سورة المسد ؛تفسير السعدي ،تفسير ابن كثير ،تفسير القرطبي ،تفسير الطبري ،تفسير الشوكاني ،تفسير ابن عثيمين,تفسير ابن تيمية ،تفسير الجلالين ،تفسير الميسر ،الختصر في التفسير .إعراب .خواطر



سورة المسد ؛تفسير السعدي ،تفسير ابن كثير ،تفسير القرطبي ،تفسير الطبري ،تفسير الشوكاني ،تفسير ابن عثيمين,تفسير ابن تيمية ،تفسير الجلالين ،تفسير الميسر ،الختصر في التفسير .إعراب .خواطر 



تفسير سورة المسد للسعدي :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
أبو لهب هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شديد العداوة [والأذية] للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا فيه دين، ولا حمية للقرابة -قبحه الله- فذمه الله بهذا الذم العظيم، الذي هو خزي عليه إلى يوم القيامة فقال: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أي: خسرت يداه، وشقى { وَتَبَّ } فلم يربح

مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ } الذي كان عنده وأطغاه، ولا ما كسبه فلم يرد عنه شيئًا من عذاب الله إذ نزل به،

سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
{ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } أي: ستحيط به النار من كل جانب،

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
هو { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } .
وكانت أيضًا شديدة الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تتعاون هي وزوجها على الإثم والعدوان، وتلقي الشر، وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى الله عليه وسلم،

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
وتجمع على ظهرها من الأوزار بمنزلة من يجمع حطبًا، قد أعد له في عنقه حبلًا 
{ مِنْ مَسَدٍ } أي: من ليف.
أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها، متقلدة في عنقها حبلًا من مسد، وعلى كل، 
ففي هذه السورة، آية باهرة من آيات الله، فإن الله أنزل هذه السورة، وأبو لهب وامرأته لم يهلكا، وأخبر أنهما سيعذبان في النار ولا بد، ومن لازم ذلك أنهما لا يسلمان، فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة.

........         ..... .......      .............

تفسير سورة المسد لابن كثير  :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

 وهي مكية .
قال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقال : 
" أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أكنتم تصدقوني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك . 
فأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب ) إلى آخرها .

وفي رواية : فقام ينفض يديه ، وهو يقول : تبا لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب ) .
الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه .

 فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه : عبد العزى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عتبة . وإنما سمي " أبا لهب " لإشراق وجهه ، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغضة له ، والازدراء به ، والتنقص له ولدينه . .

قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : أخبرني رجل - يقال له : ربيعة بن عباد ، من بني الديل ، وكان جاهليا فأسلم - قال :
 رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول :
 " يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ كاذب . يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب .

ثم رواه عن سريج ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، فذكره - قال أبو الزناد : قلت لربيعة : كنت يومئذ صغيرا ؟ قال : لا والله ، إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة . تفرد به أحمد .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : إني لمع أبي رجل شاب ، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل - ووراءه رجل أحول وضيء ، ذو جمة - يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول : 
" يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " .
 وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان ، هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى ، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه . فقلت لأبي : من هذا ؟ قال : عمه أبو لهب .
رواه أحمد أيضا والطبراني بهذا اللفظ .
فقوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب ) أي : خسرت وخابت ، وضل عمله وسعيه ( وتب ) أي : وقد تب تحقق خسارته وهلاكه .

مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
وقوله : ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) قال ابن عباس وغيره : ( وما كسب ) يعني : ولده . 

وروي عن عائشة ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، مثله .
وذكر عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان ، قال أبو لهب : إذا كان ما يقول ابن أخي حقا ، فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي ، فأنزل الله : ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) .

سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
أي ذات شرر ولهب وإحراق شديد.

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
( وامرأته حمالة الحطب ) وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي : أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان . 
وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ; فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم . ولهذا قال : ( حمالة الحطب


فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
(في جيدها حبل من مسد ) يعني : تحمل الحطب فتلقي على زوجها ، ليزداد على ما هو فيه ، وهي مهيأة لذلك مستعدة له .
( في جيدها حبل من مسد ) قال مجاهد وعروة : من مسد النار .

وعن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، والسدي : ( حمالة الحطب ) كانت تمشي بالنميمة ، [ واختاره ابن جرير ] .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، وعطية الجدلي ، والضحاك ، وابن زيد : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختاره ابن جرير .
قال ابن جرير : وقيل : كانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب ، فعيرت بذلك .
كذا حكاه ، ولم يعزه إلى أحد . والصحيح الأول ، والله أعلم .

قال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد يعني : فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن سليم مولى الشعبي ، عن الشعبي قال : المسد : الليف .
وقال عروة بن الزبير : المسد : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا .

وعن الثوري : هو قلادة من نار ، طولها سبعون ذراعا .
وقال الجوهري : المسد : الليف . والمسد أيضا : حبل من ليف أو خوص ، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ، ومسدت الحبل أمسده مسدا : إذا أجدت فتله .
وقال مجاهد : ( في جيدها حبل من مسد ) أي : طوق من حديد ، ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا ؟
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زرعة ، قالا : حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن ابن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما نزلت : ( تبت يدا أبي لهب ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ، ولها ولولة ، وفي يدها فهر ، وهي تقول :
مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله ، قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لن تراني " . 
وقرأ قرآنا اعتصم به ، كما قال تعالى : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) [ الإسراء : 45 ] . 
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر ، إني أخبرت أن صاحبك هجاني ؟ قال : لا ورب هذا البيت ما هجاك . فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها . 

قال : وقال الوليد في حديثه أو غيره : فعثرت أم جميل في مرطها وهي تطوف بالبيت ، فقالت : تعس مذمم . فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب : إني لحصان فما أكلم ، وثقاف فما أعلم ، وكلنا من بني العم ، وقريش بعد أعلم .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد وأحمد بن إسحاق ، قالا : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( تبت يدا أبي لهب ) جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، ومعه أبو بكر . فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيحال بيني وبينها " . فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت : يا أبا بكر ، هجانا صاحبك . فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما نطق بالشعر ولا يتفوه به . فقالت : إنك لمصدق ، فلما ولت قال أبو بكر ، رضي الله عنه : ما رأتك ؟ قال : " لا ، ما زال ملك يسترني حتى ولت " .
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه .

وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى : 
( في جيدها حبل من مسد ) أي : في عنقها حبل في نار [ جهنم ] ترفع به إلى شفيرها ، ثم يرمى بها إلى أسفلها ، ثم كذلك دائما .

قال أبو الخطاب بن دحية في كتابه التنوير - وقد روى ذلك - وعبر بالمسد عن حبل الدلو ، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب " النبات " : كل مسد : رشاء ، وأنشد في ذلك :
وبكرة ومحورا صرارا ومسدا من أبق مغارا
قال : والأبق : القنب .
وقال الآخر :
يا مسد الخوص تعوذ مني إن تك لدنا لينا فإني
ما شئت من أشمط مقسئن

قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : ( سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ) فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا ظاهرا ولا باطنا ، لا مسرا ولا معلنا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة .

.......     ........       ..........

تفسير سورة المسد للقرطبي :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
_سورة تبت
_وهي مكية بإجماع
 _ وهي خمس آيات

تبت يدا أبي لهب وتب(1)
فيه ثلاث مسائل :

_ الأولى : قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب في الصحيحين وغيرهما ( واللفظ لمسلم ) 
عن ابن عباس قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين 
( ورهطك منهم المخلصين ) ، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه ! فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا محمد . 
فاجتمعوا إليه . فقال : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه . 
فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
 فقال أبو لهب : تبا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام ، فنزلت هذه السورة : تبت يدا أبي لهب وقد تب كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة . زاد الحميدي وغيره : فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن ، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - ، وفي يدها فهر من حجارة ، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
 فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر ، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة :
مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ؟ قال : " ما رأتني ، لقد أخذ الله بصرها عني " . وكانت قريش إنما تسمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمما ؛ يسبونه ، وكان يقول : " ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش ، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد " . 

