سورة الكافرون ؛تفسير ابن كثير ,تفسير القرطبي،تفسير الطبري ،تفسير الشوكاني،تفسير ابن عثيمين ،تفسير ابن تيمية ،تفسير ابن القيم
تفسير سورة الكافرون لابن كثير :
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
تفسير سورة قل يا أيها الكافرون
وهي مكية .
ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة ، وب " قل هو الله أحد " في ركعتي الطواف .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ، بضعا وعشرين مرة - أو : بضع عشرة مرة - " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " .
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين - أو : خمسا وعشرين - مرة ، يقرأ في الركعتين قبل الفجر ، والركعتين بعد المغرب ب " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " .
وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد - هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري - ، حدثنا سفيان - هو الثوري - ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد عن ابن عمر قال :
رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا ، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر ب " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي أحمد الزبيري ، وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن أبي إسحاق به ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي أحمد الزبيري ، وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن أبي إسحاق به ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن ، و " إذا زلزلت " تعدل ربع القرآن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق عن فروة ابن نوفل - هو ابن معاوية - عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " هل لك في ربيبة لنا تكفلها ؟ "
قال : أراها زينب . قال : ثم جاء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، قال : " ما فعلت الجارية ؟ " قال : تركتها عند أمها . قال : " فمجيء ما جاء بك ؟ " قال : جئت لتعلمني شيئا أقوله عند منامي .
قال : " اقرأ : " قل يا أيها الكافرون " ثم نم على خاتمتها ، فإنها براءة من الشرك " . تفرد به أحمد .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو القطراني ، حدثنا محمد بن الطفيل ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن جبلة بن حارثة - وهو أخو زيد بن حارثة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أويت إلى فراشك فاقرأ : " قل يا أيها الكافرون " حتى تمر بآخرها ، فإنها براءة من الشرك " [ والله أعلم وهو حسبي ونعم الوكيل ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن فروة بن نوفل عن الحارث بن جبلة قال : قلت : يا رسول الله ، علمني شيئا أقوله عند منامي . قال :
" إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ : " قل يا أيها الكافرون " فإنها براءة من الشرك " .
وروى الطبراني من طريق شريك ، عن جابر ، عن معقل الزبيدي ، عن [ عباد أبي الأخضر ، عن خباب ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ : " قل يا أيها الكافرون " حتى يختمها .
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ،
وهي آمرة بالإخلاص فيه ، فقوله : ( قل يا أيها الكافرون ) شمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش .
وقيل : إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية ،
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
يعني من الأصنام والأنداد.
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
وهو الله وحده لا شريك له.
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)
فما ههنا بمعنى من قال "ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
ولهذا قال : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) أي :
لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم ،
كما قال : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) [ النجم : 23 ]
فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه ، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده ، وعبادة يسلكها إليه ، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ;
ولهذا كان كلمة الإسلام " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله "
أي : لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ;
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لكم دينكم ولي دين )
كما قال تعالى : ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) [ يونس : 41 ]
وقال : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) [ القصص : 55 ] .
وقال البخاري : يقال : ( لكم دينكم ) الكفر ( ولي دين ) الإسلام .
ولم يقل : " ديني " لأن الآيات بالنون ، فحذف الياء ، كما قال : ( فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] و ( يشفين ) [ الشعراء : 80 ]
وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وهم الذين قال : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) [ المائدة : 64 ] .
انتهى ما ذكره .
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد ،
كقوله : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) [ الشرح : 5 ، 6 ]
وكقوله : ( لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ) التكاثر : 6 ، 7 ] وحكاه بعضهم - كابن الجوزي ، وغيره - عن ابن قتيبة ، فالله أعلم .
فهذه ثلاثة أقوال :
أولها ما ذكرناه أولا .
الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد : ( لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) في الماضي ( ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد ) في المستقبل .
الثالث : أن ذلك تأكيد محض .
وثم قول رابع ، نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : ( لا أعبد ما تعبدون ) نفي الفعل لأنها جملة فعلية ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) نفي قبوله لذلك بالكلية ;
لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل ، وكونه قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا . وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم .
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : ( لكم دينكم ولي دين ) على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه اليهود من النصارى ، وبالعكس ;
إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ;
لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان .
وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ;
لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " .
آخر تفسير سورة " قل يا أيها الكافرون " ولله الحمد والمنة .
......... .......... ..........
تفسير سورة الكافرون للقرطبي :
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
سورة الكافرون
وهي ست آيات
وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة . ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك
وفي الترمذي من حديث أنس : أنها تعدل ثلث القرآن . وفي كتاب ( الرد لأبي بكر الأنباري ) :
أخبرنا عبد الله بن ناجية قال : حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
قل يأيها الكافرون تعدل ربع القرآن .
ورواه موقوفا عن أنس . وخرج الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الفجر في سفر ،
فقرأ قل يأيها الكافرون . و قل هو الله أحد ، ثم قال : قرأت بكم ثلث القرآن وربعه .
وروى جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا " ؟ قلت : نعم .
قال : " فاقرأ هذه السور الخمس من أول قل يا أيها الكافرون إلى - قل أعوذ برب الناس وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم " .
قال : فوالله لقد كنت غير كثير المال ، إذا سافرت أكون أبذهم هيئة ، وأقلهم زادا ، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة ، وأكثرهم زادا ، حتى أرجع من سفري ذلك .
وقال فروة بن نوفل الأشجعي : قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني قال : " اقرأ عند منامك قل يأيها الكافرون ، فإنها براءة من الشرك " . خرجه أبو بكر الأنباري وغيره.
وقال ابن عباس : ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها ؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك .
وقال الأصمعي : كان يقال لـ قل يأيها الكافرون ، وقل هو الله أحد المقشقشتان ؛ أي أنهما تبرئان من النفاق .
وقال أبو عبيدة : كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه .
وقال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف ، وللجرب في الإبل إذا قفل : قد توسف جلده ، وتقشر جلده ، وتقشقش جلده .
بسم الله الرحمن الرحيم
قل يا أيها الكافرون ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس :
أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ؛
لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ؛
فأنزل الله - عز وجل - قل يا أيها الكافرون .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : أنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ؛ فنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه السورة فيئسوا منه ، وآذوه ، وآذوا أصحابه .
والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لأي ؛
لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم.
ونحوه عن الماوردي : نزلت جوابا ، وعنى بالكافرين قوما معينين . لا جميع الكافرين ؛ لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات أو قتل على كفره . ،
وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون .
قال أبو بكر بن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن :
قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون ،
وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على رب العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا .
وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم .
فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا : يأيها الكافرون ؛
دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا ،
فمعناه قل لزيد : يا زيد أقبل إلينا .
فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى ؛ إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم ، فيقول لهم : يأيها الكافرون . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد ، أو تقع به من جهتهم أذية . فمن لم يقرأ : قل يأيها الكافرون ، كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها .
وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم ؛ كما تقول : والله لا أفعل كذا ، ثم والله لا أفعله .
قال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام ، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز ؛
لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد ؛
قال الله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان . ويل يومئذ للمكذبين . كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون . و فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا . كل هذا على التأكيد . وقد يقول القائل : ارم ارم ، أعجل أعجل ؛ ومنه قوله - عليه السلام - في الحديث الصحيح : فلا آذن ، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني . خرجه مسلم .
وقال الشاعر :
هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا
وقال آخر :
يا لبكر أنشروا لي كليبا يا لبكر أين أين الفرار
وقال آخر :
يا علقمه يا علقمه يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه
وقال آخر :
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقال آخر :
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
ومثله كثير .
وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة . فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ؛ أي إن هذا لا يكون أبدا .
لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
قال ابن عباس : قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ، ونزوجك من شئت ، ونطأ عقبك ؛
أي نمشي خلفك ، وتكف عن شتم آلهتنا ، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح ، تعبد آلهتنا ( اللات والعزى ) سنة ، ونحن نعبد إلهك سنة ؛
فنزلت السورة . فكان التكرار في لا أعبد ما تعبدون ؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة . والله أعلم .
وقيل : إنما كرر بمعنى التغليظ .
وقيل : أي لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد .
ثم قال : ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم في المستقبل عابدون ما أعبد .
قاله الأخفش والمبرد .
وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملوا وثنا ، وسئموا العبادة له ، رفضوه ، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك ، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها ؛ فأمر - عليه السلام - أن يقول لهم : لا أعبد ما تعبدون اليوم من هذه الآلهة التي بين أيديكم .
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
ثم قال : ولا أنتم عابدون ما أعبد وإنما تعبدون الوثن الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن .
ولا أنا عابد ما عبدتم أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها ، وأقبلتم على هذه .
ولا أنتم عابدون ما أعبد فإني أعبد إلهي .
وقيل : إن قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال .
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)
على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي .
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
ولا أنتم عابدون ما أعبد على التكرير في اللفظ دون المعنى ، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون : ولا أنتم عابدون ما عبدت ، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد ، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل ، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر . وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله - عز وجل - .
وقال : ما أعبد ، ولم يقل : من أعبد ؛
ليقابل به ولا أنا عابد ما عبدتم وهي أصنام وأوثان ، ولا يصلح فيها إلا ما دون من فحمل الأول على الثاني ، ليتقابل الكلام ولا يتنافى .
وقد جاءت ما لمن يعقل . ومنه قولهم : سبحان ما سخركن لنا .
وقيل : إن معنى الآيات وتقديرها :
قل يأيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ، ولا أنتم عابدون الله - عز وجل - الذي أعبده ؛ لإشراككم به ، واتخاذكم الأصنام ، فإن زعمتم أنكم تعبدونه ، فأنتم كاذبون ؛ لأنكم تعبدونه مشركين . فأنا لا أعبد ما عبدتم ، أي مثل عبادتكم ؛ فما مصدرية .
وكذلك ولا أنتم عابدون ما أعبد مصدرية أيضا ؛
معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي ، التي هي توحيد .
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين فيه معنى التهديد ؛
وهو كقوله تعالى : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم أي إن رضيتم بدينكم ، فقد رضينا بديننا .
وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، فنسخ بآية السيف .
وقيل : السورة كلها منسوخة .
وقيل : ما نسخ منها شيء لأنها خبر .
ومعنى لكم دينكم أي جزاء دينكم ، ولي جزاء ديني . وسمى دينهم دينا ، لأنهم اعتقدوه وتولوه .
وقيل : المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي ؛ لأن الدين الجزاء .
وفتح الياء من ولي دين نافع ، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه ، وهشام عن ابن عامر ، وحفص عن عاصم . وأثبت الياء في ( ديني ) في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب ؛
قالوا : لأنها اسم مثل الكاف في دينكم ، والتاء في قمت . الباقون بغير ياء ،
مثل قوله تعالى : فهو يهدين فاتقوا الله وأطيعون ونحوه ، اكتفاء بالكسرة ، واتباعا لخط المصحف ، فإنه وقع فيه بغير ياء .
.......... ............ .........
تفسير سورة الكافرون للطبري :
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة, على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة,
فأنـزل الله معرفه جوابهم في ذلك:
( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة, على أن يعبدوا إلهك سنة
( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) بالله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان الآن ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) الآن
( وَلا أَنَا عَابِدٌ ) فيما أستقبل
( مَا عَبَدْتُمْ ) فيما مضى ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ) فيما تستقبلون أبدا( مَا أَعْبُدُ ) أنا الآن, وفيما أستقبل.
وإنما قيل ذلك كذلك, لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين, قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ,
وسبق لهم ذلك في السابق من علمه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه, وحدّثوا به أنفسهم, وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم, في وقت من الأوقات, وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم,
ومن أن يفلحوا أبدا, فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا, إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف, وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وجاءت به الآثار.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي, قال: ثنا أبو خلف, قال: ثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطئوا عقبه, فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نعرض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: " ما هي؟" قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة, قال: " حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) السورة,
وأنـزل الله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... إلى قوله: فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري ،
قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, وأميَّة بن خلف, رسول الله,
فقالوا:
يا محمد, هلمّ فلنعبد ما تعبد, وتعبدْ ما نعبد, ونُشركك في أمرنا كله, فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه, وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك, كنت قد شَرِكتنا في أمرنا, وأخذت منه بحظك, فأنـزل الله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) حتى انقضت السورة .
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة, على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة, فأنـزل الله معرفه جوابهم في ذلك:
( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة, على أن يعبدوا إلهك سنة
( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) بالله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ )
من الآلهة والأوثان الآن ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) الآن
( وَلا أَنَا عَابِدٌ ) فيما أستقبل
( مَا عَبَدْتُمْ ) فيما مضى ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ) فيما تستقبلون أبدا( مَا أَعْبُدُ ) أنا الآن, وفيما أستقبل.
