سورة الماعون؛تفسير ابن كثير ،تفسير السعدي ،تفسير القرطبي ،تفسير الطبري ،تفسير البغوي ،تفسير الشوكاني،تفسير لابن عطية ،تفسير البيضاوي ،تفسير ابن الجوزي ،تفسير ابن تيمية ،تفسير ابن عثيمين،تفسير ابن الجزي ،تفسير الجلاليين ،المختصر في التفسير ،التفسير الميسر ..إعراب ..خواطر
سورة مكية
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
يقول تعالى : أرأيت - يا محمد - الذي يكذب بالدين ؟ وهو : المعاد والجزاء
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ولا يطعمه ولا يحسن إليه.
وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
يعني الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته.
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
ثم قال:
( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم
ساهون )
قال ابن عباس ،
وغيره : يعني المنافقين ، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر .
ولهذا قال : ( للمصلين )
أي : الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ،
كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا ، فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق وأبو الضحى
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
وقال عطاء بن دينار :والحمد لله الذي قال :
( عن صلاتهم ساهون )
ولم يقل : في صلاتهم ساهون .
وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا .وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به .وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل هذا كله ،
ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية . ومن اتصف بجميع ذلك ، فقد تم نصيبه منها ، وكمل له النفاق العملي . كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى ، كما ثبت به النص إلى آخر وقتها ، وهو وقت كراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب ، لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا ; ولهذا قال : " لا يذكر الله فيها إلا قليلا " .
ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ، لا ابتغاء وجه الله ، فهو إذا لم يصل بالكلية .
قال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) [ النساء : 142 ] .
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
وقال هاهنا : ( الذين هم يراءون )
وقال الطبراني :حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبدويه البغدادي ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن يونس ، عن الحسن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة ، أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد : لحامل كتاب الله ، وللمصدق في غير ذات الله ، وللحاج إلى بيت الله ، وللخارج في سبيل الله " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة قال : كنا جلوسا عند أبي عبيدة فذكروا الرياء ، فقال رجل يكنى بأبي يزيد : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من سمع الناس بعمله ، سمع الله به سامع خلقه ، وحقره وصغره " .
ورواه أيضا عن غندر ، ويحيى القطان ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن رجل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره .
ومما يتعلق بقوله تعالى : ( الذين هم يراءون ) أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس ، فأعجبه ذلك ، أن هذا لا يعد رياء ،
والدليل على ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا مخلد بن يزيد ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ،
عن أبي هريرة قال : كنت أصلي ، فدخل علي رجل ، فأعجبني ذلك ، فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كتب لك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية " .
قال أبو علي هارون بن معروف : بلغني أن ابن المبارك قال : نعم الحديث للمرائين .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وسعيد بن بشير متوسط ، وروايته عن الأعمش عزيزة ، وقد رواه غيره عنه .
قال أبو يعلى أيضا : حدثنا محمد بن المثنى بن موسى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي صالح ،
عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل يسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجر السر وأجر العلانية " .
وقد رواه الترمذي ، عن محمد بن المثنى . وابن ماجه ، عن بندار ، كلاهما عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي سنان الشيباني - واسمه :ضرار بن مرة . ثم قال الترمذي : غريب ، وقد رواه الأعمش وغيره . عن حبيب عن [ النبي صلى الله عليه وسلم ] مرسلا .
وقد قال أبو جعفر بن جرير : حدثني أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان النحوي ، عن جابر الجعفي ، حدثني رجل ، عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) قال : " الله أكبر ، هذا خير لكم من أن لو أعطي كل رجل منكم مثل جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه " .
فيه جابر الجعفي ، وهو ضعيف ، وشيخه مبهم لم يسم ، والله أعلم .
وقال ابن جرير أيضا : حدثني زكريا بن أبان المصري ، حدثنا عمرو بن طارق ، حدثنا عكرمة بن إبراهيم ، حدثني عبد الملك بن عمير ، عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون )
قال : " هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها " .
وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ، أو صلاتها بعد وقتها شرعا ، أو تأخيرها عن أول الوقت [ سهوا حتى ضاع ] الوقت .
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى ، عن شيبان بن فروخ ، عن عكرمة بن إبراهيم به . ثم رواه عن أبي الربيع ، عن جابر ، عن عاصم ، عن مصعب ، عن أبيه موقوفا ، وهذا أصح إسنادا ، وقد ضعف البيهقي رفعه ، وصحح وقفه ، وكذلك الحاكم .
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
وقوله : ( ويمنعون الماعون ) أي :
لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ورجوعه إليهم . فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى .
وقد قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قال علي : الماعون : الزكاة .
وكذا رواه السدي ، عن أبي صالح ، عن علي . وكذا روي من غير وجه عن ابن عمر . وبه يقول محمد بن الحنفية ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، وعطية العوفي ، والزهري ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد .
وقال الحسن البصري : إن صلى راءى ، وإن فاتته لم يأس عليها ، ويمنع زكاة ماله وفي لفظ : صدقة ماله .
وقال زيد بن أسلم : هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وضمنت الزكاة فمنعوها
.وقال الأعمش وشعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار : أن أبا العبيدين سأل عبد الله بن مسعود عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر ، [ والدلو ] .
[ وقال المسعودي ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي العبيدين : أنه سئل ابن مسعود عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم ، من الفأس والقدر ] والدلو ، وأشباه ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي العبيدين وسعد بن عياض ، عن عبد الله قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الماعون الدلو ، والفأس ، والقدر ، لا يستغنى عنهن .
وحدثنا خلاد بن أسلم ، أخبرنا النضر بن شميل ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت سعد بن عياض يحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الحارث بن سويد عن عبد الله أنه سئل عن الماعون ، فقال : ما يتعاوره الناس بينهم : الفأس والدلو وشبهه .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي الفلاس ، حدثنا أبو داود - هو الطيالسي - ، حدثنا أبو عوانة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : الماعون : منع الدلو وأشباه ذلك .
وقد رواه أبو داود والنسائي ، عن قتيبة ، عن أبي عوانة بإسناده نحوه ، ولفظ النسائي عن عبد الله قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : الماعون : العواري : القدر ، والميزان ، والدلو .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس : ( ويمنعون الماعون ) يعني : متاع البيت . وكذا قال مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وأبو مالك ، وغير واحد : إنها العارية للأمتعة .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد عن ابن عباس : ( ويمنعون الماعون ) قال : لم يجئ أهلها بعد .
وقال العوفي عن ابن عباس : ( ويمنعون الماعون ) قال : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون الزكاة . ومنهم من قال : يمنعون الطاعة .
ومنهم من قال : يمنعون العارية . رواه ابن جرير . ثم روي عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : الماعون : منع الناس الفأس ، والقدر ، والدلو .
وقال عكرمة : رأس الماعون زكاة المال ، وأدناه المنخل والدلو ، والإبرة . رواه ابن أبى حاتم .
وهذا الذي قاله عكرمة حسن ; فإنه يشمل الأقوال كلها ، وترجع كلها إلى شيء واحد . وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة . ولهذا قال محمد بن كعب : ( ويمنعون الماعون ) قال : المعروف . ولهذا جاء في الحديث : " كل معروف صدقة " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب عن الزهري : ( ويمنعون الماعون ) قال : بلسان قريش : المال .
وروى هاهنا حديثا غريبا عجيبا في إسناده ومتنه فقال :
حدثنا أبي وأبو زرعة ، قالا : حدثنا قيس بن حفص الدارمي ، حدثنا دلهم بن دهثم العجلي ، حدثنا عائذ بن ربيعة النميري ، حدثني قرة بن دعموص النميري : أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ما تعهد إلينا ؟ قال : " لا تمنعون الماعون " . قالوا : يا رسول الله ، وما الماعون ؟ قال : " في الحجر ، وفي الحديدة ، وفي الماء "
. قالوا : فأي حديدة ؟ قال : " قدوركم النحاس ، وحديد الفأس الذي تمتهنون به " . قالوا : وما الحجر ؟ قال : " قدوركم الحجارة " .
غريب جدا ، ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف ، والله أعلم .
وقد ذكر ابن الأثير في الصحابة ترجمة " علي النميري " ، فقال : روى ابن قانع بسنده إلى عائذ بن ربيعة بن قيس النميري ، عن علي بن فلان النميري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" المسلم أخو المسلم . إذا لقيه حياه بالسلام ، ويرد عليه ما هو خير منه ، لا يمنع الماعون " . قلت : يا رسول الله ، ما الماعون ؟ قال : " الحجر ، والحديد ، وأشباه ذلك " .
