قل يا محمد: أعوذ وأعتصم برب الناس, القادر وحده على رد شر الوسواس
" ملك الناس "
ملك الناس المتصرف في كل سؤونهم, الغني عنهم.
" إله الناس "
إله الناس الذي لا معبود بحق سواه.
" من شر الوسواس الخناس "
من أذى الشيطان الذي يوسوس عند الغفلة, ويختفي عند ذكر الله.
" الذي يوسوس في صدور الناس "
الذي يبث الشر والشكوك في صدور الناس.
" من الجنة والناس "
من شياطين الجن والإنس.
....... ......... ..........
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) يعني الشيطان، يكون مصدرًا واسمًا.
قال الزجاج: يعني: الشيطان ذا الوسواس
« الخناس » الرجاع، وهو الشيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس.
وقال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس. ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يُمنِّيهِ ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر رجع فوضع رأسه،
فذلك: ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع. ( مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) يعني يدخل في الجني كما يدخل في الإنسي، ويوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، قاله الكلبي.
وقوله: « في صدور الناس » أراد بالناس: ما ذكر من بعد، وهو الجِنّة والناس، فسمى الجن ناسا، كما سماهم رجالا فقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ( الجن - 6 ) .
وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث جاء قوم من الجن فوقعوا، فقيل: من أنتم؟ قالوا: أناس من الجن. وهذا معنى قول الفراء .
قال بعضهم: أثبت أن الوسواس للإنسان من الإنسان كالوسوسة للشيطان، فجعل « الوسواس » من فعل الجِنَّة والناس جميعا، كما قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ( الأنعام - 112 ) كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس جميعا.
أخبرنا إسماعيل [ بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر ] بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير عن بيان عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألم تر آيات أنـزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و » قل أعوذ برب الناس « .
» أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم العدل، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو العباس بن الوليد بن مرثد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: « ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ المتعوذون » ؟ قلت: بلى، قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و « قل أعوذ برب الناس » .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا قتيبة، حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما، فقرأ فيهما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و « قل أعوذ برب الناس » ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده. يفعل ذلك ثلاث مرات .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتهما .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي وأبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري، أخبرنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني، أخبرنا محمد بن يحيى، حدثنا بعد الرازق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم عن يزيد، يعني ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبيِّ حسن الصوت يتغنىَّ بالقرآن يجهر به » . تم
خواطر (الخلاصة )علي التفسير الميسر :
...... ........ .........
مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ:
الاعتصام والتحصن بالله من شر الشيطان ووسوسته، ومن الشرور الخفية.
التَّفْسِيرُ:
- قل -أيها الرسول-: أعتصم برب الناس، وأستجير به.
- ملك الناس، يتصرف فيهم بما يشاء، لا ملك لهم غيره.
- معبودهم بحقّ، لا معبود لهم بحق غيره.
- من شرّ الشيطان الَّذي يلقي وسوسته إلى الإنسان إذا غفل عن ذكر الله، ويتأخر عنه إذا ذكره.
- يلقي بوسوسته إلى قلوب الناس.
- وهو يكون من الإنس كما يكون من الجن.
تفرد به أحمد إسناده جيد قوي ، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب ، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب .
قال : قلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : " نعم " . قال : قلت : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : " خير موضوع ، من شاء أقل ، ومن شاء أكثر " . قلت : يا رسول الله فما الصوم ؟ قال : " فرض يجزئ ، وعند الله مزيد " . قلت : يا رسول الله ، فالصدقة ؟ قال : " أضعاف مضاعفة " . قلت : يا رسول الله ، أيها أفضل ؟ قال : " جهد من مقل ، أو سر إلى فقير " . قلت : يا رسول الله ، أي الأنبياء كان أول ؟ قال : " آدم " . قلت : يا رسول الله ، ونبي كان ؟ قال : " نعم ، نبي مكلم " . قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون ؟ قال : " ثلثمائة وبضعة عشر ، جما غفيرا " . وقال مرة : " خمسة عشر " . قلت : يا رسول الله ، أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال : " آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )
ورواه النسائي من حديث أبي عمر الدمشقي به . وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدا أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، بطريق آخر ، ولفظ آخر مطول جدا ، فالله أعلم .
ورواه أبو داود والنسائي من حديث منصور - زاد النسائي ، والأعمش - كلاهما عن ذر به .
قل أعوذ برب الناس(1)
فبات يشئزه ثأد ويسهره تذوب الريح والوسواس والهضب
وقال الأعشى :
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
وقيل : إن الوسواس الخناس ابن لإبليس ، جاء به إلى حواء ، ووضعه بين يديها وقال : اكفليه . فجاء آدم - عليه السلام - فقال : ما هذا يا حواء ؟ قالت : جاء عدونا بهذا وقال لي : اكفليه .
ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء ؛ ومنه قول الله تعالى : فلا أقسم بالخنس يعني النجوم ، لاختفائها بعد ظهورها . وقيل : لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله ؛ أي يتأخر . وفي الخبر " إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا غفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس " أي تأخر وأقصر .
وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل
الدحس : الإفساد .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما من مولود إلا على قلبه الوَسواس، فإذا عقل فذكر الله خَنَس، وإذا غَفَل وسوس، قال: فذلك قوله: ( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( الْخَنَّاسِ ) قال: الخناس الذي يوسوس مرّة، ويخنس مرّة من الجنّ والإنس،
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله
وقد ذُكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فجعل منهم ناسا، فكذلك ما في التنـزيل من ذلك.
وقد ذُكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فجعل منهم ناسا، فكذلك ما في التنـزيل من ذلك.
