اللذة تحصيلًا، أو إبقاء، فالمراد بالتحصيل: جلب اللذة مباشرة، والمراد بالإبقاء: الحفاظ عليها بدفع المضرة وأسبابها.

ثانياً :معنى المفسدة لغةً واصطلاحاً

المفسدة لغةً:

 فساد الشيء واستحالته، يقال: فسد الشيء يفسُد ويفسِد، وفسُد فسادًا وفُسودًا وأفسدته. حكى سيبويه: رجلٌ مفسد ومِفساد. ويقال: قلب متعب وعمل مفسد؛ لأن أصول أفعالها أفعال رباعية، ومفعول الرباعي يبنى على مفعل، فكما يقال: أكرم فهو مكرم، وأضرم فهو مضرم، كذلك يقال أتعب فهو متعب وأفسد فهو مفسد.

المفسدة اصطلاحًا:

المفسدة ما قابل المصلحة، وهي وصف للفعل يحصل به الفساد: أي الضرُّ دائمًا أو غالبًا، للجمهور أو للآحاد. 

وعرفها ابن عاشور بقوله: المفسدة ما في وجوده فساد وضرر، وليس في تركه نفع زائد على السلامة من ضرره. 

ويفهم من التعريف أن المصلحة نوعان: 

النوع الأول:مصلحة عامة ويقصد بها ما فيه صلاح عموم الأمة أو  الجمهور، ولا التفاتَ منه إلى أحوال الأفراد إلا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة، مثل: حفظ المتمولات من الإحراق والإغراق؛ لأن في بقاء تلك المتمولات منافع ومصالح هي بحيث يستطيع كل من يتمكن من الانتفاع بها نوالها بالوجوه المعروفة شرعًا. 

النوع الثاني: مصلحة خاصة وهي  ما فيه نفع الآحاد باعتبار صدور الأفعال من آحادهم؛ ليحصل بإصلاحهم صلاح المجتمع المركب منهم، فالالتفات فيه ابتداء يكون إلى الأفراد، وأما العموم فحاصل تبعًا، وهو بعض ما جاء به التشريع القرآني، ومعظم ما جاء في السنة من التشريع، مثل: حفظ المال من السرف بالحجر على السفيه مدة سفهه، وذلك نفع لصاحب المال ليجده عند رشده، أو يجده وارثه من بعده، وليس نفعًا للجمهور.

........     .........

أقوال الأئمة في المصالح والمفاسد "جلب المصالح ودرء المفاسد" :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله في المصالح والمفاسد : 

إن الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته، وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله، 

مثل: فعل محرم يتعين، مثل: من يترك أخذ الشبهة ورعا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينا تحريمه، أو يترك واجبا تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة؛ كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة،

 وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه، وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين،

 ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع! كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع..

وقال أيضا: الشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة، كالإيمان والجهاد، فإن الإيمان مصلحة محضة، والجهاد وإن كان فيه قتل النفوس فمصلحته راجحة، وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل، 

كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} ـ ونهى عن المفاسد الخالصة والراجحة، كما نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعن:

 الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، وهذه الأمور لا يبيحها قط في حال من الأحوال، ولا في شرعة من الشرائع، وتحريم الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك مما مفسدته راجحة، وهذا الضرب تبيحه عند الضرورة، لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الاغتذاء به..

وقال أيضا: السيئة تحتمل في موضعين:

دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها... وذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. اهـ.

ومما ذكر في تأصيل هذا الأساس المتين، وبيان مبانيه، قوله: هو مبني على أربعة أصول: 

أحدها: معرفة مراتب الحق والباطل، والحسنات والسيئات، والخير والشر، ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. 


الثاني: معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب، وما يستحب من ذلك وما لا يستحب.

الثالث: معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز، وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة.

الرابع: معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم، ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله، وينهى عما ينفع نهيه عنه، ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه، وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان ـ أمر متفق عليه بين المسلمين ـ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام..

وهنالا ريب في أن الحاجة للموازنة بين المصالح والمفاسد تشتد في أزمنة الفتن، وظهور المنكرات، وقلة العاملين بالحق والمعينين عليه، فالحاجة عندئذ لهذا الباب من أبواب الفقه في الدين تعظم، وتصبح ملحة غاية الإلحاح، ولا يقوم بها إلا الأفذاذ من أهل العلم، 

قال شيخ الإسلام: وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء،

 ولهذا جاء في الحديث: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ؛

 فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم: العفو عند الأمر، والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية،

 ومثل أن ترفع مذنبا إلى ذيسلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر، فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح ـ كما تقدم ـ بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: 

إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: 

إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن؛ كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى بيانها،

وهنا يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }ـ والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: 

بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه:

 كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، 

ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال:

 إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع ـ فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به،كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع،

 ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل. والله أعلم...

وهنا ننبه على أن العالم وإن كان لا ينفك عن النظر والموازنة بين المصالح والمفاسد، إلا أن تقرير ذلك والعلم بمراتبه يرجع في الجملة إلى أدلة الشرع، لا إلى الآراء المجردة وأهواء النفوس..