وإنما قيل ذلك كذلك, لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين, قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ,
وسبق لهم ذلك في السابق من علمه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه, وحدّثوا به أنفسهم, وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم, في وقت من الأوقات, وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم, ومن أن يفلحوا أبدا, فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا, إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف, وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وجاءت به الآثار.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي, قال: ثنا أبو خلف, قال: ثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطئوا عقبه, فقالوا له:
هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نعرض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: " ما هي؟"
قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة, قال: " حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ:
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) السورة, وأنـزل الله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... إلى قوله: فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري ،
قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, وأميَّة بن خلف, رسول الله, فقالوا:
يا محمد, هلمّ فلنعبد ما تعبد, وتعبدْ ما نعبد, ونُشركك في أمرنا كله, فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه, وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك, كنت قد شَرِكتنا في أمرنا, وأخذت منه بحظك, فأنـزل الله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) حتى انقضت السورة .
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة, على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة,
فأنـزل الله معرفه جوابهم في ذلك:
( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة, على أن يعبدوا إلهك سنة
( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) بالله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان الآن ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) الآن
( وَلا أَنَا عَابِدٌ ) فيما أستقبل
( مَا عَبَدْتُمْ ) فيما مضى ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ) فيما تستقبلون أبدا( مَا أَعْبُدُ ) أنا الآن, وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك, لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين, قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا , وسبق لهم ذلك في السابق من علمه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه, وحدّثوا به أنفسهم, وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم, في وقت من الأوقات, وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم, ومن أن يفلحوا أبدا, فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا, إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف, وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وجاءت به الآثار.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي, قال: ثنا أبو خلف, قال: ثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطئوا عقبه, فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نعرض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: " ما هي؟" قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة, قال: " حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) السورة, وأنـزل الله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... إلى قوله: فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري ،
قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, وأميَّة بن خلف, رسول الله, فقالوا: يا محمد, هلمّ فلنعبد ما تعبد, وتعبدْ ما نعبد, ونُشركك في أمرنا كله, فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه, وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك, كنت قد شَرِكتنا في أمرنا, وأخذت منه بحظك, فأنـزل الله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) حتى انقضت السورة .
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة, على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة, فأنـزل الله معرفه جوابهم في ذلك:
( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة, على أن يعبدوا إلهك سنة ( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) بالله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان الآن ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) الآن
( وَلا أَنَا عَابِدٌ ) فيما أستقبل
( مَا عَبَدْتُمْ ) فيما مضى ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ) فيما تستقبلون أبدا( مَا أَعْبُدُ ) أنا الآن, وفيما أستقبل.
وإنما قيل ذلك كذلك, لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين, قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا , وسبق لهم ذلك في السابق من علمه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه, وحدّثوا به أنفسهم, وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم, في وقت من الأوقات, وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم, ومن أن يفلحوا أبدا, فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا, إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف, وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وجاءت به الآثار.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي, قال: ثنا أبو خلف, قال: ثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس:
أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطئوا عقبه,
فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نعرض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح.
قال: " ما هي؟" قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة, قال: " حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) السورة, وأنـزل الله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... إلى قوله: فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري ،
قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, وأميَّة بن خلف, رسول الله, فقالوا: يا محمد, هلمّ فلنعبد ما تعبد, وتعبدْ ما نعبد, ونُشركك في أمرنا كله, فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه, وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك, كنت قد شَرِكتنا في أمرنا, وأخذت منه بحظك, فأنـزل الله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) حتى انقضت السورة .
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة, على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة, فأنـزل الله معرفه جوابهم في ذلك:
( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة, على أن يعبدوا إلهك سنة ( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) بالله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان الآن ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) الآن
( وَلا أَنَا عَابِدٌ ) فيما أستقبل
( مَا عَبَدْتُمْ ) فيما مضى ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ) فيما تستقبلون أبدا( مَا أَعْبُدُ ) أنا الآن, وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك, لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين, قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا , وسبق لهم ذلك في السابق من علمه, فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه, وحدّثوا به أنفسهم, وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم, في وقت من الأوقات, وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم, ومن أن يفلحوا أبدا, فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا, إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف, وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وجاءت به الآثار.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي, قال: ثنا أبو خلف, قال: ثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطئوا عقبه, فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نعرض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: " ما هي؟" قالوا:
تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة,
قال: " حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) السورة, وأنـزل الله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... إلى قوله: فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري ، قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, وأميَّة بن خلف, رسول الله, فقالوا: يا محمد, هلمّ فلنعبد ما تعبد, وتعبدْ ما نعبد, ونُشركك في أمرنا كله, فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه, وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك, كنت قد شَرِكتنا في أمرنا, وأخذت منه بحظك, فأنـزل الله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) حتى انقضت السورة .
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وقوله: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )
يقول تعالى ذكره: لكم دينكم فلا تتركونه أبدا, لأنه قد ختم عليكم, وقضي أن لا تنفكوا عنه, وأنكم تموتون عليه, ولي دين الذي أنا عليه, لا أتركه أبدا, لأنه قد مضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب,
قال: قال ابن زيد في قول الله: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) قال: للمشركين; قال: واليهود لا يعبدون إلا الله ولا يشركون, إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء, وبما جاءوا به من عند الله, ويكفرون برسول الله, وبما جاء به من عند الله, وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعدوانا,
قال: إلا العصابة التي بقوا, حتى خرج بختنصر, فقالوا: عُزَير ابن الله, دعا الله ولم يعبدوه ولم يفعلوا كما فعلت النصارى, قالوا: المسيح ابن الله وعبدوه .
وكان بعض أهل العربية يقول: كرّر قوله: ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) وما بعده على وجه التوكيد,
كما قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا , وكقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ .
آخر تفسير سورة الكافرون
......... ............ ..........
تفسير سورة الكافرون للشوكاني :
سورة الكافرون :
_هي ست آيات
_ وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة. _ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة "يا أيها الكافرون" بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت "يا أيها الكافرون" بالمدينة.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة، وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف".
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعاً وعشرين مرة، أو بضع عشرة مرة "قل يا أيها الكافرون" و "قل هو الله أحد"".
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ"سبح"، و"قل يا أيها الكافرون" و "قل هو الله أحد" وأخرج محمد بن نصر والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن، و "قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن، وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من قرأ يا أيها الكافرون كانت له عدل ربع القرآن".
وأخرج الطبراني في الصغير والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ "قل يا أيها الكافرون" فكأنما قرأ ربع القرآن، ومن قرأ "قل هو الله أحد" فكأنما قرأ ثلث القرآن".
وأخرج أحمد وابن الضريس والبغوي وحميد بن زنجويه في ترغيبه عن شيخ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فمر برجل يقرأ " قل يا أيها الكافرون " فقال أما هذا فقد برئ من الشرك، وإذا آخر يقرأ "قل هو الله أحد" فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بها وجبت له الجنة "
وفي رواية " أما هذا فقد غفر له "
. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الأنباري في المصاحف عن أبيه "قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال اقرأ " قل يا أيها الكافرون " ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك".
وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن عبد الرحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه عن البراء قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنوفل بن معاوية الأشجعي: إذا أتيت مضجعك للنوم فاقرأ
"قل يا أيها الكافرون" فإنك إذا قلتها فقد برئت من الشرك".
وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن الحارث بن جبلة، وقال الطبراني عن جبلة بن حارثة، وهو أخو زيد بن حارثة قال: "قلت يا رسول الله علمني شيئاً أقوله عند منامي قال: إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ "قل يا أيها الكافرون" حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك".
وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: اقرأ "قل يا أيها الكافرون" عند منامك فإنها براءة من الشرك".
وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرأون "قل يا أيها الكافرون" عند منامكم".
وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أخذت مضجعك فاقرأ "قل يا أيها الكافرون" وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ "قل يا أيها الكافرون" حتى يختم".
وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله بسورتين فلا حساب عليه "قل يا أيها الكافرون" و "قل هو الله أحد"".
وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال: من قرأ "قل يا أيها الكافرون" و "قل هو الله أحد" في ليلة فقد أكثر وأطاب. الألف واللام في "يا أيها الكافرون" للجنس، ولكنها لما كانت الآية خطاباً لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك،
لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه. وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة.
فأمره الله سبحانه أن يقول لهم:
"لا أعبد ما تعبدون" أي:
لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام، قيل والمراد فيما يستقبل من الزمان لأن لا النافية لا تدخل في الغالب إلا على [المضارع] الذي في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال.
"ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي :
ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
"ولا أنا عابد ما عبدتم" أي:
ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه، والمعنى: أنه لم يعهد مني ذلك.
"ولا أنتم عابدون ما أعبد" أي:
وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته، كذا قيل، وهذا على قول ما قال إنه لا تكرار في هذه الآيات ؟!
لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدمنا من أن لا لا تدخل إلا على مضارع ف معنى الاستقبال،
والدليل على ذلك :
أن لن تأكيد لما تنفيه لا.
قال الخليل في لن: إن أصله لا، فالمعنى: لا أعبد ما تعبدون في الستقبل، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي.
ثم قال: "ولا أنا عابد ما عبدتم" أي ولست في الحال بعابد معبودكم، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي. وقيل بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله: "ولا أنا عابد ما عبدتم" كما لو قال القائل: أنا ضارب زيداً، وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال. قال الأخفش والفراء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.
قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل.
وقيل إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال،
والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار.
وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" وللاستقبال،
لأن الجملة إسمية تفيد [الدوام] والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله:
"ولا أنا عابد ما عبدتم" وفي قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس،
لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل إسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة.
وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار،
لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا،
كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه
لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه.
وأما ما كان من الوضوح والظهور الجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل.
وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر،
ومن ذلك قول الشاعر: يا لبكر انشروا لي كليباً يا لبكر أين أين الفرار
وقول آخر: هلا سألت جموع كف سدة يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر: ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم وقول الآخر: يا جعفر يا جعفر يا جعفر إن أك دحداحاً فأنت أقصر
وقول الآخر: أتاك أتاك الاحقوك احبس احبس وقد ثبت عن الصادق المصدوق،
وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة
لأنه : يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف.
وقيل إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق.
وقيل إن ما في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة: أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ.
"لكم دينكم" مستأنفة لتقرير قوله: "لا أعبد ما تعبدون" وقوله: "ولا أنا عابد ما عبدتم"
كما أن قوله: "ولي دين" تقرير لقوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" في الموضعين: أي إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني
كما في قوله: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" والمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون، وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم.
وقيل المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي، لأن الدين الجزاء.
قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل ليست بمنسوخة، لأنها أخبار والأخبار لا يدخلها النسخ. قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله "ولي" وقرأ نافع وهشام وحفص والبزي بفتحها.
وقرأ الجمهور أيضاً بحذف الياء من ديني وقفاً ووصلاً، وأثبتها نصر بن عاصم وسلام ويعقوب وصلاً ووقفاً. قالوا لأنها اسم فلا تحذف.
ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسماً. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس "أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء،
فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح،
قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء الوحي من عند الله
" قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " إلى آخر السورة، وأنزل الله "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" إلى قوله: "بل الله فاعبد وكن من الشاكرين"".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا مولى أبي البحتري قال "لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً، فأنزل الله "قل يا أيها الكافرون" إلى أخر السورة".
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله "قل يا أيها الكافرون" السورة كلها.
_ خواطر (الخلاصة ) علي تفسير الشوكاني :
الألف، واللام في: {يا أيها الكافرون} للجنس،
ولكنها لما كانت الآية خطاباً لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك؛
لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه.
وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأمره الله سبحانه أن يقول لهم: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
أي: لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام.
قيل: والمراد فيما يستقبل من الزمان؛
لأن {لا} النافية لا تدخل في الغالب إلاّ على المضارع الذي في معنى الاستقبال، كما أن {ما} لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال.
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي: ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه، والمعنى: أنه لم يعهد مني ذلك.
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته، كذا قيل، وهذا عل قول من قال إنه لا تكرار في هذه الآيات؛
لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدّمنا من أن (لا) لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال، والدليل على ذلك أن (لن) تأكيد لما تنفيه (لا). قال الخليل في (لن): إن أصله (لا)،
فالمعنى: لا أعبد ما تعبدون في المستقبل، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي.
ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ولست في الحال بعابد معبودكم، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي. وقيل: بعكس هذا،
وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} كما لو قال القائل: أنا ضارب زيداً، وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلاّ الاستقبال.
قال الأخفش، والفرّاء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.
قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل.
وقيل: إن كل واحد منهما يصلح للحال، والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف مالا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: ولا {أعبد ما تعبدون} للاستقبال، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتمّ جعل قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} للاستقبال؛
لأن الجملة اسمية تفيد الدوام، والثبات في كل الأوقات، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} وفي قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} فلا يتمّ ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس،
لأن الجملة الثانية، والثالثة، والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة.
وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار؛
لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدلّ عليه دليل.