﷽ ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١ مَلِكِ ٱلنَّاسِ ٢ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ ٣ مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ٤ ٱلَّذِی یُوَسۡوِسُ فِی صُدُورِ ٱلنَّاسِ ٥ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ ٦﴾ [الناس ١-٦]
قَرَأ الجُمْهُورُ قُلْ أعُوَذُ بِالهَمْزَةِ.
وقُرِئَ بِحَذْفِها ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى اللّامِ.
ومَعْنى رَبِّ النّاسِ: مالِكُ أمْرِهِمْ ومُصْلِحُ أحْوالِهِمْ، وإنَّما قالَ رَبِّ النّاسِ مَعَ أنَّهُ رَبُّ جَمِيعِ مَخْلُوقاتِهِ لِلدَّلالَةِ عَلى شَرَفِهِمْ، ولِكَوْنِ الِاسْتِعاذَةِ وقَعَتْ مِن شَرِّ ما يُوَسْوِسُ في صُدُورِهِمْ.
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وسْواسًا إذا انْصَرَفَتْ
قالَ الزَّجّاجُ: الوَسْواسُ هو الشَّيْطانُ: أيْ ذِي الوَسْواسِ، ويُقالُ إنَّ الوَسْواسَ ابْنٌ لِإبْلِيسَ، وقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ مَعْنى الوَسْوَسَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ﴾ [الأعراف: ٢٠] ومَعْنى الخَنّاسِ كَثِيرُ الخَنْسِ، وهو التَّأْخِيرُ، يُقالُ خَنَسَ يَخْنِسُ: إذا تَأخَّرَ، ومِنهُ قَوْلُ العَلاءِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:إذا دَخَسُوا بِالشَّرِّ فاعْفُ تَكَرُّمًا ∗∗∗ وإنْ خَنَسُوا عِنْدَ الحَدِيثِ فَلا تَسَلْ
قالَ مُجاهِدٌ: إذا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وانْقَبَضَ، وإذا لَمْ يُذْكَرِ انْبَسَطَ عَلى القَلْبِ.ووُصِفَ بِالخَنّاسِ لِأنَّهُ كَثِيرُ الِاخْتِفاءِ،













_هذه السور الثلاث: الإخلاص، والفلق، والناس؛
بسمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه.
وأما المستعاذ به: فهو الله بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ.
فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم.
فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة، فنقول:
_ الإضافة الأولى: إضافة الربوبية :
المتضمنة لحقهم وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر
_ الإضافة الثانية: إضافة الملك:
فهو ملكهم المتصرف فيهم: وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق:
الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
_ الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية :
فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد،
فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.
وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه.
ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره. فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذلّ لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكّل إلا عليه، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه:
إما أن يكون مربّيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.
فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم، ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟.
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة: من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا.
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه. فيقول:
رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له. فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها ؟! لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها. فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره باطلا.
_ ووسّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية ؟!
لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره. فهو المطاع إذا أمر. وملكه لهم تابع لخلقه إياهم. فملكه من كمال ربوبيته. وكونه إلههم الحق من كمال ملكه. فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه.
وملكه يستلزم إلهيته: يقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه. واستعبدهم بإلهيته.
فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق «رب الناس، ملك الناس، إله الناس» .
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى:_ فإن الرب هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي. المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء- إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
_وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرّف أمور عباده كما يحب، ويقلّبهم كما يشاء. وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار المتكبر، الحكم العدل، الخافض الرافع، المعز المذل، العظيم الجليل الكبير، الحسيب المجيد، الوالي المتعالي، مالك الملك، المقسط الجامع- إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
_ وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى. ولهذا كان القول الصحيح: أن «الله» أصله الإله. كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه، إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى. فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر. وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن نسبة باديه إلى الخافي يسير.
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها. وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
• فسورة الفلق: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد. وهو شر من خارج.
• وسورة الناس: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه.
والشر الثاني في سورة الناس: يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب. والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب. ولا ثالث لهما.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات. وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.
إذا عرف هذا، فالوسواس: فعلال من وسوس.
وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد.
ومن هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر- والله أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي.
لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.
ونظير هذا: ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه، كالدوران، والغليان، والنزوان، وبابه.
ونظير ذلك: زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء. لأن الزلزلة حركة متكررة. وكذلك الدكدكة، والقلقلة. وكذلك كبكب الشيء: إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكبّ فيه كبا بعد كب كقوله تعالى: 26: 94 فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ومثله: رضرضه إذا كرر رضّة مرة بعد مرة.
ومثله: ذرذره. إذا ذره شيئا بعد شيء. ومثله صرصر: الباب: إذا تكرر صريره. ومثله: مطمط الكلام: إذا مططه شيئا بعد شيء. ومثله: كفكف الشيء: إذا كرر كفّه، وهو كثير.
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب. لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت: ذرّ الشيء وصر الباب، وكفّ الثوب، ورض الحبّ: لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه.
فتأمله. فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني.وقد تقدم التنبيه على ذلك. فلا وجه لإعادته.
إذا عرف هذا. فاختلف النحاة في لفظ الوسواس: هل هو وصف، أو مصدر؟ على قولين. ونحن نذكر حجة كل قول. ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله وفضله.
_ فأما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل، والوصف من فعلل إنما مفعلل، كمدحرج، ومسرهف، ومبيطر، ومسيطر. وكذلك هو من فعل بوزن مفعل، كمقطع، ومخرج، وبابه. فلو كان بالوسواس صفة لقيل:
موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل: مزلزل، لا زلزال. وكذلك من دكدك: مدكدك. وهو مطرد. فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة. أو يكون على حذف مضاف، تقديره: ذو الوسواس.
