سورة الكوثر ؛تفاسيرابن كثير ،والسعدي،القرطبي،الطبري...وغيرهم،..إعراب..خواطر


سورة الكوثر ؛تفاسيرابن كثير ،والسعدي،القرطبي،الطبري،الشوكاني،البغوي،ابن عطية،البيضاوي،ابن عبدالسلام ،ابن تيمية ،ابن القيم ،ابن الجوزي،ابن باز ،ابن عثيمين،الجلاليين،التفسير الميسر ،المختصر في التفسير ..إعراب..خواطر


تفسير سورة الكوثر لابن كثير 

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر :
وهي مدنية ، وقيل : مكية .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، عن المختار بن فلفل ، عن أنس بن مالك قال : 
أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، 
إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت ؟
 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
 " إنه أنزلت علي آنفا سورة " .

 فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر ) حتى ختمها ، 
قال : " هل تدرون ما الكوثر ؟ " ،
 قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : 
" هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم فأقول : يا رب ، إنه من أمتي . 
فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي ، وهذا السياق .

وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنه يشخب فيه ميزابان من السماء عن نهر الكوثر ، وأن عليه آنية عدد نجوم السماء .

 وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل وعلي بن مسهر ، كلاهما عن المختار بن فلفل ، عن أنس .
 ولفظ مسلم قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما ، 
قلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟
 قال : " أنزلت علي آنفا سورة " ، 
فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم:
 ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ) ثم قال : " أتدرون ما الكوثر ؟ 
" قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : 
" فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم ، 
فأقول : رب إنه من أمتي . 
فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " .

وقد استدل به كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية ، وكثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة ، وأنها منزلة معها .

فأما قوله تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر ) فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة .
 وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، 
عن أنس فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ،
 أخبرنا ثابت عن أنس أنه قرأ هذه الآية :
( إنا أعطيناك الكوثر )
 قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 
" أعطيت الكوثر ، فإذا هو نهر يجري ، ولم يشق شقا ، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ ، فضربت بيدي في تربته ، فإذا مسكه ذفرة ، وإذا حصاه اللؤلؤ "

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس قال : 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
 " دخلت الجنة فإذا أنا بنهر ، حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء ، فإذا مسك أذفر . قلت : ما هذا يا جبريل ؟
 قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عز وجل " .

ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم من حديث شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : 
لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء 
قال :
 " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت : ما هذا يا جبريل ؟
 قال : هذا الكوثر " . وهذا لفظ البخاري رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا الربيع ، أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن هلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال :
 لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضى به جبريل في السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فذهب يشم ترابه ، فإذا هو مسك . 
قال : " يا جبريل ، ما هذا النهر ؟
 قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربك " .
وقد تقدم  في حديث الإسراء في سورة " سبحان " ، من طريق شريك ، عن أنس 
[ عن النبي صلى الله عليه وسلم ] وهو مخرج في الصحيحين .

وقال سعيد ، عن قتادة ، عن أنس : 
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
 " بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر ، حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف ، فقال الملك الذي معه :
 أتدري ما هذا ؟ هذا الكوثر الذي أعطاك الله . وضرب بيده إلى أرضه ، فأخرج من طينه المسك " وكذا رواه سليمان بن طرخان ومعمر وهمام وغيرهم ، عن قتادة به .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا أبو أيوب العباسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثني محمد بن عبد الله ، ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس قال : 
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ،
 فقال : 
" هو نهر أعطانيه الله في الجنة ، ترابه مسك ،  ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر " . 
فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ 
قال : " أكلها أنعم منها " .


وقال أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الوهاب ، عن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ 
قال : " نهر في الجنة أعطانيه ربي ، لهو أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر " . 
قال عمر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : " أكلها أنعم منها يا عمر " .

رواه ابن جرير ، من حديث الزهري ، عن أخيه عبد الله ، عن أنس : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فذكر مثله سواء .

وقال البخاري : حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة ، عن عائشة قال : سألتها عن قوله تعالى :
 ( إنا أعطيناك الكوثر ) قالت : نهر عظيم أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، شاطئاه عليه در مجوف ، آنيته كعدد النجوم .
ثم قال البخاري : رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف ، عن أبي إسحاق .
ورواه أحمد والنسائي من طريق مطرف به .


وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة عن عائشة قالت :
 الكوثر نهر في الجنة ، شاطئاه در مجوف .
 وقال إسرائيل : نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء .


وحدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية عن شقيق - أو مسروق - قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين ، حدثيني عن الكوثر . قالت : نهر في بطنان الجنة . 
قلت : وما بطنان الجنة ؟ قالت : وسطها ، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصاؤه اللؤلؤ والياقوت .

وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن ابن أبي نجيح عن عائشة قالت : من أحب أن يسمع خرير الكوثر ، فليجعل أصبعيه في أذنيه .
وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة وفي بعض الروايات : " عن رجل ، عنها " . 
ومعنى هذا أنه يسمع نظير ذلك ، لا أنه يسمعه نفسه ، والله أعلم .


قال السهيلي : ورواه الدارقطني مرفوعا ، من طريق مالك بن مغول ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر :
 هو الخير الذي أعطاه الله إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ؟
 فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .

ورواه أيضا من حديث هشيم ، عن أبي بشر وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير .

وقال الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير .

وهذا التفسير يعم النهر وغيره ; 
لأن الكوثر من الكثرة ، وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر ، 
كما قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومحارب بن دثار ، والحسن بن أبي الحسن البصري . حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة .

وقال عكرمة : هو النبوة والقرآن ، وثواب الآخرة .
وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا ، فقال ابن جرير :

حدثنا أبو كريب ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل .
وروى العوفي ، عن ابن عباس نحو ذلك .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الدر والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل .

وكذا رواه الترمذي ، عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء بن السائب به مثله موقوفا . وقد روي مرفوعا فقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء قال . . . وقال عطاء بن السائب  ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر قال : 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، والماء يجري على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل " .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير ، من طريق محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السائب به مرفوعا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا عطاء بن السائب قال : قال لي محارب بن دثار : ما قال سعيد بن جبير في الكوثر ؟
 قلت : حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير . فقال : صدق والله إنه للخير الكثير . 
ولكن حدثنا ابن عمر قال : لما نزلت : ( إنا أعطيناك الكوثر )
 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، يجري على الدر والياقوت " .

وقال ابن جرير : حدثني ابن البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حرام بن عثمان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، 
عن أسامة بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما فلم يجده ، فسأل امرأته عنه - وكانت من بني النجار - فقالت : خرج يا نبي الله آنفا عامدا نحوك ،
 فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار ،
 أولا تدخل يا رسول الله ؟
 فدخل ، فقدمت إليه حيسا ، فأكل منه ، فقالت : يا رسول الله ، هنيئا لك ومريئا ، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنيك وأمريك ;
 أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر .
 فقال :
 " أجل ، وعرضه - يعني أرضه - ياقوت ومرجان ، وزبرجد ولؤلؤ " .

حرام بن عثمان ضعيف . ولكن هذا سياق حسن ، وقد صح أصل هذا ، بل قد تواتر من طريق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ، وكذلك أحاديث الحوض.

وهكذا روي عن أنس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف أن الكوثر نهر في الجنة . وقال عطاء : هو حوض في الجنة .



فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
وقوله : ( فصل لربك وانحر ) أي :
 كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك النهر الذي تقدم صفته  فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونحرك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له .

 كما قال تعالى : 
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )
 [ الأنعام : 162 ، 163 ]
 قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن : يعني بذلك نحر البدن ونحوها . 

وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والربيع وعطاء الخراساني و الحكم وإسماعيل بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف .
 وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، 
كما قال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) الآية [ الأنعام : 121 ] .

وقيل : المراد بقوله : ( وانحر ) وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر . يروى هذا عن علي ، ولا يصح . وعن الشعبي مثله .

وعن أبي جعفر الباقر : ( وانحر ) يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة .

وقيل : ( وانحر ) أي : استقبل بنحرك القبلة . ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير .

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا ، 
فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال :
 لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ) 
قال رسول الله : " يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ 
" فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، ارفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة .
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم به .

وعن عطاء الخراساني : ( وانحر ) أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال . رواه ابن أبي حاتم .
[ كل هذه الأقوال غريبة جدا ] 
والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ; ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول :
 " من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك . ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " .

 فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله ، إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم . قال : " شاتك شاة لحم " . قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : " تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك " .

قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ; شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كفاء له ، وخصك به .
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمدبن كعب القرظي وعطاء.


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وقوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) أي :
 إن مبغضك - يا محمد - ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : نزلت في العاص بن وائل .

وقال محمد بن إسحاق : عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه ، فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره . فأنزل الله هذه السورة .

وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط .
وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش .

وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحساني ، حدثنا بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ، ألا ترى إلى هذا المصنبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ فقال : أنتم خير منه . قال : فنزلت : ( إن شانئك هو الأبتر )
هكذا رواه البزار ، وهو إسناد صحيح .

وعن عطاء : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال : بتر محمد الليلة . فأنزل الله في ذلك : ( إن شانئك هو الأبتر )

وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل . وعنه : ( إن شانئك ) يعني : عدوك . وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر ، وغيرهم .

وقال عكرمة : الأبتر : الفرد . وقال السدي : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا : بتر . فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد . فأنزل الله : ( إن شانئك هو الأبتر )

وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ، بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد .
آخر تفسير سورة " الكوثر " ، ولله الحمد والمنة .

.......   ..   ....   ...
تفسير سورة الكوثر للسعدي

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي: 
الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، من النهر الذي يقال له { الكوثر } ومن الحوض
طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.



فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
ولما ذكر منته عليه، أمره بشكرها فقال:
 { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.

ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.



إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{ إِنَّ شَانِئَكَ } أي: 
مبغضك وذامك ومنتقصك 
{ هُوَ الْأَبْتَرُ } أي:
 المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع صلى الله عليه وسلم.

.....   .....     .....
تفسير سورة الكوثر للقرطبي 


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
تفسير سورة الكوثر
وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل
وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطيناك الكوثر
فيه مسألتان :

الأولى :
 قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر قراءة العامة . إنا أعطيناك بالعين . 
وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف : ( أنطيناك ) بالنون ; وروته أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وهي لغة في العطاء ; أنطيته : أعطيته . 
والكوثر : فوعل من الكثرة ; 
مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر .
 والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا .
 قال سفيان : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ 
قالت بكوثر ; أي بمال كثير . والكوثر من الرجال : السيد الكثير الخير .
 قال الكميت :وأنت كثير يا بن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والكوثر : العدد الكثير من الأصحاب والأشياع .
 والكوثر من الغبار : الكثير . 
وقد تكوثر إذا كثر ; 

قال الشاعر :
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا

الثانية : 
واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ستة عشر قولا :

الأول :
 أنه نهر في الجنة ; رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج . هذا حديث حسن صحيح .

