إلَّا مَن أتَى اللهَ بقلبٍ سَليمٍ




تفسير ابن القيِّم_رحمه الله  :

‏{ إلَّا مَن أتَى اللهَ بقلبٍ سَليمٍ } الشُّعراء ٨٩

والقلب السَّليم هو الذي سلم من الشِّرك والغلِّ، والحقد والحسد، والشحِّ والكِبر، وحبِّ الدُّنيا والرِّياسة، فسلم مِن كلِّ آفةٍ تبعده عن الله، وسلم مِن كل شُبهةٍ تعارض خبره، ومِن كلِّ شهوةٍ تعارض أمره، وسلم مِن كلِّ إرادةٍ تزاحم مراده، وسلم مِن كلِّ قاطعٍ يقطع عن الله، 

‏و لا تتمُّ له سلامته مطلقًا حتَّى يسلَم مِن
 خمسة أشياءٍ : 

مٍن شركٍ يناقض التَّوحيد ،
وبدعةٍ تخالف السُّنَّة ، 
وشهوةٍ تخالف الأمر ،
وغفلةٍ تناقض الذِّكر ، 
وهوىً يناقض التَّجريد والإخلاص .

▪الجواب الكافي ١٢٢ - ١٢٣
......     ...........   ...... 

وفي تفسير القرطبي _رحمه الله 
"إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "

إلا من أتى الله بقلب سليم هو استثناء من الكافرين ; أي لا ينفعه ماله ولا بنوه . 
وقيل : هو استثناء من غير الجنس ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه لسلامة قلبه . وخص القلب بالذكر ; لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح ، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح . وقد تقدم في أول ( البقرة ) . 

واختلف  في القلب السليم !
فقيل : من الشك والشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ; قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين .

 وقال سعيد بن المسيب _رحمه الله : 
القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن ; لأن قلب الكافر والمنافق مريض ; قال الله تعالى : في قلوبهم مرض 

وقال أبو عثمان السياري _رحمه الله : 
هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة . 

وقال الحسن : سليم من آفة المال والبنين .

 وقال الجنيد : السليم - في اللغة - اللديغ ; فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله . 
وقال الضحاك : السليم : الخالص .

قلت : وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن ، أي الخالص من الأوصاف الذميمة ، والمتصف بالأوصاف الجميلة ; والله أعلم .

 وقد روي عن عروة أنه قال : يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط ، قال الله تعالى : إذ جاء ربه بقلب سليم .
 
وقال محمد بن سيرين _رحمه الله: القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور . 

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صل الله عليه وسلم قال : يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب ، سليمة من كل عيب ، لا خبرة لهم بأمور الدنيا ;
 كما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : أكثر أهل الجنة البله وهو حديث صحيح . أي البله عن معاصي الله . قال الأزهري : الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه . وقال القتبي : البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس .

.........    ...........   ......

تفسير ابن رجب _رحمه الله :
" إلا من أتى الله بقلب سليم " 

القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان; كما يقال: الإنسان بأصغريه . قلبه، ولسانه . 

وخرج ابن سعد من رواية عروة بن الزبير مرسلا أن النبي - صل الله عليه وسلم - لما رأى أشج عبد القيس،وكان رجلا دميما، فقال للنبي - صل الله عليه وسلم -: 
"إنه لا يستقى في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه; لسانه، وقلبه . 

وقال المتنبي : لسان الفتى نصف ونصف فؤاده 
                      ولم يبق إلا صورة اللحم والدم


فمن استقام قلبه ولسانه استقام شأنه كله، 
فالقلب السليم : هو الذي ليس فيه محبة شيء مما يكرهه الله، فدخل في ذلك: سلامته من الشرك الجلي، والخفي، ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي; كبائرها وصغائرها الظاهرة والباطنة: 
كالرياء والعجب والغل والغش والحقد والحسد وغير ذلك وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه; قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم  .  إذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب . في بعض الآثار، يقول الله: "وما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " . 


وقوله - صل الله عليه وسلم -: 
"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " . فيه إشارة إلى: أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه . 

فإن كان قلبه سليما، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات . 

وإن كان القلب فاسدا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب . 

ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، 
فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم  }

وكان النبي - صل الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "أسألك قلبا سليما" . 

فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله وخشية الله، وخشية ما يباعد منه . 

وفي "مسند الإمام أحمد " عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه " . 

والمراد باستقامة إيمانه: 
استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، 

ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئا من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته . 

قال الحسن البصري _رحمه الله  لرجل: داو قلبك؛
 فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم . 

يعني: أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى "لا إله إلا الله "، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }

فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كلها، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد  بحسب فساد حركة القلب . 

وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى: {ولا تشركوا به شيئا }قال: لا تحبوا غيري . 

وفي "صحيح الحاكم " عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:  "الشرك أخفى من  دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، 
وأدناه: أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل:{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } . 

فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه الله متابعة للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فجعل علامة الصدق في محبته اتباع رسوله، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة . 

قال الحسن البصري _رحمه الله: قال أصحاب رسول الله - صل الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبا شديدا . فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله هذه الآية:{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }ومن هنا قالالحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته . 

وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر . وقال بشر بن السري:ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك . وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله عز وجل، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطل . وقال رويم: المحبة: الموافقة في كل الأحوال، 

وقاليحيى بن معاذ_رحمه الله  : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم  يحفظ حدوده . وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من مرضاته، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه . 

وفي "السنن " عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان " ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك . 

قال الحسن: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي . ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر على طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت . 

وقال محمد بن الفضل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل . وقيل لداود الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس؟ فقال: هذه خطا لا أدري كيف تكتب . 
 فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم، فلم يبق فيها إرادة لغير الله، صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه، والله أعلم .

.....      ..........       .......
تفسير ابن كثير _رحمه الله :

"   إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)   "

ولهذا قال : ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) أي : سالم من الدنس والشرك .

قال محمد بن سيرين _رحمه الله : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .

وقال ابن عباس : ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) حيي يشهد أن لا إله إلا الله .

وقال مجاهد ، والحسن ، وغيرهما : ( بقلب سليم )يعني : من الشرك .

وقال سعيد بن المسيب_رحمه الله  : 
القلب السليم : هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن; لأن قلب [ الكافر و ] المنافق مريض ، قال الله : ( في قلوبهم مرض )[ البقرة : 10 ] .

وقال أبو عثمان النيسابوري _رحمه الله: هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة .
 
.....       ........    .............
تفسير السعدي _رحمه الله

 " إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" 
 فهذا الذي ينفعه عندك وهذا الذي ينجو به من العقاب ويستحق جزيل الثواب

والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله

....        ........     .........
كيف يكون القلب سليمًا ؟

ورد ذكر القلب السليم في كتاب الله مرتين في قوله تعالى: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 


قال ابن عباس _رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يعني: يشهد أن لا إله إلا الله.


وقال مجاهد والحسن وغيرهما: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يعني من الشرك وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم: هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}.

وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة والمطمئن على السنة.

قال ابن القيم – رحمه الله :

 القلب السليم: هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره وسلم من كل إرادة تزاحم مراده وسلم من كل قاطع يقطع عن الله فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد.

القلب السليم: هو القلب الذي يشهد أن لا إله إلا الله.

قال الشيخ محمد بن عثيمين _ رحمه الله: الشهادة: هي الاعتراف باللسان والاعتقاد بالقلب والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون لرسول الله : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}  وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات الشهادة وإن، واللام كذبهم الله تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}  فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خال من الاعتقاد بالقلب وخال من التصديق بالعمل فلم ينفع فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب واعتراف اللسان وتصديق بالعمل.

لا إله إلا الله: أي لا معبود على وجه الأرض يستحق أن يعبد إلا الله وضد القلب السليم هو القلب المريض. يقول الله : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .

قال ابن جرير _رحمه الله: المنافق سمي مخادعًا لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهر مستبطن وذلك من فعله وأن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها وهو موردها حياض عطبها مجرعها كأس عذابها ومُزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به فذلك لعلها: خدعته نفسه ظنًا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} إعلامًا منه سبحانه عباده المؤمنين أن المنافقين إساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.

وفي تفسير قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا} {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك {فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا} أي شكاً قال الشيخ السعدي _ رحمه الله: إنه بسبب ذنوبهم السابقة يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}  فعقوبة المعصية المعصية بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}  وبين الله أن أهل النفاق مفسدون في الأرض: فقال: عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .

الفساد : هو الكفر والعمل بالمعصية فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يُقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها .

....     .......    ..........    ....

لماذا نتحدث عن القلب السليم " سلامة القلب"؟ 


روى الشيخانِ عنِ النعمان بن بشير_ رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. (البخاري حديث 52/مسلم حديث 1599)

 قال الإمام النووي: في هذا الحديث تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد.

(مسلم بشرح النووي 6/33)


وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني_رحمه الله :

 سمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في القلب مقلوبا، وقال رحمه الله: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير، تصلح الرعية، وبفساده تفسد. وفي هذا الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه. (فتح الباري 1/156).