و‏قال الإمام  ابن القيم_رحمه الله في مُفتَاح دار السعادة :

المصَالِحُ والخَيْرَات، واللّذَات وَالكمَالاَت، 
كُلّها لاَ تُنالُ إلاّ بحَظٍ مِنَ المشقَّة، 
ولاَ يُعبَرُ إِليهَا إلاّ علَى جِسرٍ منَ التَّعَبِ
وقَد أجمَعَ عُقلاَء كُلّ أمّةٍ علَى أنّ النَّعِيم 
لا يُدرَك بالنَّعِيم، وأنّ مَن آثَر الرَّاحَةَ 
فاتَتهُ الرَّاحَة، وأنّ بحسَبِ ركُوبِ ‏الأَهوَال 
واحتِمَالِ المَشَاقّ تكُونُ الفَرحَةُ واللّذة.
فلاَ فرحَة لمَن لاَ هَمَّ لَه، 
ولاَ لذَّة لمَن لاَ صَبرَ لَه، 
ولا نعِيم لِمَن لاَ شقَاءَ لَهُ،
ولا رَاحَةَ لِمَنْ لاَ تَعبَ لَهُ،
بَل إذَا تعِبَ العَبدُ قَليلاً استَراحَ طَوِيلاً، 
وإِذَا تحَمّل مَشقّة الصَّبرِ سَاعَةً 
قادَهُ لحَيَاة الأَبَد، وكُلّ مَا فيهِ 
أهلُ النَّعِيم ‏المُقِيم فهُو صَبرُ سَاعَة، 
والله المُستَعَان، ولاَ قُوّة إلاّ بِالله.


قال العز بن عبد السلام ـ رحمه الله  في قواعد الأحكام:
 مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع
وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، 

وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، 

ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها

.........   .........

قواعد ترجيحية التي تحدد المصالح والمفاسد :

القاعدة الأولى: تقديم ما دلت النصوص على تقديمه؛ من جهة كثرة اعتبارها له، أو من جهة تقديمه في نظائر المسألة المبحوثة:

قال ابن تيمية _رحمه الله: "اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها؛ وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام"، الفتاوى، (28/129).

أ- فمن ذلك: النظر للأولويات من خلال محدداتٍ من النص الشرعي، ومنه:

1_ المصلحة أو المفسدة التي جاء النص بالتصريح بتقديمها: ومن ذلك ما  أخرجه الطبراني في المعجم الصغير عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أن رجلاً جاء إلى النبي – صل الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله – صل الله عليه وسلم : "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا"،

 ومنه ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء – رضي الله عنه - أن النبي – صل الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وحسّن الألباني رحمه الله في صحيح الجامع عن رجل من خثعم أن النبي – صل الله عليه وسلم -  قال: "أحب الأعمال إلى  الله: إيمان بالله، ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأبغض الأعمال إلى الله: الإشراك بالله، ثم قطيعة الرحم".

 

2_ المصلحة أو المفسدة التي ألغت النصوص بعض الأحكام الشريعة  للمحافظة على جلبها أو دفعها؛ ومثالها: مصلحة اجتماع الناس خلف إمام واحد غُيّرت لأجلها هيئة الصلاة في حال الخوف، مع أنه بالإمكان الصلاة خلف إمامين دون تغيير صفة الصلاة؛ فدل على تقديم هذه المصلحة على الأخرى، وهكذا...

 

3_ المصلحة أو المفسدة التي كثرت النصوص المخصصة لها والمخرجة  لبعض أفرادها أضعف من التي لم تخصص؛ فمن ذلك أجاز الشافعية_ رحمهم الله كثرة الأفعال في الصلاة حال التحام القتال، ولم يجيزوا الصياح ونحوه ولو زجر الخيل؛ لأن المستثنيات من مبطل الحركة كثيرة في النصوص؛ بخلاف مبطل الكلام. 

ومن أمثلة المصالح الدعوية التي اعتبرها النص: سئل الشيخ العثيمين_ رحمه الله عن حكم القيام الجماعي؟ فقال: "أما القيام أحياناً جماعة فلا بأس؛ لأنه ثبت عن النبي – صل الله عليه وسلم - أنه قام معه بعض الصحابة أحياناً، كحذيفة بن اليمان وعبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عباس"، لقاءات الباب المفتوح، (110/19).

ب- ومن ذلك كذلك: النظر في محددات الترجيح من القواعد الشرعية لتتجلى نظائر المسألة، فمن ذلك:

1_ أن الفضيلة المتعلقة بهيئة العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها؛ ومنه: لو تردد الأمر بين إطعام المحتاجين لضرورات الحياة، أو  تفطير الصائمين في المسجد الحرام، كان الأول أولى؛لأن فضيلته تتعلق بنفس العبادة.

2_ وإذا تقابل عملان تفاضلا في الكيفية والكمية؛ أحدهما ذو شرف ورفعة  في نفسه وهو واحد، والآخر ذو تعدد في نفسه وكثرة؛ كالمفاضلة بين بناء مسجدٍ كبيرٍ ذي مرافق متعددة، وبناء عدة مساجد؛ فأيهما يقدم؟

رجح الشافعية والحنابلة تقديم الكثرة، ومال ابن تيمية رحمه الله إلى تقديم الأشرف، والذي يظهر أن في كلٍ مزية تفضيل، ولعل في مسائل  الواقعات ما يميل بالترجيح إلى إحدى الجهتين؛ فينظر في كل مسألة بحسبها.

  وبقية القواعد الفقهية في اعتبار التفاضل، ودفع الضرر تراجع في مظانها

ومن أمثلة اعتبار النظائر: سئل رحمه الله عن حكم تنظيم البرامج الدعوية في المراكز الصيفية والرحلات البرية؟ فكان الجواب: "لا بأس أن تنظم الجماعات في الدعوة إلى الله عز وجل في أي وقت وفي أي مكان، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم - ينظم أصحابه في الجهاد والصلاة والحج وفي كل شيء... فالتنظيم أمر جاء به الشرع ولكنه مطلق، ومعنى: كلمة مطلق، أنه يخضع لما تقتضيه المصلحة في كل زمان ومكان، قد يكون تنظيمنا هنا في البلد مناسباً وصالحاً، ولكنه في بلد آخر لا يكون مناسباً ولا صالحاً، ولهم أنظمة خاصة بهم، فكل يراعي ما تحصل به المصلحة، وليس ذلك شيئاً محدثاً أو محرماً في الشرع، فإنه من الأمور التي جاءت السنة بمثله"، لقاءات الباب المفتوح، (51/18).