الثاني :
 أنه حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموقف ; قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر - ثم قال - أتدرون ما الكوثر ؟ . قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي - عز وجل - ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول إنه من أمتي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك .
والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ، ذكرناها في كتاب ( التذكرة ) . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة ; - رضوان الله عليهم - . وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر ، وذكرنا هناك من يطرد عنه . فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك . ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا ، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد - عليه السلام - هناك . ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير .

الثالث :
 أن الكوثر النبوة والكتاب ; قاله عكرمة .

الرابع :
 القرآن ; قاله الحسن .

الخامس :
 الإسلام ; حكاه المغيرة .

السادس : 
تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ; قاله الحسين بن الفضل .

السابع :
 هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع ; قاله أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب .

الثامن :
 أنه الإيثار ; قاله ابن كيسان .

التاسع :
 أنه رفعة الذكر . حكاه الماوردي .

العاشر :
 أنه نور في قلبك دلك علي ، وقطعك عما سواي .

وعنه : هو الشفاعة ; وهو الحادي عشر .

وقيل : معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك ; حكاه الثعلبي ، وهو الثاني عشر .

الثالث عشر : 
قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .

وقيل : الفقه في الدين . 
وقيل : الصلوات الخمس ; 

وهما الرابع عشر والخامس عشر . وقال ابن إسحاق : هو العظيم من الأمر ; وذكر بيت لبيد :
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر
أي عظيم .
قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ; لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في الكوثر . وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض
 فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - . 

وفي حوضه يقول الشاعر :
يا صاحب الحوض من يدانيكا وأنت حقا حبيب باريكا
وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيادة على حوضه ، - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا .


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قوله تعالى : فصل لربك وانحر
فيه خمس مسائل :
الأولى :
 قوله تعالى : فصل أي أقم الصلاة المفروضة عليك ; كذا رواه الضحاك عن ابن عباس . 
وقال قتادة وعطاء وعكرمة : فصل لربك صلاة العيد ويوم النحر . وانحر نسكك .
 وقال أنس : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحر ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر . 

وقال سعيد بن جبير أيضا : صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع ، وانحر البدن بمنى ، وقال سعيد بن جبير أيضا : نزلت في الحديبية حين حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيت ، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف ; ففعل ذلك . 

قال ابن العربي : أما من قال : إن المراد بقوله تعالى : فصل : الصلوات الخمس ; فلإنها ركن العبادات ، وقاعدة الإسلام ، وأعظم دعائم الدين . 
وأما من قال : إنها صلاة الصبح بالمزدلفة ; 
فلأنها مقرونة بالنحر ، وهو في ذلك اليوم ، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها ; فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر " .

قلت : وأما من قال إنها صلاة العيد ; فذلك بغير مكة ; إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع ، فيما حكاه ابن عمر . قال ابن العربي :
 ( فأما مالك فقال : ما سمعت فيه شيئا ، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر ، والنحر بعدها ) . وقال علي - رضي الله عنه - ومحمد بن كعب : المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة . وروي عن ابن عباس أيضا .

وروي عن علي أيضا : أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره . وكذا قال جعفر بن علي : فصل لربك وانحر قال : يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر .

 وعن علي - رضي الله عنه - قال : لما نزلت فصل لربك وانحر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : " ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها " ؟
 قال : " ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة " . 

وعن أبي صالح عن ابن عباس قال : استقبل القبلة بنحرك ; وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص . ومنه قول الشاعر :
أبا حكم ما أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي المتقابل .
 قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : منازلنا تتناحر ; أي تتقابل ، نحر هذا بنحر هذا ; أي قبالته . 
وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ; من قولهم : منازلهم تتناحر ; أي تتقابل . 

وروي عن عطاء قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره .
 وقال سليمان التيمي : يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك . وقيل : فصل معناه : واعبد . 

وقال محمد بن كعب القرظي : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر يقول : إن ناسا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ; وقد أعطيناك الكوثر ، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله . 

قاله ابن العربي : والذي عندي أنه أراد : اعبد ربك ، وانحر له ، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر ، وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر ، وهو الخير الكثير ، الذي أعطاكه الله ، أو النهر الذي طينه مسك ، وعدد آنيته نجوم السماء ;
 أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر ، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة ، فذلك يبعد في التقدير والتدبير ، وموازنة الثواب للعبادة . والله أعلم .

الثانية :
 قد مضى القول في سورة ( الصافات ) في الأضحية وفضلها ، ووقت ذبحها ; فلا معنى لإعادة ذلك . وذكرنا أيضا في سورة ( الحج ) جملة من أحكامها . 
قال ابن العربي : ومن عجيب الأمر : أن الشافعي قال : إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه ، والله تعالى يقول في كتابه : فصل لربك وانحر ، فبدأ بالصلاة قبل النحر ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( في البخاري وغيره ، عن البراء بن عازب ، قال ) : أول ما نبدأ به في يومنا هذا : نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعل فقد أصاب نسكنا ، ومن ذبح قبل ، فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء " . وأصحابه ينكرونه ، وحبذا الموافقة .

الثالثة : وأما ما روي عن علي - عليه السلام - فصل لربك وانحر قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة ( خرجه الدارقطني ) ،
 فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال :

_الأول : لا توضع فريضة ولا نافلة ; لأن ذلك من باب الاعتماد . ولا يجوز في الفرض ، ولا يستحب في النفل .
_الثاني : لا يفعلها في الفريضة ، ويفعلها في النافلة استعانة ; 
لأنه موضع ترخص .

_الثالث : يفعلها في الفريضة والنافلة . وهو الصحيح ; لأنه ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره .
 قال ابن المنذر : وبه قال مالك وأحمد وإسحاق ، وحكي ذلك عن الشافعي . واستحب ذلك أصحاب الرأي . ورأت جماعة إرسال اليد . وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي .
قلت : وهو مروي أيضا عن مالك .
 قال ابن عبد البر : إرسال اليدين ، ووضع اليمنى على الشمال ، كل ذلك من سنة الصلاة .

_الرابعة : واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد ; فروي عن علي بن أبي طالب : أنه وضعهما على صدره . وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل : فوق السرة . وقال : لا بأس إن كانت تحت السرة .
 وقالت طائفة : توضع تحت السرة .
 وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز . وبه قال سفيان الثوري وإسحاق .

_الخامسة : وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود ، فاختلف في ذلك ; 
فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا سجد . لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبد الوهاب الثقفي .
 والصواب : من فعل أنس . وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ، حتى تكونا حذو منكبيه ، ثم يكبر ، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع ، ويقول سمع الله لمن حمده . ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود .

قال ابن المنذر : وهذا قول الليث بن سعد ، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور . وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول . وبه أقول ; 
لأنه الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
وقالت طائفة : يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة ، ولا يرفع فيما سوى ذلك . هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .

قلت : وهو المشهور من مذهب مالك ; لحديث ابن مسعود ; ( خرجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل ) ، قال : حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ; فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة . قال إسحاق : به نأخذ في الصلاة كلها . قال الدارقطني : تفرد به محمد بن جابر ( وكان ضعيفا ) عن حماد عن إبراهيم . وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبد الله ، من فعله ، غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وهو الصواب . 
وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء : أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة . 

قال الدارقطني : وإنما لقن يزيد في آخر عمره : ( ثم لم يعد ) فتلقنه وكان قد اختلط .
 وفي ( مختصر ما ليس في المختصر ) عن مالك : لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة .
 قال ابن القاسم : ولم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام ، قال : وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام .



إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر
أي مبغضك ; وهو العاص بن وائل .
 وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ، ثم مات البنون وبقي البنات : أبتر .
 فيقال : إن العاص وقف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلمه ، فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفا ؟ فقال : مع ذلك الأبتر . 
وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من خديجة ; 
فأنزل الله جل شأنه : إن شانئك هو الأبتر أي المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة .
 وذكر عكرمة عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا : بتر فلان .

 فلما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج أبو جهل إلى أصحابه ، فقال : بتر محمد ; فأنزل الله جل ثناؤه : إن شانئك هو الأبتر يعني بذلك أبا جهل . وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط .

 وقيل : إن قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده : قد بتر فلان . فلما مات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه القاسم : بمكة ، وإبراهيم بالمدينة ، قالوا : بتر محمد ، فليس له من يقوم بأمره من بعده ; فنزلت هذه الآية ; قال السدي وابن زيد .

 وقيل : إنه جواب لقريش حين قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم مكة : نحن أصحاب السقاية والسدانة والحجابة واللواء ، وأنت سيد أهل المدينة ، فنحن خير أم هذا الصنيبر الأبيتر من قومه ؟
 قال كعب : بل أنتم خير ; فنزلت في كعب : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الآية .
 ونزلت في قريش : إن شانئك هو الأبتر ; قاله ابن عباس أيضا وعكرمة .

وقيل : إن الله - عز وجل - لما أوحى إلى رسوله ، ودعا قريشا إلى الإيمان ، قالوا : انبتر منا محمد ; 
أي خالفنا وانقطع عنا . فأخبر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنهم هم المبتورون ; قاله أيضا عكرمة وشهر بن حوشب .
 قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : الذي لا ولد له ، ومن الدواب الذي لا ذنب له . وكل أمر انقطع من الخير أثره ، فهو أبتر . 
والبتر : القطع .
 بترت الشيء بترا : قطعته قبل الإتمام . 
والانبتار : الانقطاع . 
والباتر : السيف القاطع .
 والأبتر : المقطوع الذنب . 
تقول منه : بتر ( بالكسر ) يبتر بترا . 
وفي الحديث ما هذه البتيراء . 
وخطب زياد خطبته البتراء ; لأنه لم يمجد الله فيها ، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
 ابن السكيت : الأبتران : العير والعبد ;
 قال سميا أبترين لقلة خيرهما .
 وقد أبتره الله : أي صيره أبتر . 
ويقال : رجل أباتر بضم الهمزة : الذي يقطع رحمه قال الشاعر :
لئيم نزت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أحد أباتر

والبترية : فرقة من الزيدية ; نسبوا إلى المغيرة بن سعد ، ولقبه الأبتر . 
وأما الصنبور فلفظ مشترك . 
قيل : هو النخلة تبقى منفردة ، ويدق أسفلها ويتقشر ; يقال : صنبر أسفل النخلة . 
وقيل : هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ .
 وقيل : هو مثعب الحوض خاصة ;

 حكاه أبو عبيد . وأنشد :
ما بين صنبور إلى الإزاء
والصنبور : قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها . حكى جميعه الجوهري - رحمه الله - والله سبحانه وتعالى أعلم .

.....    ........   .....

تفسير سورة الكوثر للطبري


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
يقول تعالى ذكره: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ) يا محمد ( الْكَوْثَرَ) 

واختلف أهل التأويل في معنى الكوثر, 
فقال بعضهم:
 هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
حدثني يعقوب, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا عطاء بن السائب, عن محارب بن دثار, عن ابن عمر: أنه قال: " الكوثر: نهر في الجنة, حافتاه من ذهب وفضة, يجري على الدرّ والياقوت, ماؤه أشدّ بياضا من اللبن, وأحلى من العسل ".

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن عطاء, عن محارب بن دثار الباهلي, عن ابن عمر, في قوله: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: " نهر في الجنة حافتاه الذهب, ومجراه على الدرّ والياقوت, وماؤه اشدّ بياضا من الثلج, وأشدّ حلاوة من العسل, وتربته أطيب من ريح المسك ".