سلامة قلب النبي صل الله عليه وسلم: 
قال تعالى مادحا نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ .

 روى الشيخانِ عن سعد بن هشام بن عامر أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ. (مسلم حديث 746).


وروى الشيخانِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله،هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.(البخاري حديث3231/ ومسلم حديث1795).


فهذا القلب السليم للنبي صل الله عليه وسلم، فإنه لم يغضب لنفسه ولم يبغض أحدا لذاته، إنما كان أمره لله تعالى وحده.


روى الشيخانِ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى  النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

(البخاري حديث3477/مسلم حديث1792)


قال ابن القيم_ رحمه الله: تأمل حال النبي صل الله عليه وسلم إذ ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم وهو يقول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.


كيف جمع في هذه الكلمات أربعة مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:
أحدها: عفوه عنهم. 

والثاني: استغفارهم لهم. 

والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.

 الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: اغفر لقومي. كما  يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فهبه لي.
(بدائع الفوائد لابن القيم 2/243، 2444).


انظر  لحال النبي صل الله عليه وسلم مع أعدائه، فكيف حاله مع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.


روى الترمذيُّ عن أَبَي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ يَقُولُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.

(حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث1640)


حرص الرسول صل الله عليه وسلم على سلامة قلوب أصحابه:
روى البخاريُّ عن علي بن الحسين_ رضي الله عنهما، أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا.

(البخاري حديث2035).


انظركيف أن النبي صل الله عليه وسلم أراد أن يبعد الشبهة  عن نفسه حتى لا يظن به أحد سوءا، ويربي أصحابه، رضي الله عنهم على أن تكون قلوبهم سليمة من سوء الظن بالآخرين.


سلامة قلوب الصحابة: إن سلامة القلب من أهم صفات عباد الرحمن، وأولهم أصحاب النبي صل الله عليه وسلم الذين مدحهم الله في كتابه قائلا: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ 


روى أحمدٌ عن أنس بن مالك قَالَ:كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ.

(حديث صحيح) (مسند أحمد جـ20صـ124 حديث: 12697).


علي بن أبي طالب _رضي اللَّه عنه:

رأى علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد اللَّه، في وادٍ مُلقى فنزل، فمسح التراب عن وجهه (وكان بينهما قتال) فقال: عزيزٌ عليَّ يا أبا محمد بأن أراك مجندلاً في الأودية، تحت نجوم السماء، إلى اللَّه أشكو عُجري وبُجري.


قال الأصمعي: عُجري وبجري: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي. (سير أعلام النبلاء 1/36).


وقال أبو حبيبة: مولى طلحة بن عبيد اللَّه، دخلت على علي بن أبي طالب مع عمران بن طلحة، بعد وقعة الجمل، فرحب به وأدناه، ثم قال: إني لأرجو أن يجعلني وأباك ممن قال اللَّه فيهم: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].(سير أعلام النبلاء 1/388).


ابن عباس_ رضي الله عنهما:

قال ابن بريدة: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني، وفي ثلاث  خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل، فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدا من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي به من سائمة. (صفة الصفوة 1/754) أبو دجانة الأنصاري:

قال زيد بن أسلم_: دخل ناس على أبي دجانة، وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى، كان قلبي للمسلمين سليما. (سير أعلام النبلاء 1/243).

هنا: قارن بين هذه القلوب السليمة وبين قلوبنا، وحدث ولا حرج.الأسباب المعينة على سلامة القلب:ذكر أهل العلم أسبابا تعين صاحبها أن يكون من أصحاب القلب السليم، يمكن أن نجملها فيما يلي:

أولاً: إخلاص العمل لله وحده:

قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }.


وقال تعالي: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ 


وقال جل شأنه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ 


روى أحمدُ عن زيد بن ثابت أن النبي صل الله عليه وسلم قال: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. (مسند أحمد جـ 35/ حديث21590).


قال ابن القيم_ رحمه الله: في معنى هذا  الحديث - أي لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة. (مدارج السالكين 2/90).


وقال ابن الأثير_ رحمه الله: في معنى هذا الحديث أيضا: هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من 
الخيانة والدغل والشر. [النهاية في غريب الحديث 3/3811].


ثانياً: رضا المسلم عن ربه:

المقصود برضى العبد عن ربه هو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر. (مدارج السالكين 2/183).

قال ابن القيم _رحمه الله - وهو يتحدث عن منزلة الرضى-: إن الرضى يفتح للعبد باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا. وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم. فالخبث والدغل والغش قرين السخط، وسلامة القلب ورضاه وبره ونصحه قرين الرضى، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى. (مدارج السالكين 2/207).