ج- ومن ذلك اعتبار رتب الأمر والنهي: فيقدم الواجب على المندوب،  وفرض العين على فرض الكفاية، ودفع المحرم على دفع المكروه، ودفع مفسدة الكبائر أولى من دفع مفسدة الصغائر.

ومن أمثلته: تقديم النفقة على العيال، على النفقة على الدعوة، والأخيرة على النفقة على الفقير.

 

ومن تطبيقاته: اعترض العثيمين رحمه الله على من أخرّ صلاة العشاء لكنه وقع في مفسدة تفويت الجماعة بالآتي: "الأفضل في صلاة العشاء التأخير، لكن بشرط ألا تتأخر عن نصف الليل، ولكن لا يجوز للإنسان الذي تلزمه الجماعة أن يؤخرها ويترك الجماعة؛ لأن التأخير سنة والجماعة واجبة، ولا تعارض بين السنة والواجب".


القاعدة الثانية: اعتبار رتب المصالح والمفاسد من جهة متعـلقها:

أ_ومن ذلك الترجيح بحسب ترتيب الضرورات الخمس؛ فيقدم ما تعلق  بحفظ الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال.

ومن أمثلة ذلك النصية: ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال: سألت النبي – صل الله عليه وسلم -  أي الذنب أعظم  عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أيّ؟ قال: "وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك"، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، فقدم النبي – صلى الله عليه وسلم -  المفسدة المتعلقة  بالدين على المفسدة المتعلقة بالنفس، وأخرّ المفسدة المتعلقة بالعرض.

 

ب_ ومن ذلك تقديم الضرروي (وهو ما تعلق بدفع الهلاك والضرر)، على  الحاجي (وهو ما تعلق بدفع المشقة)، على التحسيني (وهو ما تعلق بحصول التمام والكمال).

ومن أمثـلته النصية: قول الله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ،فقدّم سبحانه  ما يتعلق بحفظ ضروري الدين على ما يتعلق بحفظ ما هو من تحسيناته.

ج_ تقديم ما هو أصلي في حفظ الضرورات السابقة على ما هو من تتماته،  أو يقال: تقديم ما كان من مقاصد الحفظ على ما كان من وسائله؛ فمن ذلك: تقديم الجهاد مع أئمة الجور على تركه؛ لأن مقصد الجهاد مع أئمة العدل إنما كان لتأكيد الجهاد وتثبيته؛ فلا يعود عليه بالإبطال. 

ويأتي آخر البحث مثال دعوي تطبيقي لما سبق.

 

القاعدة الثالثة: تقديم ما كان أعظم أثرًا:

يقول ابن تيمية_ رحمه الله: "فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم يُنه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمَر بهما، ولم يُنه عنهما"، الفتاوى، (28/129-130).

أ_من ذلك تقديم ما كانت مصلحته أو مفسدته خالصة، على ما إذا كانت  راجحة.

ب_ وتقديم ما كان أثره متعديًا (عامًا) على ما كان أثره قاصرًا (خاصًا): فمصلحة طلب العلم وبذله أولى من مصلحة العبادة.

ومن أمثلتهما: ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله – صل الله عليه وسلم -  سئل أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان  بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"، فقدم ما كانت مصلحته خالصة وهو الإيمان بالله على ما كانت مصلحته راجحة متعدية وهو الجهاد في سبيل الله، وتقديم الجهاد على ما كانت مصلحته راجحة غير متعدية وهو الحج.

 ج_ ومنه التفاضل بين المصالح والمفاسد بحسب عموم أثرها وتعديه إلى الغير، ومن أمثلته: فتوى الشيخ العثيمين رحمه الله بترك إلقاء الموعظة في الأعراس، وعلل ذلك بقوله: "فلكل مقام مقال، وأنا أحب أن يتلقى الناسُ دينهم بانشراح وقـبول، وإذا قدرنا أن (10 %)، يريدون الموعظة، وأن (90 %) لا يريدونها فمَن نرجِّح؟! نرجَّح (90%)؛ لئلا نثقل على الناس"، لقاءات الباب المفتوح، (70/24).

د_ ومن ذلك تقديم الأثر الدائم على المنقطع: دل على ذلك قوله – صل الله عليه وسلم -: "أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل"، متفق عليه، ومن أمثلته: تقديم الصدقة الجارية على غيرها.

ومن تطبيقاتها الدعوية: أن الشيخ العثيمين رحمه الله أنكر على الخطباء الذين يعمدون في خطبهم إلى ذكر بعض الجرائم التي تحصل مما يعد من  إشاعة الفاحشة بين المسلمين؟، قال: "الذي أرى للخطباء ألا يثيروا شيئاً في الخطبة التي يخطبون بها أمام الناس، إلا إذا اشتهر الشيء وكثر وشاع، أما إذا كان في قضية واحدة وهي مما ينكر عليها إنكاراً عظيماً، فإن الواجب أن الإنسان يتصل بهذا الذي حصل منه هذا الشيء وينصحه، لأن الشيء إذا ذكر صار حديث الناس، وإذا لاكته الألسن سهل على النفوس، فيحصل في هذا مفسدة أكثر مما يحصل من المنفعة"، لقاءات الباب المفتوح، (78/4)، وأجاز ذلك في مجلسٍ خاصٍ لأشخاص معينين يخشى وقوعهم في هذه الفاحشة، لا على المنابر وفي الخطب، لقاءات الباب المفتوح، (179/16)، ومثل ذلك إنكاره ذكر أخبار التائبين والتائبات على هذا الوجه، وحكم بأنه  اجتهاد خاطئ جدًا، ولا يجوز نشرها؛ لأنها من المجاهرة، ويهون الأمر في نفوس السامعين والقارئين، وفضيحة لعباد الله، لقاءات الباب المفتوح، (100/25)، فالمصلحة قاصرة على وقت إلقائها، والضرر منها دائم.