وقيل : إن سبب نزولها ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال : " كما يعطى المسلمون " قال ما لي عليهم فضل ؟ . قال : " وأي شيء تبغي " ؟ قال : تبا لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ؛ فأنزل الله تعالى فيه . تبت يدا أبي لهب وتب .
وقول ثالث حكاه عبد الرحمن بن كيسان قال : كان إذا وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون له : أنت أعلم به منا . 
فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر . فيرجعون عنه ولا يلقونه . فأتى وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، ونسمع كلامه . فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا . 
فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتأب لذلك ؛ فأنزل الله تعالى : تبت يدا أبي لهب ... السورة . 
وقيل : إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجر ، فمنعه الله من ذلك ، 
وأنزل الله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب للمنع الذي وقع به . ومعنى تبت : خسرت ؛ قال قتادة . وقيل : خابت ؛ قال ابن عباس . وقيل : ضلت ؛ قاله عطاء . وقيل : هلكت ؛ قاله ابن جبير . وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خبر . حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان - رحمه الله - سمع الناس هاتفا يقول :
لقد خلوك وانصرفوا فما أبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرهم فيا تبا لما صنعوا
وخص اليدين بالتباب ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ؛ أي خسرتا وخسر هو . وقيل : المراد باليدين نفسه . وقد يعبر عن النفس باليد ،
 كما قال الله تعالى : بما قدمت يداك . أي نفسك . 
وهذا مهيع كلام العرب ؛ تعبر ببعض الشيء عن كله ؛ تقول : أصابته يد الدهر ، ويد الرزايا والمنايا ؛ أي أصابه كل ذلك .
 قال الشاعر :
لما أكبت يد الرزايا عليه نادى ألا مجير
وتب قال الفراء : التب الأول : دعاء والثاني خبر ؛ كما يقال : أهلكه الله وقد هلك . 

وفي قراءة عبد الله وأبي وقد تب وأبو لهب اسمه عبد العزى ، وهو ابن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - . وامرأته العوراء أم جميل ، أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بإنسان يقول : " يأيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يأيها الناس ، إنه كذاب فلا تصدقوه . فقلت من هذا ؟ فقالوا : محمد ، زعم أنه نبي . وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب .

 وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة ، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع ، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة ، وأرواكم من عس لبن .

_ الثانية : قوله تعالى : أبي لهب قيل : سمي باللهب لحسنه ، وإشراق وجهه . وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك ؛ وهو باطل ، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة :

الأول :
 أنه كان اسمه عبد العزى ، والعزى : صنم ، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم .

الثاني :
أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه ؛ فصرح بها .

الثالث :
 أن الاسم أشرف من الكنية ، فحطه الله - عز وجل - عن الأشرف إلى الأنقص ؛ إذا لم يكن بد من الإخبار عنه ، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم ، ولم يكن عن أحد منهم . 
ويدلك على شرف الاسم على الكنية : أن الله تعالى يسمى ولا يكنى ،
 وإن كان ذلك لظهوره وبيانه ؛ واستحالة نسبة الكنية إليه ، لتقدسه عنها .

الرابع :
 أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته ، بأن يدخله النار ، فيكون أبا لها ، تحقيقا للنسب ، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه . 
وقد قيل : اسمه كنيته . فكان أهله يسمونه ( أبا لهب ) ، لتلهب وجهه وحسنه ؛ فصرفهم الله عن أن يقولوا : أبو النور ، وأبو الضياء ، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه ، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى ( لهب ) الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم ، وهو النار .
 ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره . وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن . ( أبي لهب ) بإسكان الهاء . ولم يختلفوا في ( ذات لهب ) إنها مفتوحة ؛ لأنهم راعوا فيها رءوس الآي .

_ الثالثة : قال ابن عباس : لما خلق الله - عز وجل - القلم قال له : اكتب ما هو كائن ، وكان فيما كتب تبت يدا أبي لهب . 
وقال منصور : سئل الحسن عن قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب . هل كان في أم الكتاب ؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار ؟ فقال : والله ما كان يستطيع ألا يصلاها ، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه . 
ويؤيده قول موسى لآدم : أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، خيبت الناس ، وأخرجتهم من الجنة . 
قال آدم : وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه ، وأعطاك التوراة ، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السماوات والأرض . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فحج آدم موسى . وقد تقدم هذا .

وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى : " بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني " ؟ قال : بألفي عام قال : فهل وجدت فيها : وعصى آدم ربه فغوى قال : نعم قال : أفتلومني على أمر وكتب الله علي أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام . فحج آدم موسى " . وفي حديث طاوس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة : " بأربعين عاما "

مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
قوله تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب
أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال ، ولا ما كسب من جاه . 
وقال مجاهد : من الولد ؛ وولد الرجل من كسبه . وقرأ الأعمش ( وما اكتسب ) ورواه عن ابن مسعود .
 وقال أبو الطفيل : جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس ، فاقتتلوا ، فقام ليحجز بينهم ، فدفعه بعضهم ، فوقع على الفراش ، فغضب ابن عباس وقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ؛ يعني ولده . 
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه . خرجه أبو داود .

 وقال ابن عباس : لما أنذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشيرته بالنار ، قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي ؛ فنزل : ما أغنى عنه ماله وما كسب . 
و ما في قوله : ما أغنى : يجوز أن تكون نفيا ، ويجوز أن تكون استفهاما ؛ أي أي شيء أغنى عنه ؟ و ما الثانية : يجوز أن تكون بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا ؛ أي ما أغنى عنه ماله وكسبه .

سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
قوله تعالى : سيصلى نارا ذات لهب
أي ذات اشتعال وتلهب . وقد مضى في سورة ( المرسلات ) القول فيه .
 وقراءة العامة : سيصلى بفتح الياء . وقرأ أبو رجاء والأعمش : بضم الياء . ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير ، وحسين عن أبي بكر عن عاصم ، ورويت عن الحسن . وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع سيصلى بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام ؛ ومعناها سيصليه الله ؛ من قوله : وتصلية جحيم . والثانية من الإصلاء ؛ أي يصليه الله ؛ من قوله : فسوف نصليه نارا .
 والأولى هي الاختيار ؛ لإجماع الناس عليها ؛ وهي من قوله : إلا من هو صال الجحيم .

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
قوله تعالى : وامرأته حمالة الحطب قوله تعالى : وامرأته أم جميل .
 وقال ابن العربي : العوراء أم قبيح ، وكانت عوراء . حمالة الحطب قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة بين الناس ؛ تقول العرب : فلان يحطب على فلان : إذا ورش عليه .
 قال الشاعر :
إن بني الأدرم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب عليهم اللعنة تترى والحرب

وقال آخر :
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يعني : لم تمش بالنمائم ، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين ، الذي هو زيادة في الشر . 

وقال أكثم بن صيفي لبنيه : إياكم والنميمة فإنها نار محرقة ، وإن النمام ليعمل في ساعة ما لا يعمل الساحر في شهر . أخذه بعض الشعراء فقال :
إن النميمة نار ويك محرقة فقر عنها وجانب من تعاطاها

ولذلك قيل : نار الحقد لا تخبو . 
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة نمام . 
وقال صلي الله عليه وسلم : ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها .
 وقال عليه الصلاة والسلام : من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه .
 وقال كعب الأحبار : أصاب بني إسرائيل قحط ، فخرج بهم موسى - عليه السلام - ثلاث مرات فلم يستسقوا . فقال موسى : " إلهي عبادك " فأوحى الله إليه :
 " إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما ، قد أصر على النميمة " . فقال موسى : " يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا " ؟ فقال : " يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما " قال : فتابوا بأجمعهم ، فسقوا . 
والنميمة من الكبائر ، لا خلاف في ذلك ؛ 

حتى قال الفضيل بن عياض : ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرن الصائم ، وينقضن الوضوء : الغيبة ، والنميمة ، والكذب . 

وقال عطاء بن السائب : ذكرت للشعبي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة سافك دم ، ولا مشاء بنميمة ، ولا تاجر يربي فقلت : يا أبا عمرو ، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا ؟ فقال : وهل تسفك الدماء ، وتنتهب الأموال ، وتهيج الأمور العظام ، إلا من أجل النميمة .

وقال قتادة وغيره : كانت تعير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفقر . ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها ؛ لشدة بخلها ، فعيرت بالبخل . 

وقال ابن زيد والضحاك : كانت تحمل العضاه والشوك ، فتطرحه بالليل على طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ؛ وقاله ابن عباس .

 قال الربيع : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطؤه كما يطأ الحرير .

 وقال مرة الهمداني : كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من الحسك ، فتطرحها على طريق المسلمين ، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت ، فقعدت على حجر لتستريح ، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها .

وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ؛ من قولهم : فلان يحتطب على ظهره ؛
 دليله قوله تعالى : وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم . وقيل : المعنى حمالة الحطب في النار ؛ وفيه بعد . وقراءة العامة حمالة بالرفع ، على أن يكون خبرا وامرأته مبتدأ . ويكون في جيدها حبل من مسد جملة في موضع الحال من المضمر في حمالة . أو خبرا ثانيا . أو يكون حمالة الحطب نعتا لامرأته . والخبر في جيدها حبل من مسد ؛ فيوقف - على هذا - على ( ذات لهب ( . ويجوز أن يكون وامرأته معطوفة على المضمر في سيصلى فلا يوقف على ( ذات لهب ) ويوقف على وامرأته وتكون حمالة الحطب خبر ابتداء محذوف . وقرأ عاصم حمالة الحطب بالنصب على الذم ، كأنها اشتهرت بذلك ، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص ، كقوله تعالى : ملعونين أينما ثقفوا . وقرأ أبو قلابة ( حاملة الحطب ) .


فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
قوله تعالى : في جيدها حبل من مسد قوله تعالى : في جيدها أي عنقها . 
وقال امرؤ القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل
حبل من مسد أي من ليف ؛ 

قال النابغة :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد

وقال آخر :
يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت لدنا لينا فإني
ما شئت من أشمط مقسئن
وقد يكون من جلود الإبل ، أو من أوبارها ؛

 قال الشاعر :
ومسد أمر من أيانق لسن بأنياب ولا حقائق
وجمع الجيد أجياد ، والمسد أمساد .

 أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف .
 قال الحسن : هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد ، وكانت تفتل . 
قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ؛ فكانت تعير النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها ؛ وهو في الآخرة حبل من نار . 

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : في جيدها حبل من مسد قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير : تدخل من فيها ، وتخرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها . 

وقال قتادة : حبل من مسد قال : قلادة من ودع . الودع : خرز بيض تخرج من البحر ، تتفاوت في الصغر والكبر . قال الشاعر :
والحلم حلم صبي يمرث الودعه
والجمع : ودعات . الحسن : إنما كان خرزا في عنقها . سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد . ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة .
 وقيل : إن ذلك إشارة إلى الخذلان ؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء ، كالمربوط في جيده بحبل من مسد . والمسد : الفتل . يقال : مسد حبله يمسده مسدا ؛ أي أجاد فتله . قال :
يمسد أعلى لحمه ويأرمه
يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده . ودابة ممسودة الخلق : إذا كانت شديدة الأسر . قال الشاعر :
ومسد أمر من أيانق صهب عتاق ذات مخ زاهق
لسن بأنياب ولا حقائق
ويروى :
ولا ضعاف مخهن زاهق
قال الفراء : هو مرفوع والشعر مكفأ . يقول : بل مخهن مكتنز ؛ رفعه على الابتداء . 
قال : ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن . 
كما لا يجوز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ؛ بالخفض . وقال غيره : الزاهق هنا : بمعنى الذاهب كأنه قال : ولا ضعاف مخهن ، ثم رد الزاهق على الضعاف .
 ورجل ممسود : أي مجدول الخلق . وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم ؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة . والمساد ، على فعال : لغة في المساب ، وهي نحي السمن ، وسقاء العسل . قال جميعه الجوهري . وقد اعترض فقيل : إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به ، فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله - عز وجل - قادر على تجديده كلما احترق . والحكم ببقاء أبي لهب وامرأته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة ؛
 فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما . ففيه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . فامرأته خنقها الله بحبلها ، وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال ، بعد أن شجته أم الفضل . 
وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر ؛ قال له أبو لهب : أخبرني خبر الناس . قال : نعم ، والله ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يضعون السلاح منا حيث شاءوا ، ومع ذلك ما لمست الناس . لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ، لا والله ما تبقي منا ؛ يقول : ما تبقي شيئا . 

قال أبو رافع : وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، فرفعت طنب الحجرة ، فقلت : تلك والله الملائكة . 
قال : فرفع أبو لهب يده ، فضرب وجهي ضربة منكرة ، وثاورته ، وكنت رجلا ضعيفا ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ، وبرك على صدري يضربني . وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فتأخذه وتقول : استضعفته أن غاب عنه سيده ! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة .
 فقام يجر رجليه ذليلا ، ورماه الله بالعدسة ، فمات ، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن ؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء ، قذفا من بعيد ، مخافة عدوى العدسة .
 وكانت قريش تتقيها كما يتقى الطاعون . ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، فأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا عليه الحجارة .

......    ........     ..........

تفسير سورة المسد للطبري :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

يقول تعالى ذكره: خسرت يدا أبي لهب, وخسر هو. وإنما عُنِي بقوله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) تبّ عمله.
 وكان بعض أهل العربية يقول: قوله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) : دعاء عليه من الله.
وأما قوله: ( وَتَبَّ ) فإنه خبر. 
ويُذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: " تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ". وفي دخول " قد " فيه دلالة على أنه خبر, ويمثِّل ذلك بقول القائل, لآخر: أهلكك الله, وقد أهلكك, وجعلك صالحا وقد جعلك.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله:
( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) قال أهل التأويل.

_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) : أي خسرت وتب.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) قال: التبّ: الخسران, قال: قال أبو لهب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك؟ قال؟ " كمَا يُعْطَى المُسْلِمُون ", فقال: ما لي عليهم فضل ؟ قال: " وأيّ شَيْءٍ تَبْتَغِي؟" 
قال: تبا لهذا من دين تبا, أن أكون أنا وهؤلاء سواء, فأنـزل الله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) يقول: بما عملت أيديهم.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) قال: خسرت يدا أبي لهب وخسر.

وقيل: إن هذه السورة نـزلت في أبي لهب, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص بالدعوة عشيرته, إذ نـزل عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وجمعهم للدعاء, قال له أبو لهب: تبا لك سائر اليوم, ألهذا دعوتنا ؟

 _ ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا, فقال: " يا صَباحاهُ!" فاجتمعت إليه قريش, فقالوا: مالك ؟ قال: " أرأيْتُكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ, أما كُنْتُمْ تُصَدقُونَنِي؟" قالوا: بلى, قال: " فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ", فقال أبو لهب: تبا لك, ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟! فأنـزل الله:
 ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) إلى آخرها .

حدثني أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن نمير, عن الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, 
قال: لما نـزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّفا ثم نادَى:
 " يا صَباحاهُ" فاجتمع الناس إليه, فبين رجل يجيء, وبين آخر يبعث رسوله, فقال:
 " يا بَنِي هاشِمٍ, يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ, يا بَنِي فِهْرٍ, يا بَنِي... يا بَنِي أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ" -يريد تغير عليكم- صَدَّقْتُمُونِي؟" قالوا ": نعم, قال: " فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ", فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم, ألهذا دعوتنا ؟ فنـزلت: 
( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ).

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا أبو أسامة, عن الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية: 
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى صعد الصفا, فهتف: " يا صَباحاهُ" فقالوا: 
" من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا: محمد, 
فاجتمعوا إليه ", فقال:
 " يا بَنِي فُلانٍ, يا بَنِي فُلانٍ, يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ, يا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ", فاجتمعوا إليه, فقال: " أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟
" قالوا: ما جربنا عليك كذبا, قال " فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"
فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنـزلت هذه السورة: " تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ" كذا قرا الأعمش إلى آخر السورة .

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, في قوله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) قال: حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره, وكان أبو لهب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم, وكان اسمه عبد العزى, فذكرهم, فقال أبو لهب: تبا لك, في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنـزل الله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) .

مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
وقوله: ( مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )
يقول تعالى ذكره: أيّ شيء أغنى عنه ماله, ودفع من سخط الله عليه ( وَمَا كَسَبَ ) وهم ولده؛
 وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
_  ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر, قال: ثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن خيثم, عن أبي الطفيل, قال: جاء بنو أبي لهب إلى ابن عباس, فقاموا يختصمون في البيت, فقام ابن عباس, فحجز بينهم, وقد كُفّ بصره, فدفعه بعضهم حتى وقع على الفراش, فغضب وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن محمد بن سفيان, عن رجل من بني مخزوم, عن ابن عباس أنه رأى يوما ولد أبي لهب يقتتلون, 
فجعل يحجز بينهم ويقول: هؤلاء مما كسب.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد ( مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) قال: ما كسب ولده.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وَمَا كَسَبَ ) قال: ولده هم من كسبه.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله ( وَمَا كَسَبَ ) قال: ولده.

سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
وقوله: ( سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ )
يقول: سيصلى أبو لهب نارا ذات لهب

وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
وقوله: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )
يقول: سيصلى أبو لهب وامرأته حمالة الحطب, نارا ذات لهب. 
واختلفت القرّاء في قراءة ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) ؟!
 فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة: 
" حَمَّالَةُ الحَطَبِ" بالرفع, غير عبد الله بن أبي إسحاق, فإنه قرأ ذلك نصبا فيما ذكر لنا عنه.

واختلف فيه عن عاصم, فحكي عنه الرفع فيها والنصب, وكأن من رفع ذلك جعله من نعت المرأة, وجعل الرفع للمرأة ما تقدم من الخبر, وهو " سَيَصْلَى "

وقد يجوز أن يكون رافعها الصفة, وذلك قوله: ( فِي جِيدِهَا ) وتكون " حَمَّالَة " نعتا للمرأة.

 وأما النصب فيه فعلى الذم, وقد يحتمل أن يكون نصبها على القطع من المرأة, لأن المرأة معرفة, وحمالة الحطب نكرة (2) .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا:
 الرفع, لأنه أفصح الكلامين فيه, ولإجماع الحجة من القرّاء عليه.

واختلف أهل التأويل, في معنى قوله: 
( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )
 فقال بعضهم: كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليدخل في قدمه إذا خرج إلى الصلاة.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تحمل الشوك, فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وسلم, ليعقره وأصحابه, ويقال: ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) : نقالة للحديث.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن رجل من همدان يقال له يزيد بن زيد, أن امرأة أبي لهب كانت تلقي في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم الشوك, فنـزلت: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ... وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) .

حدثني أبو هريرة الضبعي, محمد بن فراس, قال: ثنا أبو عامر, عن قرة بن خالد, عن عطية الجدلِّي. في قوله: ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تضع العضاه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكأنما يطأ به كثيبا.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) كانت تحمل الشوك, فتلقيه على طريق نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعقِره.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تأتي بأغصان الشوك, فتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون:
 قيل لها ذلك: حمالة الحطب, لأنها كانت تحطب الكلام, وتمشي بالنميمة, وتعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا المعتمر بن سليمان, قال: قال أبو المعتمر: زعم محمد أن عكرمة قال ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) : كانت تمشي بالنميمة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تمشي بالنميمة.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا الأشجعي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: النميمة.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) : أي كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تحطب الكلام, وتمشي بالنميمة.

_وقال بعضهم: كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر, وكانت تحطب فعُيِّرتْ بأنها كانت تحطب.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت تمشي بالنميمة.

_وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي,
 قول من قال: كانت تحمل الشوك, فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن عيسى بن يزيد, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن زيد, وكان ألزم شيءٍ لمسروق, قال: لما نـزلت: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) بلغ امرأة أبي لهب أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجوك, قالت: علام يهجوني ؟ هل رأيتموني كما قال محمد أحمل حطبا؟ ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) ؟ فمكثت, ثم أتته, فقالت: إن ربك قلاك وودعك', فأنـزل الله:
 وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى .

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
وقوله ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ )
يقول في عنقها; والعرب تسمي العنق جيدا ; ومنه قول ذي الرمة:
فعَيْنَــاكِ عَيْناهــا وَلَـوْنُكِ لَوْنُهـا
وجِــيدُكِ إلا أنَّهَــا غَـيْرُ عَـاطِلِ 

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ ) قال: في رقبتها.
وقوله: ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) اختلف أهل التأويل في ذلك, 

فقال بعضهم: هي حبال تكون بمكة.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: حبل من شجر, وهو الحبل الذي كانت تحتطب به.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, &; عن ابن عباس ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: هي حبال تكون بمكة; 
ويقال: المَسَد: العصا التي تكون في البكرة, 
ويقال المَسَد: قلادة من وَدَع.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: في قوله: ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد, وكانت تفتل; 
وقال ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) : حبل من نار في رقبتها.

وقال آخرون: المسد: الليف.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن السدي, عن يزيد, عن عروة ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) 
قال: سلسلة من حديد, ذرعها سبعون ذراعا.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن السدي, عن رجل يقال له يزيد, عن عروة بن الزبير ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن يزيد, عن عروة بن الزبير ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن أبيه, عن الأعمش, عن مجاهد ( مِنْ مَسَدٍ ) قال: من حديد.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: حبل في عنقها في النار مثل طوق طوله سبعون ذراعا.

وقال آخرون: المَسَد: الحديد الذي يكون في البَكرة.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: الحديدة تكون في البكرة.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: عود البكرة من حديد.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: الحديدة للبكرة.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: ثنا المعمر بن سليمان, قال: قال أبو المعتمر: زعم محمد أن عكرمة قال: ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) إنه الحديدة التي في وسط البكرة.

وقال آخرون: هو قلادة من ودع في عنقها.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: قلادة من ودع.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال: قلادة من ودع.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قول من قال: هو حبل جُمع من أنواع مختلفة, 
ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا, ومما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:
وَمَسَـــدٍ أُمِـــرَّ مِــنْ أيــانِقِ
صُهْــبٍ عِتــاقٍ ذاتِ مُـخ زَاهِـق 

فجعل إمراره من شتى,
 وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب, أمِرَّ من أشياء شتى, من ليف وحديد ولحاء, وجعل في عنقها طوقا كالقلادة من ودع; ومنه قول الأعشى:
تُمْسِـي فَيَصْـرِفُ بَابَهـا مِـنْ دُونِنَـا
غَلْقًــا صَــرِيفَ مَحَالَـةَ الأمْسَـادِ 

يعني بالأمساد: جمع مَسَد, وهي الجبال.
آخر تفسير سورة تبت

......      ............       .........

تفسير سورة المسد للشوكاني :

[سورة المسد]
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ قَالُوا: نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ بِمَكَّةَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

مَعْنَى تَبَّتْ: هَلَكَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَسِرَتْ، وَقِيلَ: خَابَتْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: ضَلَّتْ. وَقِيلَ:

صَفِرَتْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَخَصَّ الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِهِمَا. 

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ  أَيْ: نَفْسُكَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ كَثِيرًا بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَصَابَتْهُ يَدُ الدَّهْرِ، وَأَصَابَتْهُ يَدُ الْمَنَايَا، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

لَمَّا أَكَبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا ... عَلَيْهِ نادى ألا مجير

وَأَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ: عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَقَوْلُهُ: وَتَبَّ أَيْ: هَلَكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ:

الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي خَبَرٌ، كَمَا تَقُولُ: أَهْلَكَهُ اللَّهُ، وَقَدْ هَلَكَ.

 وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَقَدْ تَبَّ» .

 وَقِيلَ: كِلَاهُمَا إِخْبَارٌ، أَرَادَ بِالْأَوَّلِ هَلَاكَ عَمَلِهِ، وَبِالثَّانِي هَلَاكَ نَفْسِهِ.

وَقِيلَ: كِلَاهُمَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي هَذَا شَبَهٌ مِنْ مَجِيءِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُرَادَةٍ، وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِكُنْيَتِهِ لِاشْتِهَارِهِ بِهَا، وَلِكَوْنِ اسْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَبْدَ الْعُزَّى، وَالْعُزَّى: اسْمُ صَنَمٍ، وَلِكَوْنِ فِي هَذِهِ الْكُنْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنه ملابس للنار لأن اللهب هو لَهَبُ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ كَانَ جَمِيلًا، وَأَنَّ وَجْهَهُ يَتَلَهَّبُ لِمَزِيدِ حُسْنِهِ كَمَا تَتَلَهَّبُ النَّارُ.

 قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَهَبٍ» بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: ذاتَ لَهَبٍ وَرَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ قُرِئَ «تَبَّتْ يَدَا أَبُو لَهَبٍ» ، 

وَذَكَرَ وَجْهَ ذَلِكَ مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أَيْ: مَا دَفَعَ عَنْهُ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ التَّبَابِ وَمَا نَزَلَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَا كَسَبَ مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْجَاهِ أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَالُهُ: مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ،

 وَبِقَوْلِهِ: وَما كَسَبَ الَّذِي كسبه بنفسه. قال مجاهد:

وَمَا كَسَبَ مِنْ وَلَدٍ، وَوَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى اسْتِفْهَامِيَّةً،
 أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُ؟ وَكَذَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: 
وَما كَسَبَ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً،
 أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَسَبَ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً،
 أَيْ: وَكَسْبُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَالثَّانِيَةَ مَوْصُولَةٌ.
 ثُمَّ أَوْعَدَهُ سُبْحَانَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ: سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَيَصْلَى» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: سَيَصْلَى هُوَ بِنَفْسِهِ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ والأشهب العقيلي وأبو السّمّال والأعمش ومحمد بن السّميقع بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، 

وَالْمَعْنَى سَيُصْلِيهِ اللَّهُ، وَمَعْنَى ذاتَ لَهَبٍ ذَاتَ اشْتِعَالٍ وَتَوَقُّدٍ، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَصْلَى، وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ، 
أَيْ: وَتُصْلَى امْرَأَتُهُ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ تَحْمِلُ الْغَضَى وَالشَّوْكَ، فَتَطْرَحُهُ بِاللَّيْلِ عَلَى طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،كَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ.
 وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا نَمَّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِنَّ بَنِي الْأَدْرَمِ حَمَّالُو الحطب ... هم الوشاة في الرّضا وفي الغضب

عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ تَتْرَى وَالْحَرْبُ وَقَالَ آخَرُ:

مِنَ البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ

وَجَعَلَ الْحَطَبَ فِي هَذَا الْبَيْتِ رَطْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْخِينِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّرِّ، وَمِنَ الْمُوَافَقَةِ لِلْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ، 

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أَنَّهَا حَمَّالَةُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا فِي قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» 
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «حَمَّالَةُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مَسُوقَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَطْفِ وَامْرَأَتُهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي تَصْلَى، فَيَكُونُ رَفْعُ حَمَّالَةُ عَلَى النَّعْتِ لِامْرَأَتِهِ، 
وَالْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هِيَ حَمَّالَةٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِنَصْبِ «حَمَّالَةَ» عَلَى الذَّمِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنِ امْرَأَتِهِ. 
وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ: «حَامِلَةَ الْحَطَبِ» فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ امْرَأَتِهِ، 
وَالْجِيدُ: الْعُنُقُ، وَالْمَسَدُ: اللِّيفُ الَّذِي تُفْتَلُ مِنْهُ الحبال، ومنه قول النابغة:

مقذوفة بدخيس النّحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعُوذُ مِنِّي ... إِنْ كُنْتَ لَدُنَّا لَيِّنًا فَإِنِّي

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسَدُ: هُوَ الْحَبْلُ يَكُونُ مِنْ صُوفٍ. 
وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ حِبَالٌ تَكُونُ مِنْ شَجَرٍ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ تُسَمَّى بِالْمَسَدِ. 
وَقَدْ تَكُونُ الْحِبَالُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ أَوْ مِنْ أَوْبَارِهَا. 
قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، كَانَتْ تُعَيِّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَهِيَ تَحْتَطِبُ فِي حَبْلٍ تَجْعَلُهُ فِي عُنُقِهَا، فَخَنَقَهَا اللَّهُ بِهِ فَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ حَبْلٌ مِنْ نَارٍ.
 وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ تَدْخُلُ فِي فِيهَا وَتَخْرُجُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ:

هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ كَانَتْ لَهَا.
 قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا كَانَ خَرَزًا فِي عُنُقِهَا.
 وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب: كان لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَذَابًا فِي جَسَدِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. 
وَالْمَسَدُ: الْفَتْلُ، يُقَالُ: مَسَدَ حَبْلَهُ يَمْسُدُهُ مَسْدًا أَجَادَ فَتْلَهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 
 خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ إِنَّمَا جَمَعْتَنَا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» . قَالَ: خَسِرَتْ. 

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ، ثُمَّ قَرَأَتْ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قَالَتْ: وَمَا كَسَبَ وَلَدُهُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كَسَبَ قَالَ: كَسْبُهُ وَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قَالَ:

كَانَتْ تَحْمِلُ الشَّوْكَ فَتَطْرَحُهُ عَلَى طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْقِرَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقَالَ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ نَقَّالَةَ الْحَدِيثِ حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قَالَ: هِيَ حِبَالٌ تَكُونُ بِمَكَّةَ. وَيُقَالُ: الْمَسَدُ: الْعَصَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَكَرَةِ.

وَيُقَالُ الْمَسَدُ: قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ «لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ ، وَهِيَ تَقُولُ:

مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا

وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآه أَبُو بَكْرٍ قَالَ:
 يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 
إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي وَقَرَأَ قُرْآنًا، اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
" وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً  "
فأقبلت حتى وقفت على أبي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: 
يَاأَبَا بَكْرٍ إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لَا وَرَبِّ الْبَيْتِ مَا هَجَاكَ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا»
 وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِأَحْسَنَ مِنْ هذا الإسناد.
......    .......      .......      .....

تفسير سورة المسد لابن عثيمين :

هذا القرآن فيه من الدلالات الكثيرة ما يدل دلالة واضحة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حق، ليس يدعو لملك ولا لجاه، ولا لرئاسة قومه، وأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام انقسموا في معاملته ومعاملة ربه عز وجل إلى ثلاثة أقسام:

_ قسم آمن به وجاهد معه، وأسلم لله رب العالمين.

_ وقسم ساند وساعد، لكنه باق على الكفر.

_ وقسم عاند وعارض، وهو كافر.

فأما الأول: فالعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب. 

والثاني: أفضل من الأول؛ لأن الثاني من أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ووصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أسد الله، وأسد رسوله ، واستشهد رضي الله عنه في أحد في السنة الثانية من الهجرة  .

أما الذي ساند وساعد مع بقائه على الكفر فهو أبو طالب، فأبو طالب قام مع النبي صلى الله عليه وسلّم خير قيام في الدفاع عنه ومساندته ولكنه ـ والعياذ بالله ـ قد سبقت له كلمة العذاب، لم يُسلم حتى في آخر حياته في آخر لحظة من الدنيا عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن يسلم لكنه أبى بل ومات على قوله: إنه على ملة عبد المطلب،  فشفع له النبي عليه الصلاة والسلام حتى كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه .

أما الثالث: الذي عاند وعارض فهو أبو لهب.
 أنزل الله فيه سورة كاملة تُتلى في الصلوات فرضها ونفلها، في السر والعلن، يُثاب المرء على تلاوتها، على كل حرف عشر حسنات.
 يقول الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} وهذا رد على أبي لهب حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ليدعوهم إلى الله فبشر وأنذر،
 قال أبو لهب: تبًّا لك ألهذا جمعتنا ، قوله: «ألهذا جمعتنا» إشارة للتحقير،
 يعني هذا أمر حقير لا يحتاج أن يُجمع له زعماء قريش وهذا كقوله: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الآنبياء: 36] . 
والمعنى تحقيره، فليس بشيء ولا يهتم به كما قالوا: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] .
 فالحاصل أن أبا لهب قال: تبًّا لك ألهذا جمعتنا، فرد الله عليه بهذه السورة: {تبت يدا أبي لهب وتب} والتباب الخسار. 
كما قال تعالى: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37] . أي: خسار. وبدأ بيديه قبل ذاته؛
 لأن اليدين هما آلتا العمل والحركة، والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك. 
وهذا اللقب أبو لهب، لقب مناسب تماماً لحاله ومآله، وجه المناسبة أن هذا الرجل سوف يكون في نار تلظى، تتلظى لهباً عظيماً مطابقة لحاله ومآله.
 يقول الشاعر:
قل إن أبصرت عيناك ذا لقب
  إلا ومعناه إن فكرت في لقبه

ولما أقبل سهيل بن عمرو في قصة غزوة الحديبية قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «هذا سهيل بن عمرو، وما أراه إلا سهل لكم من أمركم» ،
 لأن الاسم مطابق للفعل. يقول الله عز وجل: 
{ما أغنى عنه ماله} 
«ما» هذه يحتمل أن تكون استفهامية والمعنى:
 أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟ 
والجواب: لا شيء، ويحتمل أن تكون (ما) نافية.
 أي ما أغنى عنه، أي لم يغنِ عنه ماله وما كسب شيئاً، وكلا المعنيين متلازمان،
 ومعناهما: أن ماله وما كسب لم يغنِ عنه شيئاً، مع أن العادة أن المال ينفع، فالمال يفدي به الآنسان نفسه لو تسلط عليه عدو وقال: أنا أعطيك كذا وكذا من المال وأطلقني، يطلقه، لكن قد يطلب مالاً كثيراً أو قليلاً، ولو مرض انتفع بماله، ولو جاع انتفع بماله، فالمال ينفع، لكن النفع الذي لا ينجي صاحبه من النار، ليس بنفع. ولهذا قال: {ما أغنى عنه ماله} .
 يعني من الله شيئاً قوله: {وما كسب} قيل المعنى: وما كسب من الولد.
 كأنه قال: ما أغنى عنه ماله وولده. كقول نوح: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} [نوح: 21] . فجعلوا قوله: {وما كسب} يعني بذلك الولد.
 وأيدوا هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (2) .