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا عمر بن عبيد, عن عطاء, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, 
قال: " الكوثر: نهر في الجنة حافتاه من ذهب وفضة، يجري على الياقوت والدرّ, ماؤه أبيض من الثلج, وأحلى من العسل ".

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب القُمِّي, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية, عن شقيق أو مسروق, قال: قلت لعائشة: يا أمّ المؤمنين, وما بُطْنان الجنة؟ قالت: " وسط الجنة: حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت, ترابه المسك, وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت ".

حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازيّ, قال: ثنا أبو النضر وشبابة, قالا ثنا أبو جعفر الرازيّ, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن رجل, عن عائشة قالت: الكوثر: نهر في الجنة ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن أبي جعفر; وحدثنا ابن أبي سريج, قال: ثنا أبو نعيم, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ, عن ابن أبي نجيح, عن أنس, قال: الكوثر: نهر في الجنة.

قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عائشة قالت: الكوثر نهر في الجنة, درّ مجوّف.

حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عائشة: " الكوثر: نهر في الجنة, عليه من الآنية عدد نجوم السماء ".
قال ثنا وكيع, عن أبي جعفر الرازيّ, عن ابن أبي نجيح, عن عائشة قالت: من أحبّ أن يسمع خرير الكوثر, فليجعل أصبعيه في أُذنيه.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عائشة, قالت: نهر في الجنة, شاطئاه الدرّ المجوّف.

قال: ثنا مهران, عن أبي معاذ عيسى بن يزيد, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عائشة قالت: " الكوثر: نهر في بطنان الجنة وسط الجنة, فيه نهر شاطئاه در مجوف, فيه من الآنية لأهل الجنة, مثل عدد نجوم السماء ".

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: نهر أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الجنة.

حدثنا أحمد بن أبي سريج, قال: ثنا مسعدة, عن عبد الوهاب, عن مجاهد, قال: " الكَوْثر: نهر في الجنة, ترابه مسك أذفر, وماؤه الخمر ".

حدثنا ابن أبي سريج, قال: ثنا عبيد الله, قال: أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, في قوله: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: نهر في الجنة.

حدثنا الربيع, قال: أخبرنا ابن وهب, عن سليمان بن بلال, عن شريك بن أبي نمر, قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا, قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم, مضى به جبريل في السماء الدنيا, فإذا هو بنهر, عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد, فذهب يَشَمّ ترابه, فإذا هو مسك, فقال: " يا جبريل ما هذا النهر؟" قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربُّك .

وقال آخرون: عُنِي بالكوثر: الخير الكثير.
_ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب, قال: ثني هشيم, قال: أخبرنا أبو بشر وعطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة, قال: فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن عطاء بن السائب, قال: قال محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر؟ قال: قلت: قال: قال ابن عباس: هو الخير الكثير, فقال: صدق والله.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, قال: الكوثر: الخير الكثير.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي بشر, قال: سألت سعيد بن جبير, عن الكوثر, فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله, فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة, فقال: 
هو الخير الذي أعطاه الله إياه.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الصمد, قال: ثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الخير الكثير.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا محمد, قال: ثنا شعبة, عن عمارة بن أبى حفصة, عن عكرمة, قال: هو النبوّة, والخير الذي أعطاه الله إياه.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا حرمي بن عمارة, قال: ثنا شعبة, قال: أخبرني عمارة, عن عكرمة في قول الله: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الخير الكثير, والقرآن والحكمة.

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: ثنا عمارة بن أبي حفصة, عن عكرمة أنه قال: الكوثر: الخير الكثير.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الخير الكثير.

قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن هلال, قال: سألت سعيد بن جُبير ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: أكثر الله له من الخير, قلت: نهر في الجنة؟ قال: نهر وغيره.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: ثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الكوثر: الخير الكثير.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الكوثر: الخير الكثير.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن مجاهد: الكوثر: قال: الخير كله.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: خير الدنيا والآخرة.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة في الكوثر, قال: هو الخير الكثير.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير, قال: الكوثر: الخير الكثير.

قال: ثنا وكيع, عن بدر بن عثمان, سمع عكرمة يقول في الكوثر: قال: ما أُعطي النبّي من الخير والنبوّة والقرآن.

حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازيّ, قال: ثنا أبو داود, عن بدر, عن عكرمة, قوله: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الخير الذي أعطاه الله النبوّة والإسلام.


وقال آخرون: هو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن مطر, عن عطاء ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: حوض في الجنة أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أحمد بن أبي سريج, قال: ثنا أبو نعيم, قال: ثنا مطر, قال: سألت عطاء ونحن نطوف بالبيت عن قوله: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال: حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي, قول من قال:
هو اسم النهر الذي أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة, وصفه الله بالكثرة, لعِظَم قدره.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك, لتتابع الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك.

_ ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا أحمد بن المقدام العجلي, قال: ثنا المعتمر, قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة, عن أنس قال: لما عُرج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الجنة, أو كما قال, عرض له نهر حافتاه الياقوت المجوف, أو قال: المجوب, فضرب الملك الذي معه بيده فيه, فاستخرج مسكا, فقال محمد للملك الذي معه: " ما هَذَا؟
" قال: " هذا الكوثر الذي أعطاك الله; قال: ورفعت له سدرة المنتهى, فأبصر عندها أثرا عظيما "
 أو كما قال.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم,
 قال: " بَيْنَما أنا أسِيرُ في الجَنَّةِ, إذْ عَرَض ليَ نَهْرٌ, حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّفِ, فقالَ المَلَكُ الَّذِي مَعَهُ: أتَدْرِي ما هَذَا؟ هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطاكَ اللهُ إيَّاهُ, وَضَرَبَ بِيَدِهِ إلى أرْضِه, فأخْرَجَ مِنْ طِينِه المِسْكَ" .

حدثني ابن عوف, قال: ثنا آدم, قال: ثنا شيبان, عن قتادة, عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمَّا عُرِجَ بِي إلى السَّماء, أَتَيْتُ على نَهْرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّف, قُلتُ: ما هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطَاكَ رَبُّكَ, فأهْوَى المَلكُ بِيَدِهِ, فاسْتَخْرَجَ طِينَه مِسْكًا أذفَرَ" .

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا ابن أبي عديّ, عن حميد, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَخَلْتُ الجَنَّة, فإذَا أنا بِنَهْرٍ حافَتاهُ خِيامُ اللُّؤْلُؤِ, فَضَرَبْتُ بِيَدِي إلى ما يَجْرِي فِيهِ, فإذَا مِسْكٌ أذْفَرُ;
 قال: قُلْتُ: ما هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطاكَهُ اللهُ" .

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الصمد, قال: ثنا همام, قال: ثنا قتادة, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحو حديث يزيد, عن سعيد.
حدثنا بشر, قال: ثنا أحمد بن أبي سريج, قال: ثنا أبو أيوب العباس, قال: ثنا إبراهيم بن مسعدة, قال: ثنا محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي ابن شهاب, عن أبيه, عن أنس, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر, 
فقال: " هُوَ نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ في الجَنَّةِ, تُرَابُهُ مِسْكٌ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ, وأحْلَى مِنَ العَسَلِ, تَرِدُهُ طَيْرٌ أعنَاقُهَا مِثْلُ أعناقِ الجُزُرِ", 
قال أبو بكر: يا رسول الله, إنها لناعمة؟ قال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْها " .

حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي, عن كثير, عن أنس بن مالك, قال:
 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 " دَخَلْتُ الجَنَّةَ حِينَ عُرِجَ بِيَ, فَأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ, فإذَا هُوَ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ, عُضَادَتاهُ بُيُوتٌ مُجَوَّفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ" .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث, عن الليث, عن يزيد بن الهاد, عن عبد الله بن مسلم بن شهاب, عن أنس:
 أن رجلا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, ما الكوثر؟ 
قال: " نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ فِي الجَنَّةِ, لَهُوَ أشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ, وأحْلَى مِنَ العَسَلِ, فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُهَا كأعْناقِ الجُزُرِ". قال عمر: يا رسول الله إنها لناعمة, قال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْها " .

حدثنا يونس, قال: ثنا يحيى بن عبد الله, قال: ثني الليث, عن ابن الهاد, عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم بن شهاب, عن أنس, أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر مثله.

حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن الزهري، أن أخاه عبد الله, أخبره أن أنس بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ما الكوثر؟ 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ فِي الجَنَّةِ, مَاؤهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ, وأحْلَى مِنَ العَسَلِ, فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُهَا كأعْناقِ الجُزُرِ", فقال عمر: إنها لناعمة يا رسول الله, فقال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْهَا " .

فقال: عمر بن عثمان: قال ابن أبي أُوَيس; وحدثني أبي, عن ابن أخي الزهريّ, عن أبيه, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكوثر, مثله.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا ابن فضيل, قال: ثنا عطاء, عن محارب بن دثار, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 
" الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ, حَافَتاهُ مِنْ ذَهَبٍ, وَمجْرَاهُ عَلى الْياقُوتِ والدُّرِّ, تُرْبَتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ, ماؤُهُ أحْلَى مِنَ العَسَلِ, وأشَدُّ بَياضًا مِنَ الثَّلْجِ" .

حدثنا يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا عطاء بن السائب, قال: قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر؟ قلت: حدثنا عن ابن عباس, أنه قال: هو الخير الكثير, فقال: صدق والله, إنه للخير الكثير, ولكن حدثنا ابن عمر, قال: لما نـزلت:
 ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ, حافَتاهُ مِنْ ذَهَبٍ, يَجْرِي على الدُّرِّ واليَاقُوتِ" .

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن أنس بن مالك, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ", قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
 " رَأَيْتُ نَهَرًا حَافَتاهُ اللُّؤْلُؤ, فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ ما هَذَا؟ 
قالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطَاكَهُ اللهُ" .

حدثنا ابن البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير, 
قال: أخبرنا حزام بن عثمان, عن عبد الرحمن الأعرج, عن أُسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما, فلم يجده, فسأل امرأته عنه, وكانت من بني النجار, فقالت: خرج, بأبي أنت آنفا عامدا نحوك, فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار, أو لا تدخل يا رسول الله؟ 
فدخل, فقدمت إليه حيسا, فأكل منه,
 فقالت: يا رسول الله, هنيئا لك ومريئا, لقد جئت وإني لأريد أن آتيك فأهنيك وأمريك أخبرني أبو عمارة أنك أُعطيت نهرا في الجنة يُدعى الكوثر, فقال:
 " أَجَلْ, وَعَرْضُهُ - يعني أرضه - يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ وزَبَرْجَدٌ ولُؤْلُؤٌ" .


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
وقوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )

اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب, ومعنى قوله: ( وَانْحَرْ)
 فقال بعضهم: 
حضه على المواظبة على الصلاة المكتوبة, وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) .

_ ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي, قال: ثنا محمد بن ربيعة, قال: ثني يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد, عن عاصم الجحدري, عن عقبة بن ظهير, عن علي رضى الله عنه في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) 
قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا حماد بن سلمة, عن عاصم الجحدري, عن عقبة بن ظبيان عن أبيه, عن علي رضى الله عنه ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: وضع اليد على اليد في الصلاة.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن حماد بن سلمة, عن عاصم الجحدري, عن عقبة بن ظهير, عن أبيه, عن علي رضى الله عنه ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى, ثم وضعهما على صدره.
قال: ثنا مهران, عن حماد بن سلمة, عن عاصم الأحول, عن الشعبي مثله.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن يزيد بن أبي زياد, عن عاصم الجحدري, عن عقبة بن ظهير, عن علي رضى الله عنه: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عاصم, يقال: ثنا عوف, عن أبي القُموص, في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: وضع اليد على اليد في الصلاة.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا أبو صالح الخراساني, قال: ثنا حماد, عن عاصم الجحدري, عن أبيه, عن عقبة بن ظبيان, أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال في قول الله: 
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده الأيسر, ثم وضعهما على صدره.


وقال آخرون: بل عُنِيَ بقوله ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) : الصلاة المكتوبة, وبقوله ( وَانْحَرْ) أن يرفع يديه إلى النحر عند افتتاح الصلاة والدخول فيها.

_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) الصلاة, وانحر: برفع يديه أول ما يكبر في الافتتاح.


وقال آخرون: عني بقوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) المكتوبة, وبقوله ( وَانْحَرْ) : نحر البُدن.

_ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام بن سلم وهارون بن المغيرة, عن عنبسة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )
 قال: الصلاة المكتوبة, ونحر البُدن.
حدثني يعقوب, قال: ثنا هشيم, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير وحجاج أنهما قالا في قوله: 
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: صلاة الغداة بجمع, ونحر البُدن بمنًى.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن قطر, عن عطاء: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: صلاة الفجر, وانحر البدن. حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: الصلاة المكتوبة, والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: صلاة الفجر.


وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: صل يوم النحر صلاة العيد, وانحر نسكك.

_ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا هارون بن المغيرة, عن عنبسة, عن جابر, عن أنس بن مالك, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر قبل أن يصلي, فأمر أن يصلي ثم ينحر .

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن جابر, عن عكرِمة: فصلّ الصلاة, وانحر النُّسُك.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن ثابت بن أبي صفية, عن أبي جعفر ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) قال: الصلاة; وقال عكرِمة: الصلاة ونحر النُّسُك.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: إذا صليت يوم الأضحى فانحر.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا قطر, قال: سألت عطاء, عن قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: تصلي وتنحر.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عوف, عن الحسن ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: اذبح

قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا أبان بن خالد, قال: سمعت الحسن يقول ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: الذبح.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: نحر البُدن, والصلاة يوم النحر.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: صلاة الأضحى, والنحر: نحر البُدن.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: مناحر البُدن بِمِنًى.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن رجل, عن عكرمة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: نحر النسك.

حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) يقول: اذبح يوم النحر.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: نحر البُدن.


وقال آخرون: قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم,
 لأن قوما كانوا يصلون لغير الله, وينحرون لغيره فقيل له. اجعل صلاتك ونحرك لله, إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره.

_ ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني أبو صخر, عن محمد بن كعب القرظي, أنه كان يقول في هذه الآية:
 ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )
 يقول: إن ناسا كانوا يصلون لغير الله, وينحرون لغير الله, فإذا أعطيناك الكوثر يا محمد, فلا تكن صلاتك ونحرك إلا لي.


وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية يوم الحديبية, حين حصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وصُدّوا عن البيت, فأمره الله أن يصلي, وينحر البُدن, وينصرف, ففعل.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, قال: ثني أبو معاوية البجلي, عن سعيد بن جُبير أنه قال: كانت هذه الآية, يعني قوله: 
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) يوم الحديبية, أتاه جبريل عليه السلام فقال: انحر وارجع, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخطب خطبة الفطر والنحر ثم ركع ركعتين, ثم انصرف إلى البُدن فنحرها, فذلك حين يقول: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) .


وقال آخرون: بل معنى ذلك: فصل وادع ربك وسله.

_ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال: صلّ لربك وسل.
وكان بعض أهل العربية يتأوّل قوله: ( وَانْحَرْ) واستقبل القبلة بنحرك. وذُكر أنه سمع بعض العرب يقول: منازلهم تتناحر: أي هذا بنحر هذا: أي قبالته. وذكر أن بعض بني أسد أنشده:
أبــا حَـكَمٍ هَـلْ أنْـتَ عَـمُّ مُجَـالِدٍ
وَسَــيِّدُ أهْــلِ الأبْطَــحِ المُتَنَـاحِرِ 

أي ينحر بعضه بعضا.

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: 

معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة, وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان, شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له, وخصك به, من إعطائه إياك الكوثر.

وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك, 
لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته, وإنعامه عليه بالكوثر, ثم أتبع ذلك قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) , فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له, والنحر على الشكر له, على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه, بإعطائه إياه الكوثر, فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض, وبعض النحر دون بعض وجه, إذ كان حثا على الشكر على النِّعَم.

فتأويل الكلام إذن: إنا أعطيناك يا محمد الكوثر, إنعاما منا عليك به, وتكرمة منا لك, فأخلص لربك العبادة, وأفرد له صلاتك ونسكك, خلافا لما يفعله من كفر به, وعبد غيره, ونحر للأوثان.


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وقوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ )
يعني بقوله جل ثناؤه:
 ( إِنَّ شَانِئَكَ ) إن مبغضك يا محمد وعدوك 
( هُوَ الأبْتَرُ ) يعني بالأبتر: الأقلّ والأذلّ المنقطع دابره, الذي لا عقب له.


واختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك, فقال بعضهم: عني به العاص بن وائل السهميّ.

_ ذكر من قال ذلك:
حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) يقول: عدوّك.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: هو العاص بن وائل.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن هلال بن خباب, قال: سمعت سعيد بن جُبير يقول: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: هو العاص بن وائل.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن هلال, قال: سألت سعيد بن جُبير, عن قوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: عدوّك العاص بن وائل انبتر من قومه.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: العاص بن وائل, قال: أنا شانئٌ محمدا, ومن شنأه الناس فهو الأبتر.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: هو العاص بن وائل, قال: أنا شانئٌ محمدا, وهو أبتر, ليس له عقب, قال الله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال قتادة: الأبتر: الحقير الدقيق الذليل.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) هذا العاص بن وائل, بلغنا أنه قال: أنا شانئُ محمد.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: الرجل يقول: إنما محمد أبتر, ليس له كما ترون عقب, قال الله: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) .


وقال آخرون: بل عني بذلك: عقبة بن أبي معيط.

_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب القُمِّي, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية, قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول: إنه لا يبقى للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولد, وهو أبتر, فأنـزل الله فيه هؤلاء الآيات: ( إِنَّ شَانِئَكَ ) عقبة بن أبي معيط ( هُوَ الأبْتَرُ ) .


وقال آخرون: بل عني بذلك جماعة من قريش.

_ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الوهاب, قال: ثنا داود, عن عكرمة, 
في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا قال: 
نـزلت في كعب بن الأشرف, أتى مكة فقال لها أهلها: نحن خير أم هذا الصنبور 
المنبتر من قومه, ونحن أهل الحجيج, وعندنا منحر البدن, قال: أنتم خير. فأنـزل الله فيه هذه الآية, وأنـزل في الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا:
 ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) .

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن بدر بن عثمان, عن عكرمة ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) .
 قال: لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت قريش: بَتِرَ محمد منا, 
فنـزلت: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: الذي رماك بالبتر هو الأبتر.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا ابن أبى عديّ, قال: أنبأنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس 
قال: لما قَدِم كعب بن الأشرف مكة أتَوْه, فقالوا له: نحن أهل السقاية والسدانة, وأنت سيد أهل المدينة, فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه, يزعم أنه خير منا؟ قال: 
بل أنتم خير منه, فنـزلت عليه: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) قال: وأنـزلت عليه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ... إلى قوله نَصِيرًا .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن مُبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلّ الأذلّ, المنقطع عقبه, فذلك صفة كل من أبغضه من الناس, وإن كانت الآية نـزلت في شخص بعينه.
آخر تفسير سورة الكوثر

....     .....    ......
تفسير سورة الكوثر الشوكاني 

قرأ الجمهور: {إنا أعطيناك} وقرأ الحسن، وابن محيصن، وطلحة، والزعفراني:
 {أنطيناك} بالنون. قيل: هي لغة العرب العاربة.
 قال الأعشى:
حباؤك خير حبا الملوك
          يصان الحلال وتنطى الحلولا

و {الكوثر} فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. العرب تسمي كلّ شيء كثير في العدد، أو القدر، أو الخطر كوثراً،
 ومنه قول الشاعر:
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا

فالمعنى على هذا: 
إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية.

وذهب أكثر المفسرين، كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة.
 وقيل: هو حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم في الموقف قاله عطاء.

وقال عكرمة: الكوثر النبوّة.
وقال الحسن: هو القرآن.
وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن، وتخفيف الشرائع.
وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة.

وقال ابن كيسان: هو الإيثار.
 وقيل هو الإسلام. وقيل: رفعة الذكر. 
وقيل: نور القلب. 
وقيل: الشفاعة. وقيل: المعجزات. 
وقيل: إجابة الدعوة.
 وقيل: لا إله إلاّ الله. 
وقيل: الفقه في الدين. 
وقيل: الصلوات الخمس، وسيأتي بيان ما هو الحق {فَصَلّ لِرَبّكَ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد الأمر له صلى الله عليه وسلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة. 
{وانحر} البدن التي هي خيار أموال العرب.
 قال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونحره له.

وقال قتادة، وعطاء، وعكرمة: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية.

وقال سعيد بن جبير: صلّ لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع. وانحر البدن في منى. 
وقيل: النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر قاله محمد بن كعب. 
وقيل: هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره.
 وقيل: هو أن يستقبل القبلة بنحره قاله الفراء، والكلبي، وأبو الأحوص. 
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول نتناحر، أي: نتقابل: نحر هذا، إلى نحر هذا
 أي: قبالته، ومنه قول الشاعر:
أبا حكم ما أنت عمّ مجالد 
           وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي: المتقابل.

وقال ابن الأعرابي: هو: انتصاب الرجل في الصلاة بازاء المحراب.
 من قولهم: منازلهم تتناحر تتقابل.
وروي عن عطاء أنه قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
وقال سليمان التيمي: المعنى: وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك، وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه وسلم بمطلق الصلاة، ومطلق النحر، وأن يجعلهما لله عزّ وجلّ لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص، فهو في حكم التقييد له، وسيأتي إن شاء الله.

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} أي: إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم. 
فيعمّ خيري الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته، وظاهر الآية العموم، وأن هذا شأن كل من يبغض النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما مرّ غير مرّة. 
قيل: كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا: قد بتر فلان، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد، فنزلت الآية. 
وقيل: القائل بذلك عقبة بن أبي معيط. قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدوابّ: الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر القطع، يقال بترت الشيء بتراً: قطعته.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أنس قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه مبتسماً فقال: «إنه أنزل عليّ آنفاً سورة» فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} {إِنَّا أعطيناك الكوثر} 
حتى ختمها قال: «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، 
قال: «هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا ربّ إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك» وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه.

وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 
«دخلت الجنة، فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء، فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ 

قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله» وقد روي عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة.

وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، وابن جرير، وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم في بطنان الجنة.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر في الجنة.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة في قوله: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} قال: نهر في الجنة. وحسن السيوطي إسناده.

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن أسامة بن زيد مرفوعاً: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر، فقال: «أجل، وأرضه ياقوت، ومرجان، وزبرجد، ولؤلؤ»

وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكوثر؟ قال: «هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله» فهذه الأحاديث تدلّ على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، فيتعين المصير إليها، وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر: هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعمّ مما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغويّ.

كما أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال: قال محارب بن دثار: قال سعيد بن جبير في الكوثر: قلت حدّثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق إنه للخير الكثير، ولكن حدّثنا ابن عمر قال: نزلت:
 {إِنَّا أعطيناك الكوثر} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدرّ، والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل».

وأخرج البخاري، وابن جرير، والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: 
قلت لسعيد بن جبير، فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. 
وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغويّ كما عرّفناك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسّره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أعطيناك الكوثر * فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟»
 فقال: إنها ليست بنحيرة، ولكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، فإنها صلاتنا، وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع، وإن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
 «رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله: 
{فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}» [المؤمنون: 76] 
هو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: «إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة، فذاك النحر».

وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن عليّ بن أبي طالب في قوله:
 {فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى، ثم وضعهما على صدره في الصلاة.

وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في سننه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن شاهين في سننه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس {فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} قال: إذا صليت، فرفعت رأسك من الركوع، فاستو قائماً.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: الصلاة المكتوبة، والذبح يوم الأضحى.

وأخرج البيهقي في سننه عنه: {وانحر} قال: يقول: 
واذبح يوم النحر.

وأخرج البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: 
قدم كعب بن الأشرف مكة. فقالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم، ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة، قال: أنتم خير منه، 
فنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} [النساء: 51] إلى قوله: {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء: 52]. 

قال ابن كثير: وإسناده صحيح.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} إلى آخر السورة.

وأخرج ابن سعد، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات القاسم، 
وهو: أوّل ميت من أهله، وولده بمكة، ثم مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر}. وفي إسناده الكلبي.

جوأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} قال: أبو جهل.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {إِنَّ شَانِئَكَ} يقول: عدوّك.
.......    .........   .....

تفسير سورة الكوثر للبغوي

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
مكية
( إنا أعطيناك الكوثر ) أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر عن المختار - يعني ابن فلفل - عن أنس قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟
 قال : أنزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم : 
" إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر " ، ثم قال : 
" أتدرون ما الكوثر " ؟ 
قلنا : الله ورسوله أعلم ،
 قال : " فإنه نهر وعدنيه ربي - عز وجل - عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول : رب إنه مني ، فيقول : ما تدري ما أحدث بعدك " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمرو بن محمد ، حدثنا هشيم ، حدثنا أبو بشر وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " الكوثر " : الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه . 
قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير : إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ؟ 
فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .
قال الحسن : هو القرآن العظيم .
قال عكرمة : النبوة والكتاب .

وقال أهل اللغة : الكوثر : فوعل [ من الكثرة ، كنوفل : فوعل ] من النفل والعرب تسمي كل شيء [ كثير في العدد أو ] كثير في القدر والخطر : كوثرا .
 والمعروف : أنه نهر في الجنة أعطاه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا حميد عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض  اللبن وأحلى من العسل وحافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل : 
ما هذا ؟ 
قال الكوثر الذي أعطاكه الله - عز وجل  : .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : 
" الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه الذهب مجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وأشد بياضا من الثلج " . .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا نافع بن عمر ، عن  ابن أبي مليكة قال : قال عبد الله بن عمرو : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
 " حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء ، من يشرب منها لم يظمأ أبدا " .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : 
" [ أنا عند عقر حوضي ] أذود الناس عنه لأهل اليمن " إني لأضربهم بعصاي حتى يرفضوا عنه " 
وإنه [ ليغت ] فيه ميزابان من الجنة ، أحدهما من ورق والآخر من ذهب طوله ما بين بصرى وصنعاء ، أو ما بين أيلة ومكة أو من مقامي هذا إلى عمان " .


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قوله - عز وجل - : 
( فصل لربك وانحر ) قال محمد بن كعب : إن أناسا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وينحر لله - عز وجل .

وقال عكرمة وعطاء وقتادة : فصل لربك صلاة العيد يوم النحر وانحر نسكك .

وقال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل الصلوات المفروضة بجمع وانحر البدن بمنى .

وروي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : " فصل لربك وانحر " قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر .


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى : ( إن شانئك ) عدوك ومبغضك ( هو الأبتر ) هو الأقل الأذل المنقطع دابره .

نزلت في العاص بن وائل السهمي ; وذلك أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من [ باب ] المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المساجد فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تتحدث معه ؟ قال : ذلك الأبتر يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد توفي ابن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة رضي الله عنها .

وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى هذه السورة .

وقال عكرمة عن ابن عباس : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش ، وذلك أنه لما قدم كعب مكة قالت له قريش : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة ، فنحن خير أم هذا [ الصنبور ] المنبتر من قومه ؟
 فقال : بل أنتم خير منه ، فنزلت : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ( النساء - 51 ) . الآية ،
 ونزل في الذين قالوا إنه أبتر : " إن شانئك هو الأبتر " أي المنقطع من كل خير .

.......   .......    .....  .

تفسير سورة الكوثر لابن تيمية 

سورة ‏[‏الكوثر‏]‏، ما أجلها من سورة‏!‏
 وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه -سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، 
ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله‏.‏ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا، ولا عونًا‏. ‏‏ 
ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها‏.
‏ وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورده لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره‏. ‏

 كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه، ومذهب طائفته، أو تمني ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏. ‏‏

 ومن أقوى علامات شناءته لها، وكراهته لها، أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك، وحاد ونفر عن ذلك؛ 

لما في قلبه من البغض لها، والنفرة عنها‏. ‏‏ فأي شانئ للرسول أعظم من هذا‏؟‏
 وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغنا والقصائد والدفوف والشَّبَّابات، إذا سمعوا القرآن يتلي ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا‏؟‏ 
وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب‏. ‏‏ 
وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسي القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان، ولكن أعظم من شنأه ورده‏:‏ من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرًا يؤثر، فهذا أعظم وأطم انبتارًا‏.

 ‏‏ وكل من شنأه له نصيب من الانبتار، على قدر شناءته له‏.‏
 فهؤلاء لما شنؤوه وعادوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديًا لهم، فبترهم منه، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك، وهو أنه أعطاه الكوثر، وهو من الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا‏:‏ الهدي والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه بحيث لا يشبه نعيمَه نعيم في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك‏.‏ 
وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم، وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنؤه ويشنأ ما جاء به‏.‏ وقوله‏:‏‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏، أي‏:‏ مبغضك‏.‏ والأبتر‏:‏ المقطوع النسل، الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح‏. ‏‏ قيل لأبي بكر بن عياش‏:‏ إن بالمسجد قومًا يجلسون ويجلس إليهم، فقال‏:‏ من جلس للناس، جلس الناس إليه‏.‏ ولكن أهل السنة يموتون، ويحيي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ 

لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله‏:‏‏{‏‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}‏‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏، 
وأهل البدعة شنؤوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}‏‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ 

فالحذَرَ الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارًا لمذهبك، أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع، إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول، ما أطيع‏. ‏‏ فاعلم ذلك واسمع، وأطع واتبع، ولا تبتدع، تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏، تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معطٍ كبير غني واسع‏. ‏‏ 
وأنه تعالى وملائكته وجنده معه‏.‏ صدر الآية ‏[‏ بإنَّ ‏]‏ الدالة على التأكيد، وتحقيق الخبر، وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال عن التحقيق، وأنه أمر ثابت واقع، ولا يدفعه ما فيه من الإيذان، بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قُدِّرت مقادير الخلائق، قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين، وأتي بالصفة، 
أي‏:‏ أنه سبحانه وتعالى قال‏:‏‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}،، فوصفه بالكوثر، والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة، كما قد وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة‏.‏ 
وقال ابن عباس‏:‏ الكوثر‏:‏إنما هو من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وإذا كان أقل أهل الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات، فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله له فيها‏؟‏‏!‏
 فالكوثر علامة وإمارة على تعدد ما أعده الله له من الخيرات، واتصالها وزيادتها، وسمو المنزلة وارتفاعها‏. ‏‏ وإن ذلك النهر وهو الكوثر أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء، وأعذبها وأحلاها وأعلاها‏.‏ 
وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه‏.
‏ كقوله‏:‏ زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي‏:‏ لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}‏‏، دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرًا، وإن نال منه بعض أمته شيئًا، كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه، والاقتداء به، مع أن له صلى الله عليه وسلم مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن الله تعالى يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته‏.‏ 
كلهم من غير أن ينتقص من أجورهم، فإنه هو السبب في هدايتهم، ونجاتهم، فينبغي بل يجب على العبد اتباعه والاقتداء به، وأن يمتثل ما أمره به، ويكثر من العمل الصالح صومًا وصلاة وصدقة وطهارة؛ ليكون له مثل أجره، فإنه إذا فعل المحظورات، فات الرسول مثل أجر ما فرط فيه من الخير، فإن فعل المحظور مع ترك المأمور قوي وزره، وصعبت نجاته؛ 
لارتكابه المحظور وتركه المأمور، وإن فعل المأمور وارتكب المحظور، دخل فيمن يشفع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكونه ناله مثل أجر ما فعله من المأمور، وإلى الله إياب الخلق، وعليه حسابهم، وهو أعلم بحالهم،
 أي‏:‏ بأحوال عباده، فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والمحسن إنما أحسن بتوفيق الله له، والمسيء لا حجة له ولا عذر‏.‏

 والمقصود أن الكوثر نهر في الجنة، وهو من الخير الكثير الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهذا غير ما يعطيه الله من الأجر الذي هو مثل أجور أمته إلى يوم القيامة، فكل من قرأ، أو علم أو عمل صالحًا، أو علم غيره، أو تصدق، أو حج، أو جاهد، أو رابط، أو تاب، أو صبر، أو توكل، أو نال مقامًا من المقامات القلبية من خشية وخوف ومعرفة وغير ذلك، فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر ذلك العامل‏. 


‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏} ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم؛ ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى‏:
‏ ‏{‏‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏،
والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه‏.
‏ والمقصود أن الصلاة والنسك هما أجَلّ ما يتَقَربُ به إلى الله‏.‏ 
فإنه أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ 
لأن فعل ذلك - وهو الصلاة والنحر سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية العبادات، وغاية الغايات،
 كأنه يقول‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}‏‏، الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرًا لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك‏. ‏‏ 
فقم لنا بهما، فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما، وإنعام بعدهما، وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة، لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص‏. ‏‏ 
وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثًا وستين بُدْنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها‏. ‏‏ 

وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏} ‏[‏الكوثر‏:‏1 -2‏]‏، إشارة إلى أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا، كما ذكر ذلك في آخر‏ "طه‏ " و‏" الحجر‏" وغيرهما، 
وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس، وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر‏.‏ 


وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله‏.
‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}‏‏، 
أنواع من التأكيد‏:‏ 
أحدها‏:‏ تصدير الجملة بإن‏. ‏‏ 
الثاني‏:‏ الإتيان بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص‏. ‏‏
 الثالث‏:‏ مجيء الخبر على أفعل التفضيل، دون اسم المفعول‏.‏
 الرابع‏:‏ تعريفه باللام الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه، وأنه أحق به من غيره، ونظير هذا في التأكيد قوله‏:‏ ‏{‏‏لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}‏‏ ‏[‏طه‏:‏68‏]‏‏.