القاعدة الرابعة: تقديم المصالح بحسب درجة تحقق وقوعها، وتعـينها:

أ_ومن ذلك تقديم ما كان مقطوعًا بأثره أو متفقًا عليه على ما كان مظنونًا  أو مختلفًا فيه، وما كان مظنونًا على ما كان متوهمًا:

قال العز بن عبد السلام _رحمه الله: "كذب الظنون نادر وصدقها غالب، وكذلك يبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسده على ظنونٍ غالبة متفاوتة في القوة والضعف والتوسط بينهما، على قدر حرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة"، مختصر الفوائد في أحكام المقاصد، ص(133و134).

 

ب- ويتحقق كذلك بتقديم المتعين على غيره، فدفع المفسدة التي لا  مندوحة عن الوقوع فيها مقدم على جلب المصلحة التي قد تتحقق بوسائل أخرى دون ارتكاب المحرم، والعكس، وكذا فإن المصالح التي تفوت مقدم جلبها على المصالح التي لا تفوت.

 

وكمثال للضابطين: سئل الشيخ العثيمين رحمه الله: عن داعية انشغل عن الدعوة بعلاج الممسوسين بالجن، فهل يجوز تعطيل الدعوة من أجل هذا العمل؟ وكان الجواب: "الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، فإن تعينت على الشخص بحيث لا يقوم غيره مقامه، فإنها مقدمة على القراءة على مَن به مس من الجن؛ وذلك لأن مصلحة الدعوة مصلحة مُتَيَقَّنة، ومصلحة القراءة على من به مس من الجن مصلحة غير مُتَيَقَّنة، وكم من إنسان قرئ عليه ولم يستفد شيئاً! فيُنْظَر! إذا كانت الدعوة مُتَعَيَّنة على هذا الرجل، لا يقوم غيره مقامه فيها، فإنه يجب عليه أن يدعو، ولو ترك القراءة على من به مس من الجن؟ أما إذا كانت فرض كفاية فيَنْظُر إلى الأصلح، وإذا أمكن أن يجمع بينهما، وهو الظاهر أنه يمكن الجمع بينهما، بأن يخصِّص لهذا يوماً ولهذا أياماً حسب الأهمية، فيحصل منه الإحسان إلى إخوانه الذين أصيبوا بهذه المصيبة، ومع ذلك يستمر في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن حصل الجمع بينهما ما أمكن فهو الأولى"، لقاءات الباب المفتوح، (44 / 8).

 

القاعدة الخامسة: أن يُقدم عند الترجيح المقصود الخاص للشارع في كل حكمٍ من أحكامه على غيره:

أ‌- فلا يكون القصد إلى التابع يؤدي إلى انقطاع المقصود: كالصلاة لأجل  الناس رياء، لا يؤكد ولا يبعث على الدوام، بل هو مقوٍ للترك ومكسل عن الفعل... فهذا القصد مضاد لقصد الشارع، ينظر: الموافقات، (2/398-400).

 

وقد سئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن حكم الصيام الجماعي، فجعله نوع من البدعة؛ لأن الاجتماع على العبادات من الأمور الشرعية، إلا أن يكون الصيام وقع اتفاقًا، ثم اتفقوا على الإفطار عند أحدهم، وكان من تعليله: " فأرى أن يتخلوا عن هذا الطريق، وأن يكون الإنسان مستعيناً بالله عز وجل، وأن يعتد بنفسه، وإذا كان الإنسان لا يفعل العبادة إلا متوكئاً على عصا - أي إلا إذا فعلها غيره- فإن عزيمته ضعيفة"، اللقاء الشهري (25/4)، وقال في لقاء الباب المفتوح، (2/38): "فالإنسان يكفـيه أن يرغب بهما، أماأن يفعل مثل هذه الأمور أخشى أن تعود الديانات طقوسًا ظاهرية فقط"، وفي (215/16): "وثانياً: أنه يؤدي إلى أن الإنسان لو فارق هؤلاء قد لا يصوم؛ لأنه ما صام إلا من أجل متابعتهم أو موافقتهم. نعم، إذا صاموا بدون اتفاق فلا بأس"؛ فظهر أن اتجاه الشيخ إلى أن الصوم عبادة يغلب فيها مقصد تربية النفس تربية ذاتية لا جماعية؛ بخلاف غيره، فلا تشرع الوسائل المناقضة لهذا المقصد، والله أعلم.

ب‌- أو يؤدي إلى خلاف قصد الشارع، ومن أمثلة ذلك: سئل العلامة العثيمين عن حكم الموعظة بصفة دائمة على القبر؟ فكان جوابه المنع، وعلل ذلك بقوله: "لأن المقام في الحقيقة مقام خشوع وسكون، وليس مقام إثارة العواطف"، لقاءات الباب المفتوح، (3/27)، وسئل عن إلقاء المواعظ في الأعراس، فقال: "... وهذا يدل على أن المسألة مسألة فرح لا مسألة  وعظ، لكن لو رأى الإنسان منكراً فهنا يحب عليه أن يقوم وينكر ويتكلم بما يفيد الحاضرين حول هذا المنكر، أو كان شخصاً معروفاً مشهوراً يتطلع الناس إلى كلامه ويحبون أن يسمعوا منه، فقام رجل من الناس، وقال: يا فلان! حدثنا، أو سأله سؤالاً ففتحوا باب الأسئلة والمناقشة فهذا طيب، أما أن تجعل هذه المناسبات موضع مواعظ بدون أن يكون الناس يتحرون هذا الشيء، وعلى غير هدي السلف الصالح، فهذا شيء مما ينظر فيه، وتعلمون أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -  كان يتخول أصحابه بالموعظة حتى لا يملهم"، لقاءات الباب المفتوح، (11/88).