وإذا تقرّر لك هذا،
وإذا تقرّر لك هذا،
فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا؛
كما أن مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه.
وأما ما كان من الوضوح، والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل.
وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن، وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر،
وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن، وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر،
ومن ذلك قول الشاعر:
يا لبكر انشروا لي كليبا *** يا لبكر أين أين الفرار
يا لبكر انشروا لي كليبا *** يا لبكر أين أين الفرار
وقول الآخر:
هلا سألت جموع كن *** دة يوم ولوا أين أينا
هلا سألت جموع كن *** دة يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمه *** خير تميم كلها وأكرمه
يا علقمة يا علقمة يا علقمه *** خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر:
ألا يا اسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم
ألا يا اسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر:
يا جعفر يا جعفر يا جعفر *** إن أك دحداحاً فأنت أقصر
يا جعفر يا جعفر يا جعفر *** إن أك دحداحاً فأنت أقصر
وقول الآخر:
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس ***
وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا، ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد، ولا يختلف.
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس ***
وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا، ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد، ولا يختلف.
وقيل: إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
وقيل: إن {ما} في المواضع الأربعة ؟!
هي: المصدرية لا الموصولة،
أي: لا أعبد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي إلخ، وجملة: {لَكُمْ دِينَكُمْ} مستأنفة؛ لتقرير قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}.
كما أن قوله: {وَلِىَ دِينِ} تقرير لقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} في الموضعين، أي: إن رضيتم بدينكم، فقد رضيت بديني، كما في قوله: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} [الشورى: 15] والمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي، كما تطمعون.
وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم.
وقيل المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء.
قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف
وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأنها أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ. قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله: {ولي} وقرأ نافع، وهشام، وحفص، والبزي بفتحها.
وقرأ الجمهور أيضاً بحذف الياء من ديني وقفاً ووصلاً، وأثبتها نصر بن عاصم، وسلام، ويعقوب، وصلاً ووقفاً. قالوا: لأنها اسم، فلا تحذف. ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ، وإن كانت اسماً.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عباس: أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء الوحي من عند الله: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة، وأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} إلى قوله: {بَلِ الله فاعبد وَكُن مّنَ الشاكرين} [الزمر: 64- 66].
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا مولى أبي البحتري قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هلمّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن، وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً، فأنزل الله: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} إلى آخر السورة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله: {قُلْ يأَيُّهَا الكافرون} السورة كلها.
....... ....... .......
تفسير سورة الكافرون لإبن عثيمين :
هذه السورة هي إحدى سورتي الإخلاص، لأن سورتي الإخلاص {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ بهما في سُنة الفجر (1) وفي سنة المغرب (2) ، وفي ركعتي الطواف (3) لما تضمنتاه من الإخلاص لله عز وجل، والثناء عليه بالصفات الكاملة في سورة {قل هو الله أحد} . {قل يا أيها الكافرون} يناديهم يعلن لهم بالنداء {يا أيها الكافرون}
وهذا يشمل كل كافر سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الشيوعيين أو من غيرهم. كل كافر يجب أن تناديه بقلبك أو بلسانك إن كان حاضراً لتتبرأ منه ومن عبادته {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم
عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} كُررت الجمل على مرتين مرتين {لا أعبد ما تعبدون}
أي: لا أعبد الذين تعبدونهم، وهم الأصنام {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وهو الله، و «ما» هنا في قوله: {ما أعبد} بمعنى «من» لأن اسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ «من» {لا أعبد ما تعبدون.
ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني: أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} قد يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك لأن الصيغة مختلفة {لا أعبد ما تعبدون} فعل. {ولا أنا عابد ما عبدتم} «عابد» و «عابدون» اسم، والتوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى.
إذاً القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف، إذاً لماذا هذا التكرار؟
قال بعض العلماء: {لا أعبد ما تعبدون}
أي: الآن {ولا أنا عابد ما عبدتم} في المستقبل، فصار {لا أعبد ما تعبدون}
أي: في الحال، {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال، واسم الفاعل يدل على الاستقبال.
بدليل أنه عمل، واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال، {لا أعبد ما تعبدون} الان {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني الان. {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني في المستقبل.
لكن أورد على هذا القول إيراد كيف قال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله؟! وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف.
وأجابوا عن ذلك بأن قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يخاطب المشركين الذين عَلِم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا. فيكون الخطاب ليس
فعندنا الآن قولان:
الأول: إنها توكيد.
والثاني: إنها في المستقبل.
القول الثالث: {لا أعبد ما تعبدون}
أي: لا أعبد الأصنام التي تعبدونها. {ولا أنتم عابدون ما أعبد}
أي: لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد}
أي: في العبادة يعني ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي، فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول به، يعني ليس نفيًا للمعبود.
لكنه نفي للعبادة أي لا أعبد كعبادتكم، ولا تعبدون أنتم كعبادتي، لأن عبادتي خالصة لله، وعبادتكم عبادة شرك.
القول الرابع: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ
أن قوله {لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد} هذا الفعل. فوافق القول الأول في هذه الجملة. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد}
أي: في القبول، بمعنى ولن أقبل غير عبادتي، ولن أقبل عبادتكم، وأنتم كذلك لن تقبلوا.
فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل. والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا، يعني لا أعبده ولا أرضاه، وأنتم كذلك. لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته.
وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الهفوات السابقة، فيكون قولاً حسناً جيداً،
ومن هنا نأخذ أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر لغير فائدة إطلاقاً، ليس فيه شيء مكرر إلا وله فائدة. لأننا لو
قلنا: إن في القرآن شيئاً مكرراً بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو، وهو منزه عن ذلك، وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وفي سورة المرسلات {ويل يومئذ للمكذبين} تكرار لفائدة عظيمة،
وهي أن كل آية مما بين هذه الآية المكررة، فإنها تشمل على نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ثم إن فيها من الفائدة اللفظية التنبيه للمخاطب حيث يكرر عليه {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ويكرر عليه {ويل يومئذ للمكذبين} .
ثم قال عز وجل: {لكم دينكم ولي دين} {لكم دينكم} الذي أنتم عليه وتدينون به. ولي ديني، فأنا برىء من دينكم، وأنتم بريئون من ديني.
قال بعض أهل العلم: وهذه السورة نزلت قبل فرض الجهاد؛ لأنه بعد الجهاد لا يقر الكافر على دينه إلا بالجزية إن كانوا من أهل الكتاب. وعلى القول الراجح أو من غيرهم.
ولكن الصحيح أنها لا تنافي الأمر بالجهاد حتى نقول إنها منسوخة، بل هي باقية ويجب أن نتبرأ من دين اليهود والنصارى والمشركين، في كل وقت وحين، ولهذا نقر اليهود والنصارى على دينهم بالجزية، ونحن نعبد الله، وهم يعبدون ما يعبدون، فهذه السورة فيها البراءة والتخلي من عبادة غير الله عز وجل، سواء في المعبود أو في نوع الفعل، وفيها الإخلاص لله عز وجل، وأن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وإلى هنا ينتهي ما تيسر من الكلام على هذه السورة.
....... ........ .......
تفسير سورة الكافرون لابن تيمية :
سورة الكافرون قال الشيخ الإسلام رحمه الله:
فصل في سورة قل يا أيها الكافرون للناس في وجه تكرير البراءة من الجانبين طرق حيث قال : { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثم قال : { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين هل كرر الكلام للتوكيد أو لنفي الحال والاستقبال ؟ .
قال أبو الفرج : في تكرار الكلام قولان :
_ أحدهما أنه لتأكيد الأمر وحسم أطماعهم فيه قاله الفراء . وقد أفعمنا هذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة : التكرير في سورة الرحمن للتوكيد .
قال : وهذه مذاهب العرب أن التكرير للتوكيد والإفهام كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف [ ص: 535 ] والإيجاز .
لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد . يقول القائل : والله لا أفعله ثم والله لا أفعله إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله كما يقول : والله أفعله ؟ بإضمار " لا " إذا أراد الاختصار . ويقول للمرسل .
المستعجل : اعجل اعجل والرامي : ارم ارم ; قال الشاعر :
كم نعمة كانت لكم وكم وكم ؟
وقال الآخر :
هل سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا ؟
وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفا .
قال ابن قتيبة : فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها كقولك للرجل : ألم أنزلك منزلا وكنت طريدا ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم أحج بك وكنت صرورا ؟ أفتنكر هذا ؟ .
قلت قال ابن قتيبة : تكرار الكلام في { قل يا أيها الكافرون } . [ ص: 536 ] لتكرار الوقت .
وذلك أنهم قالوا : إن سرك أن ندخل في دينك عاما فادخل في ديننا عاما . فنزلت هذه السورة .
قلت : هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب وإما في الخبر بتكرار الكلام .
ومنه { قول النبي صلى الله عليه وسلم والله لأغزون قريشا ثم والله لأغزون قريشا ثم والله لأغزون قريشا . ثم قال : إن شاء الله . ثم لم يغزهم } "
وروي عنه { أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة ويسوق به عمار فخرج بضعة عشر رجلا حتى صعدوا العقبة ركبانا متلثمين وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحذيفة : قد قد ولعمار : سق سق } .
فهذا أكثر لكن ليس في القرآن من هذا شيء . فإن القرآن له شأن اختص به لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي ولا غيره وإن كان نزل بلغة العرب .
فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة ولا ببعض سورة مثله .
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط . وإنما في [ ص: 537 ] سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية لم يذكر متواليا . وهذا النمط أرفع من الأول .
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار كما ظنه بعضهم .
و { قل يا أيها الكافرون } ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } وهو مع الفصل بينهما بجملة .
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تك فقيرا فأغنيتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك عريانا فكسوتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملا فعرفتك ؟ ونحو ذلك . وهذا أقرب من التكرار المتوالي كما في اليمين المكررة .
وكذلك ما يقوله بعضهم إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ كقوله :
فألفى قولها كذبا ومينا
فليس في القرآن من هذا شيء . ولا يذكر فيه لفظا زائدا إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله { فبما رحمة من الله لنت لهم } وقوله { عما قليل ليصبحن نادمين } وقوله { قليلا ما تذكرون }
فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه . فزيادة اللفظ لزيادة المعنى وقوة اللفظ لقوة المعنى .
والضم أقوى من الكسر والكسر أقوى من الفتح . ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل " الكره " و " الكره " . فالكره هو الشيء المكروه كقوله { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } والكره المصدر كقوله { طوعا وكرها } . والشيء الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره .
وكذلك " الذبح " و " الذبح "
فالذبح : المذبوح كقوله { وفديناه بذبح عظيم }
والذبح : الفعل . والذبح . مذبوح وهو جسد يذبح فهو أكمل من نفس الفعل .
قال أبو الفرج : والقول الثاني أن المعنى : { لا أعبد ما تعبدون } في حالي هذه { ولا أنتم } في حالكم هذه { عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } في ما استقبل وكذلك { أنتم } فنفى عنهم في الحال والاستقبال .
وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون كما ذكرناه عن مقاتل . فلا يكون حينئذ تكرار . قال : وهذا قول ثعلب والزجاج .
قلت : قد ذكر القولين جماعة لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني .
فقالوا واللفظ للبغوي : معنى الآية : لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال . وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون .
قال وقال أكثر أهل المعاني : نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم . ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز .
قلت : ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي وابن عطية .
قال ابن عطية : لما كان قوله : { لا أعبد } محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه من عبادته جاء البيان بقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أبدا ما حييت .
ثم جاء قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا كالذين كشف الغيب عنهم كما قيل لنوح { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أما إن هذا فخطاب لمعينين وقوم نوح قد عموا بذلك .
قال : فهذا معنى الترديد الذي في السورة وهو بارع الفصاحة . وليس هو بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته مع الإبلاغ والتوكيد وزيادة الأمر بيانا وتبريا منهم .
قلت : هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى زائد على التكرير . لكن فيه نقص من جهة أخرى وهو جعلهم هذا خطابا لمعينين فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه ، وهذا غلط .
فإن قوله : { قل يا أيها الكافرون } خطاب لكل كافر وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين ويأمر بها ويقول هي براءة من الشرك .
فلو كانت خطابا لأولئك المعينين أو لمن علم منهم أنه يموت كافرا لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه .
وأيضا فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر .
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين قول لم يقله من يعتمد عليه .
ولكن قد قال مقاتل بن سليمان : إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد . ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث كنقل الكلبي .
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئا كمحمد بن جرير وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبي بكر بن المنذر فضلا عن مثل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه .
وقد ذكر غيره هذا عن قريش مطلقا كما رواه عبد بن حميد عن وهب بن منبه قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم إن سرك أن ندخل في دينك عاما وتدخل في ديننا عاما فنزلت { قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها .
وعن ابن عباس قالت قريش : يا محمد لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت السورة . وعن قتادة قال : أمره الله أن ينادي الكفار فناداهم بقوله { يا أيها } .
وروى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه . قال كفار قريش فذكره .