آخر تفسير سورة " الماعون " .
.... ....... .......
تفسير سورة الماعون للسعدي:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عبادة:
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ }
أي: بالبعث والجزاء، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل.
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
أي: يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا.
وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
{ وَلَا يَحُضُّ } غيره { عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
أي: الملتزمون لإقامة الصلاة، ولكنهم { عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
أي: مضيعون لها، تاركون لوقتها، مفوتون لأركانها وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات، والسهو عن الصلاة، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم وأما السهو في الصلاة، فهذا يقع من كل أحد، حتى من النبي صلى الله عليه وسلم.
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة، فقال: { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ }
أي يعملون الأعمال لأجل رئاء الناس.
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
أي: يمنعون إعطاء الشيء، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة، كالإناء، والدلو، والفأس، ونحو ذلك، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به .
فهؤلاء -لشدة حرصهم- يمنعون الماعون، فكيف بما هو أكثر منه.
وفي هذه السورة، الحث على إكرام اليتيم، والمساكين، والتحضيض على ذلك، ومراعاة الصلاة، والمحافظة عليها، وعلى الإخلاص [فيها و] في جميع الأعمال.
والحث على [فعل المعروف و] بذل الأموال الخفيفة، كعارية الإناء والدلو والكتاب، ونحو ذلك،
لأن الله ذم من لم يفعل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين.
... ..... ....... ...
تفسير سورة الماعون للقرطبي
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
تفسير سورة الماعون
وهي سبع آيات
وهي مكية في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس وغيره ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة
بسم الله الرحمن الرحيم
أرأيت الذي يكذب بالدين
قوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين أي بالجزاء والحساب في الآخرة ; وقد تقدم في ( الفاتحة ) .
وأرأيت بإثبات الهمزة الثانية ; إذ لا يقال في أرأيت : ريت ، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا ;
ذكره الزجاج . وفي الكلام حذف ;
والمعنى : أرأيت الذي يكذب بالدين : أمصيب هو أم مخطئ . واختلف فيمن نزل هذا فيه ; فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في العاص بن وائل السهمي ; وقاله الكلبي ومقاتل .
وروى الضحاك عنه قال : نزلت في رجل من المنافقين . وقال السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقيل في أبي جهل . الضحاك : في عمرو بن عائذ . قال ابن جريج : نزلت في أبي سفيان ، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فطلب منه يتيم شيئا ، فقرعه بعصاه ; فأنزل الله هذه السورة .
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
يدع أي يدفع ، كما قال : يدعون إلى نار جهنم دعا وقد تقدم .
وقال الضحاك عن ابن عباس : فذلك الذي يدع اليتيم أي يدفعه عن حقه . قتادة : يقهره ويظلمه .
والمعنى متقارب .
وقد تقدم في سورة ( النساء ) أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار ، ويقولون : إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ، ويضرب بالحسام .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة . وقد مضى هذا المعنى في غير موضع .
وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
قوله تعالى : ولا يحض على طعام المسكين لا يأمر به ، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء .
وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة : ولا يحض على طعام المسكين وقد تقدم .
وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا ، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم ، ويقولون : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ،
فنزلت هذه الآية فيهم ، وتوجه الذم إليهم . فيكون معنى الكلام : لا يفعلونه إن قدروا ، ولا يحثون عليه إن عسروا .
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
أي عذاب لهم .
وقد تقدم في غير موضع .
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
الذين هم عن صلاتهم ساهون فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا ، وإن تركها لم يخش عليها عقابا .
وعنه أيضا : الذين يؤخرونها عن أوقاتها . وكذا روى المغيرة عن إبراهيم ، قال : ساهون بإضاعة الوقت .
وعن أبي العالية : لا يصلونها لمواقيتها ، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها .
قلت : ويدل على هذا قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة حسب ما تقدم بيانه في سورة ( مريم ) عليها السلام .
وروي عن إبراهيم أيضا : أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا .
وقال قطرب : هو ألا يقرأ ولا يذكر الله . وفي قراءة عبد الله ( الذين هم عن صلاتهم لاهون ) .
وقال سعد بن أبي وقاص : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون - قال - : ( الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، تهاونا بها ) .
وعن ابن عباس أيضا : هم المنافقون يتركون الصلاة سرا ، يصلونها علانية وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى الآية . ويدل على أنها في المنافقين قوله : الذين هم يراءون ، وقال ابن وهب عن مالك .
قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين
وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم .
قال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قوله : عن صلاتهم ، وبين قولك : في صلاتهم ؟ قلت : معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك لها ، وقلة التفات إليها ، وذلك فعل المنافقين ، أو الفسقة الشطار من المسلمين . ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها ، بوسوسة شيطان ، أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع له السهو في صلاته ، فضلا عن غيره ;
ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم .
قال ابن العربي : لأن السلامة من السهو محال ، وقد سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته والصحابة : وكل من لا يسهو في صلاته ، فذلك رجل لا يتدبرها ، ولا يعقل قراءتها ، وإنما همه في أعدادها ; وهذا رجل يأكل القشور ، ويرمي اللب .
وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها ;
اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له : اذكر كذا ، اذكر كذا ; لما لم يكن يذكر ، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى .
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
قوله تعالى : الذين هم يراءون أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية ; كالفاسق ، يري أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال : إنه يصلي .
وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة ، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس .
وأولها تحسين السمت ; وهو من أجزاء النبوة ، ويريد بذلك الجاه والثناء .
وثانيها : الرياء بالثياب القصار والخشنة ; ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا .
وثالثها : الرياء بالقول ، بإظهار التسخط على أهل الدنيا ; وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة .
ورابعها : الرياء بإظهار الصلاة والصدقة ، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس ; وذلك يطول ، وهذا دليله ; قاله ابن العربي .
قلت : قد تقدم في سورة النساء وهود وآخر الكهف القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية . والحمد لله .
ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ; فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها ، لقوله - عليه السلام - :
ولا غمة في فرائض الله لأنها أعلام الإسلام ، وشعائر الدين ،
ولأن تاركها يستحق الذم والمقت ; فوجب إماطة التهمة بالإظهار ، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى ;
لأنه لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا .
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين ، فتثني عليه بالصلاح .
وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها ; فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك . وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة .
وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) عند قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات ، وفي غير موضع . والحمد لله على ذلك .
...... .......... ......
تفسير سورة الماعون للطبري
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
يعني تعالى ذكره بقوله: (أرأيت الذي يكذب بالدين) أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه, فلا يطيعه في أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ )
قال: الذي يكذّب بحكم الله عز وجلّ.
حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن جُرَيج ( يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) قال: بالحساب.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: " أرأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ الدِّينَ" فالباء في قراءته صلة, دخولها في الكلام وخروجها واحد.
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
وقوله: ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) يقول: فهذا الذي يكذِّب بالدين,
هو الذي يدفع اليتيم عن حقه, ويظلمه. يقال منه: دععت فلانًا عن حقه, فأنا أدعه دعًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال: يدفع حقّ اليتيم.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال: يدفع اليتيم فلا يُطعمه.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) : أي يقهره ويظلمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال: يقهره ويظلمه.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال: يقهره.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان في قوله: ( يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال: يدفعه.
وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
وقوله: ( وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) يقول تعالى ذكره: ولا يحثّ غيره على إطعام المحتاج من الطعام.
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
وقوله: ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)
يقول تعالى ذكره: فالوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم للمنافقين الذين يصلون, لا يريدون الله عز وجل بصلاتهم, وهم في صلاتهم ساهون إذا صلوها.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ )
فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك أنهم يؤخِّرونها عن وقتها, فلا يصلونها إلا بعد خروج وقتها.
_ ذكر من قال ذلك:
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا سكن بن نافع الباهلي, قال: ثنا شعبة, عن خلف بن حوشب, عن طلحة بن مُصَرّف, عن مصعب بن سعد, قال: قلت لأبي, أرأيت قول الله عزّ وجلّ : ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) :
أهي تركها؟ قال: لا ولكن تأخيرها عن وقتها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن هشام الدستوائي, قال: ثنا عاصم بن بهدلة، عن مصعب بن سعد, قال: قلت لسعد: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) :
أهو ما يحدّث به أحدنا نفسه في صلاته؟ قال: لا ولكن السهو أن يؤخِّرها عن وقتها.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن عاصم, عن مصعب بن سعد ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: السهو: الترك عن الوقت.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عمران بن تمام البناني, قال: ثنا أبو جمرة الضبعي نصر بن عمران, عن ابن عباس, في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: الذين يؤخِّرونها عن وقتها.
وحدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب, عن جعفر, عن ابن أبزي ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: الذين يؤخِّرون الصلاة المكتوبة, حتى تخرج من الوقت أو عن وقتها.
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى عن مسروق ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: الترك لوقتها.
حدثني أبو السائب, قال: ثني أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: تضييع ميقاتها.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: ترك المكتوبة لوقتها.
حدثنا ابن البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: ثنا يحيى بن أيوب, قال: أخبرني ابن زحر, عن الأعمش, عن مسلم بن صبيح ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) الذين يضيعونها عن وقتها.
وقال آخرون: بل عني بذلك أنهم يتركونها فلا يصلونها.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)
فهم المنافقون كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا, ويتركونها إذا غابوا, ويمنعونهم العارية بغضا لهم, وهو الماعون.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ, ويصلون في العلانية.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: الترك لها.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنهم يتهاونون بها, ويتغافلون عنها ويلهون.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: (
عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: لاهون.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) : غافلون.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: ساهٍ عنها, لا يبالي صلى أم لم يصلّ.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) يصلون, وليست الصلاة من شأنهم.
حدثني أبو السائب, قال: ثنا ابن فضيل, عن ليث, عن مجاهد, في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: يتهاونون.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله: (ساهُونَ) : لاهون يتغافلون عنها، وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها, تضييعها أحيانا, وتضييع وقتها أخرى، وإذا كان ذلك كذلك صح بذلك قول من قال: عُنِيَ بذلك ترك وقتها, وقول من قال: عُنِيَ به تركها لما ذكرتُ من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت.
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبران يؤيدان صحة ما قلنا في ذلك:
أحدهما: ما حدثني به زكريا بن أبان المصري, قال: ثنا عمرو بن طارق, قال: ثنا عكرمة بن إبراهيم, قال: ثنا عبد الملك بن عمير, عن مصعب بن سعد, عن سعد بن أبي وقاص, قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم, عن ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: هم الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها.
والآخر منهما: ما حدثني به أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن شيبان النحوي, عن جابر الجعفي, قال: ثني رجل, عن أبي برزة الأسلميّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما نـزلت هذه الآية:
( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) : الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطي كلّ رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه ".
حدثني أبو عبد الرحيم البرقي, قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ )
وكلا المعنيين اللذين ذكرت في الخبرين اللذين روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتمل عن معنى السهو عن الصلاة.
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
وقوله: ( الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ) يقول:
الذين هم يراءون الناس بصلاتهم إذا صلوا, لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب, ولا رهبة من عقاب, وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنونهم منهم, فيكفون عن سفك دمائهم, وسبي ذراريهم, وهم المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, يستبطنون الكفر, ويُظهرون الإسلام,
كذلك قال أهل التأويل.
_ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عامر ومؤمل, قالا ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال: هم المنافقون.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني يونس, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ( يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)
قال: يراءون بصلاتهم.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) يعني المنافقين.
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: هم المنافقون، كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا, ويتركونها إذا غابوا.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني ابن زيد: ويصلون- وليس الصلاة من شأنهم- رياءً.
..... ........ ......
تفسير سورة الماعون للبغوي
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
مكية
( أرأيت الذي يكذب بالدين ) قال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي وقال السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان : في الوليد بن المغيرة .
قال الضحاك : في [ عمرو ] بن عائذ المخزومي .
وقال عطاء عن ابن عباس : في رجل من المنافقين .
ومعنى " يكذب بالدين " أي بالجزاء والحساب .
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
"فذلك الذي يدع اليتيم"، يقهره ويدفعه عن حقه، والدع: الدفع بالعنف والجفوة.
وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
"ولا يحض على طعام المسكين"، لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه، لأنه يكذب بالجزاء.
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
"فويل للمصلين".
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
"الذين هم عن صلاتهم ساهون"، [ أي : عن مواقيتها غافلون ] .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمام الضبي ، حدثنا حرمي بن حفص [ القسملي ] حدثنا عكرمة بن إبراهيم الأزدي ، حدثنا [ عبد الملك ] بن عمير عن مصعب بن [ سعد ] عن أبيه أنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن " الذين هم عن صلاتهم ساهون " ، قال : " إضاعة الوقت " .
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
قال ابن عباس : هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ، ويصلونها في العلانية إذا حضروا لقوله تعالى : ( الذين هم يراءون )
وقال في وصف المنافقين : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ( النساء - 142 ) .
وقال قتادة : ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل .
وقيل : لا يرجون لها ثوابا إن صلوا ولا يخافون عقابا إن تركوا .
وقال مجاهد : غافلون عنها يتهاونون بها .
وقال الحسن : هو الذي إن صلاها صلاها رياء ، وإن فاتته لم يندم .
وقال أبو العالية : لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمون ركوعها وسجودها .
......... ........... ..........
تفسير سورة الماعون لابن عطية
هذا توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من يعرفه بهذه الصفة، وهمز أبو عمرو: {أرأيت} بخلاف عنه ولم يهمزها نافع وغيره،
و{الدين} الجزاء ثواباً وعقاباً، والحساب هنا قريب من الجزاء ثم قال تعالى: {فذلك الذي يدعُّ اليتيم}
أي :ارقب فيه هذه الخلال السيئة تجدها،
ودع اليتيم: دفعه بعنف، وذلك :
_إما أن يكون المعنى عن إطعامه والإحسان إليه،
_ وإما أن يكون عن حقه وماله، فهذا أشد،
وقرأ أبو رجاء: {يدَع}، بفتح الدال خفيف بمعنى لا يحسن إليه،
وقوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} أي لا يأمر بصدقة ولا يرى ذلك صواباً،
ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في الإسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه وفتنوا فافتتنوا، وكانوا على هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين، وربما كان بعضهم يصلي أحياناً مع المسلمين مدافعة وحيرة فقال تعالى فيهم: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}.
قال ابن جريج: كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزوراً فجاءه يتيم، فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه،
وقال سعد بن أبي وقاص: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن {الذين هم عن صلاتهم ساهون}، فقال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال، وإلى هذا نحا مجاهد، وقال قتادة {ساهون}، هو الترك لها وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل،
وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال: {عن صلاتهم} ولم يقل في صلاتهم، وفي قراءة ابن مسعود: {لاهون} بدل {ساهون} وقوله تعالى: {الذين هم يراؤون} بيان أن صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بينة إيمان، وإنما هي رياء للبشر فلا قبول لها، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو الأشهب: {يرؤن} مهموزة مقصورة مشددة الهمزة،
وروي عن ابن أبي إسحاق: {يرؤون} بغير شد في الهمزة،
وقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} وصف لهم بقلة النفع لعباد الله، وتلك شرخلة،
وقال علي بن أبي طالب وابن عمر: {الماعون}، الزكاة،
وقال الراعي: [الكامل]
قوم على الإسلام لما يمنعوا
ماعونهم ويضيعوا التهليلا
وقال ابن مسعود: هو ما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية والمقص ونحوه،
وقاله الحسن وقتادة وابن الحنفية وابن زيد والضحاك وابن عباس، وقال ابن المسيب: {الماعون} بلغة قريش: المال، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الماء والنار والملح» روته عائشة رضي الله عنها، وفي بعض الطرق زيادة الإبرة والخمير، وحكى الفراء عن بعض العرب أن {الماعون} الماء:
وقال ابن مسعود: كنا نعد {الماعون} على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية القدر والدلو ونحوها.
.... ........ .......
تفسير سورة الماعون للشوكاني :
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له.
والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين.
والرؤية: بمعنى المعرفة،
والدين: الجزاء والحساب في الآخرة.
قيل: وفي الكلام حذف، والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ. قال مقاتل، والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي.
وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة.
وقال الضحاك: في عمرو بن عائذ.
وقال ابن جريج في أبي سفيان. وقيل: في رجل من المنافقين. قرأ الجمهور: {أرأيت} بإثبات الهمزة الثانية. وقرأ الكسائي بإسقاطها.
قال الزجاج: لا يقال في {رأيت}: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفاً.
وقيل الرؤية: هي البصرية، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وهو الموصول، أي: أبصرت المكذب.
وقيل: إنها بمعنى أخبرني، فيتعدى إلى اثنين. الثاني محذوف، أي من هو؟
{فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} الفاء جواب شرط مقدّر، أي إن تأملته أو طلبته، فذلك الذي يدعّ اليتيم، ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب: إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة.