وسئل رحمه الله: بعض المدرسين يجعل جوائز تشجيعية للطلبة إن صام مثلاً عاشوراء أو عرفة فيجعل له جائزة، وأنكر عليه بعض المدرسين، فما رأيكم في هذا الشيء؟ الجواب: "رأيي أن الإنكار حق، ولا ينبغي لنا أن نعوّد الناس على جوائز دنيوية في مقابل أعمال دينية؛ لأن الإنسان يبدأ ينظر إلى هذه الجوائز، نعم يحثهم على هذا ويرغبهم في صوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر ولتكن الأيام البيض، أما أن يعطيهم جوائز فلا، لكن لو فعلوا وأراد أن يعطي أحداً جائزة فأرجو ألا يكون في هذا بأس"، لقاءات الباب المفتوح (179/9).

وما سبق ليس مبنيًا على القول بمنع التشجيع بالجوائز مطلقًا، بل متفرعٌ على أن الصوم من العبادات المحضة؛ التي يُقصد منها خلق المراقبة في ذات المكلف، بخلاف غيره؛ لذا سئل الشيخ عن تشجيع الطلاب على العلم ببذل الجوائز، يقول السائل: بين الحين والآخر يقـوم المدرسون بتشجيع الطلاب على حفـظ جزء من القـرءان أو متن الأصول الثلاثة ثم يجعلون لذلك جوائز تشجيعية يزعم البعض أن في ذلك إفـساد للنيات، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ الجواب: "رأيي بذلك أنه لا بأس به، ولا حرج لأن هذا من باب التشجيع، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -  فعل مثل  ذلك أو قريبًا منه، فقد كان يقول في الجهاد:(من قتل قتيلاً فله سلبه) -يعني ما عليه من الثياب ونحوها- وهذا تشجيع بالمال، والله عز وجل قد جعل التشجيع بالمال حافزًا، وجعل الردع بالعقـوبة رادعًا، كم من إنسان لا يزني خوفًا من الحد، فهل نقـول أن في هذا غلطاً، لا يمكن، فلا أرى في ذلك بأسًا إطلاقًا"، الباب المفتوح، (2/8).


القاعدة السادسة: النظر عند الترجيح إلى المآلات (جهة التلازم)، وانفكاك جهة المصلحة عن المفسدة (جهة الانفكاك):

الفرع الأول: النظر في المآلات، وسد الذرائع إلى المفاسد المتوقعة:

يقول الشاطبي_ رحمه الله عن المجتهد: "لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجاب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه… فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغبّ، جارٍ على مقاصد الشرع"، الموافقات، (5/177).

 ويقول الشنقيطي_ رحمه الله بعد أن ذكر أن الصحابة – رضي الله عنهم - وجميع المذاهب يتعلقون بالمصالح المرسلة: "لكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمرٌ يجب فيه التحفظ وغاية الحذر؛ حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها، أو مفسدة أرجح منها، أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال"، المصالح المرسلة له، ص(21).


أ- وإنما يتحقق اعتبار المآلات في مجال الدعوة إلى الله: بالنظر في هدي  المصلحين، ومعرفة واقع الناس، والتفقه في النواميس والسنن التي وضعها الله تعالى في الأنفس والمجتمعات؛ فإنها لا تتبدل ولا تتغير.

 

وقد سئل العثيمين عن حكم إقامة المراكز الصيفية، فقال: " لا شك أن الحكومة وفقها الله تُشْكر على ما تنشئه من هذه المراكز الصيفية؛ لأنها تكف بهذه المراكز شراً عظيماً، وفتنة كبيرة، فلو أن هؤلاء الشباب، وهذه الجحافل الكثيرة العدد صارت تجوب الأسواق طولاً وعرضاً، أو تخرج إلى المنتزهات، أو إلى البراري، أو الشعاب، أو الجبال، فما ظنكم بالذي يحصل منها من الشر؟! أعتقد أن كل إنسان عاقل يعرف الواقع سيظن أن كارثة ما ستحصل للشباب من الانحراف، وفساد الأخلاق، والأفكار الرديئة، وغير ذلك..."، (لقاءات الباب المفتوح، 21/18).

 

ب- كما يتحقق بحصول الخبرة بما تتطور وتؤول إليه الوسائل الدعوية، ومعرفة طبيعة المتعاملين بها:

وقد سئل الشيخ رحمه الله عن حكم الوعظ عند القبر، فأجاب: "... وربما يؤدي في المستقبل إلى شيءٍ أعظم؛ ربما يؤدي إلى أن يتطرق المتكلم إلى الكلام عن الرجل الميت الحاضر، مثل أن يكون هذا الرجل فاسقاً مثلاً، ثم يقول: انظروا إلى هذا الرجل! بالأمس كان يلعب، بالأمس كان يستهزئ، بالأمس كان كذا وكذا، والآن هو في قبره مُرْتَهَن، أو يتكلم في تاجر مثلاً، فيقول: انظروا إلى فلان، بالأمس كان في القصور والسيارات والخدم والحشم والآن انظروا حالَه. فلهذا نرى ألا تُفْعَل هذه"، لقاءات الباب المفتوح، (23/7).