والصواب أن الآية أعم من هذا، 
وأن الآية تشمل الأولاد، وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الآن، وتشمل ما كسبه من شرف وجاه. كل ما كسبه مما يزيده شرفاً وعزًّا فإنه لا يُغني عنه شيئاً {ما أغنى عنه ماله وما كسب} .
 {سيصلى ناراً ذات لهب} السين في قوله: {سيصلى} للتنفيس المفيد للحقيقة والقرب.
 يعني أن الله تعالى توعده بأنه سيصلى ناراً ذات لهب عن قريب؛
 لأن متاع الدنيا والبقاء في الدنيا مهما طال فإن الآخرة قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مرت عليهم السنون الطوال فكأنها ساعة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35] .
 وشيء مقدر بساعة من نهار فإنه قريب. {وامرأته حمالة الحطب} يعني كذلك امرأته معه، 
وهي امرأة من أشراف قريش لكن لم يغنِ عنها شرفها شيئاً لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم، والبقاء على الكفر.
 وقوله: {حمالة الحطب} قُرأت بالنصب والرفع،
 أما النصب فإنها تكون حالاً لامرأة، يعني وامرأته حال كونها حمالة الحطب. 
أو تكون منصوبة على الذم لأن النعت المقطوع يجوز نصبه على الذم. أي أذم حمالة الحطب. 
وأما على قراءة الرفع فهي صفة لامرأة {حمالة الحطب} {حمالة} صيغة مبالغة أي تحمله بكثرة، وذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم من أجل أذى الرسول صلى الله عليه وسلّم. {في جيدها حبل من مسد} الجيد: العنق، والحبل معروف، والمسد: الليف.

يعني أنها متقلدة حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم، نعوذ بالله من ذلك،
 وهو إشارة إلى دنو نظرتها، وأنها أهانت نفسها، امرأة من قريش من أكابر قبائل قريش

تخرج إلى الصحراء وتضع هذا الحبل في عنقها، وهو من الليف مع ما فيه من المهانة، لكن من أجل أذية الرسول عليه الصلاة والسلام. نسأل الله العافية. وبهذا ينتهي الكلام بما يسر الله عز وجل على هذه السورة.

.........    .....   ......
خواطر لتفسير ابن تيمية في سورة المسد :

سُورَةُ تَبَّتْ:
نَزَلَتْ فِي هَذَا وَامْرَأَتِهِ وَهُمَا مِنْ أَشْرَفِ بَطْنَيْنِ فِي قُرَيْشٍ وَهُوَ عَمُّ على وَهِيَ عَمَّةُ مُعَاوِيَةَ وَاَللَّذَانِ تَدَاوَلَا الْخِلَافَةَ فِي الْأُمَّةِ هَذَانِ الْبَطْنَانِ: بَنُو أُمَيَّة وَبَنُو هَاشِمٍ 

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَمِنْ قَبِيلَتَيْنِ أَبْعَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَاتُّفِقَ فِي عَهْدِهِمَا مَا لَمْ يُتَّفَقْ بَعْدَهُمَا. 

وَلَيْسَ فِي القرآن ذَمُّ مَنْ كَفَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِهِ إلَّا هَذَا وَامْرَأَتَهُ فَفِيهِ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا عِبْرَةَ بِهَا بَلْ صَاحِبُ الشَّرَفِ يَكُونُ ذَمُّهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْ الْوَاجِبِ أَعْظَمَ. 
قال النَّحَّاسُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرِ 
وَفِي قراءة عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ تَبَّ وَقوله: {وَمَا كَسَبَ} أَيْ ولدهُ. 
فَإِنَّ قوله: {وَمَا كَسَبَ} يَتَنَاوَلُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ ولدهُ مِنْ كَسْبِهِ.
 وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْولد. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ: {سَيَصْلَى نَارًا} أَخْبَرَ بِزَوَالِ الْخَيْرِ وَحُصُولِ الشَّرِّ و(الصِّلِيّ) الدُّخُولُ وَالِاحْتِرَاقُ جَمِيعًا.

 وَقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} إنْ كَانَ مَثَلًا لِلنَّمِيمَةِ؛
 لِأَنَّهَا تُضْرِمُ الشَّرَّ فَيَكُونُ حَطَبَ الْقُلُوبِ
 وَقَدْ يُقال: ذَنْبُهَا أَعْظَمُ وَحَمْلُ النَّمِيمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْحَبْلِ فِي الْجِيدِ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا لِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا وَصَفَ بَعْلَهَا وَهُوَ يَصْلَى وَهِيَ تَحْمِلُ الْحَطَبَ عَلَيْهِ كَمَا أَعَانَتْهُ عَلَى الْكُفْرِ. فَيَكُونُ مِنْ حَشْرِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْإِثْمِ أَوْ عَلَى إثْمٍ مَا أَوْ عُدْوَانٍ مَا. 

وَيَكُونُ القرآن قَدْ عَمَّمَ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ إمَّا كَإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ وَإِمَّا هَذَا وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا فِرْعَوْنُ وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَلُوطٌ وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُفَسَّرَ حَمْلُ الْحَطَبِ بِالنَّمِيمَةِ بِحَمْلِ الْوَقُودِ فِي الْآخِرَةِ كَقوله: «مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ» إلَخْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

_فوائد لغوية وإعرابية:

سورة المسد:

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}

قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ}: أي: خَسِرَتْ،
 وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قوله: 
{إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37]، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازًا لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: {تَبَّتْ} دعاءٌ، و{تَبَّ} إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. 
كقول الشاعر:
جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه ** جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ

ويؤيِّده قراءة عبد الله {وقد تَبَّ} والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، 
وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِبًا تُزاوَلُ بهما.

وقرأ العامة: {لَهَبٍ} بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. 

فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر.

وقال الزمخشري: وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله: (شُمْس ابن مالك) بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ،
 ويُشير بذلك لقول الشاعر:
وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ ** لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ

وجَوَّزَ الشيخُ في (شُمْس) أَنْ يكونَ منقولا مِنْ (شُمْس) الجمع مِنْ قوله: (أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ) فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. 
وكنى بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه،
 وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. 
وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ (عبد العزى) فعَدَلَ إلى الكُنْية، 
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟
 ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ:
_  إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، 
_ وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، 
_ وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ. انتهى.
وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قول تقدَّمَ آنفًا.
وقرئ: {يدا أبو لَهَبٍ} بالواوِ في مكانِ الجرِّ.

قال الزمخشري: كما قيل: علي بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان،
 أحدهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب. 
ولم يَختلف القراء في قوله: {ذاتَ لَهَب} أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.

{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}
قوله: {مَآ أغنى}: يجوزُ في (ما) النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.

قوله: {وَمَا كَسَبَ} يجوز في (ما) هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً،
 أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟
 أي: لم يَكْسَبْ شيئًا، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ،
 فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: {وما اكْتَسَبَ}.

{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)}
قوله: {سيصلى} العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.

{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)}
قوله: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب}: قراءة العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك.
وقيل: {وامرأتُه} عطفٌ على الضميرِ في {سَيَصْلى}، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. و{حَمَّالةُ الحطبِ} على هذا فيه أوجهٌ: كونُها نعتًا لـ: {امرأتهُ}
وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بيانًا أو كونُها بدلًا لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبرًا لمبتدأ مضمرٍ،
 أي: هي حَمَّالةُ.

وقرأ ابنُ عباس {ومُرَيَّتُهُ} و{مْرَيْئَتُهُ} على التصغير، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى.

وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل.

قاله الزمخشري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل.
وقيل: نصبٌ على الحالِ مِنْ {أمرأتُه} إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ. ويَضْعُفُ جَعْلُها حالًا عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبرًا لـ: {امرأتُه} لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ، فكيف يكونُ حالًا عند الجمهور؟
 ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.