فعلى الأوّل يكون اسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول بعده، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو ذلك، والموصول صفته.
وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب.
ومعنى {يدعّ}: يدفع دفعاً بعنف، وجفوة، أي: يدفع اليتيم عن حقه دفعاً شديداً، ومنه قوله سبحانه: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] وقد قدّمنا أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي: لا يحضّ نفسه، ولا أهله، ولا غيرهم على ذلك بخلاً بالمال، أو تكذيباً بالجزاء، وهو مثل قوله في سورة الحاقة: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الحاقة: 34].
{فَوَيْلٌ} يومئذ {لّلْمُصَلّينَ} الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل: إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين، فويل للمصلين {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أي: عذاب لهم، أو هلاك، أو واد في جهنم لهم، كما سبق الخلاف في معنى الويل،
ومعنى ساهون: غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون الفاء؛ لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم، ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر.
قال الواحدي: نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثواباً إن صلوا، ولا يخافون عليها عقاباً إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا،
وهو معنى قوله: {الذين هُمْ يُرَاءونَ}
أي: يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البرّ؛ ليثنوا عليهم.
قال النخعي: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا، وهكذا ملتفتاً.
وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله. وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون. {وَيَمْنَعُونَ الماعون}.
قال أكثر المفسرين: {الماعون}:
اسم لما يتعاوزه الناس بينهم: من الدلو، والفأس، والقدر. وما لا يمنع كالماء، والملح.
وقيل هو الزكاة، أي: يمنعون زكاة أموالهم.
وقال الزجاج، وأبو عبيد، والمبرّد: الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس، والدلو، والقدر، والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا قول الأعشى:
بأجود منه بماعونه
إذا ما سماؤهم لم تغم
قال الزجاج، وأبو عبيد، والمبرّد أيضاً:
والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة،
وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا
حقّ الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا
ماعونهم ويضيعوا التهليلا
وقيل: {الماعون} الماء.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون الماء، وأنشدني:
تمجّ صبيرة الماعون صبا
والصبيرة: السحاب.
وقيل: الماعون: هو الحق على العبد على العموم.
وقيل: هو المستغلّ من منافع الأموال، مأخوذ من المعن، وهو القليل.
قال قطرب: أصل الماعون من القلة، والمعن: الشيء القليل، فسمى الله الصدقة والزكاة،
ونحو ذلك من المعروف ماعوناً؛ لأنه قليل من كثير.
وقيل: هو ما لا يبخل به كالماء، والملح، والنار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أَرَءيْتَ الذى يُكَذّبُ بالدين}
قال: يكذب بحكم الله.
{فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم}
قال: يدفعه عن حقه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عنه {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ}
قال: هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم، وهي الماعون.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ}
قال: هم: المنافقون يتركون الصلاة في السرّ، ويصلون في العلانية.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبيّ: أرأيت قول الله: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدّث نفسه؟
قال: إنه ليس ذلك، إنه إضاعة الوقت.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ}
قال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها»
قال الحاكم، والبيهقي: الموقوف أصح.
قال ابن كثير: وهذا يعني الموقوف أصح إسناداً.
قال: وقد ضعف البيهقي رفعه وصحّح وقفه، وكذلك الحاكم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، هذه الآية خير لكم من أن يعطى كلّ رجل منكم جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه» وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف، وشيخه مبهم لم يسمّ.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال: كنا نعدّ الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو، والقدر، والفأس، والميزان، وما تتعاطون بينكم.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر، والفأس، وشبهه، فيمنعونهم، فأنزل الله: {وَيَمْنَعُونَ الماعون}.
وأخرج أبو نعيم، والديلمي، وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «ما تعاون الناس بينهم الفأس، والقدر، والدلو، وأشباهه».
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن قرّة بن دعموص النميري: أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟
قال: «لا تمنعوا الماعون» قالوا: وما الماعون؟
قال: «في الحجر، والحديدة، وفي الماء»
قالوا: فأيّ الحديدة؟ قال: «قدوركم النحاس، وحديد الفأس الذي تمتهنون به» قالوا: وما الحجر؟
قال: «قدوركم الحجارة» قال ابن كثير: غريب جداً، ورفعه منكر، وفي إسناده من لا يعرف.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: {الماعون}: الفأس، والقدر، والدلو.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في الآية قال: عارية متاع البيت.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال: الماعون الزكاة المفروضة {يُرَاءونَ} بصلاتهم {وَيَمْنَعُونَ} زكاتهم.
.... ....... ........
تفسير سورة الماعون لابن الجوزي
قوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال :
أحدها: نزلت في رجل من المنافقين، قاله ابن عباس.
والثاني: نزلت في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك.
والثالث: في الوليد بن المغيرة، قاله السدي.
والرابع: في العاص بن وائل، قاله ابن السائب.
والخامس: في أبي سفيان بن حرب، قاله ابن جريج.
والسادس: في أبي جهل، حكاه الماوردي.
وفي {الدين} أربعة أقوال :
أحدها: أنه حكم الله عز وجل، قاله ابن عباس.
والثاني: الحساب، قاله مجاهد، وعكرمة.
والثالث: الجزاء، حكاه الماوردي.
والرابع: القرآن، حكاه بعض المفسرين.
و{يَدُعُّ} بمعنى يدفع. وقد ذكرناه في قوله تعالى:
{يوم يُدَعُّون إِلى نار جهنم} [الطور: 13]
والمعنى: أنه يدفع اليتيم عن حقه دفعاً عنيفاً ليأخذ ماله، وقد بينا فيما سبق أنهم كانوا لا يورِّثون الصغير، وقيل: يدفع اليتيم إبعاداً له،
لأنه لا يرجو ثواب إطعامه
{ولا يحض على طعام المسكين}
أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه، لأنه مكذِّب بالجزاء.
قوله تعالى: {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون}
نزل هذا في المنافقين الذين لا يرجون لصلاتهم ثواباً، ولا يخافون على تركها عقاباً.
فإن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا رياءً، وإن لم يكونوا معه لم يصلوا،
فذلك قوله تعالى: {الذين هم يراؤون}
وقال ابن مسعود: والله ما تركوها البتَّة ولو تركوها البتة كانوا كفاراً، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها.
وقال ابن عباس: يؤخِّرونها عن وقتها. ونقل عن أبي العالية أنه قال: هو الذي لا يدري عن كم انصرف، عن شفع، أو عن وتر. وردَّ هذا بعض العلماء فقال: هذا ليس بشيء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سها في صلاته،
ولأنه قال تعالى: {عن صلاتهم} ولم يقل: في صلاتهم، ولأن ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم.
قال الشيخ رحمه الله: قلت: ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر، وإنما أراد السهو الدائم، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة، فيتوجَّه الذمُّ إلى ذلك لا إلى السهو.
وفي {الماعون} ستة أقوال :
أحدها: أنه الإبرة، والماء، والنار، والفأس، وما يكون في البيت من هذا النحو، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى نحوه ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية.
وروى عنه أبو صالح أنه قال: الماعون: المعروف كلُّه حتى ذَكَرَ القِدر، والقصعة، والفأس.
وقال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا، إنما الويل لمن جمعهن، فراءى في صلاته، وسها عنها. ومنع هذا.
قال الزجاج: والماعون في الجاهلية: كل ما كان فيه منفعة كالفأس، والقدر، والدلو، والقداحة، ونحو ذلك، وفي الإسلام أيضاً.
والثاني: أنه الزكاة، قاله علي، وابن يعمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة.
والثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس في رواية.
والرابع: المال، قاله سعيد بن المسيب، والزهري.
والخامس: المعروف، قاله محمد بن كعب.
والسادس: الماء ذكره الفراء عن بعض العرب قال: وأنشدني:
يمج صَبِيرُهُ الماعونَ صَبَّاً
والصبير: السحاب.
.... ..... .....
تفسير سورة الماعون لابن جزي
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
{أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} قيل: إن هذه نزل في أبي جهل وأبي سفيان بن حرب،
وقيل: هو مطلق والدين هنا الملة أو الجزاء {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم}
أي يدفعه بعنف، وهذا الدفع يحتمل أن يكون عن إطعامه، والإحسان إليه أو عن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ والذي لا يحض على طعام المسكين لا يطعمه من باب أولى.