وقال عكرمة : برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار
وقال قتادة : أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم .
وروى قتادة عن زرارة بن أوفى : كانت تسمى " المقشقشة " . يقال : قشقش فلان إذا برئ من مرضه فهي تبرئ . صاحبها من الشرك .
وبهذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن { فروة بن نوفل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : مجيء ما جاء بك ؟ قال : جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي . قال : إذا أخذت مضجعك فاقرأ { قل يا أيها الكافرون } ثم نم على [ ص: 542 ] خاتمتها فإنها براءة من الشرك } " .
رواه غير واحد عن أبي إسحاق وكان تارة يسنده وتارة يرسله رواه عنه زهير وإسرائيل مسندا ; ورواه عنه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال " عن أبي إسحاق عن رجل عن فروة بن نوفل " ولم يقل " عن أبيه "
. قال الترمذي : وحديث زهير أشبه وأصح من حديث شعبة . قال : وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه فرواه عبد الرحمن بن نوفل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل .
قلت : وقد رواه عن أبي إسحاق إسماعيل بن أبي خالد قال : { جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني كلاما أقوله عند منامي . قال : إنك لنا ظئر اقرأ { قل يا أيها الكافرون } عند منامك فإنها براءة من الشرك } " .
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من المسلمين أن يقرأها وأخبره أنها براءة من الشرك . فلو كان الخطاب لمن يموت على الشرك كانت براءة من دين أولئك فقط لم تكن براءة من الشرك الذي يسلم صاحبه فيما بعد .
ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك اعتقادي وعملي .
وقوله : { لكم دينكم ولي دين } خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد . فدينه قبل الإسلام له كان والمؤمنون بريئون منه وإن غفره الله له بالتوبة منه كما قال لنبيه { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } فإنه بريء من معاصي أصحابه وإن تابوا منها .
وهذا كقوله : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }
. وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا محمد بن موسى الجرشي ثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى ثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن { ابن عباس أن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل فيهم ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئوا عقبه أي يسودوه فقالوا : هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء . فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة وهي لك ولنا فيها صلاح . قال : ما هي ؟ . قالوا : تعبد آلهتنا سنة اللات والعزى ونعبد إلهك سنة .
قال حتى أنظر ما يأتيني من ربي . فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ { قل يا أيها الكافرون } إلى آخرها وأنزل الله عليه { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } } .
وقوله { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد . وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عبد غير الله .
وقوله في هذا الحديث " { حتى أنظر ما يأتيني من ربي } " قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك فيؤخر الجواب حتى يستأمره وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه .
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول : حتى أشاور أمها وهو يريد أن لا يزوجها بذلك ويعلم أن أمها لا تشير له . وكذلك قد يقول النائب : حتى أشاور السلطان .
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله ويقاتلونهم ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك ثم تابوا وأسلموا وقرءوا هذه السورة .
ومن النقلة من يعين ناسا غير الذين عينهم غيره .
_ منهم من يذكر أبا جهل
_ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة
_ ومنهم من يذكر الوليد بن مغيرة
_ ومنهم من يقول : طلبوا أن يعبدوا الله معه عاما ويعبد آلهتهم معهم عاما
_ ومنهم من يقول : طلبوا أن يستلم آلهتهم .
_ومنهم من يقول : طلبوا الاشتراك كما روى ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال : حدثني سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال { لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله . فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه . فأنزل الله السورة }
وهذا منقول عن عبيد بن عمير وفيه أن القائل له عتبة وأمية .
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم ويدخلوا في شيء من دينه ثم إن كانت كلها صحيحة فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا وقوم هذا وقوم هذا .
وعلى كل تقدير فالخطاب للمشركين كلهم من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة .
وقد أمره الله بالبراءة من كل معبود سواه .
وهذه ملة إبراهيم الخليل وهو مبعوث بملته .
قال الله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } { وجعلها كلمة باقية في عقبه } .
وقال الخليل أيضا : { يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } .
وقال { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .
وقال لنبيه : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } . فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب .
وقد ذكر المهدوي هذا القول وذكر معه قولين آخرين . فقال : الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة لأن لامها مخاطبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرا . فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم .
وتكرير ما كرر فيها ليس بتكرير في المعنى ولا في اللفظ سوى موضع واحد منها . فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى .
بل معنى { لا أعبد ما تعبدون } في الحال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الحال { ولا أنا عابد ما عبدتم } في الاستقبال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الاستقبال .
قال : فقد اختلف اللفظ والمعنى في قوله { لا أعبد } وما بعده { ولا أنا } . وتكرر { ولا أنتم عابدون ما أعبد } في اللفظ دون المعنى .
قال : _وقيل إن معنى الأول : ولا أنتم عابدون ما عبدت _ ومعنى الثاني : ولا أنتم عابدون ما أعبد . فعدل عن لفظ " عبدت " للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر . وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى .
ويجوز أن تكون " ما " والفعل مصدرا وقيل إن معنى الآيات وتقديرها : قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام . الذي تعبدون ولا أنتم عابدون الذي أعبده لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام .
فإن زعمتم أنكم تعبدونه فأنتم كاذبون لأنكم تعبدونه مشركين به . فأنا لا أعبد ما عبدتم أي مثل عبادتكم . فهو في الثاني مصدر .
وكذلك { ولا أنتم عابدون ما أعبد } هو في الثاني مصدر أيضا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد .
قلت : القول الثالث هو في معنى الثاني لكن جعل قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد }
معنيين : أحدهما بمعنى " ما عبدت " والآخر بمعنى " ما أعبد " ليطابق قوله لهم { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنا عابد ما عبدتم } .
فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال . لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي .
قال هؤلاء : وإنما لم يقل في حقه : " ما عبدت " للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل . قلت : أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم .
لكن إذا أريد بقوله : { ما عبدتم } [ ما أريد ] بقوله : { ما أعبد } في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه : لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي . فيكون قد نفى عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل .
وكذلك إذا قيل : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي في الماضي فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفى عبادة ما عبدوه في الماضي .
وهذا أنقص لمعنى الآية . وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط ؟ وكذلك هم ؟
وإن قيل : في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه !
قيل : فعلى هذا لا يقال لهؤلاء ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضى .
وإن قيل : قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل !
قيل : ولفظ الآية { ولا أنا عابد ما عبدتم } ليس لفظها " ولا أنا عابد ما تعبدون " .
فقوله : { ما عبدتم } إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء فسد المعنى وإن أريد به المستقبل بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فإن الماضي هنا بمعنى المضارع . فإذا كان المضارع مطابقا له بقي مضارعا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود .
والقول الرابع الذي ذكره قول من جعل " ما " مصدرية في الجملة الثانية دون الأخرى .
وهذا أيضا ليس في الكلام ما يدل على الفرق بينهما . وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه " ما " المصدرية حاصل بقوله " ما " . فإنه لم يقل " ولا أنتم عابدون من أعبد " بل قال { ما أعبد } .
ولفظ " ما " يدل على الصفة بخلاف " من " .
فإنه يدل على العين كقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي الطيب { والسماء وما بناها } أي وبانيها . ونظيره قوله : { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك } ولم يقل " من تعبدون من بعدي " .
وهذا نظير [ قوله ] { ولا أنتم عابدون ما أعبد } سواء . فالمعنى : لا أعبد معبودكم ولا أنتم عابدون معبودي .
فقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } يتناول شركهم فإنه ليس بعبادة لله فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه . فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له .
وأيضا فما عبدوا ما يعبده وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص . بل هذا يتناول عبادته وحده ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات . فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه .
وأيضا فالشرائع قد تتنوع في العبادات فيكون المعبود واحدا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة . وهؤلاء لا يتبرأ منهم . فكل من عبد الله . مخلصا له الدين فهو مسلم في كل وقت ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه .
فلو قال : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته . وإنما البراءة من المعبود وعبادته .
فصل إذا تبين هذا فنقول : القرآن تنزيل من حكيم حميد وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت .
ولو أن رجلا من بني آدم له علم أو حكمة أو خطبة أو قصيدة أو مصنف فهذب ألفاظ ذلك وأتى فيه بمثل هذا التغاير لعلم أنه قصد في ذلك حكمة وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدى .
فكيف بكلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لا سيما وقد قال فيه { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .
فنقول : الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي فيعم الحاضر والمستقبل كما قال سيبويه : وبنوه لما مضى من الزمان ولما هو دائم لم ينقطع ولما لم يأت بمعنى الماضي والمضارع وفعل الأمر . فجعل المضارع لما هو من الزمان دائما لم ينقطع وقد يتناول الحاضر والمستقبل .
فقوله { لا أعبد } يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل وقوله { ما تعبدون } يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل كلاهما مضارع .
وقال في الجملة الثانية عن نفسه { ولا أنا عابد ما عبدتم } . فلم يقل " لا أعبد " بل قال { ولا أنا عابد } . ولم يقل " ما تعبدون " بل قال { ما عبدتم } . فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأولى .
والنفي بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالأولى .
فإنه قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } بصيغة الماضي . فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي لأن المشركين يعبدون آلهة شتى .
وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى .
فقوله { لا أعبد ما تعبدون } براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة [ ص: 553 ] الماضية كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال .
فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض وحاضر ومستقبل . وقوله أولا : { لا أعبد ما تعبدون } لا يتناول هذا كله .
وقوله { ولا أنا عابد } اسم فاعل قد عمل عمل الفعل ليس مضافا فهو يتناول الحال والاستقبال أيضا
. لكنه جملة اسمية والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى كما تقول : ما أفعل هذا وما أنا بفاعله .
وقولك " ما هو بفاعل هذا أبدا " أبلغ من قولك " ما يفعله أبدا " .
فإنه نفى عن الذات صدور هذا الفعل عنها بخلاف قولك " ما يفعل هذا " فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه . ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له ;
بخلاف قوله " ما هو فاعلا وما هو بفاعل " كما في قوله { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } وقوله { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } وقوله { وما الله بغافل عما تعملون } { وما أنت بهادي العمي } { وما أنت بمسمع من في القبور } { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } .
ولا يقال : الجملة الاسمية ترك الثبوت ونفي ذلك لا يقتضي نفي العارض .
فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي لكونها عملت عمل الفعل . لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا فنفت عن الذات أن يعرض لها هذا الفعل تنزيها للذات ونفيا لقبولها لذلك .
فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل .
فقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط . فأي معبود عبدتموه في وقت فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات .
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان ما ليس في الجملة الأولى .
تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط .
والتقدير : ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدا .
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال . وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها .
فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان وينفي جواز عبادته لمعبودهم ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ . فهو ينفي جوازه شرعا ووقوعا . فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال : " أنا أفعل هذا ؟ ما أنا بفاعل هذا أبدا " .
فهو أبلغ من قوله " لا أفعله أبدا " . وهذا كقوله { وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } .
فهو يتضمن نفي الفعل بغضا فيه وكراهة له بخلاف قوله " لا أفعل " .
فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر . فإذا قال " ما أنا عابد ما عبدتم " دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه . وهذه هي البراءة .
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال : تول فلانا وتبرأ من فلان . كما قال تعالى { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } الآية .
وأما قوله عن الكفار : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فهو خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا . فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك . فإنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون .
وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب .
وهذا كما يقال : قل يا أيها المحاربون والمخاصمون والمقاتلون والمعادون . فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة .
وما دام الكافر كافرا فإنه لا يعبد الله وإنما يعبد الشيطان ; سواء كان متظاهرا أو غير متظاهر به كاليهود .
فإن اليهود لا يعبدون الله وإنما يعبدون الشيطان لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر . وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها فليست عبادة .
فكل كافر بمحمد لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرا . والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع . فهو ما دام كافرا لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم لا في الحاضر ولا في المستقبل .
ولم يقل عنهم " ولا تعبدون ما أعبد " بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة . إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده وحده بما أمر به على لسان محمد . ومن كان كافرا بمحمد لا يكون عمله عبادة لله قط .
وتبرئتهم من عبادة الله جاءت بلفظ واحد بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله لم تقتصر على نفي الفعل .
ولم يحتج أن يقول فيهم " ولا أنتم عابدون ما عبدت " كما قال في نفسه { ولا أنا عابد ما عبدتم } لوجهين .
_أحدهما : أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة ومنهم من كان معبوده غير الله . فلو قال " ولا أنتم عابدون ما عبدت " لقالوا : بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركا بخلاف ما إذا قال " ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت "
. ولم يقل " ما أنا عابد له " إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقا .
وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذموما بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله . فهو يقول للكفار " ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن " .
وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة . فلما قال { لا أعبد ما تعبدون } فنفى الفعل قال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } .
ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه ونفى أن يعبد شيئا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } بل أنتم بريئون من عبادة ما أعبده .
