وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
{ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } أي: ومن شر السواحر، اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد، التي يعقدنها على السحر.
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } والحاسد، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره، وإبطال كيده، ويدخل في الحاسد العاين، لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، فهذه السورة، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، عمومًا وخصوصًا.
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره، ويستعاذ بالله منه [ومن أهله].
....... .......... .......
تفسير سورة الفلق لإبن كثير :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
تفسير سورتي المعوذتين وهما مدنيتان .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، قال : قلت لأبي بن كعب : إن ابن مسعود [ كان ] لا يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام ، قال له : " قل أعوذ برب الفلق " فقلتها ، قال : " قل أعوذ برب الناس " فقلتها . فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه أبو بكر الحميدي في مسنده ، عن سفيان بن عيينة ، حدثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بهدلة ، أنهما سمعا زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف .
فقال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قيل لي : قل ، فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر قال : سألت ابن مسعود عن المعوذتين فقال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : " قيل لي ، فقلت لكم ، فقولوا " . قال أبي : فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقول .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبدة بن أبي لبابة ، عن زر بن حبيش - وحدثنا عاصم ، عن زر - قال : سألت أبي بن كعب فقلت : أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا . فقال : إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قيل لي ، فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورواه البخاري أيضا والنسائي ، عن قتيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبدة وعاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب به .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الأزرق بن علي ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما
ورواه عبد الله بن أحمد من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله - قال الأعمش : وحدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " قيل لي ، فقلت " .
وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء : أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتواتر عنده ، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة ، رضي الله عنهم ، كتبوهما في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك ، ولله الحمد والمنة .
وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " .
ورواه أحمد ومسلم أيضا ، والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن عامر قال : بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب ، إذ قال لي : " يا عقبة ، ألا تركب ؟ " . قال : [ فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه . ثم قال : " يا عقيب ، ألا تركب ؟ " . قال ] فأشفقت أن تكون معصية ، قال : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة ، ثم ركب ، ثم قال : " يا عقيب ، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس ؟ " . قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأني : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما ، ثم مر بي فقال : " كيف رأيت يا عقيب ، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت " .
ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن ابن جابر به .
ورواه أبو داود والنسائي أيضا ، من حديث ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحارث ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عقبة به .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني يزيد بن عبد العزيز الرعيني وأبو مرحوم ، عن يزيد بن محمد القرشي ، عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق ، عن علي بن أبي رباح . وقال الترمذي : غريب .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ بالمعوذتين ، فإنك لن تقرأ بمثلهما " . تفرد به أحمد .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثنا بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن عقبة بن عامر أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له بغلة شهباء ، فركبها فأخذ عقبة يقودها له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ " قل أعوذ برب الفلق " . فأعادها له حتى قرأها ، فعرف أني لم أفرح بها جدا ، فقال : " لعلك تهاونت بها ؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها " .
ورواه النسائي ، عن عمرو بن عثمان ، عن بقية به . ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين ، فذكر نحوه .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، سمعت النعمان ، عن زياد أبي الأسد ، عن عقبة بن عامر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن ابن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن عقبة بن عامر قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عقبة ، قل " . فقلت : ماذا أقول ؟ فسكت عني ، ثم قال : " قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فسكت عني ، فقلت : اللهم اردده علي . فقال : " يا عقبة ، قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال : " " قل أعوذ برب الفلق " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال : " قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ قال : " " قل أعوذ برب الناس " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما " .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن يسار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا معاوية ، عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول ، عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاة الصبح .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي عمران أسلم ، عن عقبة بن عامر قال : اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه فقلت : أقرئني سورة هود أو سورة يوسف . فقال : " لن تقرأ شيئا أنفع عند الله من " قل أعوذ برب الفلق " .
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا محمود بن خالد ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي عبد الله ، عن ابن عائش الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا ابن عائش ، ألا أدلك - أو : ألا أخبرك - بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون ؟ " . قال : بلى ، يا رسول الله . قال : " " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " هاتان السورتان " .
فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه ، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث .
وقد تقدم في رواية صدي بن عجلان وفروة بن مجاهد ، عنه : " ألا أعلمك ثلاث سور لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلهن ؟ " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا الجريري ، عن أبي العلاء قال : قال رجل : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، والناس يعتقبون ، وفي الظهر قلة ، فحانت نزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتي ، فلحقني فضرب [ من بعدي ] منكبي ، فقال : " " قل أعوذ برب الفلق " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، ثم قال : " " قل أعوذ برب الناس " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، فقال : " إذا صليت فاقرأ بهما " .
الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر ، والله أعلم .
ورواه النسائي ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية به .
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن عبد الله بن سعيد ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عقبة بن عامر ، عن عبد الله الأسلمي - هو ابن أنيس - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " . فلم أدر ما أقول ، ثم قال لي : " قل " . قلت : " قل هو الله أحد " ثم قال لي : " قل " . قلت : " أعوذ برب الفلق من شر ما خلق " حتى فرغت منها ، ثم قال لي : " قل " . قلت : " قل أعوذ برب الناس " حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فتعوذ ، ما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط " .
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص ، حدثنا بدل ، حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة ، عن سعيد الجريري ، حدثنا أبو نضرة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ يا جابر " . قلت : وما أقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : " اقرأ : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " . فقرأتهما ، فقال : " اقرأ بهما ، ولن تقرأ بمثلهما " .
وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن ، وينفث في كفيه ، ويمسح بهما رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده .
وقال الإمام مالك : عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده عليه ، رجاء بركتها .
ورواه البخاري ، عن عبد الله بن يوسف . ومسلم ، عن يحيى بن يحيى . وأبو داود ، عن القعنبي . والنسائي ، عن قتيبة - ومن حديث ابن القاسم وعيسى بن يونس - وابن ماجه من حديث معن وبشر بن عمر ، ثمانيتهم عن مالك به .
وتقدم في آخر سورة : " ن " من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وعين الإنسان ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما . رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا حسن بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : الفلق : الصبح .
وقال العوفي عن ابن عباس : ( الفلق ) الصبح . وروي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، وابن زيد ، ومالك ، عن زيد بن أسلم ، مثل هذا .
قال القرظي وابن زيد وابن جرير : وهي كقوله تعالى : ( فالق الإصباح ) [ الأنعام : 96 ] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( الفلق ) الخلق . وكذا قال الضحاك : أمر الله نبيه أن يتعوذ من الخلق كله .
وقال كعب الأحبار : ( الفلق ) بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، ورواه ابن أبي حاتم ، ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا سهيل بن عثمان ، عن رجل سماه ، عن السدي عن زيد بن علي ، عن آبائه أنهم قالوا : ( الفلق ) جب في قعر جهنم ، عليه غطاء ، فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح منه جهنم ، من شدة حر ما يخرج منه .وكذا روي عن عمرو بن عبسة والسدي وغيرهم . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع منكر ،
فقال ابن جرير :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي ، حدثنا نصر بن خزيمة الخراساني ، عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ( الفلق ) جب في جهنم مغطى " إسناده غريب ولا يصح رفعه .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : ( الفلق ) من أسماء جهنم .
قال ابن جرير : والصواب القول الأول ، أنه فلق الصبح . وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار البخاري رحمه الله ، في صحيحه .
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
وقوله تعالى "من شر ما خلق" أي من شر جميع المخلوقات وقال ثابت البناني والحسن البصري جهنم وإبليس وذريته مما خلق.
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال مجاهد : غاسق الليل إذا وقب : غروب الشمس . حكاه البخاري عنه . ورواه ابن أبي نجيح ، عنه .
وكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، وخصيف ، والحسن ، وقتادة : إنه الليل إذا أقبل بظلامه .
وقال الزهري : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) الشمس إذا غربت .
وعن عطية وقتادة : إذا وقب الليل : إذا ذهب .
وقال أبو المهزم : عن أبي هريرة : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) كوكب .
وقال ابن زيد : كانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا ، وكان الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها .
قال ابن جرير : ولهؤلاء من الأثر ما حدثني : نصر بن علي ، حدثني بكار بن عبد الله - ابن أخي همام - ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال : النجم الغاسق " .
قلت : وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : وقال آخرون : هو القمر .
قلت : وعمدة أصحاب هذا القول ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو داود الحفري ، عن ابن أبي ذئب ، عن الحارث ، عن أبي سلمة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فأراني القمر حين يطلع ، وقال : " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " .
ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما ، من حديث محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب ، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن به . وقال الترمذي : حسن صحيح . ولفظه : " تعوذي بالله من شر هذا ، فإن هذا الغاسق إذا وقب " . ولفظ النسائي : " تعوذي بالله من شر هذا ، هذا الغاسق إذا وقب " .