وهذه الجملة هي جواب أرأيت لأن معناها: أخبرني، فكأنه سؤال وجواب
والمعنى: انظر الذي كذب بالدين، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة، والأعمال السيئة،
وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات فمقصود الكلام ذمّ الكفار وأحوالهم
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} قيل: إن هذا نزل في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، والسورة على هذا نصفها مكي ونصفها مدني قاله أبو زيد السهيلي.
وذلك أن ذكر أبي جهل وغيره من الكفار أكثر ما جاء في السور المكية، وذكر السهو عن الصلاة والرياء فيها، إنما هو من صفة الذين كانوا بالمدينة، لا سيما على قول من قال: أنها في عبد الله بن أبيّ،
وقيل: إنها مكية كلها وهو الأشهر، ونزل آخرها على هذا في رجل أسلم بمكة ولم يكن صحيح الإيمان، وقيل: مدنية، والسهو عن الصلاة هو تركها أو تأخيرها تهاوناً بها.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون،
قال: الذين يؤخرونها عن وقتها. وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال:
{هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ} ولم يقل في صلاتهم.
{الذين هُمْ يُرَآءُونَ} هو من الرياء أي صلاتهم رياء للناس لا لله
{وَيَمْنَعُونَ الماعون} وصف لهم بالبخل وقلة المنفعة للناس.
و الماعون أربعة أقوال:
الأول أنه الزكاة،
والثاني أنه المال بلغة قريش.
الثالث أنه الماء،
الرابع أنه ما يتعاطاه الناس بينهم كالآنية والفأس والدلو والمقص،
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ فقال الماء والنار والملح وزاد في بعض الطرق: الإبرة والخميرة.
.... ........ ........
تفسير سورة الماعون للبيضاوي
{أَرَأَيْتَ} استفهام معناه التعجب،
وقرئ: {أريت} بلا همز إلحاقاً بالمضارع، ولعل تصديرها بحرف الاستفهام سهل أمرها
و{أرأيتك} بزيادة الكاف.
{الذى يُكَذّبُ بالدين} بالجزاء أو الإِسلام والذي يحتمل الجنس والعهد ويؤيد الثاني قوله: {فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} يدفعه دفعاً عنيفاً.
وهو أبو جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه، أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه، أو الوليد بن المغيرة، أو منافق بخيل.
وقرئ: {يَدع} أي يترك.
{وَلاَ يَحُضُّ} أهله وغيرهم.
{على طَعَامِ المسكين} لعدم اعتقاده بالجزاء ولذلك رتب الجملة على {يُكَذّبُ} بالفاء.
{فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أي غافلون غير مبالين بها.
{الذين هُمْ يُرَاءونَ} يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليهم.
{وَيَمْنَعُونَ الماعون} الزكاة أو ما يتعاور في العادة والفاء جزائية.
والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإِسلام أحق بذلك ولذلك رتب عليها الويل، أو للسببية على معنى {فَوَيْلٌ} لهم،
وإنما وضع المصلين موضع الضمير للدلالة على سوء معاملتهم مع الخالق والخلق.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة أرأيت غفر له أن كان للزكاة مؤدياً».
....... ........ .....
تفسير سورة الماعون لابن عثيمين
أَرَءَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
يقول الله تبارك وتعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} {أرأيت}
الخطاب هل هو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الذي أنزل عليه القرآن؟
أو هو عام لكل من يتوجه إليه الخطاب؟
العموم أولى فنقول:
{أرأيت الذي} عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، {أرأيت الذي يكذب بالدين} أي بالجزاء، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث
ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47].
ويقول القائل منهم: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78].
هؤلاء يكذبون بيوم الدين
أي: بالجزاء. {فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين}
فجمع بين أمرين:
_ الأمر الأول: عدم الرحمة بالأيتام الذين هم محل الرحمة؛
لأن الأيتام هم الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا، وهم محل الشفقة والرحمة؛
لأنهم فاقدون لآبائهم فقلوبهم منكسرة يحتاجون إلى جابر. ولهذا وردت النصوص بفضل الإحسان إلى الأيتام. لكن هذا ـ والعياذ بالله ـ {يدع اليتيم} أي: يدفعه بعنف، لأن الدع هو الدفع بعنف كما قال الله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: دفعاً شديداً، فتجد اليتيم إذا جاء إليه يستجديه شيئاً، أو يكلمه في شيء يحتقره ويدفعه بشدة فلا يرحمه.
_ الأمر الثاني: لا يحثون على رحمة الغير
{ولا يحض على طعام المسكين}
فالمسكين الفقير المحتاج إلى الطعام لا يحض هذا الرجل على إطعامه؛
لأن قلبه حجر قاسٍ، فقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة. إذاً ليس فيه رحمة لا للأيتام ولا للمساكين، فهو قاسي القلب.
ثم قال عز وجل: {فويل للمصلين} ويل: هذه كلمة وعيد وهي تتكرر في القرآن كثيراً، والمعنى الوعيد الشديد على هؤلاء، {الذين هم عن صلاتهم ساهون} هؤلاء مصلون يصلون مع الناس أو أفراداً لكنهم
{عن صلاتهم ساهون}
أي: غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي، يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا قعودها، لا يقرأون ما يجب فيها من قراءة سواء كانت قرآناً أو ذكراً، إذا دخل في صلاته هو غافل، قلبه يتجول يميناً وشمالاً، فهو ساهٍ عن صلاته، وهذا مذموم، الذي يسهو عن الصلاة ويغفل عنها ويتهاون بها لا شك أنه مذموم.
أما الساهي في صلاته فهذا لا يُلام، والفرق بينهما أن الساهي في الصلاة معناه أنه نسي شيئاً، نسي عدد الركعات، نسي شيئًا من الواجبات وما أشبه ذلك.
ولهذا وقع السهو من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أشد الناس إقبالاً على صلاته بل إنه قال عليه الصلاة والسلام:
«جعلت قرة عيني في الصلاة»(222)،
ومع ذلك سهى في صلاته
لأن السهو في الشيء معناه أنه نسي شيئًا على وجه لا يلام عليه.
أما الساهي عن صلاته فهو متعمد للتهاون في صلاته، ومن السهو عن الصلاة أولئك القوم الذين يدعون للصلاة مع الجماعة، فإنهم لا شك عن صلاتهم ساهون فيدخلون في هذا الوعيد.
{فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يرآءون} أيضاً إذا فعلوا الطاعة فإنما يقصدون بها التزلف إلى الناس، وأن يكون لهم قيمة في المجتمع، ليس قصدهم التقرب إلى الله عز وجل، فهذا المرائي يتصدق من أجل أن يقول الناس ما أكرمه، هذا المصلي يحسن صلاته من أجل أن يقول الناس ما أحسن صلاته وما أشبه ذلك. هؤلاء يراءون، فأصل العبادة لله، لكن يريدون مع ذلك أن يحمدهم الناس عليها، ويتقربون إلى الناس بتقربهم إلى الله، هؤلاء هم المراءون.
أما من يصلي لأجل الناس بمعنى أنه يصلي بين يدي الملك مثلاً أو غيره يخضع له ركوعاً، أو سجوداً فهذا مشرك كافر قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. لكن هذا يصلي لله مع مراعاة أن يحمده الناس على عبادته، على أنه عابد لله عز وجل. وهذا يقع كثيراً في المنافقين.
كما قال الله تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142].
انظر إلى هذا الوصف إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذاً هم عن صلاتهم ساهون. يراءون الناس.
وهنا يقول الله عز وجل: {الذين هم يراؤن} فهل الذين يسمّعون مثلهم؟
يعني إنسان يقرأ قرآنًا ويجهر بالقراءة ويحسن القراءة، ويحسن الأداء والصوت من أجل أن يقال ما أقرأه.
هل يكون مثل الذي يرائي؟
الجواب: نعم كما جاء في الحديث،
"من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به"،
المعنى من سمّع فضحه الله وبين للناس أن الرجل ليس مخلصاً، ولكنه يريد أن يسمعه الناس:
فيمدحوه على عبادته، ومن راءى كذلك راءى الله به، فالإنسان الذي يرائي الناس، أو يسمّع الناس سوف يفضحه الله، وسوف يتبين أمره إن عاجلاً أم آجلاً.
{ويمنعون الماعون}
أي: يمنعون ما يجب بذله من المواعين وهي الأواني، يعني يأتي الإنسان إليهم يست آنية.
يقول: أنا محتاج إلى دلو، أو محتاج إلى إناء أشرب به، أو محتاج إلى مصباح كهرباء وما أشبه ذلك، فيمنع. فهذا أيضاً مذموم. ومنع الماعون
ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم يأثم به الإنسان.
القسم الثاني: قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير.
فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير.