‏ ومن فوائدها اللطيفة‏:‏ الالتفات في قوله‏:‏ ‏{‏‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏} 
الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له‏.

...     .....     .....

تفسير سورة الكوثر لابن الجوزي 

وفي {الكوثر} ستة أقوال.

أحدها:
 أنه نهر في الجنة. روى البخاري في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدُّرِّ المجوَّف.
 قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك عز وجل، فإذا طِينُه، أو طيبه، مسك أذفر».

 وروى مسلم أيضاً في أفراده من حديث أنس أيضاً قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسِّماً إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضَحِكْتَ؟ 
فقال: «إنه أُنزل عليَّ الآن آنفاً سورة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر} حتى ختمها. 

وقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. 
قال: «هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير تَرِدُ عليه أُمتي يوم القيامة آنيته عدد كواكب السماء، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». 

والثاني: 
أن الكوثر: الخير الكثير الذي أُعْطِيَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس.

والثالث: 
العلم والقرآن، قاله الحسن.

والرابع: 
النبوة، قاله عكرمة.

والخامس: 
أنه حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس عليه، قاله عطاء.

والسادس: 
أنه كثرة أتباعه، وأمته، قاله أبو بكر بن عياش.

قوله تعالى: {فصل: لربك} في هذه الصلاة ثلاثة أقوال.

أحدها: صلاة العيد. وقال قتادة: صلاة الأضحى.

والثاني: صلاة الصبح بالمزدلفة، قاله مجاهد.

والثالث: الصلوات الخمس، قاله مقاتل.

وفي قوله تعالى: {وانحر} خمسة أقوال.

أحدها: اذبح يوم النحر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء، ومجاهد، والجمهور.

والثاني: وضع اليمين على اليسرى عند النحر في الصلاة.

والثالث: أنه رفع اليدين بالتكبير إلى النحر، قاله أبو جعفر محمد بن علي.

والرابع: أن المعنى: صل لله، وانحر لله، فإن ناساً يصلون لغيره، وينحرون لغيره، قاله القرظي.

والخامس: أنه استقبال القبلة بالنحر، حكاه الفراء.


قوله تعالى: {إن شانئك} اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة أقوال؟!
أحدها:
 أنه العاص بن وائل السهمي، قاله ابن عباس: نزلت في العاص ابن وائل، لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص المسجد، وفيه أُناس من صناديد قريش، فقالوا له: مَن الذي كنتَ تُحَدِّث؟
 قال: ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فأنزل الله عز وجل هذه السورة. وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.

والثاني: 
أنه أبو جهل، روي عن ابن عباس أيضاً.

والثالث: 
أبو لهب، قاله عطاء.

والرابع:
 عقبة بن أبي معيط، قاله شمر بن عطية.

والخامس:
 أنه عنى به جماعة من قريش، قاله عكرمة. والشانئ: المبغض، والأبتر: المنقطع عن الخير.

........    ...........    .......

تفسير سورة الكوثر لابن القيم 

تفسير سورة الكوثر
 
 سورة الكوثر وهي مدنية ، وقيل : مكية .

بسم الله الرحمن الرحيم

( إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) فصل لربك وانحر ( 2 ) إن شانئك هو الأبتر ( 3 ) )

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، عن المختار بن فلفل ، عن أنس بن مالك قال : أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 
" إنه أنزلت علي آنفا سورة " .
 فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر ) حتى ختمها ، 
قال : " هل تدرون ما الكوثر ؟ 
" ، قالوا : الله ورسوله أعلم .
 قال : " هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم فأقول : يا رب ، إنه من أمتي . 
فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك 

عن أنس أنه قرأ هذه الآية ( إنا أعطيناك الكوثر )
 قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت الكوثر ، فإذا هو نهر يجري ، ولم يشق شقا ، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ ، فضربت بيدي في تربته ، فإذا مسكه ذفرة ، وإذا حصاه اللؤلؤ "

ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم ، عن أنس بن مالك قال : 
لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء 
قال : " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ 
قال : هذا الكوثر " . وهذا لفظ البخاري رحمه الله .

وقال سعيد ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
 " بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر ، حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف ، فقال الملك الذي معه : أتدري ما هذا ؟ هذا الكوثر الذي أعطاك الله .
 وضرب بيده إلى أرضه ، فأخرج من طينه المسك " وكذا رواه سليمان بن طرخان ومعمر وهمام وغيرهم ، عن قتادة به .

 عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فقال : 
" هو نهر أعطانيه الله في الجنة ، ترابه مسك ، [ ماؤه ] أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر " .
 فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : " أكلها أنعم منها " .

 عن شمر بن عطية عن شقيق - أو مسروق - قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين ، حدثيني عن الكوثر . قالت : نهر في بطنان الجنة . 
قلت : وما بطنان الجنة ؟ قالت : وسطها ، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصاؤه اللؤلؤ والياقوت .

وقال الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير .

 
وقال عكرمة : هو النبوة والقرآن ، وثواب الآخرة .

  عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل .

 عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، والماء يجري على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل " .  وقال الترمذي : حسن صحيح .


وقوله : ( فصل لربك وانحر ) أي :
 كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك النهر الذي تقدم صفته - فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونحرك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له . 

كما قال تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] 

١_قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن : يعني بذلك نحر البدن ونحوها .
 وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، 
كما قال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) الآية [ الأنعام : 121 ] .

٢_وقيل : المراد بقوله : ( وانحر ) وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر . يروى هذا عن علي ، ولا يصح . وعن الشعبي مثله .

٣_وعن أبي جعفر الباقر : ( وانحر ) يعني : 
ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة .

٤_وقيل : ( وانحر ) أي : استقبل بنحرك القبلة .
 ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير .

[ كل هذه الأقوال غريبة جدا ]
 والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك 
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول :
 " من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك .

 ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . 
فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله ، إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم . قال : " شاتك شاة لحم " . 
قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : " تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك " .

وقوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) أي :
 إن مبغضك - يا محمد - ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : نزلت في العاص بن وائل .
وقال محمد بن إسحاق : عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه ، فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره . فأنزل الله هذه السورة .

وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط .

وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش .

وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحساني ، حدثنا بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ، ألا ترى إلى هذا المصنبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ فقال : أنتم خير منه .
 قال : فنزلت : ( إن شانئك هو الأبتر )

هكذا رواه البزار ، وهو إسناد صحيح .

وعن عطاء : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال : بتر محمد الليلة . فأنزل الله في ذلك : ( إن شانئك هو الأبتر )

وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل . وعنه : ( إن شانئك ) يعني : عدوك . 
وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر ، وغيرهم .
[ ص: 505 ]

وقال عكرمة : الأبتر : الفرد . 
وقال السدي : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا : بتر . فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد . فأنزل الله : ( إن شانئك هو الأبتر )

وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ، بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد .

آخر تفسير سورة " الكوثر " ، ولله الحمد والمنة .

....      ........     .......

تفسير سورة الكوثر لابن عثيمين

معنى هذه السورة العظيمة أن الله تعالى يخبر بما امتن به على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛
 حيث أعطاه هذا الكوثر؛ 
وهو الخير الكثير العظيم كما قال الله تعالى:

 ﴿وكان فضل الله عليك عظيماً﴾ 
ومنه الكوثر الذي في الجنة؛ 
وهو نهرٌ يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ويصب منه ميزابان في حوضه صلى الله عليه وسلم، الحوض المورود يوم القيامة الذي يرده المؤمنون من أمته صلوات الله وسلامه عليه. 

ثم إن الله تعالى لما ذكر ما امتن به عليه من هذا الخير الكثير أمره أن يصلي وينحر له فقال: ﴿فصل لربك وانحر﴾ 

فالصلاة هي الصلاة المعروفة، 
وهي التعبد لله تعالى بالأفعال والأقوال المعلومة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم،

 والنحر هو التقرب إلى الله تعالى بذبح الهدايا 

والضحايا وما يشرع من الذبائح، 

فالجمع بين الصلاة والنحر يكون جمعاً بين عبادةٍ بدنية وعبادةٍ مالية. 

وقوله: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾ أي:
 إن مبغضك الذي يبغضك هو الأبتر المقطوع الذي لا خير فيه ولا بركة.
 وهذا كما يشمل من أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً فإنه يدخل فيه أيضاً من أبغض سنته وهديه، فإن من أبغض سنته وهديه لا شك أنه مبتورٌ مقطوع، وأن الخير كل الخير في اتباع هدي النبي عليه الصلاة والسلام ومحبته وتعظيم هديه بما هو أهلٌ له صلوات الله وسلامه عليه.

.....    .....     .........

تفسير سورة الكوثر لابن باز

يقول الله سبحانه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] هذا خطاب للنبي ﷺ،
 والكوثر: نهر في الجنة رآه لما عرج به عليه الصلاة والسلام، نهر عظيم في الجنة، يصب منه ميزابان يوم القيامة في حوضه ﷺ الذي في الموقف يوم القيامة.


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] 
يعني: شكراً لله، صل له ما أمرك الله به من الصلاة، 
وقال بعضهم: معناه صلاة العيد،
 ( وانحر) يعني: اذبح الضحايا والآية أعم، تعم الصلوات كلها وتعم النحر كله، من الضحايا وغير الضحايا، كلها تنحر لله سبحانه لا لغيره جل وعلا، ولكن صلاة العيد وذبح النحر داخل في ذلك.

(فصل لربك) لا لغيره، يعني: صل له وحده سبحانه وتعالى، الصلوات الخمس صلاة العيد، وصلاة الجمعة كلها لله وحده، وهكذا صلاة النافلة كلها لله. وهكذا النحر،
 كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
فالصلاة لله والنحر لله، كما أن الصدقة لله والسجود لله والدعاء لله، ليس لمسلم أن يدعو غير الله، ولا أن يسجد لغير الله، ولا أن ينحر لغير الله، بل يجب أن تكون أعماله لله وحده سبحانه وتعالى.


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]
 (الشانئ): المبغض المعادي، 
و(الأبتر): هو الناقص المقطوع، فالمبغض للنبي ﷺ وشانئه هو الأبتر في الدنيا والآخرة، المقطوع الصلة بالله عز وجل، والصلة بأسباب السعادة، وليس له إلا النار نعوذ بالله. 

...    ....     ............