وفي قوله: {حَمَّالَةَ الحطب} قولان. أحدهما: هو حقيقةُ.
والثاني: أنه مجازٌ عن المَشْيِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس.
قال الشاعر:
إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ ** هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ

وقال آخر:
مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ ** ولم تَمْشِ بين الحَيِ بالحطبِ الرَّطْبِ

جَعَلَه رَطْبًا تنبيهًا على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ.
وقرأ أبو قلابة {حاملةَ الحطبِ} على وزن فاعِلَة.
 وهي محتملةُ لقرأةِ العامَّةِ. 
وعباس {حَمَّالة للحطَبِ} بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ، 
كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107]
 وأبو عمروٍ في رواية: {وامرأتُه} باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.

{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}
قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ}: يجوزُ أَنْ يكونَ {في جيدِها} خبرًا لـ: {امرأتُه} و{حبلٌ} فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالًا مِنْ {امرأتُه} على كونِها فاعلة. و{حبلٌ} مرفوعٌ به أيضًا، وأَنْ يكونَ خبرًا مقدَّمًا. و{حَبْلٌ} مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ: العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ.
قال امرؤ القيس:
وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ** إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ

و{مِّن مَّسَدٍ} صفةٌ لـ: {حَبْل} والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: اللِّيفُ مطلقًا.
وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن.
قال النابغة:
مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها ** له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ

وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها. وأنشد:
ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ

ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في اليد:
اليَدُ: الكَفُّ، وقيل: اليَدُ من أَطْرافِ الأَصابع إِلى الكَتِفِ وأَصلُها يَدْىٌ، والجَمْعُ يُدِىٌّ، وجمع الجمع أَيادٍ.
وفيها لُغات: اليَدُ بالتخفيف، واليَدُّ بالتشديد، واليَدَى كفَتَى، واليَدَه.
وإِنمّا قلنا أَصلها يَدْىٌ لأَنهم يجمعونها على أَيْدٍ، وأَيْدٍ أَفْعُلٌ، وأَفعُلٌ في جمع فَعْلٍ أَكثرُ نحو أَظْبٍ وأَفْلُس،
وقولهم: يَدَيان يدلّ على أَنَّ أَصلَه فَعْلٌ.
ويَدَيْتُه: ضربتُ يَدَه.
واستُعِير اليَدُ للجاهِ، والوَقارِ، والطَّرِيق، ومَنْع الظُلْم، والقُوَّةِ، والقُدْرَة، والسُّلْطانِ، والمِلْكِ- بكسر الميم- والجماعَةِ، والأَكل، والنَّدَم، والغِياثِ، والإِسْلامِ، والذُلِّ، والنِّعْمَة، والإِحسان، والجمع: يُدِىٌّ مثلَّثة الأَوّل، وأَيْدٍ.
ويُدِىَ كعُنَى، ويَدِىَ كرَضِىَ، وهذه ضعيفة: أُولِىَ بِرًّا.
ويَدَيْتُه: أَصَبْتُ/ يَدَه؛ واتْخَذْت عنده يَدًا كأَيْدَيْتُ عِنْدَه، وهذه أَكثر، فأَنا مُودٍ، وهو مُودًى إِليه.
ويقال: هذا في يَدِ فُلان، أي في حَوْزه ومِلْكه، قال الله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}.
ولفُلان يَدٌ على كذا، أي قُوَّةٌ وتسلُّطٌ.

ومالِى بكذا يَدٌ، وَمالى به يَدانِ.. وَيدُهُ مُطْلَقَة،
 عبارة عن بَثِّ النِّعْمة، ويَدُه مَغْلُولَة، عبارة عن إِمْساك النِّعَم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} تنبيها على التوسُّط بين طَرَفى التبذير والتَّقتير.

ويُقال: نَفضْتُ يَدِى عن كذا، أي خَلَّيْتُه وَتَركتُه.
وقوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 
أي قَوَّيْتُ يَدَك وقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تنبيه أَنَّهم اخْتَلَقُوه، وذلك كنسبة القول إِلى أَفْواهِهم في قوله: {ذلك قولهم بِأَفْوَاهِهِمْ} تنبيهًا على اختلاقِهم.
وقوله تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} إِشارَة إِلى القُوَّةِ الموجودة لهم.
وقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} أي القَوىّ.
وقوله: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي يُعْطُون ما يُعْطُون عن مُقابَلَةِ نِعْمَة عليهم في مُقارَّتِهِم.
ومَوْضِعُ قوله عن يَد حالٌ.
وقيل: بعد اعْتِرافِ أَنَّ أَيْدِيَكم فَوْق أَيْدِيهم، أي يُلْزَمون الذُل.
ويقال: فلانٌ يَدُ فُلان، أي وَلِيُّه وناصِرُهُ.
ويقال لأَولِياءِ الله هم أَيْدِى الله، وعلى هذا الوجه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فإِذا يَدُه صلى الله عليه وسلم يَدُ الله، وإِذا كان يَدُه فوق أُيْدِيهم فيَدُ الله فوق أَيْدِيهم.

ويؤيّد ذلك ما في الصّحيحين من الحديث القدسىّ: «لا يزال العَبْدُ يَتَقَرّب إِلّى بالنَّوافل حَتَّى أُحِبَّه، فإِذا أَحْبَبْتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَع به، وبصره الذي يُبْصر بهِ، ويَدُه التي يَبْطِشُ بها».

وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عبارةٌ عن تَوَلِّيهِ لِخَلْقه باختراعه الذي ليس إِلا له تعالى.

وخُصَّ لفظُ اليَد إِذ هي أَجَلُّ الجوارح التي يُتَوَلَّى بها الفعل فيما بيننا لِيُتَصَوَّر لنا اختصاصُ المعنَى، لا لنَتَصَوَّر منه تَشْبِيهًا.

وقيل: معناه بنِعْمَتى التي رشَّحْتُها لهم.
والباءُ فيه ليس كالباءِ في قَطَعْتُه بالسِكين، بل هو كقولهم: خرجَ بسَيْفه، أي ومَعَه سَيْفُه، أي خلقتُه ومعه نِعْمتاىَ الدُّنْيَويّة والأُخَروِيّة الَّلتان إِذا رعاهُما بلغ بهما السّعادة الكبرى.

وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.
قيل: نِعْمَتُه ونُصْرَتُه وقُوَّته.
ورجُلٌ يَدِىٌّ، وامرأَةٌ يَدِيَّةٌ، أي صَناعٌ.

وقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي نَدِمُوا، يقال: سُقِط في يده وأُسْقِط، وذلك عبارة عن المُتَحَسِّر أَو عمّن يُقَلِّب كَفَّيْه كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا}.

وقوله تعالى: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي كَفُّوا عمّا أُمِرْوا بقَبُوله من الحقَّ، يقال رَدَّ يَدَه في فَمِهِ، أي أَمْسَك ولم يُجبْ.

وقيل: رَدُّوا أَيْدِى الأَنبياءِ في أَفْواههم، أي قالوا ضَعُوا أَنامِلَكم على أَفواهكم واسْكُتُوا.

وقيل: رَدُّوا نِعَمَ الله بأَفْواههم، أي بتكذيبهم.
وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، أي يد نِعْمَته ويَد مِنَّتِه.

وفى الحديث «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ من اليَدِ السُّفْلَى».
وقيل في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِنَّها على الأَصل، لأَنَّ يَدَا لفة في اليَد، أَوْ هي الأَصلُ وحُذِف أَلِفُه كما قدّمناه، وقيل بل هي تَثْنِيَة اليَدِ. اهـ.
......   .......    ....

تفسير سورة المسد في التفسير الميسر :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( 1 )
خسرت يدا أبي لهب وشقي بإيذائه رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد تحقق خسران أبي لهب.

مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( 2 )
ما أغنى عنه ماله وولده, فلن يَرُدَّا عنه شيئًا من عذاب الله إذا نزل به.

سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( 3 )
 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( 4 )
سيدخل نارًا متأججة, هو وامرأته التي كانت تحمل الشوك, فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأذيَّته.

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( 5 )
في عنقها حبل محكم الفَتْلِ مِن ليف شديد خشن, تُرْفَع به في نار جهنم, ثم تُرْمى إلى أسفلها.

 ........    ............    .........
تفسير سورة المسد في المختصر في التفسر :

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾خسرت يدا عم النبي صلّى الله عليه وسلّم أبي لهب بن عبد المطلب بخسران عمله؛ إذ كان يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخاب سعيه.

﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
أيّ شيء أغنى عنه ماله وولده؟ لم يدفعا عنه عذابًا، ولم يجلبا له رحمة.

