قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في ذكر حوادث سنة ثلاث وتسعين :
وفيها بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدنا كثيرةً من جزيرة الأندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه إلى غرب الأندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من المدن الكبار والأقاليم، ومن القرى والرساتيق شيء كثير، وكان لا يأتي مدينة فيبرح عنها حتى فتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث والسرايا غربا وشرقا وشمالا، فجعلوا يفتتحون المغرب بلدا بلدا، وإقليما إقليما، ويغنمون الأموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى بن نصير بغنائم وأموال وتحف لا تحصى ولا تعد كثرة ...
وفيها افتتح محمد بن القاسم - وهو ابن عم الحجاج بن يوسف - مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند، وكان قد ولاه الحجاج غزو الهند وعمره سبع عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر وهو ملك الهند في جمع عظيم ومعه سبع وعشرون فيلا منتخبةً، فاقتتلوا فهزمهم الله، وهرب الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلقٌ كثيرٌ جدا، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الملك داهر وغالب من معه، وتبع المسلمون من انهزم من الهنود فقتلوه، ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها، ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرة من الجواهر والذهب وغير ذلك .
فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه .
فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك يقتل ويسبي ويغنم حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه فخاف منه، وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرةً هديةً، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر ...
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه وامتلأت قلوب الفرنج منهم رعبا ...
ومحمد بن القاسم ابن عم الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم ...
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد الغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرها، وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الإسلام وتركوا عبادة الأوثان. وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها بعد هذه الأقاليم الكبار مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند. فكان سوق الجهاد قائما في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده في بلاد الروم والترك والهند. وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرةً من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها. ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا كثيرةً، وضعف الإسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الإسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فاخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة ...
البداية والنهاية / الجزء التاسع