تفسير سورة الكوثر لابن عطية 

قرأ الحسن: {إنا أنطيناك}، وهي لغة في أعطى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «واليد المنطية خير من السفلى»،
 
    وقال الأعشى: [المتقارب]
جيادك خير جياد الملوك 
           تصان الجلال وتنطى الشعير

قال أنس وابن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين: 
{الكوثر}: نهر في الجنة، حافتاه قباب من در مجوف وطينه مسك وحصباؤه ياقوت، ونحو هذا من صفاته، وإن اختلفت ألفاظ الرواة، 
وقال ابن عباس أيضاً: {الكوثر}: الخير الكثير.

قال القاضي أبو محمد: كوثر: بناء مبالغة من الكثرة، ولا مجال أن الذي أعطى الله محمداً عليه السلام من النبوة والحكمة العلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها 
كأنه يقول في هذه الآية: {إنا أعطيناك} الحظ الأعظم، 

قال سعيد بن جبير: النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه، فنعم ما ذهب إليه ابن عباس، ونعم ما تمم ابن جبير رضي الله عنهم، وأمر النهر ثابت في الآثار في حديث الإسراء وغيره صلى الله عليه وسلم على محمد ونفعنا بما منحنا من الهداية، 
قال الحسن: {الكوثر}، القرآن، وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأتباع، 
وقال جعفر الصادق: نور في قلبه ودله عليه وقطعه عما سواه، وقال أيضاً: هو الشفاعة، وقال هلال بن يساف: هو التوحيد، 
وقوله تعالى: {فصلّ لربك وانحر} أمر بالصلاة على العموم، ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها، والنحر: نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس، فكأنه قال: ليكن شغلك هذين، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد،
 وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي وينحر وقاله قتادة، والقرطبي وغيره في الآية طعن على كفار مكة، أي إنهم يصلون لغير الله مكاء وتصدية، وينحرون للأصنام ونحوه، فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط مستقيم، 
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح قريش قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: صل وانحر الهدي، وعلى هذا تكون الآية من المدني، 
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: معنى الآية: صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة، فالنحر على هذين ليس بمصدر نحر بل هو الصدر، 

وقال آخرون المعنى: ارفع يدك في استفتاح صلاتك عند نحرك، وقوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر} رد على مقالة كان كثير من سفهاء قريش يقولها لما لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فكانوا يقولون: هو أبتر يموت فنستريح منه ويموت أمره بموته، فقال الله تعالى

 وقوله الحق: {إن شانئك هو الأبتر}، أي المقطوع المبتور من رحمة الله تعالى ولو كان له بنون فهم غير نافعيه، والشانئ: المبغض،

 وقال قتادة {الأبتر} هنا يراد به الحقير الذليل، وقال عكرمة: مات ابن للنبي صلى الله عليه وسلم فخرج أبو جهل يقول: بتر محمد، فنزلت السورة، 
وقال ابن عباس: نزلت في العاصي بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه عبد الله أبتر.

......   ....    ....

تفسير سورة الكوثر للبيضاوي

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} وقرئ: {أنطيناك}.
 {الكوثر} الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين. 

«وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة لا يظمأ من شرب منه»

 وقيل حوض فيها وقيل أولاده وأتباعه، أو علماء أمته والقرآن العظيم.

{فَصَلّ لِرَبّكَ} فَدُمْ على الصلاة خالصاً لوجه الله تعالى خلاف الساهي عنها المرائي فيها شكراً لإِنعامه، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر. 

{وانحر} البدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد والنحر بالتضحية.

{إِنَّ شَانِئَكَ} إن من أبغضك لبغضه الله.
 {هُوَ الأبتر} الذي لا عقب له إذ لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف.

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر له في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر العظيم».

.....   ....    ....   

   تفسير سورة الكوثر لابن عبد السلام 

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}
{الْكَوْثَرَ} النبوة والقرآن أو الإسلام أو نهر في الجنة مأثور أو حوضه يوم القيامة أو كثرة أمته أو الإيثار أو رفعة الذكر وهو فوعل من الكثرة.


{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}
{فَصَلِّ} الصبح بمزدلفة أو صلاة العيد أو اشكر ربك {وَانْحَرْ} الهدي أو الأضحية أو وأسل أو وضع اليمين على الشمال عند النحر في الصلاة «ع» أو رفع اليدين في التكبير إلى النحر أو استقبال القبلة في الصلاة بنحره.


{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
{شَانِئَكَ} مبغضك أو عدوك

 {الأَبْتَرُ} الحقير الذليل أو الفرد الوحيد أوَ ألاَّ خير فيه حتى صار منه أبتر مأثور أو كانت قريش تقول لمن مات ذكور أولاده بتر فلان فلما مات للرسول ابنه القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا قد بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده أو لما دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا ابتتر منا محمد أي خالفنا وانقطع عنا فأخبر الله أنهم هم المبترون.

 نزلت في أبي لهب وأبي جهل أو العاص بن وائل

...   ....    ....  


تفسير سورة الكوثر في الجلاليين 


{إِنَّآ أعطيناك} يا محمد 

{الكوثر} هو نهر في الجنة وهو حوضه تَرِدُ عليه أمته، والكوثر: الخير الكثير من النبوة والقرآن والشفاعة ونحوها.

{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة عيد النحر 

{وانحر} نسكك.

{إِنَّ شَانِئَكَ} أي مبغضك

 {هُوَ الأبتر} المنقطع عن كل خير، أو المنقطع العقب. نزلت في العاصي بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم: أبتر، عند موت ابنه القاسم.

...   ....   ...
تفسير سورة الكوثر في التفسير الميسر 

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( 1 )
إنا أعطيناك - أيها النبي- الخير الكثير في الدنيا والآخرة, ومن ذلك نهر الكوثر في الجنة الذي حافتاه خيام اللؤلؤ المجوَّف, وطينه المسك.



فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( 2 )
فأخلص لربك صلاتك كلها, واذبح ذبيحتك له وعلى اسمه وحده.



إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ( 3 )
إن مبغضك ومبغض ما جئت به من الهدى والنور, هو المنقطع أثره, المقطوع من كل خير.

 ....    ......     ................
تفسير سورة الكوثر في المختصر في التفسير 

مَكيّة-
مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ :
منة الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقطع سبيل المبغضين له.

التَّفْسِيرُ :
1 - إنا آتيناك -أيها الرسول- الخير الكثير، ومنه نهر الكوثر في الجنّة.

2 - فأدّ شكر الله على هذه النعمة، أن تصلي له وحده وتذبح؛ خلافًا لما يفعله المشركون من التقرّب لأوثانهم بالذبح.

3 - إن مبغِضك هو المنقطع عن كل خير المَنْسِي الَّذي إن ذُكِر ذُكِر بسوء.


مِنْ فَوَائِدِ الآيَاتِ:
_ أهمية الأمن في الإسلام.
_ الرياء أحد أمراض القلوب، وهو يبطل العمل.
_ مقابلة النعم بالشكر يزيدها.
_ كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ربه وحفظه له وتشريفه له في الدنيا والآخرة

....    .... .    .... ..  .....       ........

إعراب سورة الكوثر 

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿١﴾فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿٢﴾إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴿٣﴾

إِنَّا: إِنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصب، 

والأصل: إنَّنَا. نَا: ضميرٌ مُتّصلٌ مبني على السّكون في محلّ نصب اسم إن.

أَعْطَيْنَاكَ: أَعْطَى: فعلٌ ماضٍ مبني على السّكون لاتّصاله 

بـ (نَا)، ونَا: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلّ رفع فاعل، والجُملة من الفعل والفاعل في محلّ رفع 

خبر (إنّ)، والكاف: ضميرُ خطابٍ مُتّصل مبني على الفتح في محلّ نصب مفعول بهِ أوّل.

الْكَوْثَرَ: مفعولٌ بهِ ثانٍ لـ (أَعْطَى) منصوب وعلامة نصبه الفتحة.

فَصَلِّ: الفاء: حرفُ استئنافٍ (للتّعقيب) مبني على الفتح. صَلِّ: فعلُ أمرٍ مبني على حذف حرف العلّة 
(الياء)، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره أنتَ.

لِرَبِّكَ: اللّام: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر. رَبِّ: اسمٌ مجرورٌ بـ (اللّام) وعلامة جرِّه الكسرة، وهو مُضاف. 
الكاف: ضميرٌ مُتّصل مبني على الفتح في محلّ جرِّ مُضاف إليه.

وَانْحَرْ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح. 
انْحَرْ: فعلُ أمرٍ مبني على السّكون، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره أنتَ.

إِنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصب.

شَانِئَكَ: شَانِئَ: اسمُ إنّ منصوب وعلامة نصبه الفتحة، وهو مُضاف، 
والكاف: ضميرٌ مُتّصل مبني على الفتح في محلِّ جرِّ مُضاف إليه.

هُوَ: ضميرٌ مُنفصل مبنى على الفتح في محلِّ رفع مُبتدأ.

الْأَبْتَرُ: خبرٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة. والجُملة الاسميّة (هو الأبتر) في محلّ رفع خبر إنَّ.

...  ....  ...

خواطر وإضاءات علي سورة الكوثر

(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(3)) سورة الكوثر


_نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَسْرِيَةً وَتَسْلِيَةً مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ مُـحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا أَصَابَهُ الْـحَزَنُ مِنْ جَرَّاءِ وَصْفِ الْعَاصِ بنِ وَائِلِ لَهُ بِأَنَّهُ أَبِتَـرٌ، حَيْثُ كَانَ الْعَاصُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ قَالَ: 
دَعُوا ذِكْرَهُ، فَإِنَّهُ أَبْتَـرٌ لَا وَلَدَ لَهُ، فَإِذا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. فَبَيَّـنَ اللُه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ الأَبْتـرَ هُوَ الْعَاصُ أَمَّا أَنْتَ يَا مُـحَمَّدُ؛ 
فَذِكْرُكَ مُسْتَمِرٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ 
فَلَقَدْ أَعْطَاكَ رَبُّكَ نَـهْرَ الْكَوْثَرِ، سَيَسْمَعُ بِهِ الْـجَمِيعُ، فَيَرْتَفِعُ ذِكْرُكَ بَيْـنَ الأَنَامِ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاِنْـحَرْ لَهُ تَقُرُّبًا وَشُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ.


 _ سُورَةٌ بَيَّنَتْ لَنَا كَيْفَ أَزَالَ اللهُ عَنْ قَلْبِ مُـحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا يُؤْذِيهِ بِهِ الأَعْدَاءُ، وَبَيَّنَتْ لَنَا عِنَايَةَ اللهِ بِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-وَتَثْبِيتَهُ وَتَطْمِيـنَهُ.


_فَإِذَا كَانَ النَّاسُ فِي الْـجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَفَاخَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، بِكَثْرَةِ أَبْنَائِهِمْ إِيذَانًا بِبَقَاءِ ذِكْرِهِمْ، وَمُرَادُهُمْ أَنْ يُـوجِـعُـوا قَلْبَهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ؛
 لِتُزِيلَ عَنْهُ الْـهَمَّ، وَتُـجْلِيَ عَنْهُ الْـحَزَنَ، وَتُبَيِّـنَ لَهُ أَنَّ الْـخَيْـرَ الْبَاقِي سَيَكُونُ لَهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ الاِنْقِطَاعَ وَالْبَتْـرَ إِنَّـمَا لأَعْدَائِهِ، وَمَا عَلَيْكَ يَا مُـحَمَّدُ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ-، إِلَّا أَنْ تَطْمَئِنَّ.