مثال ذلك: إنسان جاءه رجل مضطر يقول: أعطني ماءً أشربه، فإن لم أشرب مت، فبذل الإناء له واجب يأثم بتركه الإنسان،
حتى إن بعض العلماء يقول: لو مات هذا الإنسان فإنه يضمنه بالدية،
لأنه هو سبب موته ويجب عليه بذل ما طلبه. فيجب على المرء أن ينظر في نفسه
هل هو ممن اتصف بهذه الصفات أو لا؟
إن كان ممن اتصف بهذه الصفات قد أضاع الصلاة وسها عنها، ومنع الخير عن الغير فليتب وليرجع إلى الله، وإلا فليبشر بالويل ـ والعياذ بالله ـ وإن كان قد تنزه عن ذلك فليبشر بالخير، والقرآن الكريم ليس المقصود منه أن يتلوه الإنسان، ليتعبد لله تعالى بتلاوته فقط، المقصود أن يتأدب به ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:
«إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن».
خُلقه يعني أخلاقه التي يتخلق بها يأخذها من القرآن. وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة. إنه على كل شيء قدير.
....... ..... ......
تفسير سورة الماعون لابن تيمية
قال الله -جل وعلا-: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾
أي: أخبرني عن الذي يكذب بالدين ما حاله؟ وما شأنه؟
ثم بيَّن الله -جل وعلا- حاله؛
لأن هذا الاستفهام لم يرد به الله -جل وعلا-
الاستخبار؛ لأن الله -جل وعلا- أعلم بحاله ووصفه؛ فلهذا بين الله -جل وعلا- صفته،
فقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾
لأن من صفة الذي يكذب بيوم الدين أنه يدع اليتيم، بمعني أنه يدفعه دفعا شديدا، ويقهره، فيتسلط عليه إما في بدنه،
وإما في ماله. ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾
وهذه صفة أخرى، فهذا الذي يكذب بيوم الدين، لا يحث غيره على إطعام المسكين، فهو في نفسه لا يحث على الإطعام، فهو في نفسه لا يطعم،
كذلك لا يحض غيره على الإطعام؛
لأن العادة قاضية بأن الذي يحض على الإطعام هو الذي يباشر الإطعام بنفسه قبل ذلك.
وهذان الوصفان ذكرهما الله -جل وعلا- كثيرا عن المكذبين بيوم الدين:
﴿ كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾
فهاتان الصفتان متعلقتان بالذي يكذب بيوم الدين، وإنما صنع ذلك؛ لأنه يكذب بيوم الجزاء والحساب، فلا يعتقد أن هناك يوما يرد إليه، فيجازيه الله -جل وعلا- على سيئاته، أو يجزيه على حسناته، يجازيه على السيئات إن أساء إلى هذا اليتيم، أو ترك الإطعام، والحض عليه.
وكذلك هو لا يرجو ثواب بِرِّ اليتيم، ولا ثواب التَّحَاضّ على طعام المسكين؛
لأنه لا يظن أن هناك يوما يعيد الله -جل وعلا- فيه العباد؛
ليكافئهم ويجازيهم على أعمالهم.
قال الله -جل وعلا-: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾
أي: الذين هم عن صلاتهم غافلون بتضييعها،
كما قال الله -جل وعلا- في الآية الأخرى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
أو أن هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون كانوا من المنافقين؛
لأنهم لا يفعلون الصلاة إلا رياء وحفظا لدمائهم، ولا يفعلونها لله -جل وعلا- فهم عن صلاتهم معرضون، يؤدونها في ظاهرها خوفا من المؤمنين، أو يضيعونها في أوقاتها الأخرى، أو لا يؤدون الصلاة، كما شرعها الله جل وعلا.
وهذه كلها صفات للمنافقين، وهذه الآية مثل قول الله -جل وعلا-:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
وأما الذي يسهو في صلاته، فليس بداخل في هذه الآية؛
لأن هناك سهو عن الصلاة وسهو في الصلاة، فما كان في الصلاة فهذا يقع من المؤمن، من البر والفاجر، وقد وقع من أزكى البشر -صلى الله عليه وسلم- وقد سها عليه الصلاة والسلام، ونقل عنه ذلك في خمسة أحاديث صحيحة.
والسهو في الصلاة -كما ذكر بعض العلماء- لا يلزم منه أن يكون الإنسان غافلا عنها؛
لأنه قد يسهو في صلاته بسبب صلاته، فقد يطيل القراءة تعبدا لله، فينسى كم صلى من ركعة؟
وقد يناجي ربه -جل وعلا- ويتضرع بين يديه، ويقدم حاجته لله -جل جلاله- بإلحاح شديد، فيغفل عن عدد الركعات، ولهذا قال بعض العلماء:
لا يلزم من السهو في الصلاة أن يكون الإنسان غافلا عنها، بل قد يسهو في الصلاة؛
لكونه مشتغلا بهذه الصلاة.
وعلى هذا حمل بعض العلماء سهو النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، وبعضهم حمل سهوه -صلى الله عليه وسلم- على أن الله -جل وعلا- أراد أن يشرع لهذه الأمة، ويبين لها الحكم إذا سهوا في صلاتهم، فأراد أن يسهو نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليشرع للأمة؛ ويبين لهم أحكام هذا السهو.
ثم قال جل وعلا: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾
أي: يراءون في عباداتهم، فيفعلونها رئاء الناس، لا يرجون برها، ولا ثوابها من عند الله -جل وعلا- وإنما يصنعونها ليراهم الخلق؛
فلهذا إذا راءوا بها في الدنيا راءى الله -جل وعلا- بهم في الآخرة.
ثم قال جل وعلا: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾
يعني: أنهم يبخلون بما عندهم حتى الماعون، وهو الشيء القليل؛
لأنه مأخوذ من المعن، وهو الشيء القليل حتى الشيء القليل يبخلون به، وقد مثَّله بعض السلف بالفأس ونحوه؛
لأن هذه أشياء قليلة، فإذا بخل بالشيء القليل، فمن باب أولى أن يبخل بالشيء الكثير.
وقد ذكر بعض العلماء أن هذه السورة …
إذا اجتمعت هذه الأوصاف في عبد، فإنه لا يكون إلا منافقا، وقد يكون في المسلم بعضها، لكن لا تجتمع هذه الأوصاف فيه، وبعض العلماء ذكر أن هذه السورة في المنافقين؛
لأنها تماثل ما ذكره الله -جل وعلا- عنهم في قوله في هذه السورة: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾
...... ........... ...
تفسير الجلالين سورة الماعون
" أَرَأَيْت الَّذِي يُكَذِّب بِالدِّينِ "
بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَاب , أَيْ هَلْ عَرَفْته وَإِنْ لَمْ تَعْرِفهُ :
" فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ "
" فَذَلِكَ " بِتَقْدِيرِ هُوَ بَعْد الْفَاء " الَّذِي يَدُعّ الْيَتِيم " أَيْ يَدْفَعهُ بِعُنْفٍ عَنْ حَقّه
"وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ "
" وَلَا يَحُضّ " نَفْسه وَلَا غَيْره " عَلَى طَعَام الْمِسْكِين " أَيْ إِطْعَامه , نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْن وَائِل أَوْ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة
" فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ "
" الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ سَاهُونَ " غَافِلُونَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتهَا
" الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ "
فِي الصَّلَاة وَغَيْرهَا
" وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون "
كَالْإِبْرَةِ وَالْفَأْس وَالْقِدْر وَالْقَصْعَة
.... ....... .......
تفسير سورة الماعون للتفسير الميسر
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ( 1 )
أرأيت حال ذلك الذي يكذِّب بالبعث والجزاء؟
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( 2 )
فذلك الذي يدفع اليتيم بعنف وشدة عن حقه؛ لقساوة قلبه.
وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 3 )
ولا يحضُّ غيره على إطعام المسكين, فكيف له أن يطعمه بنفسه؟
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ
( 5 )
فعذاب شديد للمصلين الذين هم عن صلاتهم لاهون, لا يقيمونها على وجهها, ولا يؤدونها في وقتها.
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ( 6 )
الذين هم يتظاهرون بأعمال الخير مراءاة للناس.
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( 7 )
ويمنعون إعارة ما لا تضر إعارته من الآنية وغيرها, فلا هم أحسنوا عبادة ربهم, ولا هم أحسنوا إلى خلقه.
.... ..... ......
تفسير سورة الماعون للمختصر في التفسير
سورة الماعون
- مَكيّة-
مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ :
بيان أخلاق المكذبين بالدين والآخرة، تحذيرًا للمؤمنين، وتشنيعًا على الكافرين.