 

وسئل عن الأناشيد الإسلامية، فقال: " الأناشيد الإسلامية كثر الكلام حولها، وأنا لم أستمع إليها إلا من مدة طويلة، وهي أول ما خرجت لا بأس بها، ليس فيها دفوف وتؤدى تأدية ليس فيها فتنة، وليست على نغمات الأغاني المحرمة، لكنها تطورت وصارت يسمع منها قرع يمكن أن يكون دفاً ويمكن أن يكون غير دف، ثم تطورت باختيار ذوي الأصوات الجميلة الفاتنة، ثم تطورت أيضاً إلى أنها تؤدى على صفة الأغاني المحرمة، لذلك: بقي في النفس منها شيء وقلق، ولا يمكن للإنسان أن يفتي بأنها جائزة على كل حال، ولا بأنها ممنوعة على كل حال"، (اللقاء الشهري، (11/14)، وقال في لقاءات الباب المفتوح (230/16): "فلهذا لا يمكن أن نحكم عليها بحكم عام حتى نعرف الشريط الذي في هذا".

الفرع الثاني: مراعاة انفكاك جهة المصلحة عن المفسدة:

1_ إذا استطاع الناظر أن يضبط انفكاك جهة المصلحة عن المفسدة لم يعدل عن ذلك؛ جمعًا بين جلب المصالح ودرء المفاسد:

ومن تطبيقاتها: سئل الشيخ العثيمين رحمه الله: عن حكم استغلال التلفاز في الدعوة إلى الله، فقال: "أرى أنه إذا كان هجر هذه الوسائل وعدم المشاركة فيها سبباً في ترك المنكر، فإنه يجب مقاطعتها ومهاجرتها حتى تترك هذا المنكر لما هو خير، أما إذا كان هذا الأمر لا يفيد وربما يزيد الطين بلة؛ بحيث تفرغ لنشر شر أكبر وأكثر، فأرى أنه يجب استغلال هذه الفرصة، ونشر الدعوة إلى الله تعالى من خلال هذه الوسائل، ثم هذا المنكر الذي يُعرض - كما يقول السائل - لا يعرض في الوقت الذي أنت تلقى فيه الخير، بل هو منفصل عنه، فيكون من أراد استمع إليه وشاهده، وإذا جاء الوقت الذي فيه المنكر يغلق المذياع أو التلفاز وينتهي منه"، (الصحوة الإسلامية، ضوابط وتوجيهات، ص178-917)، فقوّى الشيخ جانب مصلحة المشاركة في التلفاز لإفادة الناس؛ لأنها مصلحة مقطوع بها في الجملة على مصلحة هجرها للتأثير عليها؛ لأنها منظونة أو متوهمة؛ كما أنه يمكن تحصيل المصلحة دون الوقوع في المفسدة.

ب_ إذا انفكت جهة المصلحة عن المفسدة؛ لكون الجالب للمصلحة هو فعل الداعية، والجالب للمفسدة فعل غيره، لم يؤاخذ الداعية على ما أوقعه غيره من المفاسد ما دام لم يتسبب في ذلك، بل عليه أن يسعى في تخفيف هذه المفاسد ما استطاع:

وقد سئل ابن تيمية _رحمه الله: عن رجل متولٍ ولايات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء؛ بل ربما يزداد وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه فيسقط النصف والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وأي الأمرين  خير له؟

فأجاب: "إذا كان مجتهدًا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه... بقاؤه على  ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه"، الفتاوى، (30/356 وما بعدها).

 

ومن أمثلة ذلك: سئل الشيخ العثيمين بما نصه: ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت، علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينهم؟

"الجواب: أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً؛  لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر، أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر، أتباع كل ناعق، فلابد أن نختار من نراه صالحاً، فإذا قال قائل: اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك، نقول: لا بأس، هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة وألقى كلمة الحق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولابد... أما القول: إن البرلمان لا يجوز، ولا مشاركة الفاسقين، ولا الجلوس معهم، هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبين لهم الصواب"، لقاءات الباب المفتوح، (209/12).


القاعدة السابعة: على فرض التساوي: فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، أو يقال: إذا اجتمع الحلال والحرام غُلب الحرام.

ومن أهل العلم من يذهب إلى التخير: يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: "فإن تعذر درء الجميع - أي المفاسد - أو جلب الجميع - أي المصالح- فإن تساوت الرتب تخير"، قواعد الأحكام، (1/4)، ومنهم من يذهب إلى التوقف: يقول ابن تيمية رحمه الله: "وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمَر بهما، ولم يُنه عنهما"، الفتاوى، (28/129-130)، ومنهم من يذهب إلى منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة عند التعارض؛ لحديث: "يسرا ولا تنفرا، وبشرا ولا تنفرا"، متفق عليه، ويرى الشنقيطي رحمه الله أن المقصود بالقاعدة: تقديم درء المفاسد التي تتعلق بحفظ الضروريات على جلب المصالح المتعلقة بحفظ الحاجيات؛ فتكون القاعدة داخلة في تضاعيف القواعد السابقة، والله أعلم.

وليعلم أن جميع ما سبق محكم حيث يتعذر الجمع إعمالاً لجميع المصالح ودرءًا لجميع المفاسد، فإن تيسر هذا تعين؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال، قال ابن القيم رحمه الله: " الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع "، مفتاح دار السعادة، (2/19).