 
_ وَأَنْ تَشْكُرَ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، مُـخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَتُصَلِّي مِنْ أَجْلِهِ، وَتَنْحَرُ مِنْ أَجْلِهِ غَيْـرَ عَابِئٍ بِأَقْوَالِـهِمِ. فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنَ السُّوَرِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، 
وَلَقَدْ صَدَقَ اللهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلَا؛
 فَقَدْ اِنْقَطَعَ ذِكْرُ أَعْدَائِهِ وَاِنْطَوَى، فَلَا يَشْعُرُ بِـهِمْ أَحَدٌ وَاِمْتَدَّ ذِكْرُهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَلَا؛ 
فَآمَنَ بِهِ مُنْذُ مَبْعَثِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِلْيَارَاتٌ مِنَ الْبَشَرِ.

 

_أَثْبَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِإِعْجَازِهَا وَبَيَانِهَا خَطَأَ مَعَايِيـرِ الْبَشَرِ وَمَقَايِيسِهِمْ، بِاِرْتِفَاعِ الذِّكْرِ وَاِنْـخِفَاضِهِ بِسَبَبِ الأَوْلَادِ، 
فَأَيْنَ الآنَ مَنْ عَادَوْهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ تَرَكُوا عَشَرَاتِ الْأَوْلَادِ؟ 
هَلْ تُـحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَـهُمْ رِكْزًا؟
 هَلْ بَقِيَ لِـمُنَاوِئِيهِ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَاقِيَةٍ؟
 لَا وَرَبِّي فَقَدْ اِنْطَفَأَ ذُكْرُهُمْ، وَاِنْقَضَى مِنَ الْـخَيْـرِ اِسْـمُـهُمْ.

 
_ هَذِهِ السُّورَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللهِ، مُـخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، لَا يَكُونُ أَبْتَـرًا؛ 
وَلَوْ خَلَا مِنَ الذُّرِيَّةِ؛ طَالَمَا أَنَّ لَهْ آثَارًا مِنَ الْـخَيْـرِ بِاقِيَةً، فَانْظُرُوا إِلَى عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ:
 هَلْ رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُمْ بِأَبْنَائِهِمْ أَمْ بِأَعْمَالِـهِمُ الطَّــيِّــبَــةِ؟ هَلْ عَرِفَ النَّاسُ الصَّـحَابَةَ الْأَجِلَّاءَ، والتَّابِعِينَ النُّبَلَاءَ، وَالأَئِمَّةَ الأَرْبَعَةَ، وَأَصْحَابَ الْكُتُبِ السِّـتَّــةِ، وَبَقِيَّةِ دَوَاوِينَ السُّنَّةِ بِأَبْنَائِهِمْ أَمْ بِالْـخَيْـرِ وَالْعِلْمِ الَّذِي تَرَكُوهُ بَعْدَ مَـمَاتِهِمْ؟

  
_ إيضاً جاء في أسباب نزولها :
 ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش:

أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر ،المنبتر من قومه ،يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟
فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت:

(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)

والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يجد أنها تضع أمامنا منهجًا واضحَا، في حفظ النعم ، والتقرُّب بها إلى الله تعالى ،
 لأن هذا اللفظ: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة،
 ومن هنا نفهم قوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ ، والذي جاء عقب التذكير بالنعمة، فإذا كان العبد شاكرًا لربِّه، ومُقِرًّا بنعم الله عليه، عن طريق الفعل والقول معًا، فإن النتيجة الحتمية 
هي حماية الله للعبد وحفظه ؛ والدفاع عنه :﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾،

وهذا المعنى يؤيِّده قوله سبحانه:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾

وقد روى أحمد في مسنده ( أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ أَغْفَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِغْفَاءَةً فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً إِمَّا قَالَ لَهُمْ وَإِمَّا قَالُوا لَهُ لِمَ ضَحِكْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ آنِفاً سُورَةٌ ».

 فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ». 
قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ فِى الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ يُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُم فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِى. فَيُقَالُ لِى إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ »  

_والكوثر في اللغة العربية هو الخير الكثير، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم قد أعطاه الله خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة، فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ:
«الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ:
قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ؟
فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ»

 

_كما روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ:
مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ 
قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ – شَكَّ هُدْبَةُ – مِسْكٌ أَذْفَرُ» 

.وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ»

ومن صفات هذا النهر ،أنه يجري على وجه الأرض في الجنة ، من غير شق فيها ، وذلك لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا فَإِذَا حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى تُرْبَتِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكَةٌ ذَفِرَةٌ وَإِذَا حَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ) رواه أحمد

 

_ونهر الكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي يشرب منه المؤمنون يوم القيامة، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ».


_وجاء أَيضًا في بعض التفاسير؛ 
أَن الكوثر هو الإِسلام ، والنبوَّة، وجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أُعطيه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد أُعطي النبوَّة، وإِظهار الدِّين الذي بُعث به على كلِّ دِين، والنصر على أَعدائه، والشفاعة لأُمَّته، وما لا يحصى من الخير، وقد أُعطي من الجنة على قدر فضله على أَهل الجنة، صلَّى الله عليه وسلَّم.

وإعطاء الكوثر الذي هو الحوض ، أو نهر في الجنة ، أو كثرة النعم والفضائل والمنح، فكل ذلك – نعمة من الله تعالى – تُوجب الشكر، وأفضلُ الشكر هو أداء الفرائض؛ 
كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم: إن الله تعالى قال: 
« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، ..))؛
 رواه البخاري


_وفي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ أي:
 كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النهر الذي تقدم وصفه، فأخلص لربك صلاتك، فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والأضداد،

وكذلك نحرك ، فانحر على اسمه وحده لا شريك له ، كما قَالَ الله تَعَالَى:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين ﴾ [الأنعام: 162-163].

فاجعل صلاتك ونحرك لله دون الأوثان ، وذلك شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصَّك به من إعطائه إياك الكوثر                                           

_وأما قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾، أي: إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى، والحق والبرهان الساطع، والنور المبين هو الأبتر،

والأبتر من الرجال الذي لا ولد له ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر


 _ ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 
( فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة،
 ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده،
 ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ، 
ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، 
ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا،
ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها،وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره،.. )  


_ويقول الشيخ السعدي رحمه الله : 
” هذا وعد من الله لرسوله، أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة ،وقد فعل تعالى ذلك ، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبما جاء به، إلا أهلكه الله ، وقتله شر قتلة”.


_وَلقد عَلَّقَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة -رَحِـمَهُ اللهُ- عَلَى سُورَةِ الْكَوْثَرِ بِكَلَامٍ عَظِيمٍ؛ حَيْثُ قَالَ:
 "مَا أَجَلَّهَا مِنْ سُورَةٍ، وَأَغْزَرَ فَوَائِدِهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا! وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهَا تُعْلَمُ مِنْ آخِرِهَا؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَتَرَ شَانِئَ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ كُلِّ خَيْرٍ فَيَبْتُرُ ذِكْرَهُ. وَيَبْتُرُ قَلْبَهُ؛ 
فَلَا يَعِي الْخَيْرَ، وَلَا يُؤَهِّلُهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ. وَيَبْتُرُ أَعْمَالَهُ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي طَاعَةٍ، وَيَبْتُرُهُ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا وَلَا عَوْنًا.

 
وَيَبْتُرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا يَذُوقُ لَهَا طَعْمًا، وَلَا يَجِدُ لَهَا حَلَاوَةً.
 وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ شَنَأَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَدَّهُ لِأَجْلِ: هَوَاهُ، أَوْ مَتْبُوعِهِ، أَوْ شَيْخِهِ، أَوْ أَمِيرِهِ، أَوْ كَبِيرِهِ.

 
فَهَؤُلَاءِ لَمَّا شَنَؤُوهُ وَعَادَوهُ؛ 
جَازَاهُمْ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ مُعَادِيًا لَهُمْ؛ فَبَتَرَهُمْ مِنْهُ، وَخَصَّ نَبِيَّهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، بِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ؛ وَهُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا: الْهُدَى، وَالنَّصْرَ، وَالتَّأْيِيدَ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ، وَشَرْحَ الصَّدْرِ، وَنِعْمَ قَلْبِهِ بِذِكْرِهِ وَحُبِّهِ؛ بِحَيْثُ لَا يُشْبِهُ نَعِيمَهُ نَعِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ.

وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ: الْوَسِيلَةَ، وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ بَابُ الْجَنَّةِ. وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَالْحَوْضَ الْعَظِيمَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ أَوْلَادَهُ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ؛ وَهَذَا ضِدُّ حَالِ الْأَبْتَرِ الَّذِي يَشْنَؤُهُ، وَيَشْنَأُ مَا جَاءَ بِهِ".

 

ثُـمَّ قَالَ رَحِـمَهُ اللهُ:
 وقَوْلُهُ تَعَالَى: (إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَطِيَّةٍ كَثِيرَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ مُعْطٍ كَبِيرٍ غَنِيٍّ وَاسِعٍ، وَجَاءَ الْفِعْلُ بِلَفْظِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ وَاقِعٌ. فَالْكَوْثَرُ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَاتِّصَالِهَا وَزِيَادَتِهَا، وَسُمُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَارْتِفَاعِهَا، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَطْيَبُهَا مَاءً وَأَعْذَبُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا.

 

 ثُـمَّ قَالَ -رَحِـمَهُ اللهُ-:
 "وَدَلَّتِ السُّورَةُ عَلَى أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ بِقَدْرِ أُجُورِ أُمَّتِهِ كُلِّهِمْ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ؛ 
فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ؛ 
فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ، أَوْ عَلِمَ، أَوْ عَمِلَ صَالِحًا، أَوْ عَلَّمَ غَيْرَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ حَجَّ، أَوْ جَاهَدَ، أَوْ رَابَطَ، أَوْ تَابَ، أَوْ صَبَرَ أَوْ تَوَكَّلَ، أَوْ نَالَ مَقَامًا مِنْ الْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ خَشْيَةٍ وَخَوْفٍ وَمَعْرِفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ 
فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ. 


ثُـمَّ قَالَ رَحِـمَهُ اللهُ: أَمَّا قوله تَعَالَى‏:‏ (‏‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏)‏‏، 
حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا في قَولِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)‏ [الأنعام: 162]، 
وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏‏ (‏إِنَّ شَانِئَكَ) ‏،
 أَيْ مُبْغِضُك هُوَ الْأَبْتَرُ".

‏‏ ثُـمَّ خَتَمَ كَلَامَهُ -رَحِـمَهُ اللهُ- فَقَالَ: "وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِشَارَةُ إلَى تَرْكِ الِالْتِفَات إلَى النَّاسِ وَمَا يَنَالُكَ مِنْهُمْ بَلْ صَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ. وَفِيهَا التَّعْرِيضُ بِحَالِ الْأَبْتَرِ الشَّانِئِ الَّذِي صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ".

 

وَمِنْ فَوَائِدِهَا اللَّطِيفَةِ‏ أَنَّ رَبَّك يَا مُـحَمَّدُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، وَأَنْتَ جَدِيرٌ بِأَنَّ تَعْبُدَهُ وَتَنْحَرَ لَهُ.‏ جَعَلَنَا اللهُ مِـمَّـنْ يَتَنَعَّمُونَ بِقُرْبِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-.

 
تعليقات