التَّفْسِيرُ :
1 - هل عرفت الَّذي يكذب بالجزاء يوم القيامة؟!
2 - فهو ذلك الَّذي يدفع اليتيم بغلظة عن حاجته.
3 - ولا يحثّ نفسه، ولا يحث غيره على إطعام الفقير.
4 - فهلاك وعذاب للمصلِّين.
5 - الذين هم عن صلاتهم لاهون، لا يبالون بها حتَّى ينقضي وقتها.
6 - الذين هم يراؤون بصلاتهم وأعمالهم، لا يخلصون العمل لله.
7 - ويمنعون إعانة غيرهم بما لا ضرر في الإعانة به.
..... ....... .....
إعراب سورة الماعون
أرأيت:
الهمزة: حرف استفهام تعجبي مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
رأيت: رأى: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك.
التاء: ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
الذي: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
يكذبُ: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو.
بالدين: الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب.
الدينِ: اسم مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
والجار والمجرور متعلقان بالفعل يكذب.
جملة "يكذب بالدين" صلة موصول لا محل لها من الإعراب والعائد مستتر تقديره هو.
جملة "أرأيت الذي يكذب بالدين" ابتدائية لا محل لها من الإعراب.
فذلك: الفاء: الفاء الفصيحة حرف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، يفصح عن شرط مقدر بإذا.
ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدإ.
اللام: حرف مبني على الكسر للبعد لا محل له من الإعراب.
الكاف: حرف خطاب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
الذي: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر.
يدع: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو.
اليتيم: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
جملة "يدع اليتيم" صلة موصول لا محل لها من الإعراب والعائد مستتر جوازا تقديره هو.
جملة "ذلك الذي يدع اليتيم" لا محل لها من الإعراب جواب الشرط المقدر بإذا. تقدير الكلام: إذا سألت عنه فذلك الذي يدع اليتيم.
الواو: حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
لا: حرف نفي مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
يحضُّ: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره
والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو.
على: حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
طعام: اسم مجرور بعلى وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، وهو مضاف.
والجار والمجرور متعلقان بالفعل يحض.
المسكين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
جملة "لا يحض على طعام المسكين" لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة "يدع اليتيم".
الفاء: حرف استئناف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
ويل: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
للمصلين: اللام: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب.
المصلين: اسم مجرور باللام وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة
لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، خبر لويل.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للمصلين.
هم: ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدإ.
عن: حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
صلاتهم: صلاة: اسم مجرور بعن وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، وهو مضاف.
الهاء: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر مضاف إليه.
الميم: حرف مبني على السكون للدلالة على جمع الذكور لا محل له من الإعراب.
والجار والمجرور متعلقان بساهون.
ساهون: خبر مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
جملة "هم عن صلاتهم ساهون" صلة موصول لا محل لها من الإعراب.
جملة "ويل للمصلين الذين ..." استئنافية لا محل لها من الإعراب.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للمصلين.
هم: ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدإ.
يراؤون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون نيابة عن الضمة لأنه من الأفعال الخمسة.
الواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
وجملة "يراؤون" في محل رفع خبر.
وجملة "هم يراؤون" صلة موصول لا محل لها من الإعراب.
الواو: حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
يمنعون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون نيابة عن الضمة لأنه من الأفعال الخمسة.
والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
الماعون: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
وجملة "يمنعون الماعون" في محل رفع معطوفة على جملة "يراؤون".
....... ....... ......
خواطر علي سورة الماعون :
_كشف سريرة المكذبين بالبعث والجزاء، وأن الدافع لهم إلى التكذيب بالآخرة علمهم بأنهم ليسوا على شيء، وخوفهم من سوء العاقبة،
لما هم عليه من قبض في اليد، وغفلة وقسوة في القلب، ورياء للناس، وتعالج جوانب عديدة من حياة المسلم المعاصر هو يعترف بها نظرا،
ولكن حين الممارسة العملية لا يوجد لها واقعا، وتصحح الفهم في مفهوم العبادة
وأنه ليس عبادة تتوقف عند أداء الصلاة والصوم والزكاة والحج، بل العبادة:
أداء حق الله، وأداء حق المخلوق، وهما: تقوى الله، والإحسان إلى خلقه.
_هذه هي سورة الماعون، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ).
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) تفتح السورة بهذا الاستفهام الذي يشوق إلى معرفة من سيق له الكلام ؟!
لأَنَّ ذلك مِمَّا يجب على المسلم معرفته، ليحترز عنه وعن فعله، والتعجب من حال المكذبين بالجزاء،
وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع والخسران، فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تبع ذلك من الذنوب التي ستأتي.
والدِّين: الجزاء والحساب، أو الثواب والعقاب، أو القرآن، هؤلاء هم الذين ينكرون البعث، فلا يؤمنون بما جاءت به الرسل (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة: 47]؟.
حكم في الظاهر على الإنسان في خُلُقِهِ وتعامله مع الناس في مدى صدقه، وحسن تعامله ووفائه،
ما الذي يجعله يكذب ويغش ويفعل أفعالاً نكراء لا يبالي بحقوق الناس؟!
ليس السبب أنهم لا يؤمنون بالدين، لكن الإيمان بالدين قد غاب عن أذهانهم، لا يشاهد الجنة ولا يشاهد النار كأنه يراها رأي العين، فهو يعيش لدنياه، لذا يظلم ويسرق ويأكل مال الناس ويرتشي، يفعل المنكرات والمحرمات، هناك غفلة،
وهناك تغطية على القلب، يراد منه خلع الاعتقاد الباطل، وغرس الاعتقاد الحق.
إن الإيمان بالبعث والجزاء؛
وازع حق يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة، حتى يصير ذلك لها خلقا، تطهر وتنساق للخير لا تحتاج إلى من يراقب أو يعاقب.
ثم تأتي الآية الثانية وكأنها تقول لنا فإن كنتم لا تعرفون المكذب بالدين بذاته، فاعرفوه بصفاته، فمن هذه الصفات:
( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يظلمه ويقهره ولا يحسن إليه، يدفعه دفعًا عنيفًا ويزجره زجرًا قبيحًا، مع إظهار الاحتقار له والتَّعالي عليه.
الأيتام الذين مات آباؤهم قبل البلوغ -إذ لا يتم بعد احتلام كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم ,
في حاجة شديدة إلى من يعطف عليهم، ويرحمهم، ويواسيهم، ويدخل عليهم السرور بما يسديه إليهم من نفقة؛ أو كسوة؛
أو كلمة طيبة، بحاجة إلى من يحفظ أموالهم حال الصغر، ليجدوا ثمرتها في حال الكبر.
فمن كان عنده يتيم فليصبر عليه، وليرحمه، وليقم بحقوقه، لينال الأجر على ذلك،
وإن أغلظ لهم القول، وآذاهم لغير تأديب مشروع وحرمهم، أو أكل أموالهم ظلما، فقد تعرض لخطر عظيم.
وحقوق الأيتام كثيرة منها على سبيل المثال:
1- الرفق بهم وعدم الغلظة، التي تدخل عليهم الهم والحزن، إذ ما هم فيه كاف، والرفق مطلوب في كل وقت، لكنه مع اليتيم آكد، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)
2- تعليمه القراءة والكتابة وأمور الدين، وحسن السلوك، كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم، وألا يتكلم إلا بخير، ويعلمه ما لابد منه مما ينفعه ويستطيع فعله، حتى لا يكون عالة على المجتمع، وما يحبه القائم على شأنه لنفسه ولأولاده من الخير،
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
3- أن ينفق على اليتيم من ماله الخاص به إن كان له مال، وإلا أنفق عليه من ماله هو ففي ذلك من الأجر والخير ما أخبر به نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-:
(كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ)
. والكفالة القيام بأموره من نفقة وكسوة وتربية وغيرها.
4- أن يحفظ ماله، وينميه ولا يفرط فيه حتى لا يضيع، ولا يأخذ منه شيئا ظلما، قال الله سبحانه: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [النساء: 6]،
وحذر سبحانه من الاعتداء على مال اليتيم بغير حق بأي صورة، قال سبحانه:
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ). [النساء: 9-10].
5- لا يُمَكِّن اليتيم من التصرف في ماله، إلا بعد رشده واختباره في التصرف، أيحسنه أم لا؟
قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا) [النساء: 6]،
وليُشهد على دفع أمواله إليه، حتى لا يحصل نزاع وخصومة، قال تعالى: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء: 6].
إلى غيرها مما يكون فيه الصلاح والنفع، قال سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) [البقرة: 220].