ومن فقه العثيمين _رحمه الله في تطبيق مجموعة من القواعد السابقة على الوسائل الدعوية أنه سئل: من المعروف عندنا أن في ليلة المولد أو قبلها بأيام ينصبون الخيام، وكذلك في كل طائفة من الطرق الصوفية عندهم خيمة، فيذكرون الله ويتراقصون وما إلى ذلك، ثم أن هناك أيضاً خيمة لأهل السنة يعني: يتكلمون فيها، وبيان الأمر والنهي يعني: أنه لا بد من طاعة الله وتوحيد الله عز وجل وما إلى ذلك، فهل لهم أن ينصبوا الخيمة في هذا المكان مع أنها وسط خيام الصوفية وغير ذلك، هذا بالنسبة للخيمة نفسها؟

فأجاب: "فهمتُ كلامك الآن، أنت تريد أن تقول: إن عندكم أناساً مبتدعين،  بدعتهم غليظة جداً، وأناساً غير مبتدعين، بل هم ملتزمون بالسنة؛ لكن ينصبون خيامهم عند خيام هؤلاء لجذب الناس، أو لحماية الناس عن البدع الغليظة التي يفعلها هؤلاء، فهذه المسألة تَجاذَبَها شيئان: الشيء الأول: بدعة، وهذا يقتضي أن تُمْنَع، وأنه لا يجوز لأهل السنة أن ينصبوا خياماً لهذه البدعة. ] قلت: هذه مفسدة المشاركة في المكان [، الثاني: حماية عن بدعة أعظم، ] وهذه مفسدة وقوع الناس في البدع الشركية [، وحينئذ  نقول: لا بأس؛ لأن صد الناس عما هو أعظم بما هو أخف من الأمور المطلوبة شرعاً؛ لقوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)، ولأن أهل السنة لو لم يفعلوا ذلك لشنَّع عليهم هؤلاء، وأقاموا عليهم العامة، وقالوا: هؤلاء لا يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، والعوام هوام، لا تعرفهم. ] وهذه مفسدة تؤول وتترتب من ترك المشاركة [،فإذا قالوا: نحن نفعل ذلك لنذكر الناس بأحوال الرسول عليه الصلاة والسلام، وغزواته وجهاده ودعوته بدون غُلُو؛ لنحميهم عن البدع الكبيرة التي قد تخرجهم من الدين، ولندفع عن أنفسنا التهمة التي يجعلونها علينا، فينفِّرون الناس من الحق بهذا. أقول: لعل هذا إن شاء الله من الأمور المباحة إذا لم يمكن الطريقة الأخرى وهي: أن لا نشاركهم في خيامهم، ] يقصد الشيخ أن ننكر عليهم دون مشاركة في مكان خيامهم، حتى تكون المصلحة خالصة لا راجحة [، فإن أمكنت هذه بدون ضرر فهذا هو المطلوب.  السائل: هل يحق لغيرهم -يعني: لغير الآمرين- أن يذهبوا إلى هذه الخيمة؟ مع العلم أن هذه بدعة وكذا؟ الشيخ: لا يذهبوا، نحن نتكلم عن نصب الخيمة، وأما غيرهم فلا يذهبوا؛ ] حتى لا يتعدى أثر المفسدة [، لكن من رأوه ذاهباً إلى الخيام التي فيها المفسدة الكبيرة يدعونه]حتى لا تقع مفاسد أعظم بسبب منعهم [، لقاءات الباب المفتوح، (131/23)..

........     ..........

معنى قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ؟

استنبطها العلماء من الأدلة، من الأدلة الشرعية، فكون الإنسان يدرأ المفسدة أعظم من كونه يجلب المصلحة التي يتخيلها ويظنها،
 فإذا كان اجتماعه بزيد أو بعمرو يترتب عليه شر فيترك هذا الاجتماع الذي يخشى منه شر، وإن كان يرجو فيه مصلحة بأنه يعطيه فلوس أو يدعو له أو ما أشبه ذلك، لكن إذا كان يترتب عليه سوء ظن، أنه يظن به شر أن هذا الرجل الذي يحب أن يجتمع به مشهور بالشر أو بشرب المسكر أو بتعاطي ما حرم الله من اللواط أو ما أشبه ذلك، يبتعد عن ما يظن به السوء من أجله.
وكذلك إذا كان تعاطيه بسلعة معينة يجر عليه شرًا يبتعد عنها، وهكذا إذا كان ذهابه إلى حارة من الحارات يجر شرًا يبتعد ولو كان فيها مصلحة .... يزور مريضًا أو يتصدق على أحد مادام دخول هذه الحارة داخلها يتهم بالشر والفساد لا يذهب، درء المفسدة مقدم على المصلحة، وهكذا ما أشبه ذلك.

...........            ..............

خواطر في شروط مراعاة المصالح :

 مراعاة المصالح تحتاج إلى علم راسخ، ونظر ثاقب، وخاصة في الفتن، لما خرج على قومه في زينته،{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }، وهذا حال من نظر إلى ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، 

وأما صاحب النظر الثاقب والبصيرة النافذة الذي يخرق الحجب الظاهرة، ويجاوزها إلى العواقب والغايات، فقد جاء ردهم في قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُون } 

وأيضاً في قضية الغوغاء، أن بعض الناس دهماء وغوغاء،{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}، ماذا قال الدهماء والغوغاء والعامة الذين على طول ينخدعوا، الظاهر، {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم }، الذين لا ينخدعون بالظاهر أصحاب النظر الثاقب وأصحاب العلم، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُون }

خطر عدم مراعاة المفاسد :

 الذي لا يراعي عواقب الأمور، ونتائج الأمور يمكن أن يتسبب في موت ناس، رجل شج في رأسه، أصابته شجة، نام واحتلم، سأل أصحابه، قالوا: لا بد تغتسل، ما نظروا في العواقب، اغتسل مات، دخل الماء مات، هذا من جراء عدم النظر في العواقب،

 هؤلاء كما قال ابن تيمية_رحمه الله في رفع الملام: "اخطئوا بغير اجتهاد، ولذلك ذمهم وعنفهم"، لأنهم ما هم من أهل العلم، لو كانوا من أهل العلم واجتهدوا وأخطئوا، كان لهم أجر، لكن لأنهم لم يكونوا من أهل العلم، لو كانوا من أهل العلم عذروه، قالوا: يكفيك التيمم، أين مراعاة الحال؟ يعني: يموت الرجل يغتسل لو مات.