قال أصحاب القول الأول وهو أنه الليل إذا ولج - :
هذا لا ينافي قولنا ;
لأن القمر آية الليل ، ولا يوجد له سلطان إلا فيه ، وكذلك النجوم لا تضيء ، إلا في الليل ، فهو يرجع إلى ما قلناه ، والله أعلم .
وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وقوله : ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك : يعني : السواحر -
قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : ما من شيء أقرب من الشرك من رقية الحية والمجانين .
وفي الحديث الآخر : أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكيت يا محمد ؟ فقال : " نعم " . فقال : بسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك .
ولعل هذا كان من شكواه ، عليه السلام ، حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ، ورد كيد السحرة الحساد من اليهود في رءوسهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم ، وفضحهم ، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ، بل كفى الله وشفى وعافى .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم قال : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما ، قال : فجاءه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا ، فأرسل إليها من يجيء بها . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عليا رضي الله تعالى عنه ] فاستخرجها ، فجاء بها فحللها قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [ قط ] حتى مات .
ورواه النسائي ، عن هناد ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير .
وقال البخاري في " كتاب الطب " من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابن جريج ، يقول : حدثني آل عروة ، عن عروة فسألت هشاما عنه ، فحدثنا عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، إذا كان كذا - فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا - وقال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاقة . قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان " . قالت : فأتى [ النبي صلى الله عليه وسلم ] البئر حتى استخرجه فقال : " هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين " . قال : فاستخرج . [ قالت ] . فقلت : أفلا ؟ أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " .
وأسنده من حديث عيسى بن يونس وأبي ضمرة أنس بن عياض وأبي أسامة ويحيى القطان وفيه : " قالت : حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " . وعنده : " فأمر بالبئر فدفنت " . وذكر أنه رواه عن هشام أيضا ابن أبي الزناد والليث بن سعد .
وقد رواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير . ورواه أحمد عن عفان ، عن وهيب ، عن هشام به .
ورواه الإمام أحمد أيضا عن إبراهيم بن خالد ، عن رباح ، عن معمر ، عن هشام عن أبيه ، عن عائشة قالت : لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي ، فأتاه ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما باله ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم وذكر تمام الحديث .
وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره : قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها . وكان الذي تولى ذلك رجل منهم - يقال له : [ لبيد ] بن أعصم - ثم دسها في بئر لبني زريق ، ويقال لها : ذروان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه . فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طب . قال : وما طب ؟ قال : سحر . قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي . قال : وبم طبه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذروان - والجف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح - فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورا ، وقال : " يا عائشة ، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ؟ " . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقود ، فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر . فأنزل الله تعالى السورتين ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبريل عليه السلام ، يقول : باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين الله يشفيك . فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نأخذ الخبيث نقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن يثير على الناس شرا " .
هكذا أورده بلا إسناد ، وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة ، ولبعضه شواهد مما تقدم ، والله أعلم .
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
وقوله : ( ومن شر النفاثات في العقد ) قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ،
والضحاك : يعني : السواحر -
قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : ما من شيء أقرب من الشرك من رقية الحية والمجانين .
وفي الحديث الآخر : أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكيت يا محمد ؟ فقال : " نعم " . فقال : بسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك .
ولعل هذا كان من شكواه ، عليه السلام ، حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ، ورد كيد السحرة الحساد من اليهود في رءوسهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم ، وفضحهم ، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ، بل كفى الله وشفى وعافى .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم قال : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما ، قال : فجاءه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا ، فأرسل إليها من يجيء بها . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عليا رضي الله تعالى عنه ] فاستخرجها ، فجاء بها فحللها قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [ قط ] حتى مات .
ورواه النسائي ، عن هناد ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير .
وقال البخاري في " كتاب الطب " من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابن جريج ، يقول : حدثني آل عروة ، عن عروة فسألت هشاما عنه ، فحدثنا عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، إذا كان كذا - فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا - وقال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاقة . قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان " . قالت : فأتى [ النبي صلى الله عليه وسلم ] البئر حتى استخرجه فقال : " هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين " . قال : فاستخرج . [ قالت ] . فقلت : أفلا ؟ أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " .
وأسنده من حديث عيسى بن يونس وأبي ضمرة أنس بن عياض وأبي أسامة ويحيى القطان وفيه : " قالت : حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " . وعنده : " فأمر بالبئر فدفنت " . وذكر أنه رواه عن هشام أيضا ابن أبي الزناد والليث بن سعد .
وقد رواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير . ورواه أحمد عن عفان ، عن وهيب ، عن هشام به .
ورواه الإمام أحمد أيضا عن إبراهيم بن خالد ، عن رباح ، عن معمر ، عن هشام عن أبيه ، عن عائشة قالت : لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي ، فأتاه ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما باله ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم وذكر تمام الحديث .
وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره : قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها .
وكان الذي تولى ذلك رجل منهم - يقال له : [ لبيد ] بن أعصم - ثم دسها في بئر لبني زريق ، ويقال لها : ذروان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه . فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طب . قال : وما طب ؟ قال : سحر . قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي . قال : وبم طبه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذروان - والجف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح - فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورا ، وقال : " يا عائشة ، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ؟ " . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقود ، فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر . فأنزل الله تعالى السورتين ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبريل عليه السلام ، يقول : باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين الله يشفيك . فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نأخذ الخبيث نقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن يثير على الناس شرا " .
هكذا أورده بلا إسناد ، وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة ، ولبعضه شواهد مما تقدم ، والله أعلم .
...... ....... ....... .......
تفسير سورة الفلق للطبري :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، أستجير بربّ الفلق من شرّ ما خلق من الخلق.
واختلف أهل التأويل في معنى ( الفلق ) !!
_ فقال بعضهم: هو سجن في جهنم يسمى هذا الاسم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عمن حدثه عن ابن عباس قال: ( الفلق ): سجن في جهنم .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله: ( الفَلَقِ ) : سجن في جهنم .
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن عبد الجبار الجولاني، قال: قَدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشأم، قال: فنظر إلى دور أهل الذمة، وما هم فيه من العيش والنضارة، وما وُسِّع عليهم في دنياهم، قال: فقال: لا أبا لك أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذ فُتح هَرّ أهْلُ النار .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت السديّ يقول: ( الفَلَق ) : جُب في جهنم .
حدثني عليّ بن حسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
حدثني إسحاق بن وهب الواسطيُّ، قال: ثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطيُّ، قال: ثنا نصر بن خُزَيمة الخراساني، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القُرَظِيِّ، عن أبي هُريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " الفَلَق: جبّ في جهنم مغطًّى " .
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي أسيد عن ابن عجلان، عن أبي عبيد، عن كعب، أنه دخل كنيسة فأعجبه حُسنها، فقال: أحسن عمل وأضلّ قوم، رضيت لكم الفلق، قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فُتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه .
_وقال آخرون: هو اسم من أسماء جهنم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت خيثم بن عبد الله يقول: سألت أبا عبد الرحمن الحبلي، عن ( الفلق ) ، قال: هي جهنم .
_ وقال آخرون: الفلق: الصبح.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال: ( الفلق ): الصبح .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في هذه الآية ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال: ( الفلق ): الصبح .
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال: ( الفلق ) : الصبح .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران جميعا، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: ( الفَلَق ): الصبح .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرنا أبو صخر، عن القُرَظِيّ أنه كان يقول في هذه الآية: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) يقول: فالق الحبّ والنوى، قال: فالق الإصباح .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال: الصبح .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قال: ( الفَلَق ): فَلق النهار .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: ( الفلق ): فلق الصبح .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) قيل له: فلق الصبح؟ قال: نعم، وقرأ: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا .
_ وقال آخرون: ( الفلَق ): الخلق،
ومعنى الكلام: قل أعوذ بربّ الخلق.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: لنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( الفلق ) : يعني: الخلق .
والصواب من القول في ذلك أن يقال:
إن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول: ( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )
والفلق في كلام العرب: فلق الصبح، تقول العرب: هو أبين من فَلَق الصُّبح، ومن فرق الصبح.
وجائز أن يكون في جهنم سجن اسمه فَلَق. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن جلّ ثناؤه وضعَ دلالة على أنه عُنِي بقوله: ( بِرَبِّ الْفَلَقِ ) بعض ما يُدْعَى الفلق دون بعض، وكان الله تعالى ذكره ربّ كل ما خلق من شيء، وجب أن يكون معنيا به كل ما اسمه الفَلَق، إذ كان ربّ جميع ذلك.