قالوا: والدليل عليه أيضا قول الشاعر:
_ قال أصحاب القول الآخر: الدليل على أنه وصف: أن فعلل ضربان.
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، وبيطر. وقياس مصدر هذا الفعللة، كالدحرجة والسّرهفة، والبيطرة، والفعلان- بكسر الفاء- كالسّرهاف والدحراج. والوصف منه: مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني: فعّل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس. وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار. لأن الأصل السلامة من التكرار. ومصدر
هذا النوع والوصف منه: مساو لمصدر الأول ووصفه. فمصدره يأتي على الفعللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفعلان كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: الفعلان. لأمرين.
أحدهما: أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني. فجعل إفعال مصدر أفعل، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفعلان. فكان الفعلال أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، مع أن فعللة أرجح في الاستعمال وأكثر. هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا. إذا عوى، وعظعظ السهم «1» عظعاظا. والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة. وهذا المفتوح نادر. لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة وفعلال بالكسر. فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك. لأن الفرع لا يخالف أصله، بل يحتذي فيه حذوه. وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح. فإن شذ حفظ ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي. لأنهما متشاركان وزنا.
فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال
فيها نصيب. فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر.
وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران ؟!
_ أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه «ذو» تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به. كرضى وصوم وفطّر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط: وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن.
لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم: وسوس إليه الشيطان وسواسا. وهذا لا يتعين للمصدرية، لاحتمال أن يراد به الوصفية: وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى: 4: 79 وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا و 16: 12 سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع: أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
_ الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن «وسواسا» مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا: أن المصدر المضاف إليه «ذو» تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته في المصدرية، وأنه عارضا الوصفيةفيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم، وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فنقول: رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» وقالوا: ريح رقراقة، أي تحرك الأشجار، وريح سفسافة أي تنخل التراب، ودرع فضفاضة أي متسعة، والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا: تمتام وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام وهرهار أي ضحاك، وكهكاه، ووطواط أي ضعيف، وحشحاش، وعسعاس أي خفيف. وهو كثير. ومصدره كله الفعللة، والوصف فعلال بالفتح، ومثله هفهاف أي خميص، ومثله دحداح، أي قصير، ومثله: بجباج أي جسيم، وتختاج:
أي ألكن، وشمشام: أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد قضقاض: أي كاسر، وحيّة نضناض: تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه؟.
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر: وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في الوصفية، وهو «الخناس» فالوسواس، والخناس: وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
وحسّن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه.
والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا. فيقع اللبس كالطويل والقبيح، والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك. فإنه يجرىم مجرى الاسم، ويحسن حذف الموصوف: كالمسلم والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد والوالي، ونحو ذلك. فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر: أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم. فلو أريد المصدر لأتى بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية. فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينه تدل على تعيين أحدهما. فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية؟.
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنهما مصادر لا تلتبس بالأوصاف.
فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة، على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن «الوسواس» هو الشيطان نفسه. وأنه ذات لا مصدر. والله أعلم.
وأما الخناس: فهو فعّال، من خنس يخنس: إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، وأنا جنب. فانخنست منه» .
وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء. ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: 81: 15 فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ
قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى.
وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى
وقالت طائفة: الخنّس: هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء. و «الخناس» مأخوذ من هذين المعنيين. فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر.
فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان. وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء ليتوارى. وذلك الانخناس والانقباض: هو أيضا تجمّع ورجوع، وتأخر عن القلب إلى خارج. فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
وخنس وانخنس: يدل على الأمرين معا.
قال قتادة: الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنسه.
ويقال: رأسه كرأس الحية. وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه. فإذا ذكر الله خنس. وإذا لم يذكره عاد، ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه.
وجيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس: إيذانا بشدة هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر الله. وأن ذلك دأبه وديدنه لا أنه يعرض له ذلك ذكر الله أحيانا. بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر. فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها، كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصىّ ونحوها. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر. لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر، والتوجه
والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء «الوسواس» مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد.
وجاء بناء «الخناس» على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرعا. فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا» .
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط. فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو» .
ومن وسوسته: ماثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته» .
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» .
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه. قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: 18: 63 فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه «الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس» ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعم كل شره. ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة. فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث الجنودفي الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم. كما قال تعالى: 19: 83 أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء: إنما هو الوسوسة. فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه. وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره: أنه لص سارق لأموال الناس.
فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف
_ وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقا ويخرج مغيرا. ويدل على عوراتهم. فيأمر العبد بالمعصية. ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به.
فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله. ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة
ومن شره: أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة.
كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم- إذا هو نام- ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة. فإن صلى انحلت عقده كلها.
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» .
ومن شره: أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح. فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه» رواه البخاري.
ومن شره: أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه. فإن خالفه وسلكه ثبّطه فيه وعوّقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع. فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته.
ويكفي من شره: أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم.
وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره: أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة. ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف:
تسعمائة وتسعة وتسعين. ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد هو من دون الله. فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شره: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار. فرد الله كيده عليه. وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
وتصدى للمسيح صلّى الله عليه وسلّم حتى أراد اليهود قتله وصلبه. فرد الله كيده.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الكفار على قتله بجهده. والله تعالى يكبته ويرده خاسئا.
وتفلّت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به. وهو في الصلاة.
فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألعنك بلعنة الله» .
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته؟.
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها. إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه. ولكن ينحصر شره في ستة أجناس. لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر.
_ الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله. فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه. وهو أول ما يريد من العبد.
فلا يزال به حتى يناله منه. فإذا نال ذلك صيّره من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونوّابه. فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر.
وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي. لأن ضررها في نفس الدين. وهو ضرر متعد. وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به. وهي باب الكفر والشرك. فإذا نال منه البدعة، وجعله من أهلها صار أيضا نائبه، وداعيا من دعاته.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر. وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها. ولا سيما إن كان عالما متبوعا. فهو حريص على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر. فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه. كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا- ولو بلغت عنان السماء- هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدّل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك: فظلم للمؤمنين، وتتبع لعوراتهم، وقصد لفضيحتهم. والله سبحانه بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدر، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض»
وذكر حديثا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة:
وهي اشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب: نقله إلى المرتبة السادسة
وهي: أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه. وقلّ من يتنبه لهذا من الناس. فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة. فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله.
وهو معذور. ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوّت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله.
وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك. فلا يخطر ذلك بقلوبهم. والله يمنّ بفضله على من يشاء من عباده.
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس
من الانتفاع به. فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه، لا يفتر ولا يني. فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمل هذا الفصل. وتدبر موقعه، وعظيم منفعته، واجعله ميزانك تزن به الناس، وتزن به الأعمال. فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق. والله المستعان، وعليه التكلان.
ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه.
وتأمل السر في قوله تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل:
في قلوبهم والصدر: هو ساحة القلب وبيته. فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب. فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: 3: 154 وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ.
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر. ووسوسته واصلة إلى القلب. ولهذا قال تعالى: 20: 120 فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ولم يقل «فيه» لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك، وأوصله إليه. فدخل في قلبه.
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور: بم يتعلق؟
فقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم.
والمعنى: يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس، أي الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن. فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للانسي.
وعلى هذا القول: فيكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» نصب على الحال.
لأنه مجرور بعد معرفة، على قول البصريين. وعلى قول الكوفيين: نصب بالخروج من المعرفة. هذه عبارتهم. ومعناها: أنه لما لم يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها. فكان موضعه نصبا.
والبصريون يقدرونه حالا. أي كائنين من الجنة والناس. وهذا القول ضعيف جدا، لوجود:
_ أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني.
ويدخل فيه، كما يدخل في إنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. فأي دليل يدل على هذا، حتى يصح حمل الآية عليه؟.
_ الثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا. فإنه قال: «الذي يوسوس في صدور الناس» فكيف يبين الناس بالناس. فإن معنى الكلام على قوله:
يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين، من الجنة والناس. أفيجوز أن يقال: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو في الاستعمال فصيح.
_ الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة، وناس. وهذا غير صحيح. فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
_ الرابع: أن «الجنة» لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا. ولفظهما يأبى ذلك. فإن الجن إنما سمو جنّا من الاجتنان، وهو الاستتار. فهم مستترون عن أعين البشر. فسمو جنّا لذلك،
من قولهم جنّة الليل وأجنّة: إذا ستره. وأجن الميت: إذا ستره في الأرض.
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه. قال تعالى:
53: 32 وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ومنه المجن: لاستتار المحارب به من سلاح خصمه. ومنه الجنة: لاستتار داخلها بالأشجار. ومنه الجنة- بالضم لما يقي الإنسان من السهام والسلاح. ومنه المجنون: لاستتار عقله.
وأما الناس: فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط. وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد.
والإنس والإنسان: مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس. ومنه قوله: 28: 29 آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رآها ومنه 4: 6 فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي أحسستموه ورأيتموه.
فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس، أي بالعين يرى. والناس فيه قولان.
_ أحدهما: أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد. والأصل عدم القلب.
_ والثاني: وهو الصحيح، أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة.
فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة، كما سمي الرجل حارث وهمام، وهما أصدق الأسماء كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أصدق الأسماء: حارث وهمام»
لأن كل أحد له هم وإرادة، هي مبدأ، وحرث وعمل، هو منتهي.
فكل أحد حارث وهمام. والحرث والهم: حركتا الظاهر والباطن. وهو حقيقة النّوس.
وأما قول بعضهم: إنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه.
وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم: فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان، الذي مادته ن س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.
وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم: أنسن، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.
فإن قلت: فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا؟
قلت: يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له. وذلك كله فاسد، على أن «الناس» قد قيل: إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل: الناس. واستدل بقول الشاعر:
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس- على هذا القول-: عال. لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول: يكون وزنه: فعل. لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف: يكون وزنه: فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا وزنه فلعا.
والمقصود: أن «الناس» اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» بيانا لقوله: فِي صُدُورِ النَّاسِ وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل: لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال.
كما في قوله تعالى: 72: 6 وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس؟!
قلت: هذا هو الذي غرّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك:
لم يلزم من ذلك: وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله: 55: 33امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يقتضى أنهما متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس» لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر
فالصواب: القول الثاني.
وهوأن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما
في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» .
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني.
قال تعالى: 6: 112 وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا: تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول: إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط.
.... ........ ......... ........
تفسير سورة الناس لابن تيمية :
سورة الناس وقال شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله فصل في { قل أعوذ برب الناس } إلى آخرها .
قوله : { من شر الوسواس الخناس } { الذي يوسوس في صدور الناس } { من الجنة والناس } فيها أقوال ولم يذكر ابن الجوزي إلا قولين ولم يذكر الثالث وهو الصحيح
وهو أن قوله( من الجنة والناس) لبيان الوسواس أي الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس فإن الله تعالى قد أخبر أنه جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وإيحاؤهم هو وسوستهم وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر ; بل قد يشاهد قال تعالى : { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } وهذا كلام من يعرف قائله ليس شيئا يلقى في القلب لا يدري ممن هو وإبليس قد أمر بالسجود لآدم فأبى واستكبر فلم يكن ممن لا يعرفه آدم وهو ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم وأما آدم فقد رآه .