إن اعتبار مصالح الأمور مهم، وعدم المراعاة يؤدي للمفاسد العظيمة، وما يمكن يفقه الإنسان حتى يدرك خير الخيرين وشر الشرين،

 كيف تميز بين خير الخيرين، وشر الشرين؟، حتى إذا اجتمعت عندك مصلحتان لا تستطيع أن تحصلهما معاً، ولا تقدر إلا على إحداهما، كيف تختار؟ ماذا تختار؟ 

هذا خير الخيرين أنك تعرف خير الخيرين وأعلى المصلحتين، وإذا صار عندك مفسدتان لا تستطيع تلافيهما، ولا بد أن ترتكب إحداهما، فلا بد أن تعرف شر الشرين، وتدرك أدنى المفسدتين لترتكبه؛ 

دفعاً للمفسدة الأعلى، هذا الفقه والله، والله العظيم، هذا الفقه.
وكثيراً ما تحدث عنها  شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله في كلامه، ما يفقه الإنسان، لا يفقه حتى يميز ويعرف ويدرك خير الخيرين وشر الشرين، ما هو أعلى المصلحتين، وما هو أدنى المفسدتين، وإلا يخرب ويفسد أكثر مما يصلح، 

قال تعالي {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، الميتة حرام، وفيها مفاسد كثيرة، لكن لو الإنسان صار في وضع الاضطرار، ولو ما أكل منها يموت، يأكل، طيب مفسدة، لكن لو أنه تركها أدى إلى مفسدة أكبر وهي فوات النفس، تلف النفس،

قال تعالي:{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا }، خرق السفينة، اعتدى على ملك غيره، صح وإلا لا،  وحكم الاعتداء على ملك الغير؟ طيب وكيف إذا أحسنوا إليه، وحملوه بغير أجره، وراح خرق السفينة، كيف يخرق السفينة، يعتدي على ملك الغير، وأحسنوا إليه وحملوه بغير أجرة، 

لكن لأن عبد الله الخضر كان يدرك أدنى المفسدتين، ويميز أهون الشرين، يميز،{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا }، ما قال فأراد ربك، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا }، انظر الفقه في القول، والفقه في العمل والله، فقه في القول وفقه في العمل،{ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا }، لو تركتها بلا تعييب أخذها، وذهب على هؤلاء المساكين مصدر رزقهم كله، لا يسترزقون عليها مخروقة معيبة تذهب كلها.

.......       .........

خواطر علي قواعد في مراعاة المفاسد والمصالح:

 هناك قواعد في هذا:
هناك مفاسد عظيمة لا يمكن أبداً أن تصبح حلالاً، ولا في أي وقت:
مثل مثلاً: الزنا، لو قال واحد: الزنا مفسدة لكن إذا كانت مصلحته أكبر ممكن نفعله، أين هذه المصلحة؟ فهناك أشياء لا تقبل، غير قابلة أصلاً.

مثلاً: الخمر حرام، طيب في مصلحة تجارة ربح التجارة، تدفئة الناس بالبلدان الباردة، لذة، لذة ونشوة، لكن هذا الله حرمه إلى قيام الساعة، فلا يمكن يأتي وقت يصير الخمر حلالا، إلا إذا مثلاً واحد غص، أو في الصحراء ويموت، إلا بجرعة من خمر، هذه حالة خاصة جداً، ولكن الأصل أنه حرام.

المبالغة في المضمضة والاستنشاق طيبة للتنظيف، لكن إذا كان صائماً هنا في مفسدة أكبر من المصلحة، فنهينا عنها.

تمثيل أدوار الصحابة، ممكن يقول قائل: فيها مصلحة، نعرف سيرتهم، والعامة يحبون التمثيليات، نقول: ولكن تمثيل أدوار الصحابة لازم يترتب عليه مفسدة وتشويه، من هو الذي يكون على مستوى الصحابة؟ فلا بد أن يكون فيه إساءة بوجه من الوجوه، لازم، ولذلك حرم العلماء الثقات تمثيل أدوار الصحابة، والمتساهلون، والعصرانيون، من الذي يجرؤ أن يمثل دور عمر بن الخطاب؟ من ينال نعال أبي حفص؟


سفر المرأة دون محرم، فيه مصلحة يعني: ما تحتاج لأحد، تروح وقت ما تريد، ويمكن السفر خصوصية لها، ولكن فيه مفسدة أكبر، ولذلك ألزمت بالمحرم، وهكذا يقال في الاختلاط أشياء، ويقال ويقال، والمسألة طويلة.

والخلاصة الفقه في الدين، المصالح مراتب، والمفاسد مراتب، وضرورات، وحاجيات، وتحسينيات، وفيه ضرورات متعلقة بالدين، وفيه متعلقة بالنفس، وفيه متعلقة بالعقل، وفيه متعلقة بالمال، وفيه متعلقة بالعرض.
وفيه قواعد:


درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
تفويت أدنى المفسدتين لحفظ أعلاهما.
المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة.
الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
الضرر لا يزال بمثله.
الضرورات تبيح المحظورات.
الضرورات تقدر بقدرها.
إذا تعارضت مصلحتان أمام الفرد فعليه أن يقدم المصلحة المتعلقة بالأمر الضروري على المصلحة المتعلقة بالأمر الحاجي أو التحسيني.
إذا تعارضت مصلحتان إحداهما متعلقة بحفظ الدين، والثانية متعلقة بحفظ النفس، فماذا تقدم؟ واحدة متعلقة بحفظ المال واحدة متعلقة بحفظ العرض، ماذا تقدم؟
لو كان دفاعك عن عرضك يؤدي إلى قتلك، هل يجوز أن لا تدافع، لئلا تقتل، ولو انتهك العرض؟
يعني: أشياء تحتاج إلى علم..



تعليقات