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
وقال جلّ ثناؤه: ( مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ) لأنه أمر نبيه أن يستعيذ (من شرّ كل شيء)، إذ كان كلّ ما سواه، فهو ما خَلَق.
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
وقوله: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه.
ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عُنِي في هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه،
_ فقال بعضهم: هو الليل إذا أظلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: الليل .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في قوله: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: أوّل الليل إذا أظلم .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في: ( غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) يقول: النهار إذا دخل في الليل .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وقب .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( غَاسِقٍ ) قال: الليل ( إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا دخل .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: الليل إذا أقبل .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا جاء .
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( إِذَا وَقَبَ ) يقول: إذا أقبل. وقال بعضهم: هو النهار إذا دخل في الليل، وقد ذكرناه قبلُ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وجب .
_وقال آخرون: هو كوكب. وكان بعضهم يقول: ذلك الكوكب هو الثُّريا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا سليمان بن حِبان، عن أبي المُهَزِّم، عن أبي هريرة في قوله: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: كوكب .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: كانت العرب تقول: الغاسق: سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها .
ولقائلي هذا القول عِلة من أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو ما حدثنا به نصر بن عليّ، قال: ثنا بكار بن عبد الله بن أخي همام، قال: ثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: " النجم الغاسق " .
_وقال آخرون: بل الغاسق إذا وقب: القمر، ورووا بذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبرا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن سفيان، قال: ثنا أبي ويزيد بن هارون، به.
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم قال: " يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ"، وهذا لفظ حديث أبي كُرَيب، وابن وكيع. وأما ابن حُمَيد، فإنه قال في حديثه: قالت: أخَذَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " أتَدْرِينَ أيَّ شَيءٍ هَذَا؟ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا؛ فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ" .
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر. فقال: " يا عائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ" .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب،
أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ ) وهو الذي يُظْلم، يقال: قد غَسَق الليل يَغُسْق غسوقا: إذا أظلم ( إِذَا وَقَبَ )
يعني: إذا دخل في ظلامه؛ والليل إذا دخل في ظلامه غاسق، والنجم إذا أفل غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، ولم يخصص بعض ذلك بل عمّ الأمر بذلك، فكلّ غاسق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب. وكان يقول في معنى وقب: ذهب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) قال: إذا ذهب، ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك في كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل.
وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وقوله: ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) يقول: ومن شرّ السواحر الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: ما خالط السِّحر من الرُّقَي .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: السواحر والسَّحرَة .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة: ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: إياكم وما خالط السِّحر من هذه الرُّقَى .
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رُقْية المجانين .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول إذا جاز ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: إياكم وما خالط السحر .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد وعكرِمة ( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: قال مجاهد: الرُّقَى في عقد الخيط، وقال عكرِمة: الأخذ في عقد الخيط .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) قال: النفاثات: السواحر في العقد.
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
وقوله: ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ )
اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به، فقال بعضهم: ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ عينه ونفسه.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) قال: من شرّ عينه ونفسه، وعن عطاء الخراساني مثل ذلك. قال معمر: وسمعت ابن طاوس يحدّث عن أبيه، قال: العَينُ حَقٌّ، وَلَو كانَ شَيءٌ سابق القَدرِ، سَبَقَتْهُ العَينُ، وإذا اسْتُغْسِل أحدكم فَلْيَغْتَسِل .
_وقال آخرون: بل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) قال: يهود، لم يمنعهم أن يؤمنوا به إلا حسدهم .
وأولى القولين بالصواب في ذلك،
قول من قال: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد، فعابه أو سحره، أو بغاه سوءًا.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) حاسدا دون حاسد، بل عمّ أمره إياه بالاستعاذة من شرّ كلّ حاسد، فذلك على عمومه .
..... ........ ........ .......
تفسير سورة الفلق للقرطبي :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
وهي خمس آيات
و هي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة
وهذه السورة وسورة ( الناس ) و ( الإخلاص ) : تعوذ بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سحرته اليهود ؛ على ما يأتي .
وقيل : إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان ؛
أي تبرئان من النفاق . وقد تقدم .
وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به ، وليستا من القرآن ؛ خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت .
قال ابن قتيبة : لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوذتين ؛ لأنه كان يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما ، فقدر أنهما بمنزلة : أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة .
قال أبو بكر الأنباري : وهذا مردود على ابن قتيبة ؛
لأن المعوذتين من كلام رب العالمين ، المعجز لجميع المخلوقين ؛ و ( أعيذكما بكلمات الله التامة ) من قول البشر بين . وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ، وحجة له باقية على جميع الكافرين ، لا يلتبس بكلام الآدميين ، على مثل عبد الله بن مسعود الفصيح اللسان ، العالم باللغة ، العارف بأجناس الكلام ، وأفانين القول .
وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان ، فأسقطهما وهو يحفظهما ؛ كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه ، وما يشك في حفظه وإتقانه لها .
فرد هذا القول على قائله ، واحتج عليه بأنه قد كتب : إذا جاء نصر الله والفتح ، و إنا أعطيناك الكوثر ، و قل هو الله أحد وهن يجرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال ، والحفظ إليهن أسرع ، ونسيانهن مأمون ، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب ؛
إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها . وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها ، فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف ، على معنى الثقة ببقاء حفظها ، والأمن من نسيانها ، صحيح ، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها ، ولا يسلك به طريقها . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( الفاتحة ) . والحمد لله .
بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق !!
روى النسائي عن عقبة بن عامر ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه ، فقلت : أقرئني سورة ( هود ) أقرئني سورة يوسف . فقال لي : " لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من قل أعوذ برب الفلق "
. وعنه قال : بينا أنا أسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة والأبواء ، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بـ أعوذ برب الفلق ، و أعوذ برب الناس ، ويقول : " يا عقبة ، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما " . قال : وسمعته يقرأ بهما في الصلاة .
وروى النسائي عن عبد الله قال : أصابنا طش وظلمة ، فانتظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج . ثم ذكر كلاما معناه : فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي بنا ، فقال : قل . فقلت : ما أقول ؟ قال : " قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي ، وحين تصبح ثلاثا ، يكفيك كل شيء " .
وعن عقبة بن عامر الجهني قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قل " . قلت : ما أقول ؟ قال : " قل : قل هو الله أحد . قل أعوذ برب الفلق . قل أعوذ برب الناس - فقرأهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : لم يتعوذ الناس بمثلهن ، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن " . وفي حديث ابن عباس ( قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ، هاتين السورتين ) .
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، كلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح عنه بيده ، رجاء بركتها . النفث : النفخ ليس معه ريق .
ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحره يهودي من يهود بني زريق ، يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله ، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح : سنة - ثم قال : " يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه . أتاني ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي : ما شأن الرجل ؟ قال : مطبوب . قال ومن طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم . قال في ماذا ؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، تحت راعوفة في بئر ذي أروان " فجاء البئر واستخرجه . انتهى الصحيح .
وقال ابن عباس : " أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي " . ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح ، وأخرجوا الجف ، فإذا مشاطة رأس إنسان ، وأسنان من مشط ، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر ، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد ، وأمر أن يتعوذ بهما ؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة ، حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فكأنما أنشط من عقال ، وقال : ليس به بأس . وجعل جبريل يرقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : " باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر حاسد وعين ، والله يشفيك " . فقالوا : يا رسول الله ، ألا نقتل الخبيث . فقال : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شرا " . وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصحاح : أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدست إليه اليهود ، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - . والمشاطة ( بضم الميم ) : ما يسقط من الشعر عند المشط . وأخذ عدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي . وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس .
تقدم في ( البقرة ) القول في السحر وحقيقته ، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد ، وحكم الساحر ؛ فلا معنى لإعادته .
قوله تعالى : الفلق اختلف فيه ؛ فقيل : سجن في جهنم ؛ قاله ابن عباس .
وقال أبي بن كعب : بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره .
وقال الحبلي أبو عبد الرحمن : هو اسم من أسماء جهنم.
وقال الكلبي : واد في جهنم .
وقال عبد الله بن عمر : شجرة في النار .
سعيد بن جبير : جب في النار .
النحاس : يقال لما اطمأن من الأرض فلق ؛ فعلى هذا يصح هذا القول .
وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير أيضا ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد : الفلق ، الصبح .
وقاله ابن عباس . تقول العرب : هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح .
وقال الشاعر :
يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا أرعى النجوم إلى أن نور الفلق
وقيل : الفلق : الجبال والصخور تنفرد بالمياه ؛ أي تتشقق .
وقيل : هو التفليق بين الجبال والصخور ؛ لأنها تتشقق من خوف الله - عز وجل - .
قال زهير :
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
الراكس : بطن الوادي .