وقد يرى الشياطين والجن كثير من الإنس لكن لهم من الاجتنان والاستتار ما ليس للإنس وقد قال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم } وفي التفسير والسيرة : أن الشيطان جاءهم في صورة بعض الناس وكذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } .
وفي حديث أبي ذر { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن قلت : أو للإنس شياطين ؟ قال : نعم شر من شياطين الجن } . وأيضا فالنفس لها وسوسة كما قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فهذا توسوس به نفسه لنفسه كما يقال حديث النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } أخرجاه في الصحيحين .
فالذي يوسوس في صدور الناس نفوسهم وشياطين الجن وشياطين الإنس . والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس وإلا
أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط مع أن وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن .
وأما قول الفراء : أن المراد من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس : الطائفتين من الجن والإنس وأنه سمى الجن ناسا كما سماهم رجالا وسماهم نفرا فهذا ضعيف فإن لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس وقد ذكر الله تعالى لفظ الناس في غير موضع .
وأيضا فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان وليس وسوسة الجن معروفة عند الناس وإنما يعرف هذا بخبر ولا خبر هنا ثم قد قال : { من الجنة والناس } فكيف يكون لفظ الناس عاما للجنة والناس وكيف يكون قسيم الشيء قسما منه فهو يجعل الناس قسيم الجن ويجعل الجن نوعا من الناس وهذا كما يقول : أكرم العرب من العجم والعرب فهل يقول هذا أحد وإذا سماهم الله تعالى رجالا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسا وإن قدر أنه يقال جاء ناس من الجن فذاك مع التقييد كما يقال إنسان من طين وماء دافق ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس وقد قال تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء مع أنه سبحانه يخاطب الجن والإنس . والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجنسين لكن لفظ الناس لم يتناول الجن ولكن يقول يا معشر الجن والإنس .
وكذلك قول الزجاج : أن المعنى { من شر الوسواس } الذي هو الجنة ومن شر الناس فيه ضعف وإن كان أرجح من الأول ; لأن شر الجن أعظم من شر الإنس فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن . وأيضا فالوسواس الخناس إن لم يكن إلا من الجنة فلا حاجة إلى قوله { من الجنة } ومن { الناس } فلماذا يخص الاستعاذة من وسواس الجنة دون وسواس الناس . وأيضا فإنه إذا تقدم المعطوف اسما كان عطفه على القريب أولى كما أن عود الضمير إلى الأقرب أولى إلا إذا كان هناك دليل يقتضي العطف على البعيد فعطف الناس هنا على الجنة المقرون به أولى من عطفه على الوسواس . [ ص: 513 ] ويكفي أن المسلمين كلهم يقرءون هذه السورة من زمن نبيهم ولم ينقل هذان القولان إلا عن بعض النحاة والأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليس فيها شيء من هذا بل إنما فيها القول الذي نصرناه كما في تفسير معمر عن قتادة { من الجنة والناس } قال : إن في الجن شياطين وإن في الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ; فبين قتادة أن المعنى الاستعاذة من شياطين الإنس والجن .
وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { الوسواس الخناس } قال : الخناس الذي يوسوس مرة ويخنس مرة من الجن والإنس فبين ابن زيد أن الوسواس الخناس من الصنفين وكان يقال : شياطين الإنس أشد على الناس من شياطين الجن : شيطان الجن يوسوس ولا تراه وهذا يعاينك معاينة . وعن ابن جريج : { من الجنة والناس } قال : إنما وسواسان فوسواس من الجنة فهو { الخناس } ووسواس من نفس الإنسان فهو قوله : { والناس } وهذا القول الثالث وإن كان يشبه قول الزجاج فهذا أحسن منه فإنه جعل من الناس الوسواس الذي من نفس الإنسان فمعناه أحسن ذكر الثلاثة ابن أبي حاتم في تفسيره .
وأيضا فإنه ذكر في الآية { برب الناس } { ملك الناس } { إله الناس } فإن كان المقصود أن يستعيذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شر ما يوسوس في صدورهم فإنه هو الذي يطلب منه الخير الذي ينفعهم ويطلب منه دفع الشر الذي يضرهم والوسواس أصل كل شر يضرهم ; لأنه مبدأ للكفر والفسوق والعصيان وعقوبات الرب إنما يكون على ذنوبهم وإذا لم يكن لأحدهم ذنب فكل ما يصيبه نعمة في حقه وإذا ابتلي بما يؤلمه فإن الله يرفع درجته ويأجره إذا قدر عدم الذنوب مطلقا لكن هذا ليس بواقع منهم فإن كل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } . فغاية المؤمنين الأنبياء فمن دونهم هي التوبة .
قال الله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } وقال : نوح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وقال إبراهيم وإسماعيل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } وقال موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } ودعاء نبينا بمثل ذلك كثير معروف .
فكان الوسواس مبدأ كل شر فإن كانوا قد استعاذوا بربهم وملكهم وإلههم من شره فقد دخل في ذلك وسواس الجن والإنس وسائر شر الإنس إنما يقع بذنوبهم فهو جزاء على أعمالهم كالشر الذي يقع من الجن بغير الوسواس وكما يحصل من العقوبات السماوية وهم لم يستعيذوا هنا من شر المخلوقات مطلقا كما استعاذوا في سورة الفلق بل من الشر الذي يكون مبدؤه في نفوسهم وإن كان ذكر رب الناس ملك الناس إله الناس يستعيذون به ليعيذهم وليعيذ منهم وهذا أعم المعنيين فذلك يحصل بإعاذته من شر الوسواس الموسوس في صدور الناس فإنه هو الذي يوسوس بظلم الناس بعضهم بعضا وبإغواء بعضهم بعضا وبإعانة بعضهم بعضا على الإثم والعدوان .