لقد أوجب الله عز وجل لليتيم الاحترام والعطف ولذا قال:
(فَذَلِكَ) وأشار إليه إشارة إلى البعيد؛
كأنه أبعد عن رحمة الله ومعيته سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فعلينا أن نرحم اليتيم ونعامله كما نحب أن يعامل أولادنا لو كانوا كذلك.
ومن صفات المكذب بيوم الدين أيضا:
( وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)
الحض: الحث، لا يحث على إطعام المسكين أحدا من أهله أو غيرهم من الموسرين، ولا يدعو الناس إلى ذلك، وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام؛
لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح.
إن مــن مـحـاسن الإسلام العطف عــــــــلى الضعفــــاء، والشفقة عـلى الفقراء والمساكين، والرأفة باليتامى والمحتاجين، والإحسان إليهم، ودفع الأذى عنهم، وحسن معاملتهم، والتواضع معهم،
قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الشعراء: 215]،
وقال: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ )[الضحى 9 -10].
إن حرمان المساكين، ومنع العون للمحتاجين، لا يتصور أن تصدر هذه الأفعال ممن يؤمن بيوم الدين والجزاء، ويخشى الحساب والعقاب!
فأهل الإيمان كما قال الله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا )[الإنسان: 8 - 9]،
ثم قالوا: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 10]،
فعلى الإنسان إذا عجز عن مساعدة المسكين أن يحث غيره من القادرين على ذلك ويدعوه إلى فعل الخير، فكلما اقترب المسلم من المساكين كان أدل على صدق إيمانه، وقوة دينه، والتماسا للرزق والنصرة،
فعن مصعب بن سعد قال:
رَأَى سَعْدُ بنُ أبِي وقَاصٍ -رضي الله عنه- أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ).
فالإحسان إلى الفقير لا يتأتى -غالبا- من النفوس التي لا تبذل إلا بعوض، ولا تكف إلا من خوف، واليتيم والمسكين ضعفاء مجردون من كل ما يمكن أن يمنحونك من مصالح،
وليس هناك من يدفع عنهم، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم، فإذا لم نستطع مساعدة المسكين، فلنطلب من غيرنا معونته إن استطعنا.
ثم قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) هذه الآية عندما تقرؤها تستوقفك، تأمل كيف افتتحها الله عز وجل بالويل، وهو الهلاك، أو العذاب، أو واد في جهنم؟!
فيقف القارئ متدبرا كيف يتوعد الله المصلين بجنهم؟ ثم تأتي الآية الأخرى مجيبة على هذا التساؤل في ذهن الإنسان المتدبر (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )
قال عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره:
يعني المنافقين، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر.
قال ابن كثير: أي: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها، ثم هم عنها ساهون،
إما عن فعلها بالكلية، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا، فيخرجها عن وقتها بالكلية،
وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا.
وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به.
وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل هذا كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية. ومن اتصف بجميع ذلك، فقد تم نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي.
_في حديث العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك -رضي الله عنه- في داره بالبصرة حين انصرف من صلاة الظهر، وداره بجنب المسجد،
قال: فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟
فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:
(تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ).
لا آثر للصلاة في قلوبهم ولا في أعمالهم، لعدم اهتمامهم بأمر الله، فإن كان هذا حالهم مع أجل الطاعات فإهمالهم لباقي العبادات والقربات أكثر، وتضييعها أسهل.
والسهو -وهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه في الصلاة لا يخلو منه أحد،
أما عنها فشيء آخر، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بنُ أبِي وقَاصٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي سَعْدًا فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ )
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) أَسَهْوُ أَحَدِنَا فِي صَلَاتِهِ حَدِيثُ نَفْسِهِ؟ قَالَ سَعْدٌ: )
أَوَلَيْسَ كُلُّنَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؟
وَلَكِنَّ السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ الَّذِي يُصَلِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا، فَذَلِكَ السَّاهِي عَنْهَا
(، قَالَ مُصْعَبٌ مُرَّةً أُخْرَى: (تَرْكُهُ الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا ).
_وللصلاة ثمرات يقطفها العبد، تعود عليه ومجتمعه بالخير، إذا ما أدائها تامة كما علمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، منها:
_الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وعون على شدائد الدنيا، قال الله عز وجل: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 45].
_المصلي لا يكون جزوعا عند الشر،
ولا هلوعا عند الخير، ولا منوعا للخير،
قال ربنا سبحانه: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23].
_ الصلاة سبب للنور يوم القيامة،
قال تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) [الحديد: 12]،
وعن بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
_يقول ابن القيم -رحمه الله-: للعبد بين يدي الله موقفان:
موقف بين يديه في الصلاة،
وموقف بين يديه يوم لقائه.
فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه، شدد عليه ذلك الموقف،
قال تعالى: (وَمن اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً) [الإنسان: 26 - 27].
وقوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) الذين يعملون حيث يراهم الناس، ويظهرون أعمالهم ليعجب الناس بها، ويثنوا عليهم، وهذا في غير الفريضة.
قال القرطبي -رحمه الله-: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى، لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح .
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ).
_وقد حـذرنا الله تعالى، ونبينا صلى الله عليه وسلم من الرياء وأخبر بأن المرائي لا يقبل عمله، قال الله سبحانه:
(وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء: 38]،
وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
_وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)
قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً).
_ومن صفات المكذبين بيوم الدين أيضا أنهم: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) يمنعون ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم كالقلم، والورقة، والإناء وغيره، مع أنه مما يستحب فعله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، لكن هؤلاء إذا استعارهم أحد ماعونا للحاجة، لا يعيرونه ويعتذرون بمعاذير باطلة، ولا ترق قلوبهم للجياع والمحتاجين.
_ومن استعار شيئا فليحافظ عليه وليرده من غير نقص، فإن تلف أو حدث به خلل فليصلحه، أو يرد مثله، أو يعطيه ثمنه، فعلى اليد ما أخذت، في حديث أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ.
_إن سورة الماعون تصف شخصية بشرية بأنه:
يكذب بالدين، لقد تأثرت الحياة العملية بسوء الحالة الإيمانية أو عدم وجودها من الأصل، فمن اعتقد بالباطل دعّ اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وسهى عن صلاته، ومنع المعونة عمن يحتاجها.
_فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون في هذه السورة الشريفة؟ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟.
_ إن تقرير البعث في قلوب العباد، وتذكير الناس بالبعث وبيوم القيامة أصل في صلاح الناس، وفي حسن تصرفاتهم؛
لأن هذا المعتقد ينعكس على أفعال العباد فيمنعهم من السرقة والزنا والغش والخداع.
_ حقيقة التصديق بالدين تَحَوُّلٌ في القلب يدفعه إلى الخير والبر، لا يراد من الناس كلمات، إنما يراد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لها ولا اعتبار.
الخلاصة :
_جاءت هذه السورة لتعالج واحدة من القضايا الكبرى؛ لتغير من المفهوم الشائع للإيمان والكفر، كما تتحدث عن بعض العقيدة الإسلامية.
_تُوضح السورة أثر الإيمان عندما يستقر في القلب، حيث أنّ هذا الإيمان يتحرّك ويدفع الإنسان للقيام بالعمل الصالح، وإن لم يحدث هذا التحرك، فهذا يُعدّ دليلًا على أنّ الإيمان لم يوجد في القلب وعلى الإنسان أن يقوّم نفسه.
_تشتمل سورة الماعون على عدّة أمور توجه المسلم كي يتبعها في حياته،
كما تُعلمه بضرورة ترك بعض الأشياء التي تجعله مرائيًا أو منافقًا حيث أن شرط قبول العمل
هو الإخلاص لله تعالى.
_تُرشد سورة الماعون إلى ضرورة إطعام المسكين، وتنهى عن الجور على اليتيم
_تُبين سورة الماعون أهمية أداء الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها أو التهاون فيها.
_تحث سورة الماعون على القيام بالمعروف وبذل الماعون لمن يحتاجه، والماعون ما يتعاوزه الناس فيما بينهم، مثل: الدلو والإناء والفأس والكتاب وغير ذلك؛ لذلك تعتبر هذه الكلمة جامعة لاحتياجات الناس.
تُشير سورة الماعون إلى وجوب أن يكون الإنسان مخلصًا في عمله، كما تحذر من الرياء وطلب السمعة.
_جاءت سورة الماعون مُناسِبة لما قبلها من السور، إذ جاءت بعد سورة قريش، التي نوّهَت إلى أمرٍ عظيم وهو الأمن بعد الخوف والشبع بعد الجوع.