وكذلك هو في قول النابغة :
[ وعيد أبي قابوس في غير كنهه ] أتاني ودوني راكس فالضواجع
والراكس أيضا : الهادي ، وهو الثور وسط البيدر ، تدور عليه الثيران في الدياسة .
وقيل : الرحم تنفلق بالحيوان .
وقيل : إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى ، وكل شيء من نبات وغيره ؛ قاله الحسن وغيره .
قال الضحاك : الفلق الخلق كله ؛ قال :
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق
قلت : هذا القول يشهد له الاشتقاق ؛ فإن الفلق الشق . فلقت الشيء فلقا أي شققته . والتفليق مثله . يقال : فلقته فانفلق وتفلق . فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق ؛ قال الله تعالى : فالق الإصباح قال : فالق الحب والنوى .
وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي :
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق هاديه في أخريات الليل منتصب
يعني بالفلق هنا : الصبح بعينه .
والفلق أيضا : المطمئن من الأرض بين الربوتين ، وجمعه : فلقان ؛ مثل خلق وخلقان ،
وربما قال : كان ذلك بفالق كذا وكذا ؛ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين ،
والفلق أيضا مقطرة السجان . فأما الفلق ( بالكسر ) : فالداهية والأمر العجب ؛ تقول منه : أفلق الرجل وافتلق . وشاعر مفلق ، وقد جاء بالفلق أي بالداهية .
والفلق أيضا : القضيب يشق باثنين ، فيعمل منه قوسان ، يقال لكل واحدة منهما فلق ، وقولهم : جاء بعلق فلق ؛ وهي الداهية ؛ لا يجرى [ مجرى عمر ] . يقال منه : أعلقت وأفلقت ؛ أي جئت بعلق فلق . ومر يفتلق في عدوه ؛ أي يأتي بالعجب من شدته .
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
قيل : هو إبليس وذريته .
وقيل جهنم .
وقيل : هو عام ; أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل .
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
قوله تعالى : ومن شر غاسق إذا وقب اختلف فيه ؛ فقيل : هو الليل .
والغسق : أول ظلمة الليل ؛ يقال منه : غسق الليل يغسق أي أظلم .
قال ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقال آخر :
يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم . و وقب على هذا التفسير : أظلم ؛
قاله ابن عباس . والضحاك : دخل . قتادة : ذهب . يمان بن رئاب : سكن . وقيل : نزل ؛ يقال : وقب العذاب على الكافرين ؛ نزل . قال الشاعر :
وقب العذاب عليهم فكأنهم لحقتهم نار السموم فأحصدوا
وقال الزجاج : قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار . والغاسق : البارد .
والغسق : البرد ؛ ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد .
وقيل : الغاسق : الثريا ؛
وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ؛ قاله عبد الرحمن بن زيد .
وقيل : هو الشمس إذا غربت ؛ قاله ابن شهاب .
وقيل : هو القمر .
قال القتبي : إذا وقب القمر : إذا دخل في ساهوره ، وهو كالغلاف له ، وذلك إذا خسف به . وكل شيء أسود فهو غسق .
وقال قتادة : إذا وقب إذا غاب . وهو أصح ؛ لأن في الترمذي عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر ، فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر . وأنشد :
أراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر
هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر
وقيل : الغاسق : الحية إذا لدغت . وكأن الغاسق نابها ؛ لأن السم يغسق منه ؛ أي يسيل . ووقب نابها : إذا دخل في اللديغ .
وقيل : الغاسق : كل هاجم يضر ، كائنا ما كان ؛ من قولهم : غسقت القرحة : إذا جرى صديدها .
وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها . شبه النفخ كما يعمل من يرقي .
قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثات في عضه العاضه المعضه
وقال متمم بن نويرة :
نفثت في الخيط شبيه الرقى من خشية الجنة والحاسد
وقال عنترة :
فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
وروى النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من عقد عقدة ثم نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه .
واختلف في النفث عند الرقى فمنعه قوم ، وأجازه آخرون .
قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، ولا يمسح ولا يعقد .
قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى .
وقال بعضهم : دخلت ، على الضحاك وهو وجع ، فقلت : ألا أعوذك يا أبا محمد ؟ قال : لا شيء من ذلك ولكن لا تنفث ؛ فعوذته بالمعوذتين .
وقال ابن جريج قلت لعطاء : القرآن ينفخ به أو ينفث ؟ قال : لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا . ثم قال بعد : انفث إن شئت . وسئل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها ، فقال : لا أعلم بها بأسا ،
وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة !!
روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث في الرقية ؛ رواه الأئمة ، وقد ذكرناه أول السورة وفي ( سبحان ) . وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام ؛ زعم أنه لم يحفظه .
وقال محمد بن الأشعث : ذهب بي إلى عائشة - رضي الله عنها - وفي عيني سوء ، فرقتني ونفثت .
وأما ما روي عن عكرمة من قوله : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به ، فلا يكون بنفسه عوذة . وليس هذا هكذا ؛
لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما .
ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح ،
وهذا النفث لاستصلاح الأبدان ، فلا يقاس ما ينفع بما يضر .
وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة .
قال علي - رضي الله عنه - : اشتكيت ، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أقول : اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني ، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني ، وإن كان بلاء فصبرني . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " كيف قلت " ؟ فقلت له : فمسحني بيده ، ثم قال : " اللهم اشفه " فما عاد ذلك الوجع بعد.
وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب ( من شر النافثات ) في وزن ( فاعلات ) .
ورويت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - .
وروي أن نساء سحرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية .
قال ابن زيد : كن من اليهود ؛ يعني السواحر المذكورات.
وقيل : هن بنات لبيد بن الأعصم .
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قوله تعالى : ومن شر حاسد إذا حسد قد تقدم في سورة ( النساء ) معنى الحسد :
وأنه تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها .
والمنافسة : هي تمني مثلها وإن لم تزل .
فالحسد : شر مذموم . والمنافسة : مباحة وهي الغبطة.
وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد .
وفي الصحيحين : لا حسد إلا في اثنتين يريد لا غبطة وقد مضى في سورة ( النساء ) والحمد لله .
قلت : قال العلماء : الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود ، فيتبع مساوئه ، ويطلب عثراته . قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا حسدت فلا تبغ . . . " الحديث . وقد تقدم .
والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم ، وحسد قابيل هابيل .
والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال :
قل للحسود إذا تنفس طعنة يا ظالما وكأنه مظلوم
هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ من جميع الشرور . فقال : من شر ما خلق . وجعل خاتمة ذلك الحسد ، تنبيها على عظمه ، وكثرة ضرره .
والحاسد عدو نعمة الله .
قال بعض الحكماء : بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه : _ أحدها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره .
_ وثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه ، كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة ؟
_ وثالثها : أنه ضاد فعل الله ، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو يبخل بفضل الله .
_ ورابعها : أنه خذل أولياء الله ، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم .
_ وخامسها : أنه أعان عدوه إبليس .
وقيل : الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء ، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما ، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا ، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين " . والله سبحانه وتعالى أعلم .
...... ........ ..........
تفسير سورة الفلق في كتاب المختصر في التفسير :
سورة الفلق
- مَكيّة-
[مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ]
التحصُّن والاعتصام بالله من الشرور الظاهرة.
[التَّفْسِيرُ]
1 - قل -أيها الرسول-:
أعتصم بربّ الصبح، وأستجير به.
2 - من شرّ ما يؤذي من المخلوقات.
3 - وأعتصم بالله من الشرور التي تظهر في الليل من دواب ولصوص.
4 - وأعتصم به من شرّ السواحر اللائي يَنْفُثْن في العُقَد.
5 - واعتصم به من شرّ حاسد إذا عمل بما يدفعه إليه الحسد.
....... ....... ..........
تفسير سورة الفلق في كتاب التفسير الميسر :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
قل -أيها الرسول-: أعوذ وأعتصم برب الفلق, وهو الصبح.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
من شر جميع المخلوقات وأذاها.
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
ومن شر ليل شديد الظلمة إذا دخل وتغلغل, وما فيه من الشرور والمؤذيات.
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
ومن شر الساحرات اللاتي ينفخن فيما يعقدن من عُقَد بقصد السحر.
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
ومن شر حاسد مبغض للناس إذا حسدهم على ما وهبهم الله من نعم, وأراد زوالها عنهم، وإيقاع الأذى بهم.
.......... ......... ..........
تفسير سورة الفلق للإمام الشوكاني :
{الفلق} الصبح،
يقال: هو أبين من فلق الصبح.
وسمي فلقاً، لأنه يفلق عنه الليل.
وهو فعل بمعنى مفعول.