فليس لبراءتي وكمال براءتي وبعدي من معبودكم وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له يكون لكم نصيب من هذه العبادة .
بل أنتم أيضا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى ولا في الثانية .
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولى لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية . فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولى الخاصة وحين البراءة الثانية العامة القاطعة .
وهم لم يختلف حالهم في الحالين بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد . فلم يكن في تغيير العبارة فائدة وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنيين .
والإنسان يقوى يقينه وإخلاصه وتوحيده وبراءته من الشرك وأهله وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم فرفع درجته في ذلك . وهو في ذلك يقول للكفار : " لا تعبدون ما أعبد " في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له
فالمقصود بالسورة أن المؤمن يتبرأ منهم ويخبرهم أنهم برآء منه .
وتبريه منهم إنشاء ينشئه كما ينشئ المتكلم بالشهادتين . وهذا يزيد وينقص . ويقوى ويضعف .
وأما هم فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال لا ينشئ شيئا لم يكن فيهم .
فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم والخبر مطابق للمخبر عنه فلم يتغير لفظ خبره عنهم إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته لله لا يعبدون ما يعبد .
فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا .
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم فإن ذلك محرم . بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان .
وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به . فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص . فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد .
وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص لله وحده وعبادته وحده والبراءة من كل معبود سواه وعبادته وبراءته منه ومن عابديه .
وقوله : { لا أعبد ما تعبدون } وإن كان لفظها خبرا ففيها معنى الإنشاء كسائر ألفاظ الإنشاءات كقوله " أشهد أن لا إله إلا الله " وقوله { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } وقوله { إني بريء مما تشركون } فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لها ينشئه المؤمن في نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقشقشة التي تقشقش من الشرك كما يقشقش المريض من المرض .
فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب . فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك . وكلما قاله ازداد براءة من الشرك وقلبه شفاء من المرض وإن كان الكفرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرا .
فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن . فقيل { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } أي أنا ممتنع من هذا تارك له ثم قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أنا بريء من هذا متنزه عنه ; مزك لنفسي منه فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس وأعظم تزكية النفس وتطهيرها تزكيتها منه وتطهيرها منه . فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات .
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد بل أنتم بريئون مما أعبد . وأنا بريء مما تعبدون مأمور بالبراءة منه وطالب زيادة البراءة منه ومجتهد في ذلك .
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريئون مما أعبد إما لكونكم تأمرون بذلك وإما لكونكم تعبدونه فلا أخبر به فإنه كذب . وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها فبها تختلف فيه أحوالكم .
وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم ولا أكذب عليكم فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولا . بقوله { قل } .
فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه واختياري به عداوتكم والصبر على أذاكم واحتمالي هذه المكاره العظيمة .
بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم وتصفوني بالأمانة وتسموني " الأمين " وتفضلوني على غيري ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان وأني لا أختار لأحد منكم سوءا ولا أريد أن أصيب أحدا بشر .
فاختياري للبراءة مما تعبدون وإظهاري لسبهم وشتمهم . أهو سدى ليس له موجب أوجبه ؟ فانظروا في ذلك . ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته مع ما فيها من كمال البراءة منهم .
ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها .
وقوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } يبين أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه . وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان .
_ أحدهما وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره وهو معنى قول أكثر السلف أن النفس هي التي سفهت . فإن " سفه " فعل لازم لا يتعدى لكن المعنى : إلا من كان سفيها فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة كقوله { واشتعل الرأس شيبا } .
_ وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا . قال الفراء : نصب النفس على التشبيه بالتفسير كما يقال : ضقت بالأمر ذرعا معناه : ضاق ذرعي به . ومثله { واشتعل الرأس شيبا } أي اشتعل الشيب في الرأس . قال : ومنه قوله : ألم فلان رأسه ووجع بطنه ورشد أمره . وكان الأصل : سفهت نفس زيد ورشد أمره فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز .
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب . ومثله قوله : غبن فلان رأيه وبطر عيشه . ومثل هذا قوله { بطرت معيشتها } أي بطرت نفس المعيشة . وهذا معنى قول يمان بن رباب : حمق رأيه ونفسه وهو معنى قول ابن السائب : ضل من قبل نفسه وقول [ ص: 571 ] أبي روق : عجز رأيه عن نفسه .
_والبصريون لم يعرفوا ذلك .
فمنهم من قال : جهل نفسه كما قاله ابن كيسان والزجاج . قال : لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعلم خالقها .
وهذا الذي قالوه ضعيف . فإنه إن قيل إن المعنى صحيح فهو إنما قال ( سفه و " سفه " فعل لازم ليس بمتعد و " جهل " فعل متعد . وليس في كلام العرب " سفهت كذا " ألبتة بمعنى : جهلته .
بل قالوا : سفه بالضم سفاهة أي صار سفيها وسفه بالكسر أي حصل منه سفه كما قالوا في " فقه وفقه " .
ونقل بعضهم : سفهت الشرب إذا أكثرت منه . وهو يوافق ما حكاه الفراء أي صار شربه سفيها فسفه شربه لما جاوز الحد .
وقال الأخفش ويونس : نصب بإسقاط الخافض أي سفه في نفسه . وقولهم " بإسقاط الخافض " ليس هو أصلا فيعتبر به ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة فيتعدى الفعل بنفسه
. وإن كان مقيسا في بعض الصور . ف " سفه " ليس من هذا لا يقال : سفهت أمر الله ولا دين الإسلام بمعنى : جهلته أي سفهت فيه . وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمييز ما خص به . مثل نفسه أو شربه ونحو ذلك .
والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه .
قال أبو العالية : رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله وتركوا دين إبراهيم .
وكذلك قال قتادة : بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ .
فأما موسى والمسيح ومن اتبعهما فهم على ملة إبراهيم متبعون له وهو إمامهم .
وهذا معنى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } .
فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه . وقيل إنه عام قال الحسن البصري : كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقي .
وقال الربيع بن أنس : هم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه وكان محمد والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم .
وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله وليسوا على ملة إبراهيم .
فإن قيل : فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } .
فقد استثناه مما يعبدون فدل على أنهم كانوا يعبدون الله .
وكذلك قوله { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } واستثناه أيضا .
وفي المسند وغيره حديث { حصين الخزاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا حصين كم تعبد اليوم ؟ قال : سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء . قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء } .
قيل : هذا قول المشركين كما تقول اليهود والنصارى : نحن نعبد الله . فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا .
وأما قول الخليل ففيه قولان .
قال طائفة : إنه استثناء منقطع .
وقال عبد الرحمن بن زيد : كانوا يعبدون الله مع آلهتهم .
وعلى هذا فهذا لفظ مقيد . فإنه قال { ما تعبدون } . فسماه عبادة إذا عرف المراد لكن ليست هي العبادة التي هي عند الله عبادة .
فإنه كما قال تعالى : " { أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك } " . وهذا كقوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
سماه إيمانا مع التقييد وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلها آخر لا يدخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق . وقد قال { يؤمنون بالجبت والطاغوت } { فبشرهم بعذاب أليم } . فهذا مع التقييد . ومع الإطلاق فالإيمان هو الإيمان بالله والبشارة بالخير .
وقوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفي العبادة مطلقا ليس هو نفي لما قد يسمى عبادة مع التقييد .
والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال : إنه يعبد الله وغيره أو يعبده مشركا به . لا يقال : إنه يعبد مطلقا . والمعطل الذي لا يعبد شيئا شر منه .
والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة وعبادة المشرك ليست مقبولة .
ومما يوضح هذا قوله : { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } الآية . قالوا فيها { نعبد إلهك وإله آبائك } ثم قالوا : { إلها واحدا } .
فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين . فإن النكرة تبدل من المعرفة كما في قوله { لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة } فذكرت معرفة وموصوفة . كذلك قالوا { نعبد إلهك } فعرفوه ثم قالوا { إلها واحدا } فوصفوه . والبدل في حكم تكرير العامل أحيانا كما في قوله { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم }
فالتقدير : نعبد إلهك نعبد إلها واحدا ونحن له مسلمون . فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه وأنهم إنما يعبدون إلها واحدا .
فمن عبد إلهين لم يكن عابدا لإلهه وإله آبائه . وإنما يعبد إلهه من عبد إلها واحدا . ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدا له لكانت عبادته نوعين عبادة إشراك وعبادة إخلاص . وإذا كان كذلك لم يكن قوله { إلها واحدا } بدلا . لأن هذا كل من كل ليس هو بدل بعض من كل .
فعلم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلها واحدا . والوجه الثاني : قوله { إلها واحدا } نصب على الحال لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلها واحدا كقوله { وهو الحق مصدقا } وهو لا يكون إلا مصدقا .
ومنه { ملة إبراهيم حنيفا } { ويقتلون النبيين بغير حق } . فمن عبد معه غيره فما عبده إلها واحدا ومن أشرك به فما عبده .
وهو لا يكون إلا إلها واحدا . فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده .
فإن قيل : المشرك يجعل معه آلهة أخرى فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد قيل : هذا غلط منشؤه أن لفظ " الإله " يراد به المستحق للإلهية ويراد به ما اتخذه الناس إلها وإن لم يكن إلها في نفس الأمر بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم .
فتلك ليست في نفسها آلهة وإنما هي آلهة في أنفس العابدين . فإلهيتها أمر قدره المشركون وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقا للخارج كالذي يجعل من ليس بعالم عالما ومن ليس بحي حيا ومن ليس بصادق ولا عدل صادقا وعدلا فيقال : هذا عندك صادق وعادل وعالم وتلك اعتقادات غير مطابقة وأقوال كاذبة غير لائقة .
ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } .
وقال الخليل { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } .
وقال { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } أي أي شيء يتبع الذين يشركون ؟ وإنما يتبعون الظن والخرص وهو الحزر . هذا صواب وأن ما استفهامية .
وقد قيل إنها نافية وبعضهم لم يذكر غيره كأبي الفرج . وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع .
وقال هود { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } .
وإذا كانت إلهية ما سوى الله أمرا مختلقا يوجد في الذهن واللسان لا وجود له في الأعيان . وهو من باب الكذب والاعتقاد الباطل الذي ليس بمطابق . وما عند عابديها من الحب والخوف والرجاء لها تابع لذلك الاعتقاد الباطل .
كمن اعتقد في شخص أنه صادق فصدقه فيما يقول وبنى على إخباره أعمالا كثيرة .
فلما تبين كذبه ظهر فساد تلك الأعمال كأتباع مسيلمة والأسود وغيرهما من أصحاب الزوايا والترهات وما يشرعونه لأتباعهم مما لم يأذن به الله بخلاف الصادق والصدق .
ولهذا كانت كلمة التوحيد { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } . وقال في كلمة الشرك { كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } .
فليس [ لها ] أساس ثابت ولا فرع ثابت إذ كانت باطلة كأقوال الكاذبين وأعمالهم . بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها .
والشرك أعظم الظلم . { قال ابن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم . قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك } " .
فنفس تألههم لها وعبادتهم إياها وتعظيمها وحبها ودعائها واعتقادها آلهة والخبر عنها بأنها آلهة موجود كما كان اعتقاد الكذابين موجودا . وأما نفس اتصافها بالإلهية فمفقود كاتصاف مسيلمة بالنبوة .
فهنا حالان حال للعابد وحال للمعبود .
فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه .
وأما المعبودون فالرحمن له الإلهية وما سواه لا إلهية له بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرا ولا نفعا .
{ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } وهو في أصح القولين { سبيلا } بالتقرب بعبادته وذكره .
ولهذا قال بعدها { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده . وقد بسط هذا في موضع آخر .
فقوله { نعبد إلهك } { إلها واحدا } إذا قيل إنه منصوب على الحال فإما أن يكون حالا من الفاعل العابد أو من المفعول المعبود .
فالأول : نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه
والثاني نعبده في الحال اللازمة له وهو أنه إله واحد فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه .
فإن كان التقدير هذا الثاني امتنع أن يكون المشرك عابدا له فإنه لا يعبده في هذه الحال وهو سبحانه ليست له حال أخرى نعبده فيها . وإن كان التقدير الأول فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا .
لكن قوله { إلها واحدا } دليل على أنها حال من المعبود بخلاف ما إذا قيل : نعبده مخلصين له الدين فإن هذه حال من الفاعل .
ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرا كقوله { فاعبد الله مخلصا له الدين }
وقوله { قل الله أعبد مخلصا له ديني } . فهذا حال من الفاعل فإنه يكون تارة مخلصا وتارة مشركا .
وأما الرب تعالى فإنه لا يكون إلا إلها واحدا .
والحال وإن كانت صفة للمفعول فهي أيضا حال للفاعل . فإنهم قالوا : نعبده في هذه الحال . فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال . وبين أن قوله { نعبد إلهك وإله آبائك } . . . { إلها واحدا }
هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعا بالعابد والمعبود .
فإن العامل فيها المتعلق بها العبادة وهي فعل العابد والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود .
كما قيل في الجملة { ونحن له مسلمون } . قيل : هي واو العطف وقيل واو الحال أي نعبده في هذه الحال . قالوا : وهي حال من فاعل " نعبد " أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في " له " وهذا الترديد غلط إذ هي حال منهما جميعا . فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين وحال كونه معبودا إذ كونهم عابدين وكونه معبودا ليس مختصا بمقارنة أحدهما دون الآخر .
فالظرف والحال هنا كلمة وليست مفردا ولهذا اشتبه عليهم . فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا . فإذا قلت : ضربت زيدا قاعدا فالقعود حال للفاعل أو المفعول .
وإذا قلت : ضربته والناس قعود فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها كأنه قال : ضربته في زمان قعود الناس . فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول بخلاف ما إذا قلت : ضربته في حال قعودي أو قعوده فهذا يختلف .
والآية فيها { إلها واحدا } . فهذه حال من المعبود بلا ريب . فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلها واحدا وهذه لازمة له .
وإذا قيل المراد : في حال كونه معبودا واحدا لا نتخذ معه معبودا آخر فهذه حال ليست لازمة لكنه صفة للعابدين لا له .
قيل : هذا ليس فيه مدح له ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية . لكن فيها وصفهم فقط .
وأيضا فقوله { إلها واحدا } كقوله { وإلهكم إله واحد } فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب . فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم .
ولو أرادوا ذلك المعنى لقالوا : نعبده مخلصين له الدين . وهذا المعنى قد ذكروه في الجملة الثانية وهي قولهم { ونحن له مسلمون } لا سيما إذا جعلت حالا أي نعبده إلها واحدا في حال إسلامنا له .
وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له وخضوعهم واستسلامهم لأحكامه بخلاف غير المسلمين .
ولهذا قال آمرا للمؤمنين أن يقولوا { آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .
ثم قال { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } .
وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها .
فصل وهذا النزاع في قوله : { قل يا أيها الكافرون } هل هو خطاب لجنس الكفار كما قاله الأكثرون أو لمن علم أنه يموت كافرا كما قاله بعضهم يتعلق بمسمى " الكافر " ومسمى " المؤمن " .
فطائفة تقول : هذا إنما يتناول من وافى القيامة بالإيمان . فاسم المؤمن عندهم إنما هو لمن مات مؤمنا . فأما من آمن ثم ارتد فذاك ليس عندهم بإيمان .
وهذا اختيار الأشعري وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم . وهكذا يقال : الكافر [ من ] مات كافرا .
وهؤلاء يقولون : إن حب الله وبغضه ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط . فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنا . ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة . ويقولون : إن عمر حال كفره كان وليا لله .
وهذا القول معروف عن ابن كلاب ومن تبعه كالأشعري وغيره .
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا فيقولون : بل قد يكون الرجل عدوا لله ثم يصير وليا لله ويكون الله يبغضه ثم يحبه . وهذا مذهب الفقهاء والعامة . وهو قول المعتزلة والكرامية والحنفية قاطبة وقدماء المالكية والشافعية والحنبلية .
وعلى هذا يدل القرآن كقوله { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } { وإن تشكروا يرضه لكم } . وقوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } فوصفهم بكفر بعد إيمان وإيمان بعد كفر .
وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف . وقال { فلما آسفونا انتقمنا منهم } وقال { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } .
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة : تقول الأنبياء : " { إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله } " .
وفي دعاء الحجاج عند الملتزم عن ابن عباس وغيره : " فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن فارض عني " .
وبعضهم حذف " فارض عني فظن بعض الفقهاء أنه " فمن الآن " أنه من " المن " . وهو تصحيف .
وإنما هو من حروف الجر كما في تمام الكلام وإلا فمن الآن فارض عني .
فبين أنه يزداد رضا وأنه يرضى في وقت محدود . وشواهد هذا كثيرة . وهو مبسوط في مواضع .
فصل ونظير القول في { قل يا أيها الكافرون } القولان في قوله { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فإن للناس في هذه الآية قولين .
_ أحدهما : أنها خاصة بمن يموت كافرا . وهذا منقول عن مقاتل كما قال في قوله { قل يا أيها الكافرون } . وكذلك نقل عن الضحاك . قالا : نزلت في مشركي العرب كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب ممن لم يسلم . وقال الضحاك : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته .
وطائفة من المفسرين لم يذكروا غير هذا القول كالثعلبي والبغوي وابن الجوزي . قال البغوي : هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله .
وقال ابن الجوزي قال شيخنا علي بن عبيد الله :
وهذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص لأنها آذنت بأن الكفار حين إنذارهم لا يؤمنون وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم .
ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله بخلاف مخبره فلذلك وجب نقلها إلى الخصوص .
_ والقول الثاني : أن الآية على مقتضاها والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافرا لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه كما قيل مثل ذلك في الآيات أنها غير موجبة للإيمان . وقد جمع بينهما في قوله { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } .
فالآيات أفقية وأرضية وقرآنية وهي أدلة العلم . والإنذار يقتضي الخوف .
فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به فهذا تنفعه الحكمة . والإنذار لمن يعرف الحق وله هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه وهو خوف العذاب . وهذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة . وآخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل فيجادل بالتي هي أحسن .
وقد قال تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } وقال { إنما أنت منذر من يخشاها } { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } .
فالمراد أن الكافر ما دام كافرا لا يقبل الحق سواء أنذر أم لم ينذر ولا يؤمن ما دام كذلك .
لأن على قلبه وسمعه وبصره موانع تصد عن الفهم والقبول . وهكذا حال من غلب عليه هواه .
وهو سبحانه لم يقل " إنهم لا يؤمنون " .
وقيل ذلك لمن سبقت عليه الشقوة أو حقت عليه الكلمة كقوله { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } { ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } فبين أن هؤلاء لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم إيمانهم وقت رؤية العذاب الأليم كإيمان فرعون المذكور قبلها .
وموسى قد دعا عليه فقال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } { قال قد أجيبت دعوتكما } .
وأما إذا أطلق سبحانه الكفار فهو مثل قوله { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } الآية . فبين أنهم قد يؤمنوا إذا شاء .
وآية البقرة مطلقة عامة . فإنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين .
وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في المنافقين .
فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحجب التي على قلبه وسمعه وبصره . وليس قال : إن الله لا يهدي أحدا من هؤلاء فيسمع ويقبل . ولكن هو حين يكون كافرا لا تتناوله الآية .
وهذا كما يقال في الكافر الحربي : لا يجوز أن تعقد له الذمة ولا يكون قط من أهل دار الإسلام ما دام حربيا .
فالكفار ما داموا كفارا هم بهذه المثابة . لهم موانع تمنعهم من الإيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك وإن أنذروا .
وهذا كقوله { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فهذا مثل كل كافر ما دام كافرا .
وذلك لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون [ إذا زال الغطاء الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فإنهم لا يسمعون ] لذلك المعنى المشتق منه وهو الكفر . فما داموا هذه حالهم فهم كذلك ولكن تغير الحال ممكن كما قال { إلا أن يشاء الله } وكما هو الواقع .
ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى ولو كان أكمل الناس وأن الداعي وإن كان صالحا ناصحا مخلصا فقد لا يستجيب المدعو لا لنقص في الدعاء لكن لفساد في المدعو .
وهذا لأن حصول المطلوب متوقف على فعل الفاعل وقبول القابل كالسيف القاطع يؤثر بشرط قبول المحل فيه لا يقطع الحجارة والحديد ونحو ذلك . والنفخ يؤثر إذا كان هناك قابل لا يؤثر في الرماد .
والدعاء والتعليم والإرشاد . وكل ما كان من هذا الجنس له فاعل وهو المتكلم بالعلم والهدى والنذارة وله قابل وهو المستمع . فإذا كان المستمع قابلا حصل الإنذار التام والتعليم التام والهدى التام . وإن لم يكن قابلا قيل : علمته فلم يتعلم وهديته فلم يهتد وخاطبته فلم يصغ ونحو ذلك .
فقوله في القرآن { هدى للمتقين } هو من هذا . إنما يهتدي من يقبل الاهتداء وهم المتقون لا كل أحد . وليس المراد أنهم كانوا متقين قبل اهتدائهم بل قد يكونوا كفارا . لكن إنما يهتدي به من كان متقيا . فمن اتقى الله اهتدى بالقرآن . والعلم والإنذار إنما يكون بما أمر به القرآن .
وهكذا قوله { لينذر من كان حيا } الإنذار التام فإن الحي يقبله . ولهذا قال { ويحق القول على الكافرين } فهم لم يقبلوا الإنذار .
ومثله قوله { إنما أنت منذر من يخشاها } .
وعكسه قوله { وما يضل به إلا الفاسقين } أي كل من ضل به فهو فاسق . فهو ذم لمن يضل به فإنه فاسق . ليس أنه كان فاسقا قبل ذلك .
ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص في الخوارج وسماهم " فاسقين " لأنهم ضلوا بالقرآن . فمن ضل بالقرآن فهو فاسق .
فقوله { إن الذين كفروا } من هذا الباب . والتقدير : من ختم على قلبه وجعل على سمعه وبصره غشاوة فسواء عليك أنذرته أم لم تنذره هو لا يؤمن أي ما دام كذلك .
ولكن هذا قد يزول وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك " المتوكل " لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق .
ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر . ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح [ به ] أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا .
وقد قال { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } فدل على أن بعضهم يؤمنون .
ثم قال { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } إلى قوله { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } فهذا هو الإنذار التام وهو الإنذار الذي يقبله المنذر وينتفع به .
وقوله { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } هو أصل الإنذار كما يقال في البليد والمشغول الذهن بأمور الدنيا والشهوات : سواء عليك أعلمته أم لم تعلمه لا يتعلم ولا يقبل الهدى ويقال في الذكي الفارغ : إنما يتعلم مثل هذا . ثم المشغول قد يتفرغ . وقد يصلح ذهن بعد فساده ويفسد بعد صلاحه لفساد قلبه وصلاحه .
وعلى هذا القول أكثر تفسير السلف كما ذكره ابن إسحاق وقد رواه ابن أبي حاتم وغيره . قال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس : { إن الذين كفروا } أي بما أنزل إليك وإن قالوا : إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }
أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك . فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ؟ فقد تبين أنهم لا يسمعون الإنذار لكفرهم بما عندهم وما جاءهم من الحق . ومعلوم أن منهم خلقا تابوا بعد ذلك وآمنوا .
وروي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : آيتان في قادة الأحزاب { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } .
قال : هم الذين ذكرهم الله في هذه الآية { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } .
( قلت : جعلهم قادة الأحزاب لكونهم أضلوا الأتباع فأحلوهم دار البوار . والأحزاب يوم الخندق قد أسلم عامة قادتها وحسن إسلامهم مثل عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأبي سفيان . وهؤلاء أسلم منهم من أسلم عام الفتح وهم الطلقاء . ومنهم من أسلم قبل ذلك . والحزب الآخر غطفان وقد أسلموا أيضا .
والآية لا بد أن تتناول كفار أهل الكتاب كما قال ابن إسحاق فإن السورة مدنية وإن تناولت مع ذلك المشركين . فهي تعم كل كافر .
ومقاتل والضحاك يخصها ببعض مشركي العرب .
وابن السائب يقول : هي إنما نزلت في اليهود منهم حيي بن أخطب .
وكذلك ما ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس أنها في اليهود .
وأبو العالية يقول : إنها نزلت في قادة الأحزاب .
والآية تعم هؤلاء كلهم وغيرهم كما أن آيات المؤمنين والمنافقين كان سبب نزولها [ المؤمنين والمنافقين الموجودين وقت النزول وهي تعمهم ] وغيرهم من المؤمنين والمنافقين إلى قيام الساعة .
والمقصود أن قوله { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } كقوله { فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } وقوله { أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } { ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } .
وكل هذا فيه بيان أن مجرد دعائك وتبليغك وحرصك على هداهم ليس موجب ذلك وإنما يحصل ذلك إذا شاء الله هداهم فشرح صدورهم للإسلام كما قال تعالى { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } ففيه تعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم وبينت الآية له أن تبليغك وإن لم يهتدوا به ففيه مصالح عظيمة غير ذلك .
وفيه بيان أن الهدى هدى الله . ف { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقد قال له { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } . ففيه تقرير التوحيد وتقرير مقصود الرسالة .
وهو سبحانه أخبر عمن لا يؤمن فقال { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } { ولو جاءتهم كل آية } . وقال { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } " ثم قال { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } . فخص في هذه الآية وفي تلك { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك } . وهم الذين حق عليهم القول أي حق عليهم ما قاله الله سبحانه وكتبه وقدره . فجعل الموجب هو التقدير السابق وهو قوله .
والقول وإن كان قد يكون خبرا مجردا بما سيكون وقد يكون قولا يتضمن أشياء كاليمين المتضمنة للحض والمنع . فقد ذكر في مواضع تقدم اليمين كقوله { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني } ونحو ذلك .
فهو خبر عما قاله أو قاله وكتبه .