ثالثاً: تلاوة القرآن:
 إن تلاوة القرآن الكريم هي أعظم دواء لأمراض القلوب بشرط أن تجد قلبا يقبل الحق ويرفض الباطل.قال تعالى: ﴿  يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }.


وقال سبحانه: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.


قال ابن القيم_ رحمه الله: 

القرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ويوفق للاستشفاء به وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه. (زاد المعاد ج4 ص352).

رابعاً: حسن الظن بالمسلمين:

إن إحسان المسلم الظن بإخوانه المسلمين من أهم وسائل سلامة القلب.


عن سعيد بن المسيب _رحمه الله: أنه قال: «كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه. (شعب الإيمان للبيهقي 1/323).

خامساً: النصيحة:
 من أسباب سلامة القلب، حرص المسلم على نصيحة إخوانه سرا، بدون توبيخ أو تشهير، وذلك فيما يعتقد أنه يخالف الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون هذه النصيحة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولكن دون تجريح.


قال الفضيل بن عياض_رحمه الله: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.


سادساً: الدعاء بسلامة القلب:
 ينبغي للمسلم أن يلجأ إلى الله بالدعاء ويرجوه أن يجعل قلبه سليما من الغل والحقد والحسد.


والدعاء بسلامة القلب من صفات عباد الرحمن. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.


عن ابن عباس_ رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبِّتَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَاهْدِ قَلْبِي،وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي. (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 1337).


روى مسلمٌ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ [مسلم حيث2654].


وروى الترمذيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ .فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».

(حديث صحيح) [صحيح الترمذي للألباني حديث 1739].


سابعاً: إفشاء السلام:

إن إفشاء السلام يؤلف بين القلوب المتنافرة وينشر المحبة ويذهب العداوة والبغضاء بين المسلمين. روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ.[مسلم حديث54].


ثامنا: الهدية:

إن للإحسان تأثيرا كبيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها. ولذا فإن الهدية تؤلف بين القلوب وتذهب العداوة والحسد منها، وتعبر عما في قلب من يقوم بإهدائها من حب واحترام للآخرين، من أجل ذلك حثنا عليها الإسلام.


روى البخاري (في الأدب المفرد) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا تحابوا».(حديث صحيح) (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث462)

.......   .......         .........

خواطر لتفسير القلب السليم :

أكتب هذه الكلمات سأله الله ان  يهدي قلوبنا وينيره ويعيده إلى الحق، 
فقد لاحظت أن القلب قد قسى وأخشى أن نكون من هؤلاء الذين قال تعالى فيهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}
ولكن يبقى الأمل دائما في الشفاء {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .

 إن أولى مراحل علاج القلب هي إدراك المرض والعلة ولا يكون ذلك إلا بالفحص ومقارنة حالته بقلب سليم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .

فتسأؤلات وخواطر تأتي لنا !وهي:
 هل قلبي من النوع السليم؟ هل يتألم من المنكرات ويحب الطاعات؟ هل أنا من الراشدين؟

 {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }، أم أنه قد امتلأ بحب الشهوات والجري وراء المنكرات؟ 
هل هو متجرد لله لا يقدم أمرا على أمر الله {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}
، أم أنه يبحث هنا وهناك عن سقطات العلماء ليتابعها ويسير عليها ويبرر الباطل لنفسه {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ}. 
هل قلبي يبحث عن مواطن الذكر ويستكين لأهل الإيمان ومصاحبتهم {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

 أم قلبي ممن زاغ عن الطريق وقال الله تعالى فيه وفي مثله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . 

أرجو من الله ألا يكون حالنا أصبح كالمريض الذي لا يدرك علته وقد أصيب بالورم وأصبح يظنه من جهله زيادة في الوزن والصحة. ولتعلمي يا نفس أنه لابد لذلك الشفاء من المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ،
 فالأمر ليس بكتابة كلمات أو صياغة عبارات، بل هو طاعة وتقرب لرب الأرض والسماوات. وعليك بتحمل مرارة الدواء فإن المرض عضال والحالة متأخرة، فهل سمعت يا نفسي عن مريض قد أنهكته الأمراض ولا يتناول إلا حبة "أسبرين"!!
 ولا تسكني يا نفسي إن حدثت سقطات واعلمي أنك بين خيارين إما أن تقومي وتواصلي رحلة العلاج لعل الله يمن عليك بالشفاء وتجدين ما تعتذرين به إلى الله، وإما أن تهوي في أوحال المنكرات وتأوي إلى جبل تظنين أنه يعصمك من الماء فأنبهك من الآن أنه {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ}.. 

فيجب علينا دائماً أن نسأل الله الثبات والقلب السليم 




تعليقات