قال الزجاج: لأن الليل ينفلق عنه الصبح، ويكون بمعنى مفعول. يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح، وهذا قول جمهور المفسرين، ومنه قول ذي الرّمة:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق *** هادئة في أخريات الليل منتصب
وقول الآخر:
يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا *** أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق
وقيل: هو سجن في جهنم.
وقيل: هو اسم من أسماء جهنم.
وقيل: شجرة في النار.
وقيل: هو الجبال والصخور، لأنها تفلق بالمياه، أي: تشقق.
وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله.
قال النحاس: يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق، ومنه قول زهير:
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت *** أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
والراكس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة:
أتاني ودوني راكس فالضواجع ***
وقيل: هو الرحم تنفلق بالحيوان.
وقيل: هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى، وكلّ شيء من نبات، وغيره قاله الحسن، والضحاك.
قال القرطبي: هذا القول يشهد له الانشقاق، فإن الفلق الشقّ، فلقت الشيء فلقاً: شققته، والتفليق مثله، يقال فلقته، فانفلق وتفلق، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان، وصبح، وحبّ، ونوى، وماء فهو فلق، قال الله سبحانه: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] وقال: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95]. انتهى. والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق.
وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه، ويخشاه.
وقيل: طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح. كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح،
وقيل: غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير.
{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} متعلق ب {أعوذ} أي: من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته، فيعمّ جميع الشرور.
وقيل: هو إبليس وذرّيته.
وقيل: جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص،
كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية.
وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه، وتقويماً لباطله، فقرءوا بتنوين: {شرّ} على أن: {ما} نافية.
والمعنى: من شرّ لم يخلقه. ومنهم عمرو بن عبيد، وعمرو بن عائذ.
{وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق الليل.
والغسق الظلمة. يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم.
قال الفراء: يقال غسق الليل، وأغسق إذا أظلم،
ومنه قول قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا *** واشتكيت الهمّ والأرقا
وقال الزجاج: قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامّ من أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد، كذا قال، وهو: قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه،
وكذا جمهور المفسرين ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر:
وقب العذاب عليهم فكأنهم *** لحقتهم نار السموم فأخمدوا
أي: دخل العذاب عليهم. ويقال وقبت الشمس: إذا غابت.
وقيل: الغاسق الثريا. وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق.
وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب، ولم يلاحظ معنى الغسوق.
وقيل: هو القمر إذا خسف.
وقيل: إذا غاب. وبهذا قال قتادة، وغيره. واستدلوا بحديث أخرجه أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»
قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه، وهكذا يقال في جواب من قال: إنه الثريا.
قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر.
وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت.
وقيل الغاسق: كل هاجم يضرّ كائناً ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.
وقيل: الغاسق هو السائل، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل،
ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل.
{وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} النفاثات هنّ السواحر،
أي: ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفث النفخ،
كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر.
وقيل: مع ريق. وقيل: بدون ريق،
والعقد جمع عقدة، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه *** وإن يعقد فحقّ له العقود
وقول متمم بن نويرة:
نفث في الخيط شبيه الرقى *** من خشية الجنة والحاسد
قال أبو عبيدة: النفاثات هيّ: بنات لبيد الأعصم اليهودي، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قرأ الجمهور: {النفاثات} جمع نفاثة على المبالغة. وقرأ يعقوب، وعبد الرحمن بن ساباط، وعيسى بن عمر: {النافثات} جمع نافثة. وقرأ الحسن: {النفاثات} بضم النون.
وقرأ أبو الربيع: {النفثات} بدون ألف.
{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.
ومعنى {إذا حسد}: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود.
قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة *** يا ظالماً وكأنه مظلوم
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم،
ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه، ومزيد ضرّه، وهو الغاسق، والنفاثات، والحاسد، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «بئر في جهنم» وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع.
وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم».
وأخرج ابن مردويه، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه».
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الفلق جبّ في جهنم» وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً، والقول بها متعيناً.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الفلق سجن في جهنم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: الفلق الصبح.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: الفلق الخلق.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} وقال: النجم هو الغاسق، وهو الثريا.
وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع.
وقد قدّمنا تأويل هذا، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد»
وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال: الليل إذا أقبل.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} قال: الساحرات.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو ما خالط السحر من الرقي.
وأخرج النسائي، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه».
وأخرج ابن سعد، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال: «ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟» فقلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ النفاثات فِى العقد، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» فرقى بها ثلاث مرّات.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال: نفس ابن آدم وعينه
..... ......... ..........
تفسير سورة الفلق لإبن عثيمين :
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّثَتِ فِى الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
{قل أعوذ برب الفلق}
رب الفلق هو الله،
والفلق: الإصباح.
ويجوز أن يكون أعم من ذلك أن الفلق كل ما يفلقه الله تعالى من الإصباح، والنوى، والحب.
كما قال الله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} وقال: {فالق الإصباح} .
{من شر ما خلق} أي من شر جميع المخلوقات ومنه النفس، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة «نعوذ بالله من شرور أنفسنا»
، وقوله: {من شر ما خلق} يشمل شياطين الإنس والجن والهوام وغير ذلك.
{ومن شر غاسق إذا وقب} الغاسق قيل: إنه الليل.
وقيل: إنه القمر، والصحيح إنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل، فلأن الله تعالى قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] .
والليل تكثر فيه الهوام والوحوش، فلذلك استعاذ من شر الغاسق أي: الليل.
وأما القمر فقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم أرى عائشة القمر. وقال: «هذا هو الغاسق» ، وإنماكان غاسقاً لأن سلطانه يكون في الليل.
وقوله: {من شر غاسق إذا وقب} هو معطوف على {من شر ما خلق} من باب عطف الخاص على العام، لأن الغاسق من مخلوقات الله عز وجل
وقوله: {إذا وقب} أي: إذا دخل. فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل. {ومن شر النفاثات في العقد} {النفاثات في العقد} هن الساحرات. يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث،
وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصاً معيناً، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور. وذكر الله النفاثات دون النفاثين؛
لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال: {النفاثات في العقد}
ويحتمل أن يقال: إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات فيشمل الرجال والنساء.
{ومن شر حاسد إذا حسد} الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعاً إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك.
فيحسده ولكن الحسّاد نوعان:
_ نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهموماً مغموماً من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على صاحبه. والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد. ولهذا قال: {إذا حسد} .
_ ومن حسد الحاسد العين التي تصيب الُمعان يكون هذا الرجل عنده كراهة لنعم الله على الغير فإذا أحس بنفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة (معنى) لا نستطيع أن نصفه لأنه مجهول، فيصيب بالعين، ومن تسلط عليه أحياناً يموت، وأحياناً يمرض، وأحياناً يُجن،
حتى الحاسد يتسلط على الحديد فيوقف اشتغاله، وربما يصيب السيارة بالعين وتنكسر أوتتعطل، وربما يصيب رفَّاعة الماء، أو حراثة الأرض،
فالعين حق تصيب بإذن الله عز وجل، وذكر الله عز وجل الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًّا. الليل ستر وغشاء. {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] . يكمن به الشر ولا يعلم به.
{النفاثات في العقد} أيضاً السحر خفي لا يعلم.
{الحاسد إذا حسد} العائن أيضاً خفي تأتي العين من شخص تظن أنه من أحب الناس إليك وأنت من أحب الناس إليه ومع ذلك يصيبك بالعين.
لهذا السبب خص الله هذه الأمور الثلاثة:
_ الغاسق إذا وقب،
_والنفاثات في العقد،
_والحاسد إذا حسد، وإلا فهي داخلة في قوله: {من شر ما خلق} .
فإذا قال قائل: ما هو الطريق للتخلص من هذه الشرور الثلاثة؟
قلنا: الطريق للتخلص أن يعلق الإنسان قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل على الله، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء، وما كثر الأمر في الناس في الآونة الأخير من السحرة والحساد وما أشبه ذلك إلا من أجل غفلتهم عن الله، وضعف توكلهم على الله عز وجل، وقلة استعمالهم للأوراد الشرعية التي بها يتحصنون، وإلا فنحن نعلم أن الأوراد الشرعية حصن منيع، أشد من سد يأجوج ومأجوج. لكن مع الأسف أن كثيًرا من الناس لا يعرف عن هذه الأوراد شيئاً، ومن عرف فقد يغفل كثيراً، ومن قرأها فقلبه غير حاضر، وكل هذا نقص، ولو أن الناس استعملوا الأوراد على ما جاءت به الشريعة لسلموا من شرور كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة.
......... ........... ............
تفسير سورة الفلق للإمام ابن القيم :
قل أعوذ برب الفلق "
معنى أعوذ ألتجئ و أعتصم و أتحرز،
و الفلق هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.