فما حصل لإنسي شر من إنسي إلا كان مبدؤه من الوسواس الخناس وإلا فما يحصل من أذى بعضهم لبعض إذا لم يكن من الوسواس بل كان من الوحي الذي بعث الله به ملائكته كان عدلا كإقامة الحدود وجهاد الكفار والاقتصاص من الظالمين فهذه الأمور فيها ضرر وأذى للظالمين من الإنس لكن هي بوحي الله لا من الوسواس وهي نعمة من الله في حق عباده حتى في حق المعاقب فإنه إذا عوقب كان ذلك كفارة له إن كان مؤمنا وإلا كان تخفيفا لعذابه في الآخرة بالنسبة إلى عذاب من لم يعاقب في الدنيا .
ولهذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة في حق العالمين باعتبار ما حصل من الخير العام به وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة وباعتبار أنه في نفسه رحمة فمن قبلها وإلا كان هو الظالم لنفسه وباعتبار أنه قمع الكفار والمنافقين فنقص شرهم وعجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه وقتل من قتل منهم فكان تعجيل موتهم خيرا من طول عمرهم في الكفر لهم وللناس فكان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بكل اعتبار فلا يستعاذ منه ومن أمثاله من الأنبياء وأتباعهم المؤمنين وهم من الناس وإن كانوا يفعلون بأعدائهم ما هو أذى وعقوبة وألم لهم فلم تبق الاستعاذة من الناس إلا مما يأتي به الوسواس إليهم فيستعاذ برب الناس ملك الناس إله الناس على هذا التقدير من شر الوسواس الذي يوسوس للمستعيذ ومن شر الوسواس الذي يوسوس لسائر الناس حتى لا يحصل منهم شر للمستعيذ فإذا لم يكن للناس شر إلا من الوسواس كانت الاستعاذة من شر الذي يوسوس لهم تحصيلا للمقصود وكان حسما للمادة وأقرب إلى العدل وكان مخرجا لأنبياء الله وأوليائه أن يستعاذ من شرهم وأن يقرنوا بالوسواس الخناس ويكون ذلك تفضيلا للجن على الإنس وهذا لا يقوله عاقل .
فإن قيل : فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس فإنه تابع لوسواس الجن . قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ونوع من نفوس الإنس .
كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فالشر من الجهتين جميعا والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة يقال فلان يوشوش فلانا وقد وشوشه إذا حدثه سرا في أذنه وكذلك الوسوسة ومنه وسوسة الحلي لكن هو بالسين المهملة أخص .
و رب الناس : الذي يربيهم بقدرته ومشيئته - وتدبيره وهو رب العالمين كلهم فهو الخالق للجميع ولأعمالهم . { ملك الناس } الذي يأمرهم وينهاهم فإن الملك يتصرف بالكلام والجماد لا ملك له فإنه لا يعقل الخطاب لكن له مالك وإنما يكون الملك لمن يفهم عنه والحيوان يفهم بعضه عن بعض كما قال : { علمنا منطق الطير } { قالت نملة يا أيها النمل } فلهذا كان له ملك من جنسه ومن غير جنسه كما كان سليمان ملكهم . والإله : هو المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها كما قد بسط الكلام على ذلك .
وقد قيل : إنما خص الناس بالذكر ; لأنهم مستعيذون أو لأنهم المستعاذ من شرهم ذكرهما أبو الفرج وليس لهما وجه فإن وسواس الجن أعظم ولم يذكره بل ذكر الناس لأنهم المستعيذون فيستعيذون بربهم الذي يصونهم وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته ويستعيذون أيضا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس الناس منهم ومن الجنة فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم .
(فصل)
وبهذا يتبين بعض هذه الاستعاذة والتي قبلها كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعذ المستعيذون بمثلهما فإن الوسواس أصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو أصل الشر كله فمتى وقي الإنسان شره وقى عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال فإن جميع هذه إنما تحصل بطريق الوسواس ووقي عذاب الله في الدنيا والآخرة فإنه إنما يعذب على الذنوب وأصلها من الوسواس ثم إن دخل في الآية وسواس غيره بحيث يكون قوله { من شر الوسواس } استعاذة من الوسواس الذي يعرض له والذي يعرض للناس بسببه فقد وقى ظلمهم وإن كان إنما يريد وسواسه فهم إنما يسلطون عليه بذنوبه وهي من وسواسه قال تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } .
والوسواس من جنس الحديث والكلام ; ولهذا قال المفسرون في قوله { ما توسوس به نفسه } قالوا : ما تحدث به نفسه وقد قال صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } .
وهو نوعان : خبر وإنشاء .
فالخبر : إما عن ماض وإما عن مستقبل . فالماضي يذكره به والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أمورا أو أن أمورا ستكون بقدر الله أو فعل غيره فهذه الأماني والمواعيد الكاذبة والإنشاء أمر ونهي وإباحة . والشيطان تارة يحدث وسواس الشر وتارة ينسى الخير وكان ذلك بما يشغله به من حديث النفس . قال تعالى في النسيان : { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين }
وقال فتى موسى : { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان }
وقال تعالى : { فأنساه الشيطان ذكر ربه } .
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول : اذكر كذا اذكر كذا لما لم يذكر حتى يظل الرجل لم يدر كم صلى }
فالشيطان ذكره بأمور ماضية حدث بها نفسه مما كانت في نفسه من أفعاله ومن غير أفعاله فبتلك الأمور نسي المصلي كم صلى ولم يدر كم صلى فإن النسيان أزال ما في النفس من الذكر وشغلها بأمر آخر حتى نسي الأول . وأما إخباره بما يكون في المستقبل من المواعيد والأماني فكقوله : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } وفي هذه الآية أمره ووعده وقال تعالى : { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا } وقال تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم } ففي هذه أيضا أمره ووعده . وقال موسى لما قتل القبطي : { هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين } .
وقد قال غير واحد من الصحابة : كأبي بكر وابن مسعود فيما يقولونه باجتهادهم : إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان . فجعلوا ما يلقى في النفس من الاعتقادات التي ليست مطابقة من الشيطان وإن لم يكن صاحبها آثما لأنه استفرغ وسعه كما لا يأثم بالوسواس الذي يكون في الصلاة من الشيطان ولا بما يحدث به نفسه وقد قال المؤمنون : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد قال الله : قد فعلت . والنسيان للحق من الشيطان والخطأ من الشيطان .
قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين }
وقد قال صلى الله عليه وسلم { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } ولما نام هو وأصحابه عن الصلاة في غزوة خيبر قال : لأصحابه : { ارتحلوا فإن هذا مكان حضرنا فيه شيطان } وقال : { إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى نام }
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل بلالا أن يوقظهم عند الفجر والنوم الذي يشغل عما أمر به والنعاس من الشيطان وإن كان معفوا عنه ; ولهذا قيل : النعاس في مجلس الذكر من الشيطان وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان والنائم لا قلم عليه .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا ما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في النوم } وقد قيل : إن هذا من كلام ابن سيرين لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين : نوع من الله ونوع من الشيطان صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب .
فهذان النوعان : من وسواس النفس ومن وسواس الشيطان وكلاهما معفو عنه فإن النائم قد رفع القلم عنه ووسواس الشيطان يغشى القلب كطيف الخيال فينسيه ما كان معه من الإيمان حتى يعمى عن الحق فيقع في الباطل فإذا كان من المتقين [ كان ] كما قال الله : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } فإن الشيطان مسهم بطيف منه يغشى القلب وقد يكون لطيفا وقد يكون كثيفا إلا أنه غشاوة على القلب تمنعه إبصار الحق . قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك [ ص: 523 ] الران الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
لكن طيف الشيطان غير رين الذنوب هذا جزاء على الذنب والغين ألطف من ذلك كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة } فالشيطان يلقي في النفس الشر والملك يلقي الخير وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن . قالوا : وإياك يا رسول الله قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم وفي رواية فلا يأمرني إلا بخير } أي استسلم وانقاد .
وكان ابن عيينة يرويه فأسلم بالضم ويقول : إن الشيطان لا يسلم لكن قوله في الرواية الأخرى : فلا يأمرني إلا بخير دل على أنه لم يبق يأمره بالشر وهذا إسلامه وإن كان ذلك كناية عن خضوعه وذلته لا عن إيمانه بالله كما يقهر الرجل عدوه الظاهر ويأسره وقد عرف العدو المقهور أن ذلك القاهر يعرف ما يشير به عليه من الشر . فلا يقبله بل يعاقبه على ذلك فيحتاج لانقهاره معه إلى أنه لا يشير عليه إلا بخير لذلته وعجزه لا لصلاحه ودينه ; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { إلا أن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير }
وقال ابن مسعود : إن للملك لمة وإن للشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق .
ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق . وقد قال تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفكم أولياؤه بما يقذف في قلوبكم من الوسوسة المرعبة كشيطان الإنس الذي يخوف من العدو فيرجف ويخذل . وعكس هذا قوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وقال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وقال تعالى : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } والتثبت جعل الإنسان ثابتا لأمر تابا وذلك بإلقاء ما يثبته من التصديق بالحق والوعد بالخير كما قال ابن مسعود : لمة الملك وعد بالخير وتصديق بالحق فمتى علم القلب أن ما أخبر به الرسول حق صدقه وإذا علم أن الله قد وعده بالتصديق وثق بوعد الله فثبت فهذا يثبت بالكلام كما يثبت الإنسان الإنسان في أمر قد اضطرب فيه بأن يخبره بصدقه ويخبره . بما يبين له أنه منصور فيثبت وقد يكون التثبت بالفعل بأن يمسك القلب حتى يثبت كما يمسك الإنسان الإنسان حتى يثبت . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } فهذا الملك يجعله سديد القول بما يلقي في قلبه من التصديق بالحق والوعد بالخير .
وقد قال تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } فدل ذلك على أن هذه الصلاة سبب لخروجهم من الظلمات إلى النور وقد ذكر إخراجه للمؤمنين من الظلمات إلى النور في غير آية .
كقوله : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وقال : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } وقال : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وفي الحديث { أن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير } وذلك أن هذا بتعليمه الخير يخرج الناس من الظلمات إلى النور والجزاء من جنس العمل ولهذا كان الرسول أحق الناس بكمال هذه الصلاة كما قال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } .
والصلاة هي الدعاء إما بخير يتضمن الدعاء :
_ وإما بصيغة الدعاء فالملائكة يدعون للمؤمنين كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث } فبين أن صلاتهم قولهم : اللهم اغفر له اللهم ارحمه . وفي الأثر { إن الرب يصلي فيقول : سبقت - أو غلبت - رحمتي غضبي }
وهذا كلامه سبحانه هو خبر وإنشاء يتضمن أن الرحمة تسبق الغضب وتغلبه وهو سبحانه لا يدعو غيره أن يفعل كما يدعوه الملائكة وغيرهم من الخلق بل طلبه بأمره وقوله وقسمه كقوله : لأفعلن كذا .