وهو التقدير الذي يتضمن أنه قدر ما يفعله وعلمه وكتبه كما تظاهرت النصوص بأن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة . والقدر تضمن علمه بما سيكون ومشيئته لوجود ما قدره وعلم أن سيخلقه .
والقول قد يكون خبرا وقد يكون فيه معنى الطلب الحض والمنع بالقسم وإما لكتابته على نفسه كقوله { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقوله { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وقوله " { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } " .
وأما قوله { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } فهذا مختص بالكفار . وهو الوعيد المتضمن الجزاء على الأعمال كما قال تعالى لإبليس { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } .
وقوله { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } أي إن عذابهم له أجل مسمى إما يوم القيامة وإما في الدنيا كيوم بدر وإما عقب الموت وقد ذكر في الآية الأقوال الثلاثة . فلولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان العذاب لزاما أي لازما لهم . فإن المقتضي له قائم تام وهو كفرهم .
وأما إذا أطلق القول على الكفار من غير تقييد فإنه لا يريد من [ لا ] يؤمن منهم . فإن اللفظ لا يدل على ذلك ألبتة .
وأيضا فإن هذا لا فائدة فيه إذ كان أولئك غير معروفين وإنما هم طائفة قد حق عليهم القول وهم لا يتميزون من غيرهم . بل هو مأمور بإنذار الجميع وفيهم من يؤمن ومن لا يؤمن . فذكر اللفظ العام ; وإرادة أولئك دون غيرهم ليس فيه بيان للمراد الخاص .
وذكر المعنى الذي أوجب أنهم لا يؤمنون قط ولا فيه تعليق الحكم بالمعنى العام . وكلام الله تعالى يصان عن مثل ذلك .
وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار سواء كان كافرا أو منافقا أو فاسقا أو غير ذلك لسبب يوجب ذلك فيمتنع قبول الإنذار بسبب الموانع . ولكن هذه الموانع قد تزول فإنها ليست لازمة لكل كافر .
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدا كما قال { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } { ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } .
وقد يذكر هذا وهذا .
وأما إذا اقتصر على ذكر الموانع التي فيهم ولم يذكر ما سبق من القول فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن ما لم يذكر معها ما يقتضي امتناع تغير حالهم
وحصول الهدى .
فصل { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } . جاء الخطاب فيها بـ " ما " ولم يجئ بـ " من " فقيل : { لا أعبد ما تعبدون } لم يقل " لا أعبد من تعبدون " لأن " من " لمن يعلم والأصنام لا تعلم .
[ وهذا القول ضعيف جدا ] فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس ومن لم يعلم . وعند الاجتماع تغلب صيغة أولي العلم كما في قوله { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع } .
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته كما في قوله { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها } الآية فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر وهو لأولي العلم .
وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث كما تقول : الأموال جمعتها والحجارة قذفتها .
ف " ما " هي لما لا يعلم ولصفات من يعلم . ولهذا تكون للجنس العام لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته كما قال { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }
أي الذي طاب والطيب من النساء . فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب وقصد هذه الصفة دون مجرد العين عبر بـ " ما " .
ولو عبر بـ " من " كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة كما إذا قلت : جاءني من يعرف ومن كان أمس في المسجد ومن فعل كذا ونحو ذلك . فالمقصود الإخبار عن عينه والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت .
ومنه قوله { والسماء وما بناها } { والأرض وما طحاها } { ونفس وما سواها } على القول الصحيح إنها اسم موصول والمعنى : وبانيها وطاحيها ومسويها [ و ] لما قال { قد أفلح من زكاها } { وقد خاب من دساها } أخبر بـ " من "
لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا .
فالقسم هناك بالموصوف بحيث إنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة لازمة .
فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها ولا مطحية إلا بطاحيها ولا مسواة إلا بمسويها . وأما المرء المزكي نفسه والمدسيها فقد انقضى عمله في الدنيا وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمين لذلك العمل .
ونحو هذا قوله { وما خلق الذكر والأنثى } . ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله { وما رب العالمين } كما يستفهم على وجه بها في قوله { ماذا تعبدون } .
وأما قوله { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد .
فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة .
وأما فرعون فكان منكرا للموصوف المسمى فاستفهم بصيغة " ما " لأنه لم يكن مقرا به طالبا لتعيينه . ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى { رب السماوات والأرض } وبقوله { ربكم ورب آبائكم الأولين } فأجاب أيضا بالصفة . وهناك قال { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره . وكذلك قوله { قل لمن الأرض ومن فيها } إلى تمام الآيات .
فقوله { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } يقتضي تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم . لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه لأن كل من كان كافرا لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن . إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنا لا كافرا . وذلك يتضمن أمورا ؟!
_أحدها : أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله .
_الثاني : أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع وهو لا يعبد المجموع لا يعبد إلا الله وحده . فيعبده على وجه إخلاص الدين له لا على وجه الشرك بينه وبين غيره .
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } وقوله { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
بأن يقال : هنا نفي عبادة المجموع وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله . والخليل تبرأ من المجموع وذلك يقتضي البراءة من كل واحد فاستثنى . أو يقال : الخليل تبرأ من جميع المعبودين من الجميع فوجب أن يستثنى رب العالمين . ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } لم يحتج إلى استثناء آخر .
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون لا من نفس ما يعبدون . وهو بريء منهم ومن عبادتهم ومما يعبدون
فإن ذلك كله باطل كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله : " { أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك } " .
فعبادة المشرك كلها باطلة لا يقال : نصيب الله منها حق والباقي باطل بخلاف معبودهم . فإن الله إله حق وما سواه آلهة باطلة . فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين . ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون فكان المنفي هو العبادة تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون .
_ الثالث : إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم لا عن عينه فهو لا يعبد شيئا من حيث هو معبودهم .
لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه . ولو قال " من تعبدون " لكان يقال : إلا رب العالمين لأن النفي واقع على عين المعبود . وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئا منه ومعاديا له حتى يحتاج إلى الاستثناء . بل هو تارك لعبادة ما يعبدون .
_وهذا يتبين بالوجه الرابع : وهو قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفى عنهم عبادة معبوده .
فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده . وكذلك هو إذا عبده مخلصا له الدين لم يكن عابدا معبودهم .
_الوجه الخامس : أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله وقصدوا عبادة الله معتقدين أن هذا هو الله كالذين عبدوا العجل والذين عبدوا المسيح والذين يعبدون الدجال والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم ومن عبد من هذه الأمة فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله .
فإذا قال { لا أعبد ما تعبدون } كان متبرئا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله .
_الوجه السادس : أنهم إذا وصفوا الله بما هو بريء منه كالصاحبة والولد والشريك وأنه فقير أو بخيل أو غير ذلك وعبدوه كذلك . فهو بريء من المعبود الذي لهؤلاء . فإن هذا ليس هو الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش ؟ يسبون مذمما وأنا محمد } " .
فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعا على من هو مذمم وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وذاك ليس هو الله .
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء .
_الوجه السابع : أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة .
وقس على هذا فلتتأمل هذه المعاني وتلخص وتهذب والله تعالى أعلم .
خواطر (الخلاصة) علي تفسير ابن تيمية :
_ في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} للناس في وجـه تـكرير البراءة مـن الجانبـين طـرق، حيث قـال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2-3]، ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 4-5]،
منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين، هل كرر الكلام للتوكيد،أو لنفي الحال والاستقبال؟ قال أبو الفرج: في تكرار الكلام قولان؛
أحدهما: إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة: التكرير في سورة الرحمن للتوكيد.
قال: وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز؛
لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد.
يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله! إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله؟ بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار. ويقول للمرسل المستعجل: اعجل، اعجل! والرامي: ارم، ارم!
قال الشاعر: كم نعمة كانت لكم وكم وكم؟ **
وقال الآخر: هل سألت جموع كنـ ** ــــدة يــوم ولــوا أيـــن أيـنا؟ وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛
لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا.
قال ابن قتيبة: فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قـدرته، جعـل كل كلمـة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل: ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وكنت صرورًا؟ أفتنكر هذا؟. قلت: قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ لتكرار الوقت.
وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة. قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يغزهم" وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة "قد، قد" ولعمار "سق، سق". فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء.
فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله. فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط.
وإنما في سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا. وهذا النمط أرفع من الأول. وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم. و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
وهو مع الفصل بينهما بجملة. وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك عريانًا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملًا فعرفتك؟ ونحو ذلك.
وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة.
وكذلك ما يقوله بعضهم: إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله: فألفي قولها كذبًا ومينًا فليس في القـرآن مـن هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]، وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]،
فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه. فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى. والضم أقوى من الكسر، والكسر أقوى من الفتح؛ ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل [الكره] و [الكَرْهُ].
فالكره هو الشيء المكروه، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ً} [البقرة: 216]، والكره المصدر، كقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]،
والشئ الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره. وكذلك [الذِّبْح] و[الذَّبْح]، فالذِّبح: المذبوح، كقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]،
والذَّبح: الفعل. والذبح: مذبوح، وهو جسد يذبح، فهو أكمل من نفس الفعل. قال أبو الفرج: والقول الثاني أن المعنى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في حالي هذه، {وَلَا أَنتُمْ} في حالكم هذه {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في ما استقبل، وكذلك {أَنتُمْ} فنفي عنهم في الحال والاستقبال. وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما ذكرناه عن مقاتل. فلا يكون حينئذ تكرار. قال: وهذا قول ثعلب، والزجاج. قلت: قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني.
فقالوا واللفظ للبغوي: معنى الآية: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال،ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال.
وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. قال: وقال أكثر أهل المعاني: نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم.
ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز. قلت: ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي وابن عطية.
قال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}،، أي: أبدًا ما حييت.
ثم جاء قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]،
أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك. قال: فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة. وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم. قلت:هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى زائد على التكرير.
لكن فيه نقص من جهة أخري.وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه. وهذا غلط، فإن قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول: هي براءة من الشرك. فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه. وأيضًا، فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر.
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه. ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان: إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين.
ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي.
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وقـد ذكر غيره هـذا عـن قريش مطلقًا، كما رواه عبـد بن حُمَيْد، عن وهْب بن مُنبِّه قـال: قـالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سـرك أن ندخـل في دينك عامًا وتدخـل في ديننا عـامًا، فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى ختمها. وعن ابن عباس، قالت قريش: يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة.
وعن قتادة قال: أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله: {يَا أَيُّهَا} وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال: كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة: برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة: أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم. وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة]. يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك. وبهـذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفـل عـن أبيه، عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال لـه"مجيء ما جاء بك؟. قـال: جئـت، يـا رسـول الله؛ لتعلمني شيئًا أقولـه عنـد منامي. قـال: إذا أخـذت مضجعك فاقرأ" {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك". رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسـرائيل مسـندًا.
ورواه عنـه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال: [عن أبي إسحاق، عن رجـل، عـن فروة بن نوفل ]، ولم يقل [عن أبيه].
قال الترمذي: وحديث زهير أشبه وأصح مـن حـديث شعبة. قال: وقـد روي هـذا الحـديث مـن غير هـذا الوجـه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل. قلت: وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "يا رسول الله، علمني كلامـًا أقوله عند منامي. قال: إنك لنا ظِئْر، اقرأ"{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "عند منامك، فإنها براءة من الشرك".
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك. فلو كان الخطاب لمن يمـوت على الشـرك، كـانت براءة مـن دين أولئك فقـط، لم تكـن براءة مـن الشـرك الذي يسلم صاحبـه فيما بعـد.
ومعلـوم أن المقصـود منها أن تكـون براءة مـن كل شرك اعتقادي وعملي. وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد. فدينه قبل الإسلام له كان، والمؤمنون بريئون منه، وإن غفره الله له بالتوبة منه، كما قال لنبيه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، فإنه بريء من معاصي أصحابه، وإن تابوا منها.
وهذا كقوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41].
وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مـالا فيكون أغني رجـل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه أي يسودوه فقالوا: هذا لك عندنا. يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح. قال "ما هي؟". قالوا: تعبد آلهتنا سنة ـ اللات والعزي ـ ونعبد إلهك سنة. قال "حتى أنظر ما يأتيني من ربي".
فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، إلى آخرها، وأنزل الله عليه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:64-66]. وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد. وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عَبَدَ غير الله.
وقوله في هذا الحديث "حتى أنظر ما يأتيني من ربي"، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه.
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به. وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان. فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك.
وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة.
ومن النقلة من يعين ناسـًا غير الذين عينهم غيره. منهم من يذكر أبا جهل
وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة
وطائفة، ومنهم من يذكر الوليد بن المغيرة
وطائفة. ومنهم من يقول: طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا.
ومنهم من يقول: طلبوا أن يستلم آلهتهم.
ومنهم من يقول: طلبوا الاشتراك،
كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال: حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله.
فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فأنزل الله السورة.
وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية. فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا. وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة. وقد أمـره الله بالبراءة من كل معبود سواه
وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26-28].
وقال الخليل أيضًا: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78-79]،
وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقال لنبيه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]. فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه، وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب.
وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرين. فقال: الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا. فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى موضع واحد منها.
فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى. بل معنى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}: في الحال. {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الحال. {وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً} في الاستقبال. {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في الاستقبال. قال: فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله:{لَا أَعْبُدُ}، وما بعده، {وَلَا أَنَا}. وتكرر {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في اللفظ دون المعنى.
قال: وقيل إن معنى الأول: ولا أنتم عابدون ما عبدت،
ومعنى الثاني: ولا أنتم عابدون ما أعبد. فعدل عن لفظ [عبدتُ] للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر.
وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى. ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدرًا،
وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام. فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به. فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم.فهو في الثاني مصدر. وكذلك: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هو في الثاني مصدر أيضًا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد.
قلت: القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} معنيين؛
أحدهما: بمعنى [ما عبدت]، والآخر: بمعنى [ما أعبد] ليطابق قوله لهم: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}. فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال.
لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي.
قال هؤلاء: وإنما لم يقل في حقه: [ما عبدت]، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل. قلت: أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم. لكن إذا أريد بـقولـه: {مَّا عَبَدتُّمْ} مـا أريـد بقوله: {مَا أَعْبُدُ} في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه: لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي.
فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل.
وكذلك إذا قيل: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، أي: في الماضي. فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفي عبادة ما عبدوه في الماضي.
وهذا أنقص لمعنى الآية. وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط؟ وكذلك هم؟.
وإن قيل: في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل: فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء! ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضي.
وإن قيل: قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل: ولفظ الآية {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}، ليس لفظها [ولا أنا عابد ما تعبدون]. فقوله: {مَّا عَبَدتُّمْ}، إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء، فسد المعنى.
وإن أريد به المستقبل، بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، فإن الماضي هنا بمعنى المضارع. فإذا كان المضارع مطابقًا له بقي مضارعًا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود.
والقـول الرابـع الذي ذكـره قـول مـن جعـل [ما] مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى. وهـذا أيضًا ليس في الكــلام مـا يــدل على الفـرق بينهما.
وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه [ما] المصدرية حاصل بقوله [ما]. فإنه لم يقل: [ولا أنتم عابدون من أعبد]، بل قال: {مَا أَعْبُدُ} ولفظ [ما] يدل على الصفة بخلاف [من]. فإنه يدل على العين، كقوله:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الطيب، {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، أي: وبانيها.
ونظيره قوله: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ} [البقرة:133]،
ولم يقل: [من تعبدون من بعدي]. وهذا نظير قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} سواء. فالمعنى: لا أعبد معبودكم، ولا أنتم عابدون معبودي.
فقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،، يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له.
وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص. بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات. فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه.
وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة. وهؤلاء لا يتبرأ منهم. فكل من عبد الله مخلصًا له الن فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه.
فلو قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته. وإنما البراءة من المعبود وعبادته.
مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
............. ....................
تفسير سورة الكافرون لابن القيم :
«ما» على بابها لأنها واقعة على معبوده صلّى الله عليه وسلّم على الإطلاق؟
لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به. فقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي لا أنتم تعبدون معبودي. ومعبوده هو كان صلّى الله عليه وسلّم عارفا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.
وقال آخرون: إن «ما» هنا مصدرية. لا موصولة، أي لا تعبدون عبادتي. ويلزم من تبرئتهم من عبادته تبرئتهم من المعبود؟!
لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشيء.
إذ المقصود: براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود المعبود لا العبادة.
وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلّى الله عليه وسلّم حسدا له، وأنفة من أتباعه.
فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباعه صلّى الله عليه وسلّم
وحرصا على مخالفته في العبادة. وعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ «ما» لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
وقيل في ذلك وجه رابع،
وهو: قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ وفَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ فكذلك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ومعبودهم لا يعقل. ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ فاستوى اللفظان، وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في الأفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا «من» كقوله قل أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ؟
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ؟ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ؟ إلى أمثال ذلك.
وعندي فيه وجه خامس، أقرب من هذا وهو: أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى ب «ما» الدالة على هذا المعنى.
كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق.
ولو أتى بلفظة «من» لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة.
ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد، وبين أن يكون تعريفا محضا أو وصفا مقتضيا لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدا. وهذا معنى قوله النحاة:
إن «ما» تأتي لصفات من يعلم.
ونظيره فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لما كان المراد الوصف، وأن السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح، وقصده- وهو الطيب- فتنكح المرأة الموصوفة به: أتى ب «ما» دون «من» ، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.وإذا قد أفضى الكلام بنا إلى هنا،
_ فلنذكر فائدة ثانية على ذلك، وهي تكرير الأفعال في هذه السورة.
_ثم فائدة ثالثة، وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين، وأتى في حقهم بالماضي.
_ثم فائدة رابعة، وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل، وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.
_ثم فائدة خامسة: وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا» دون «لن» .
_ثم فائدة سادسة، وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد.
والنفي المحض ليس بتوحيد. وكذلك الإثبات بدون النفي. فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله» .
فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض، وما سر ذلك؟.
_وفائدة سابعة، وهي: ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟.
_وفائدة ثامنة، وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ ولم يجيء:
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟.
[[سورة الكافرون (109) : آية 6]]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
_وفائدة تاسعة، وهي: أن في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ معنى زائد على النفي المتقدم، فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده، وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟.
_وفائدة عاشرة، وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص، وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة
_وفائدة حادية عشرة، وهي: أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار:
أحدهما: براءته من معبودهم، وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدا.
الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم.
فهل هذا متاركة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف، أو التخصيص ببعض الكفار، أم الآية باقية على عمومها وحكمها، غير منسوخة ولا مخصوصة؟.
فهذه عشر مسائل في هذه السورة. فقد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهي وقوع «ما» فيها بدل «من» .
فلنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.
فأما المسألة الثانية، وهي: فائدة تكرار الأفعال؟
فقيل فيها وجوه:
أحدها:
أن قوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفى للحال والمستقبل، وقوله: أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابله، أي لا تفعلون ذلك. وقوله:
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال «ما عبدتم» فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابله، أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما.
وعلى هذا فلا تكرار أصلا. وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأخصره وأبينه، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها. فلنقتصر عليه ولا نتعداه إلى غيره. فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها، فعليك بها.
وأما المسألة الثالثة، وهي: تكرير الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.
ففي ذلك سر، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله لنبيه عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده الحق واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلا، ولا يبغي عنه حولا، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم. فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا، وغدا غيره.
فقال: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ يعني الآن وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي الآن أيضا.
ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون، وأشبهت «ما» هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط، وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها وهي موصولة. فما أبعد الشرط منها؟.
قلنا: لم نقل: إنها نفسها شرط، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته. فإذا قلت لرجل مّا- تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام: مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله؟.
وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى: قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟ كيف تجد معنى الشرطية فيه؟ حتى وقع الفعل بعد «من» بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى: من كان في المهد صبيا
كيف نكلمه؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين: أن «كان» نبيا. بمعنى «يكون» لكنهم لم يأتوا إليه من بابه، بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل، وعزب فهم غيرهم عن هذا، للطفه ودقته. فقالوا: «كان» زائدة.
والوجه ما أخبرتك به، فخذه عفوا، لك غنمه، وعلي غرمه. هل على «من» في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب،
ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره.
فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ بخلاف قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لبعد «ما» فيها عن معنى الشرط، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.
وأما المسألة الرابعة هي: أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل تارة وباسم الفاعل أخرى.
فذلك- والله أعلم- لحكمة بديعة؟!
وهي: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت. فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا لي.
فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل.
أي إن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه. وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك
يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي اعتزلتم معبوديهم، إلّا الله، فإنكم لم تعتزلوه. وكذا قال المشركون عن معبوديهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فهم كانوا يعبدون معه غيره، فلم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها.
فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وأنه عبده المستقيم على عبادته: إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدا في عبادته، وأنه إن عبده وأشرك معه غيره، فليس عابدا لله، ولا عبدا له.
وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده. فله الحمد والمنة.
وأما المسألة الخامسة، وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا» دون «لن» فلما تقدم تحقيقه عن قرب أن النفي «بلا» أبلغ منه «بلن» وأنها أدل على دوام النفي وطوله من «لن» وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن «لن» إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق، فالإتيان «بلا» متعين هنا. والله أعلم.
وأما المسألة السادسة، وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض، فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة البراءة من الشرك، كما جاء في وصفها: أنها براءة من الشرك. فمقصودها الأعظم:
هو البراءة المطلوبة. وهذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا. فقوله: لا
أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ
براءة محضة وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إثبات أن له معبودا يعبده وحده، وأنتم بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات، وطابقت قول إبراهيم إمام الحنفاء 43: 27 إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وطابقت قول الفئة الموحدة 18: 16 وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فانتظمت حقيقة «لا إله إلا الله» ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرنها بسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في سنة الفجر وسنة المغرب.
فإن هذين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح له إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع وَلَمْ يُولَدْ فيكون له أصل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فيكون له نظير. ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها.
فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلا وفرعا ونظيرا. فهذا توحيد العلم والاعتقاد.
والثاني:
توحيد القصد والإرادة وهو: ألا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود.
وسورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ مشتملة على هذا التوحيد.
فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يفتتح بهما النهار في سنة الفجر، ويختتمه بهما في سنة المغرب.
وفي السنن «أنه كان يوتر بهما»
فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار.
ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة. وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده فتأمله.
وأما المسألة الثامنة. وهي: إثباته هنا بلفظ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ دون
يا أيها الذين كفروا فسّره- والله أعلم- إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا له لازما لا يفارقه،
فهو حقيق أن يتبرأ الله منه، ويكون هو أيضا بريئا من الله، فحقيق بالموحد البراءة منه، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله، التي هي غاية الكفر،
وهو الكفر الثابت اللازم، في غاية المناسبة، فكأنه يقول:
كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة لي دائما أبدا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار في مقابلة الكفر الثابت المستمر. وهذا واضح.
وأما المسألة التاسعة. وهي: ما هي الفائدة في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم؟.
فيقال: في ذلك من الحكمة- والله أعلم- أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له: أن يعبد معبوديهم، وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له: لا تدخل في حدى، ولا أدخل في حدك، لك أرضك، ولي أرضي.
فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا، فأصابنا التوحيد والإيمان، فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم فيه، فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه.
وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب. رافلة في حللها، فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزفّ إلى ضرير مقعد، فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهي لها، ونسأله إتمام نعمته.
وأما المسألة العاشرة. وهي: تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه
ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم.
فهذا من أسرار الكلام، وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها، فإن السورة ما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضى كل بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وقد أبرز النصيبين وميّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، الذي لا أردأ منه ولا أدون، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء، فرضي مقاسمة بالسم، فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك، ولي قسمي.
فتقدم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقدم وزعمت أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم، فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم بهم، والنداء على سوء اختيارهم، وقبح ما رضوه لأنفسهم من الحسن والبيان، ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه، والحاكم في هذا هو الذوق. والفطن يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان.
ووجه ثان. وهو: أن مقصود السورة براءته صلّى الله عليه وسلّم من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبها ومغزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني، مكملا لبراءته ومحققا لها،
فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ مطابقا لهذا المعنى، أي لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه، بل هو دين باطل تختصون أنتم به ولا أشارككم فيه أبدا. فطابق آخر السورة أولها، فتأمل.
وأما المسألة الحادية عشرة. وهي:
أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه، هل هو إقرار؟ فيكون منسوخا، أولا نسخ في الآية ولا تخصيص؟.
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوها منسوخة بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير
لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة، وعمومها نص محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم.
ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: هو منسوخ.
وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار، وهم من لا كتاب لهم. فقالوا:هذا مخصوص بأهل الكتاب.
ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم، وعيب دينهم، وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد لهم كل وقت، وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم. وعيب دينهم، ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم،
فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل،
إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا، فإنه دين باطل، فهو مختص بكم، لا نشارككم فيه، ولا أنتم تشاركوننا في ديننا الحق. وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار؟ حتى يدعو النسخ أو التخصيص؟.
أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده.
وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل سنته وبين أهل
البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا. لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا: براءة منهم ومن بدعتهم. وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.
فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة، والنبذة المثيرة إلى عظمة هذه السورة، وجلالتها ومقصودها، وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه، بل هي استجلاء مما علمه الله وألهمه، بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، وبالغت في استحسانها. وعسى الله، المانّ بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين: أن يعين على تعليق تفسير على هذا النمط وهذا الأسلوب.
وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس. والله المرجو إتمام نعمته
........ .......... ......