و تضمنت هذه السورة :
_ مستعاذا به
_ و مستعاذا منه
_ و مستعيذا.
المستعـــاذ بـــه :
هو الله رب الفلق و رب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا بــه، و لا يُستعاذُ بأحــد من خلقه،
و قد قال تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذتَه زادته رهقا
( و الرهَقُ الطغيانُ، زاد المحقق معلقا:
قال ابن كثير الرهق الخوف و الارهاب و الذعر و قال آخرون الرهق الإثم،
و قال مجاهد: زاد الكفار طغيانا،
و قال أبو عبيدة صاحب مجاز القرآن: رهقا سَفَهاو طغيانا.
و قال الزمخشري في الكشاف: و قيل : الإنسُ زادوهم كبرا و كفرا، أو فزاد الجن و الانس رهقا بإغوائهم و إضلالهم لاستعاذتهم بهم)
و احتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة؛ بأن النبي صلى الله عليه و سلم استعاذ بقوله تعالى: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" أعوذ بكلمات الله التامات" ( وردت هذه الاستعاذة في أحاديث صحيحة ثابة مثل ما رواه مسلم2708)
و المستعيـــذ
هو رسول الله صلى الله عليه و سلم، و كل من اتبعه إلى يوم القيامة.
و أما المستعـاذ منه
فأربعة أقسام: الشر العـــام و شر الغاسق إذا وقب و شر النفاثات في العقد و شر الحاسد إذا حسد.
المستعاذ منه الأول : الشر العـام
في قوله تعالى: " مِن شَرِّ مَا خَلَقَ "؛
و هذا يعم كل شر في الدنيا و الآخرة، و شر الشياطين من الناس و الجن و شر السباع و الهوام، و شر النار و شر الذنوب و الهوى، و شر النفس و العمل.
و قوله : " مِن شَرِّ مَا خَلَقَ " أي من شر كل مخلوق فيه شر، و ليس المراد الإستعاذة من كل ما خلقَهُ الله، فإن الجنة و ما فيها ليس فيها شر، و كذلك الملائكة و الأنبياء فإنهم خير محض.
و المستعاذ منه الثانـــــــي: شر الغاسق إذا وقب
و هذا خـــاص بعد عــام؛
و الغاسقُ: الليلُ إذا أقبل و دخل في كل شئ، و الغسقُ: الظلمَةُ، و الوُقوبُ: الدخولُ.
و السبب الذي لأجله أمر الله بالإستعاذة من شر الليل هو أن الليلَ محل سلطان الأرواح الشريرة، و فيه تنتشر الشياطين، و الشياطين إنما سُلطانُهم في الظلمات و المواضع المظلمة؛
و لهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين و بيوتُهم.
و ذكر سبحانه في هاتين الكلمتين الليل و النهار، و النور و الظلمة، فأمر الله عبادَه أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة و يزيلُها، و هو سبحانه يُدعى بأسمائه الحسنى، فيُسال لكل مطلوب باسم يُناسبه.
المستعاذ منه الثالث: شر النفاثات في العقد
و هذا هو شر السحر؛
فإن النفاثات هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، و ينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدون من السحر.
و النفث : هو النفخ مع ريق، و هو دون التفل و هو مرتبة بينهما.
و النفث فعلُ الساحر، فإذا تكيفت نفسُه بالخبث و الشر الذي يريده بالمسحور، و استعان بالأرواح الخبيثة؛
نفث في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج، و قد تساعد؛ هو و الروح الشيطانية؛
على أذى المسحور، فيقعُ فيه السحر بإذن الله الكوني القدري.
و لما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة و الأرواح الشريرة قال سبحانه " وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ " بالتأنيث دون التذكير،
و قد دل قوله تعالى: " وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ " على تأثير السحر و أن له حقيقة، و قد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام و قالوا أنه لا تأثير للسحر لا في مرض و لا في قتل و لا حل و لا عقد، قالوا: و إنما ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك.
و هذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة و السلف و اتفق عليه الفقهاء.
و السحر يؤثر مرضا و ثقلا و حلا و حبا و بغضا و غير ذلك من الآثار موجود، يغرفه الناس و كثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به.
و قوله تعالى: " وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ "،
دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، و لو كان الضررلا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء، لم يكن للنفاثات شر يُستعاذ منه؛
و أيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعيُنَ جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يرَوا الشر بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيرَه قي تغير بعض أعراضهم و طباعهم و قواهم. فإذا غير إحساسا حتى صار يرى الساكن متحركا و المتصلَ منفصلا فما المحيلُ لأن يغيرَ صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا و البغيضَ محبوبا و غير ذلك من التأثيرات،
و قد قال الله عن سحرة فرعون أنهم " سحروا أعيُن الناس" فبين سبحانه أن أعيُنهم سُحرَت،
و ذلك إما:
_ أن يكون لتغير حصل في المرئي و هو الحبال و العصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها و هي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها؛ و هنا كما إذا جر من لا تراهُ حصيرا أو بساطا فترى الحصير و البساط ينجر و لا ترى الحار له، فهكذا حال الحبال و العصي قلبتها الشياطين، فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها، و الشياطين هم الذين يقلبونها.
_ و إما أن يكون التغيير حدث في الرائي، حتى رأى الحبال و العصي تتحرك و هي ساكنة في أنفسها، و لا ريب أن الساحر يفعل هذا و هذا
( و القول الثاني عليه أكثر المفسرين فإنه صريح بالآية، فأثر السحر منصب على العيون لا على الحبال و العصي فالسحر هنا هو سحر التخييل؛ و السعيُ و الحركةُ لم يكونا حقيقة، و إنما هو متخيل و لا وجود له في الخارج).
_و أما ما يقوله المنكرون في أنهم فعلوا في الحبال و العصي ما أوجب حركتها و مشيها مثل الزيبق و غيره حتى سعت، فهذا باطل من وجوه كثيرة.
المستعاذ منه الرابع: شر الحاسد إذا حسد
و قد دل القرآن و السنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر متصل بالمحسود في نفسه و عينه، و إن لم يؤذه بيده و لا لسانه،
فإن الله تعالى يقول: " وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ "، فحقق الشر منه عند صدور الحسد، و القرآن ليس فيه لفظة مهملة.
لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد و هو غافل عن المحسود و لاهٍ عنه، فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك ،
فإن لم يستعذ بالله و يتحصن به و يكون له أوراد في الأذكار و الدعوات و التوجه إلى الله و الإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه و إقباله على الله، و إلا ناله شر الحاسد و لا بد.
و في الحديث الصحيح رُقية جبريل عليه السلام النبيُ صلى الله عليه و سلم و فيها: " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك"
فذِكرُ شر عين الحاسد، و معلوم أنها لا تؤثر بمجردها، إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ كما ينظر إلى الأرض و الجبل و غيره؛ لم يؤثر فيه شيئا؛
و أما إذا نظر مَن قد تكيفت نفسه الخبيثة و انسمت فصارت نفسا غضيبة خبيثة حاسدة؛ أثمرت تلك النظرة، فأثرت في المحسود بحسب ضعفه و قوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، و ربما قتله، و التجارب بها عند الخاصة و العتمة أكثر من أن تُذكر.
و هذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة،
و هي بمنزلة الحية، إنما يؤثر سمها إذا عضت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب فتُحدث فيها تلك الكيفيةُ السم؛ فتؤثر في الملسوع،
و ربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر، و ذلك في نوع منها، حتى يؤثر بمجرد النظر، فتطمس البصر و تُسقط الحَبَل،
كما ذكر النبي صلى الله عليه و سلم في أبترَ و ذي النطيفتين منها و قال: " اقتلوهما" و هذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس.
و من له فطنة و تأمل أحوال الأرواح و تأثيراتها و تحريكها الأجسام، رآى عجائب و آيات دالة على وحدانية الله و عِظَمَ ربوبيته، و أن ثَم عالَما آخر يجري عليه أحكام أُخَر، يُشهد آثارُها و أسبابُها، غُيبَ عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين و أحسن الخالقين.
العين و الحسد و الفرق بينهما ؟!
و العائن و الحاسد يشتركان في شيء و يفترقان في شيء، فيشتركان في أن كُلا منهما تتكيف نفسه و تُوَجهُ نحو من تقصد أذاه.
و العائن : تتكيف نفسه عنه مقابلة المعين و معاينته.
و الحاسد : يحصل حسده في الغيبة و الحضور
و يفترقان في أن العائن قد يعين من لا يحسده؛ من حيوان أو زرع، و إن كان لا ينفك من حسد صاحب، بل رما أصاب نفسه، و سببُه الإعجاب بالشيء و استعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب و تحديق مع تكيف بتلك الكيفية يؤثر في المعين.