﴿سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾
سيدخل يوم القيامة نارًا ذات لهب، يقاسي حرّها.

﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾
وستدخلها زوجته أم جميل التي كانت تؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الشوك في طريقه.

﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾
في عنقها حبل مُحْكَم الفَتْل تساق به إلى النار.
.....    ......   .... .. 

تفسير الجلالين في سورة المسد :

_ ( تبت ) خسرت ( يدا أبي لهب ) أي جملته وعبر عنها باليدين مجاز ؟
 لأن أكثر الأفعال تزاول بهما وهذه الجملة دعاء 
( وتب ) خسر هو وهذه خبر كقولهم أهلكه الله وقد هلك ، 
ولما خوفه النبي بالعذاب فقال إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي منه بمالي وولدي نزل

_ ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) أي وكسبه ، أي ولده ما أغنى بمعنى يغني

_ ( سيصلى نارا ذات لهب ) أي تلهب وتوقد فهي مآل لكنيته لتلهب وجهه إشراقا وحمرة

_ ( وامرأته ) عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته وهي أم جميل ( حمالة ) بالرفع والنصب ( الحطب ) الشوك والسعدان تلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم

_ ( في جيدها ) عنقها ( حبل من مسد ) أي ليف ، وهذه الجملة حال من حمالة الحطب الذي هو نعت لامرأته أو خبر مبتدأ مقدر 

......    .......        ........

إعراب سورة المسد :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴿٥﴾.

تَبَّتْ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح. والتّاء: تاءُ التّأنيث لا محلّ لها من الإعراب.

يَدَا: فاعلٌ مرفوعٌ بالألف لأنّه مُثنّى، وهو مُضاف.

أَبِي: مُضافٌ إليه مجرور بالياء لأنّه من الأسماء الخمسة، وهو مُضاف.

لَهَبٍ: مُضافٌ إليهِ مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسر.

وَتَبَّ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. تَبَّ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.

مَا: حرفُ نفي مبني على السّكون.

أَغْنَى: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح المُقدّر على الآلف المقصورة منع من ظهورها التّعذّر.

عَنْهُ: عن: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون. الهاء: ضميرٌ مُتّصلٌ مبني على الضّم في محلّ جرّ بحرفِ الجر.

مَالُهُ: مَالُ: فاعلٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة، وهو مُضاف. الهاء: ضميرٌ مُتّصل مبني على الضّم في محلّ جرِّ مُضاف إليه.

وَمَا: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. ما: اسمٌ موصولٌ مبني على السّكون في محلِّ رفع اسم معطوف على ماله.

كَسَبَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديره هو.

سَيَصْلَى: السّين: حرفُ استقبال. يَصْلَى: فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة المُقدّرة على الألف المقصورة منع من ظهورها التّعذّر، والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديرهُ هو.

نَارًا: مفعولٌ به منصوب وعلامة نصبه تنوين الفتح.


ذَاتَ
: نعتٌ لـ (نَارًا) منصوبٌ وعلامة نصبه الفتحة، وهو مُضاف.
لَهَبٍ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسر. 

وَامْرَأَتُهُ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. امْرَأَتُ: اسمٌ معطوفٌ على الضّمير المُستتر (يصلى هو) مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة، وهو مُضاف، والهاء: ضميرٌ مُتّصل مبني على الضّم في محلّ جرِّ مُضاف إليه.

حَمَّالَةَ: اسمٌ منصوبٌ على الذّم وعلامة نصبه الفتحة، وهو مُضاف.

الْحَطَبِ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة.

فِي: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.

جِيدِهَا: اسمٌ مجرور بـ (في) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف. الهاء: ضميرٌ مُتّصلٌ مبني على السّكون في محلِّ جرِّ مُضاف إليه، والجار والمجرور في محلِّ رفع خبر مُقدّم.

حَبْلٌ: مُبتدأ مؤخّر مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضّم.

مِّن: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.

مَّسَدٍ: اسمٌ مجرور بـ (مِن) وعلامة جرّه تنوين الكسر، وشبه الجُملة في محلِّ رفع نعت لحبل.
......    ......  ........

خواطر حول سورة المسد :

_ تتفرد سورة المسد بالحديث عن عدو من أعداء الله ورسوله الذي عادى الرسول أشد العِداء وحرّض على الإسلام والمسلمين ألا وهو أبو لهبٍ -عبد العزى بن عبد المطلب عم الرسول.

_لم يقف العداء عنده بل امتد إلى زوجته أم جميل أروى بنت حربٍ التي تشاركت مع زوجها في محاربة الرسول وبغضه وقد توعدهما الله بالعذاب الشديد.

_خُصّت زوجة أبي لهبٍ بعذابٍ خاصٍّ حيث تُلف حول عنقها سلسلةٌ تُجذب بها في النار إمعانًا في التنكيل.

_ومن فوائد من سورة المسد :

1_بيان حكم الله بهلاك أبي لهب وإبطال كيده الذي كان يكيده لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

2_لا يغني المال ولا الولد عن العبد شيئا من عذاب الله إذا عمل بمساخطه وترك مراضيه.

3_حرمة أذية المسلمين مطلقًا.

4_عدم إغناء القرابة شيئا من الشرك والكفر؛ إذ أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في النار ذات اللهب اهـ.

5_لا شك أن كل من تشبه بأبي لهب وامرأته في أفعالهما يكون لهما نصيب من هذا الوعيد لهما بقدر شبهه بهما، فإن الله حكم عدل.

6_هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: “سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ” فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا مسرًا ولا معلنًا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة.

7_كان أبو لهب مِن أشدِّ الناس عداوةً وتكذيبًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – رغمَ علمِه ويقينِه بصدقِه؛ لأنه عمُّه، وعندما يكون التكذيبُ مِن قوم الرجل الذين هم أعلم الناس بحاله لكونهم عشيرته وأهله، فإن تأثيرَه يكون أشدَّ وقعًا في صدور سائر الناس.

_ومن دروس مستفادة من سورة المسد :
فالقرآن يعرض لنا صورة مِن صور الاضطهاد الديني وكيفية ردِّه عليها، فهذا أبو لهب يظهر عداوته للإسلام، وكرهه للمسلمين، واضطهاده لهم.
المعركة في الردِّ على الكفار وتكذيبهم قصيرة ومختصرة، يقول صاحب “الظلال”: ﴿ تَبَّتْ ﴾ الأولى دعاء، و﴿ تَبَّ ﴾ الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء عليه، ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق وتنتهي المعركة ويسدل الستار.
الكفر دائمًا لا يغنيه مِن الله قوَّته التي يعتمد عليها، فمهما حشد الكافر مِن الأموال والأسباب ما يصدُّ به عن سبيل الله فلن ينتصر أبدًا، ولن يغنيَه مِن بطش الله شيء.
الباطل يقوَى بإعانة الظالمين للظالمين، بل إن لكل منهم دورًا في إشعال نار الفتنة ضد المسلمين، فها هي زوجة أبي لهب تحمل الحطب، حتى يوقد زوجها هذه النار ضد المسلمين، إلا أن الله – تعالى – يردُّ كيدَهم وضلالَهم ومكرَهم.

الجزاء مِن جنس العمل، فكما طوَّقتْ أمُّ جميل الخناق على المسلمين، وأوقدتْ نار الفتنة والاضطهاد الديني، فإن جزاءها يكون يومَ القيامة مِن جنس عملها: حبلٌ مفتولٌ بإحكام يمتدُّ حولَ عنقها فيخنقها.

_ ومن فضل سورة المسد :
لم يصحّ حديثٌ عن فضل سورة المسد بشكلٍّ خاصٍّ سوى فضل قراءتها كغيرها من سُور القرآن الكريم الذي هو خيرٌ وفضلٌ كله؛
 فقراءته تعودُ على المسلم بالأجر والمَثوبة والحسنات، فالحرف الواحد بحسنةٍ والحسنة بعشر أمثالها.

_وما يُتناقل في فضل سورة المسد وأنّ قراءتها سببٌ في البعد عن مكان تواجد أبو لهبٍ في إيماءةٍ إلى أنها تقي قارئها من دخول النار؛ فلا أصل له،

_وما جاء في فضل سورة المسد في جلب الحبيب؛
 فأمر عارٍ عن الصحّة؛ لذا لا بُدّ من التثبت من صحة الأحاديث في فضائل السور كما حقّق الألباني -رحمه الله- وحصر فضائل السور ولم تكن سورة المسد إحداها.
تعليقات