وقوله : كن فيكون ; وقوله : لأفعلن كذا قسم منه كقوله : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك } وقوله : { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } وقوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وهذا وعد مؤكد بالقسم بخلاف قوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } فإن هذا وعد وخبر ليس فيه قسم لكنه مؤكد باللام التي يمكن أن تكون جواب قسم وقوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وقوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } ونحو ذلك وعد مجرد .
وقد قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فأخبر أنه يوحي إلى البشر تارة وحيا منه وتارة يرسل رسولا فيوحي إلى الرسول بإذنه ما يشاء .
والملائكة رسل الله . ولفظ الملك يتضمن معنى الرسالة فإن أصل الكلمة ملأك على وزن مفعل لكن لكثرة الاستعمال خففت . بأن ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت الهمزة وملاك مأخوذ من المألك والملأك بتقديم الهمزة على اللام واللام على الهمزة وهو الرسالة وكذلك الألوكة بتقديم الهمزة على اللام قال الشاعر :
أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظاري
وهذا بتقديم الهمزة . لكن الملك هو بتقديم اللام على الهمزة وهذا أجود فإن نظيره في الاشتقاق الأكبر لاك يلوك إذا لاك الكلام واللجام والهمز أقوى من الواو ويليه في الاشتقاق الأوسط : أكل يأكل فإن الآكل يلوك مما يدخله في جوفه من الغذاء والكلام والعلم ما يدخل في الباطن ويغذي به صاحبه قال عبد الله بن مسعود : إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله القرآن . والآدب المضيف والمأدبة الضيافة وهو ما يجعل من الطعام للضيف . فبين أن الله ضيف عباده بالكلام الذي أنزله إليهم فهو غذاء قلوبهم وقوتها وهو أشد انتفاعا به واحتياجا إليه من الجسد بغذائه .
وقال علي رضي الله عنه الربانيون هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها وقد قال صلى الله عليه وسلم { إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني } وقد أخبر الله تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور والناس إلى الغذاء أحوج منهم إلى الشفاء في القلوب والأبدان
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } . فأخبر أن ما بعث به للقلوب كالماء للأرض تارة تشربه فتنبت وتارة تحفظه وتارة لا هذا ولا هذا والأرض تشرب الماء وتغتذى به حتى يحصل الخير وقد أخبر الله تعالى أنه روح تحيا به القلوب فقال : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } . وإذا كان ما يوحيه إلى عباده تارة يكون بوساطة ملك وتارة بغير وساطة فهذا للمؤمنين كلهم مطلقا لا يختص به الأنبياء .
قال تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } وقال تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وإذا كان قد قال : { وأوحى ربك إلى النحل } الآية . فذكر أنه يوحي إليهم فإلى الإنسان أولى وقال تعالى : { وأوحى في كل سماء أمرها } وقد قال تعالى : { ونفس وما سواها } { فألهمها فجورها وتقواها } فهو سبحانه يلهم الفجور والتقوى للنفس والفجور يكون بواسطة الشيطان وهو إلهام وسواس والتقوى بواسطة ملك وهو إلهام وحي هذا أمر بالفجور وهذا أمر بالتقوى والأمر لا بد أن يقترن به خبر .
وقد صار في العرف لفظ الإلهام إذا أطلق لا يراد به الوسوسة . وهذه الآية مما تدل على أنه يفرق بين إلهام الوحي وبين الوسوسة . فالمأمور به إن كان تقوى الله فهو من إلهام الوحي وإن كان من الفجور فهو من وسوسة الشيطان .
فيكون الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة :هو الكتاب والسنة فإن كان مما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله فهو من الإلهام المحمود وإن كان مما دل على أنه فجور فهو من الوسواس المذموم وهذا الفرق مطرد لا ينتقض وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال : ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه .
وقد تكلم النظار في العلم الحاصل في القلب عقب النظر والاستدلال فذكروا فيه ثلاثة أقوال كما ذكر ذلك أبو حامد - في مستصفاه - وغيره
قول الجهمية وقول القدرية وقول الفلاسفة . وكثير من أهل الكلام لا يذكر إلا القولين :
_ قول الجهمية وقول القدرية : وذلك أنهم يذكرون في كتبهم ما يعرفونه من أقوال من يعرفونه تكلم في هذا وهم لا يعرفون إلا هؤلاء والمسألة هي من فروع القدر فإن الحاصل في نفس حادث فيها فالقول فيه كالأقوال في أمثاله .
ومذهب جهم ومن وافقه كأبي الحسن الأشعري وكثير من المتأخرين المثبتة هو مذهب أهل السنة والجماعة ; أن الله خالق كل شيء وأن الله خالق أفعال العباد لكنه لا يثبت سببا ولا قدرة مؤثرة ولا حكمة لفعل الرب فأنكر الطبائع والقوى التي في الأعيان وأنكر الأسباب والحكم فلهذا لم يجعل لشيء سببا .
بل يقول هذا حاصل بخلق الله وقدرته ولم يذكروا له سببا وهم صادقون في إضافته إلى قدره وأنه خالقه خلافا للقدرية لكن من تمام المعرفة إثبات الأسباب ومعرفتها .
_ وأما القدرية من المعتزلة وغيرهم : فبنوه على أصلهم وهو أن كل ما تولد عن فعل العبد فهو فعله لا يضاف إلى غيره كالشبع والري وزهوق الروح ونحو ذلك فقالوا : هذا العلم متولد عن نظر العبد أو تذكر النظر .
.......... ............ .......
إعراب سورة الناس :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾إِلَـهِ النَّاسِ﴿٣﴾مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿٥﴾مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿٦﴾.
قُلْ: فعلُ أمرٍ مبني على السّكون، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره أنتَ.
أَعُوذُ: فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديرهُ أنا.
بِرَبِّ: الباء: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر. رَبِّ: اسمٌ مجرور بـ(الباء) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
إعراب سورة الناس