و قوله تعالى " وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " يعُم الحاسد من الجن و الإنس، فإن الشيطان و حزبَه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله.
و لكن الوسواس أخص بشياطين الجن.
و الحسد أخص بشياطين الإنس.
و الوسواس يعمهما أيضا، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، فالإستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعا.
فقد اشتملت السورة على الإستعاذة من كل شر في العالم، و تضمنت شرورا أربعة يُستعاذ منها:
شرا عاما و هو شر ما خلق
و شر غاسق إذا وقب
فهذان نوعان
ثم ذكر شر الساحر و الحاسد و هما نوعان أيضا، لأنهما من شر النفس الشريرة. و أحدهما يستعين بالشيطان و يعبُدُه، و هو الساحر، و قَل ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان و تقربٍ إليه، إما بذبح باسمه يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله و بغير ذلك من أنواع الشرك.
و الساحر و إن لم يُسَم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له، و إن سَماهُ بما سماه به، فإن الشرك و الكفرَ هو شرك و كفر لحقيقته و معناه، لا لاسمه و لفظه، فمن سجد لمخلوق و قال ليس هذا سجود له، هذا خضوع، و يُقبلُ الأرض بالجبهة كما قبلها بالفم، و هذا إكرام؛ لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجود لغير الله، فليُسَمه بما شاء.
و كذلك من ذبح للشيطان و دعاه و استعاذ به و تقرب إليه، فقد عبده و إن لم يُسَم ذلك عبادة، بل يُسميه استخداما، و صَدَقَ، هو من استخدام الشيطانِ لهُ، فيصير خادما من خَدم الشيطان و عابديه، و بذلك يَخدُمُه الشيطان.
لكن خدمة الشيطان ليست خدمةَ عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له و يعبُدُه كما يفعل هو به، و المقصود أن هذا عبادة منه للشيطان، و إن سماه استخداما.
و تأمل تقييدَه سبحانه شرَ الحاسد بقوله عز و جل: " إِذَا حَسَدَ " لأن الرجل قد يكون عنده حسد، و لكن يُخفيه و لا يترتب عليه أذى لا بقلبه و لا بلسانه و لا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذُل، و لا يُعامل أخاه إلا بما يُحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عَصَمَه الله.
و قيل للحسن البصري " أيَحسِد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوةَ يوسف؟ "
فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يُخفيه و لا يترتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه و لا بلسانه و يده، بل لا يُعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهو لا يطيع نفسَه، بل يعصيها خوفا من الله و حياء منه أن يكرهَ نِعَمَه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله، و بُغضا لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، و يلزمها الدعاء للمحسود و تمني زيادة الخير له، فإن هذا الحسدَ الذي في قلبه لا يضره و لا يضر المحسود. بخلاف ما إذا حقق ذلك و حَسد، و رتبَ على حسده مُقتضاهُ من الأذى بالقلب و اللسان و الجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني الزوال.
.... ........ ...........
تفسير سورة الفلق لإبن تيمية _رحمه الله :
سورة الفلق وقال شيخ الإسلام ناصر السنة قامع البدعة تقي الدين أحمد ابن تيمية نفعنا المولى بعلومه - وهو مما كتبه في القلعة -
فصل في :
قال تعالى : {
فالق الحب والنوى }
والفلق : فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض فكل ما فلقه الرب فهو فلق
قال الحسن : الفلق كل ما انفلق عن شيء : كالصبح والحب والنوى .
قال الزجاج : وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر .
وقد قال كثير من المفسرين : الفلق الصبح فإنه يقال هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح .
وقال بعضهم : الفلق الخلق كله
وأما من قال : إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم فهذا أمر لا تعرف صحته لا بدلالة الاسم عليه ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة بخلاف ما إذا قال رب الخلق أو رب كل ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار فإن في تخصيص هذا بالذكر ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به
وإذا قيل : الفلق يعم ويخص فبعمومه للخلق أستعيذ من شر ما خلق وبخصوصه للنور النهاري أستعيذ من شر غاسق إذا وقب .
فإن الغاسق قد فسر بالليل كقولة : {
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة .
قالوا : ومعنى {
وقب } دخل في كل شيء .
قال الزجاج : الغاسق البارد وقيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار وقد روى الترمذي والنسائي {
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة تعوذي بالله من شره فإنه الغاسق إذا وقب }
وروى من حديث أبي هريرة مرفوعا { أن الغاسق النجم }
وقال ابن زيد هو الثريا وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولا آخر ثم فسروا وقوبه بسكونه .
قال
ابن قتيبة : ويقال الغاسق القمر إذا كسف واسود . ومعنى وقب دخل في الكسوف وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره وهو لا يقول إلا الحق وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره وقد قال الله تعالى : {
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } فالقمر آية الليل .
وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته والدليل مستلزم للمدلول فإذا كان شر القمر موجودا فشر الليل موجود وللقمر من التأثير ما ليس لغيره فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى : " هو مسجدي هذا " مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا .
وكذلك قوله عن أهل الكساء :
" هؤلاء أهل بيتي " مع أن القرآن يتناول نساءه فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف فالقمر أحق ما يكون بالليل بالاستعاذة والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسحر والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك فالشر دائما مقرون بالظلمة ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار ويتوسلون بالقمر وبدعوته والقمر وعبادته وأبو معشر البلخي له " مصحف القمر " يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه .
فذكر سبحانه الاستعاذة من شر الخلق عموما ثم خص الأمر بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب وهو الزمان الذي يعم شره ثم خص بالذكر السحر والحسد .
فالسحر يكون من الأنفس الخبيثة لكن بالاستعانة بالأشياء كالنفث في العقد .
والحسد يكون من الأنفس الخبيثة أيضا إما بالعين وإما بالظلم باللسان واليد
وخص من السحر النفاثات في العقد وهن النساء .
والحاسد الرجال في العادة ويكون من الرجال ومن النساء .
والشر الذي يكون من الأنفس الخبيثة من الرجال والنساء : هو شر منفصل عن الإنسان ليس هو في قلبه كالوسواس الخناس . وفي سورة الناس ذكر {
الوسواس الخناس } فإنه مبدأ الأفعال المذمومة من الكفر والفسوق والعصيان ففيها الاستعاذة من شر ما يدخل الإنسان من الأفعال التي تضره من الكفر والفسوق والعصيان وقد تضمن ذلك الاستعاذة من شر نفسه .
وسورة الفلق فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عموما وخصوصا
ولهذا قيل فيها برب الفلق وقيل في هذه برب الناس فإن فالق الإصباح بالنور يزيل بما في نوره من الخير ما في الظلمة من الشر وفالق الحب والنوى بعد انعقادهما يزيل ما في عقد النفاثات فإن فلق الحب والنوى أعظم من حل عقد النفاثات
وكذلك الحسد هو من ضيق الإنسان وشحه لا ينشرح صدره لإنعام الله عليه فرب الفلق يزيل ما يحصل بضيق الحاسد وشحه وهو سبحانه لا يفلق شيئا إلا بخير فهو فالق الإصباح بالنور الهادي والسراج الوهاج الذي به صلاح العباد وفالق الحب والنوى بأنواع الفواكه والأقوات التي هي رزق الناس ودوابهم والإنسان محتاج إلى جلب المنفعة من الهدى والرزق وهذا حاصل بالفلق والرب الذي فلق للناس ما تحصل به منافعهم يستعاذ به مما يضر الناس فيطلب منه تمام نعمته بصرف المؤذيات عن عبده الذي ابتدأ بإنعامه عليه وفلق الشيء عن الشيء هو دليل على تمام القدرة وإخراج الشيء من ضده كما يخرج الحي من الميت والميت من الحي وهذا من نوع الفلق فهو سبحانه قادر على دفع الضد المؤذي بالضد النافع .
.... .... .... .........
إعراب سورة الفلق :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿٣﴾وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿٤﴾وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿٥﴾
قُلْ: فعلُ أمرٍ مبني على السّكون، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره أنتَ.
أَعُوذُ: فعلٌ مُضارعٌ مرفوع وعلامة رفعه الضّمة، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره أنا.
بِرَبِّ: الباء: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر. رَبِّ: اسمٌ مجرور بـ (الباء) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
الْفَلَقِ: مُضافٌ إليه مجرورٌ وعلامة جرّه الكسرة.
مِنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
شَرِّ: اسمٌ مجرورٌ بـ (مِنْ) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
مَا: اسمٌ موصولٌ مبني على السّكون في محلِّ جرِّ مُضاف إليه.
خَلَقَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.
وَمِنْ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. مِنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
شَرِّ: اسمٌ مجرور وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
غَاسِقٍ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة.
إِذَا: ظرفُ زمانٍ لما يستقبل مبني على السّكون.
وَقَبَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.
وَمِنْ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. مِنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
شَرِّ: اسمٌ مجرور بـ (من) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
النَّفَّاثَاتِ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة.
فِي: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
الْعُقَدِ: اسمٌ مجرور بـ (في) وعلامة جرّه الكسرة.
وَمِن: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. مِنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
شَرِّ: اسمٌ مجرور بـ (من) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
حَاسِدٍ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسر.
إِذَا: ظرفُ زمانٍ لما يستقبل مبني على السّكون.
حَسَدَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.
......... ......... .........
خواطر حول سورة الفلق :
سورة الفلق خمس آيات.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يكثر من قراءتهما في اليوم والليلة التي يكررها المسلم أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم الواحد.
أما عن فضائل المعوذتين؛
فما تعوذ متعوذ بمثلهما، حيث روى عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "قد أُنزل علي آيات لم يُر مثلهن: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إلى آخر السورة، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إلى آخر السورة) [رواه الترمذي]،
وفي رواية عند أبي داود عن عقبة -رضي الله عنه- قال: "كنت أقود برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ناقته في السفر، فقال لي: "يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قُرِئتا"؟ فعلمني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)،
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلمَ: "يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما"،
وفي رواية عند النسائي قال عقبة بن عامر -رضيَ الله عنه-: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو راكب فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرأني سورة هود؟ أقرئني سورة يوسف؟ فقال لي: "ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُقْبَةَ: "اقْرَأْ" فَقَالَ: وَمَا أَقْرَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ حَتَّى قَرَأَهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، فَقَالَ: "لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا فَمَا قُمْتَ تُصَلِّي بِشَيْءٍ مِثْلِهَا" [رواه أحمد].
أما المواطن التي يسن أن تقرأ فيها المعوذتان؛ أنت تردد المعوذتين على أقل تقدير اثنتي عشرة مرة في اليوم الواحد في غير الحالات الطارئة، ولذلك تُعد المعوذتان أكثر السور التي يسن تكرارها بعد الفاتحة لأهميتها.
وأهم هذه المواطن:
الأول: دبر كل صلاة؛ فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة" [رواه أبو داود والنسائي].
الثاني: عند أذكار الصباح والمساء ثلاث مرات، حيث روى خبيب -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَا، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: (قُلْ) فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ)، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا قَالَ: (قُلْ)، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (قُلْ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" [رواه الترمذي].
الثالث: في صلاة الوتر، وكان يفعل ذلك أحيانا؛ حيث روى عَبْدِ الْعَزِيزِ بن جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَائِشَةَ -رضي الله عنها- بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: "كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وَفِي الثَّالِثَةِ بِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ" [رواه الترمذي].
الرابع: عند النوم، ثلاث مرات، حيث روت عَائِشَةَ -رَضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ" [متفق عليه].
_ أما الحالات الطارئة التي تُقرأ فيهما المعوذتان،
1_ فعند الوقاية والعلاج من العين، وعند العلاج من سائر الأوجاع؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رَضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" [رواه الترمذي].
2_أما للعلاج من الأوجاع؛ فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا" [رواه البخاري]، وروت أيضا -رضي الله عنها- قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ" [رواه مسلم] نخرج من هذه الأحاديث: أن النبي -صلَى الله عليه وسلم- كان يحرص على تكرار المعوذتين لأهميتهما في حياة المسلم، فدعونا نفهم بعض معانيهما كي ندرك أسرار تكرارهما.
فأما قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي قل: يا محمد وتتبعه الأمة: التجئ وأعتصم برب الفلق.
_ والفلق له عدة معان؛
1_ فمن معانيه: الصباح؛ لقوله تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) [الأنعام: 96]، وكانت عائشة -رَضي الله عنها- تقول: "ما كان يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح"، وهو تفاؤل بمجيء الفرح لظهور الصباح والنور.
2_وقيل: معنى: "الفلق" بأنه الحَبُّ والنوى؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام: 95]،
3_وقيل: معنى: "الفلق" أي الخلق، فالله رب الخلق. ويحتمل أن المعنى عام يشمل الجميع، وقد قال ابن جرير في تفسيره: "أطلق الله ولم يقيد، فنطلق كذلك ما أطلق" [أضواء البيان: 9/634].
فالله عز جل يطلب من محمد -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته الالتجاء عليه سبحانه، والاستعاذة به.
والاستعاذة بالله شأنها عظيم لو استحضرنا عظمة الله -تعالى- في قلوبنا.
_ فالاستعاذة هي الاستجارة.
_ والاستجارة في العرف الدولي: حق اللجوء السياسي، فلو جاء رجل وأعطي حقُ اللجوء السياسي من إحدى الدول الكبرى؛ لشعر بالفخر والمنعة والأمن، لأنه استجار بدولة عظيمة ذات سيادة وقوة وبطش؛ تظن أنها تفعل ما تريد وأنها بتصورها قادرة على حماية من استجار بها.
فالله -عز وجل- يؤدب عباده المؤمنين أن لا يستعيذوا بأحد من الخلق، وإنما يستعيذوا ويستجيروا بالله وهو خالق الخلق، ورب الصباح، وبيده نواصي الخلق.
فنحن نحتاج اليوم إلى مراجعة إيماننا وإعادة ترتيب أوراق الثقة بالله؛ لنعيد تدبر كتاب الله، لنعظم الله -تعالى-، ونعرفه حق المعرفة، فنحن لا نزال لا نعرف قدر الله، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
نحن نستطيع أن نتعرف على شيء من عظمة الله وقدرته بمعرفة عظمة وضخامة مخلوقاته، والتفكر بها، فانظروا إلى حملة العرش من الملائكة حيث وصف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أحدهم، فقال: "أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله -تعالى- حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" [رواه أبو داود].
فبهذا الأسلوب سنُعظّم الله -تعالى- ونستعيذ به، وكلنا يقين وثقة بنصرنا وحفظنا والاستجابة لنا، أما أن تكون عندنا ازدواجية في الطلب والنصرة فغير صحيح،
فترى البعض من الناس إذا ألمَّ به أمر يسير؛ سأل الله فيه، ولكن إذا استصعب عليه أمر من الأمور الهامة والمصيرية تراه لا يسأل الله وإنما يلجئ إلى المخلوقين، فحرّك المعارف والوساطات كي يسعفوه، وينسى أن يسأل الله -تعالى-.
ولكي يغرس اللهُ في قلوبنا عظمته أمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى التي تدل على العظمة والقدرة؛ مثل: الكبير والقادر والغني والناصر والقوي والقهار والرزاق والعظيم والوكيل والواسع والمستعان والكافي، وغير ذلك.
وقد كان العرب في الجاهلية إذا نزلوا بأرض استعاذوا بسيد الوادي من الجن الذي يأتوا فيه قائلين: "أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه"، فيزداد الجن رهقا وطغيانا": (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن: 6].
واعلم أن "سورة الفلق" تأمر بالالتجاء إلى الله، والاعتصام به، فهو رب العالمين، فلا يستعاذ إلا به، ومن استعاذ بغيره فقد أشرك.
ولكي يعلمنا الله -تعالى- على الثقة به عند الاستعاذة به، جعل المعوذتين من قصار السور حتى يدربنا على الاستعاذة به منذ الصغر.
ولكي يعلمنا الله أيضا على تعظيم هذه الاستعاذة؛
أمرنا أن نستجيب لمن استعاذ بالله؛ تعظيما لاسم الله -تعالى-؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" [رواه أبو داود والنسائي]، ومعنى الحديث: أن من سألكم قائلا بالله عليكم، أو استعاذ قائلا: أعوذ بالله منكم، فلا تتعرضوا له؛ بل أعيذوه وادفعوا عنه تعظيما لاسم الله، وقد قال صلى الله عليه وسلمَ: "شر الناس الذي يُسأل بالله ثم لا يُعطي" [صحيح الجامع].
وهناك مثال من السنة في تعظيم النبي -صَلى الله عليه وسلم- لمن استعاذ بالله؛
حيث جاء عن الأوزاعي -رحمه الله تعالى- قال: "سألت الزهري: أي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- استعاذت منه؟"، قال: أخبرني عروة عن عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" [رواه البخاري]،
وذكر ابن حجر: أن سبب استعاذتها من النبي -صلىَ الله عليه وسلم- أن عائشة وصفية زوجتا النبي -صلى الله عليه وسلمَ حينما علمتا بزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بابنة الجون، وكانت من أجمل نساء العرب غارتا منها، ودخلتا عليها في أول ما قدمت، فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك جهلا منها، فأعاذها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- تعظيما لاسم الله -تعالى- وطلقها".