سورة الفيل؛تفسيرالسعدي،تفسير ابن كثير،تفسير القرطبي،تفسير الطبري،تفسير البغوي،تفسير الشوكاني،تفسيرابن الجوزي،تفسير ابن تيمية،تفسير ابن عثيمين،تفسير ابن عطية،تفسير ابن جزي،تفسيرالبيضاوي،تفسير النسفي،تفسير الزمخشري،تفسيرابن عبدالسلام ،التفسير الوسيط،تفسير الجلاليين،التفسير الميسر ..إعراب..خواطر
تفسير سورة الفيل للسعدي
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
أي: أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه، ورحمته بعباده، وأدلة توحيده، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ما فعله الله بأصحاب الفيل، الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا إخرابه، فتجهزوا لأجل ذلك، واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه، وجاءوا بجمع لا قبل للعرب به، من الحبشة واليمن، فلما انتهوا إلى قرب مكة، ولم يكن بالعرب مدافعة، وخرج أهل مكة من مكة خوفًا على أنفسهم منهم.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أي: متفرقة.
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)
تحمل حجارة محماة من سجيل، فرمتهم بها، وتتبعت قاصيهم ودانيهم، فخمدوا وهمدوا.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
وصاروا كعصف مأكول، وكفى الله شرهم، ورد كيدهم في نحورهم، [وقصتهم معروفة مشهورة] وكانت تلك السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت من جملة إرهاصات دعوته، ومقدمات رسالته، فلله الحمد والشكر.
..... ...... .......
تفسير سورة الفيل لابن كثير
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سورة الفيل وهي مكية .
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم ، وردهم بشر خيبة . وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان .
ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول :
لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيريتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه ، خاتم الأنبياء .
وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب ، قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود أن ذا نواس وكان آخر ملوك حمير وكان مشركا
هو الذي قتل أصحاب الأخدود ، وكانوا نصارى ، وكانوا قريبا من عشرين ألفا ، فلم يفلت منهم إلادوس ذو ثعلبان ، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام
وكان نصرانيا فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ; لكونه أقرب إليهم ، فبعث معه أميرين :
أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم في جيش كثيف ، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار ، واستلبوا الملك من حمير ، وهلك ذو نواس غريقا في البحر . واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران : أرياط وأبرهة فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا ،
فقال أحدهما للآخر : إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا ، ولكن ابرز إلي وأبرز إليك ، فأينا قتل الآخر استقل بعده بالملك . فأجابه إلى ذلك فتبارزا - وخلف كل واحد منهما قناة - فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف ، فشرم أنفه وفمه وشق وجهه ، وحمل عتودة مولى أبرهة على أرياط فقتله ، ورجع أبرهة جريحا ، فداوى جرحه فبرأ ، واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن . فكتب إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ، ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته .
فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه ، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف ، وبجراب فيها من تراب اليمن ، وجز ناصيته فأرسلها معه ، ويقول في كتابه : ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك . فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ، ورضي عنه ، وأقره على عمله .
وأرسل أبرهة يقول للنجاشي : إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يبن قبلها مثلها . فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء رفيعة البناء ، عالية الفناء ، مزخرفة الأرجاء . سمتها العرب القليس ; لارتفاعها ;
لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها . وعزم أبرهة الأشرم على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبا شديدا ، حتى قصدها بعضهم ، وتوصل إلى أن دخلها ليلا . فأحدث فيها وكر راجعا .
فلما رأى السدنة ذلك الحدث ، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضبا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة ، وليخربنه حجرا حجرا .
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارا ، وكان يوما فيه هواء شديد فأحرقته ، وسقطت إلى الأرض .
فتأهب أبرهة لذلك ، وصار في جيش كثيف عرمرم ; لئلا يصده أحد عنه ، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له : محمود ، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك . ويقال : كان معه أيضا ثمانية أفيال . وقيل : اثنا عشر فيلا . وقيل غيره ، والله أعلم .
يعني ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في الأركان ، وتوضع في عنق الفيل ، ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة . فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدا ، ورأوا أن حقا عليهم المحاجبة دون البيت ، ورد من أراده بكيد . فخرج إليه رجل [ كان ] من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له " ذو نفر " فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وخرابه .
فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم لما يريده الله عز وجل من كرامة البيت وتعظيمه ، وأسر " ذو نفر " فاستصحبه معه .
ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخشعمي في قومه : شهران وناهس فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة ، وأسر نفيل بن حبيب ، فأراد قتله ثم عفا عنه ، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز .
فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم ، الذي عندهم ، الذي يسمونه اللات .
فأكرمهم وبعثوا معه " أبا رغال " دليلا . فلما انتهى أبرهة إلى المغمس - وهو قريب من مكة - نزل به وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها ، فأخذوه .
وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب . وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة ، وكان يقال له : " الأسود بن مفصود " فهجاه بعض العرب - فيما ذكره ابن إسحاق - وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت .
فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم ، وبلغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه .
فقال له حناطة : فاذهب معي إليه . فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله ، وكان عبد المطلب رجلا جميلا حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على البساط ، وقال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي .
فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟!
فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه .
قال : ما كان ليمتنع مني ! قال : أنت وذاك .
ويقال : إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة والتحصن في رءوس الجبال ، تخوفا عليهم من معرة الجيش .
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ، ثم خرجوا إلى رءوس الجبال .
وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة ، لعل بعض الجيش ينال منها شيئا بغير حق ، فينتقم الله منه .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله - وكان اسمه محمودا - وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام " . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل . وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى . فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ; فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول . ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك .
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
بأن الله سبحانة أهلكهم ودمرهم وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرا.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان.
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)
مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت .
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق هذا .
ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول :
أين المفر ؟ والإله الطالب والأشرم المغلوب غير الغالب
قال ابن إسحاق : وقال نفيل في ذلك أيضا :
ألا حييت عنا يا ردينا نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا !
وذكر الواقدي بأسانيده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل ، جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب فيها فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح .
وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ، ليقهر الفيل على دخول الحرم . وطال الفصل في ذلك . هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة ، منهم المطعم بن عدي وعمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومسعود بن عمرو الثقفي ، على حراء ينظرون إلى ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل ، وهو العجب العجاب . فبينما هم كذلك ،
إذ بعث الله عليهم طيرا أبابيل ، أي قطعا قطعا صفرا دون الحمام ، وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاث أحجار ، وجاءت فحلقت عليهم ، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا .
وقال محمد بن كعب : جاءوا بفيلين فأما محمود فربض ، وأما الآخر فشجع فحصب .
وقال وهب بن منبه : كان معهم فيلة ، فأما محمود - وهو فيل الملك - فربض ، ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها فيل تشجع فحصب ، فهربت بقية الفيلة .
وقال عطاء بن يسار ، وغيره :
ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة ، بل منهم من هلك سريعا ، ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا وهم هاربون ، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوا عضوا ، حتى مات ببلاد خثعم .
قال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
وذكر مقاتل بن سليمان : أن قريشا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم ، وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة .
وقال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة : أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي به مرائر الشجر الحرمل ، والحنظل والعشر ، ذلك العام .
وهكذا روي عن عكرمة من طريق جيد .
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة ، لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال :
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول )
( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف ) [ سورة قريش ]
أي : لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه .
قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ، ولم تتكلم العرب بواحدة .
قال : وأما السجيل ،
فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب .
قال : وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج : الحجر ، والجل : الطين .
يقول : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين . قال : والعصف : ورق الزرع الذي لم يقضب ، واحدته عصفة . انتهى ما ذكره .
وقد قال حماد بن سلمة : عن عاصم ، عن زر عن عبد الله - وأبو سلمة بن عبد الرحمن - : ( طيرا أبابيل ) قال : الفرق .
وقال ابن عباس والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضا .
وقال الحسن البصري وقتادة : الأبابيل : الكثيرة .
وقال مجاهد : أبابيل : شتى متتابعة مجتمعة .
وقال ابن زيد : الأبابيل : المختلفة ، تأتي من هاهنا ، ومن هاهنا ، أتتهم من كل مكان .
وقال الكسائي : سمعت [ النحويين يقولون : أبول مثل العجول . قال : وقد سمعت ]
بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل : إبيل .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ; أنه قال في قوله : ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) هي : الأقاطيع ، كالإبل المؤبلة .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) قال : لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
وحدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : ( طيرا أبابيل ) قال : كانت طيرا خضرا خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير : ( طيرا أبابيل ) قال : هي طير سود بحرية ، في منقارها وأظافيرها الحجارة .
وهذه أسانيد صحيحة .
وقال سعيد بن جبير : كانت طيرا خضرا لها مناقير صفر ، تختلف عليهم .
وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب . رواه عنهم ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل ، بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر ، أمثال الخطاطيف .
كل طير منها تحمل ثلاثة أحجار مجزعة : حجرين في رجليه وحجرا في منقاره .
قال : فجاءت حتى صفت على رءوسهم ، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلا وخرج من الجانب الآخر .
وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا .
وقال السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( حجارة من سجيل ) قال : طين في حجارة : " سنك - وكل " وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا .
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
وقوله : ( فجعلهم كعصف مأكول ) قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة : هبورا .
وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة . وعنه أيضا : العصف : التبن . والمأكول : القصيل يجز للدواب . وكذلك قال الحسن البصري .
وعن ابن عباس : العصف : القشرة التي على الحبة ، كالغلاف على الحنطة .
وقال ابن زيد : العصف : ورق الزرع ، وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار درينا .
والمعنى : أن الله ، سبحانه وتعالى ، أهلكهم ودمرهم ، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأهلك عامتهم ، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح ، كما جرى لملكهم أبرهة ، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بها جرى لهم ، ثم مات .
فملك بعده ابنه يكسوم ، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة ، ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستغاثه على الحبشة ، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه ، فرد الله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك ، وجاءته وفود العرب للتهنئة .
وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين ، يستطعمان ورواه الواقدي عن عائشة مثله .
ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس ، عند إساف ونائلة ، حيث يذبح المشركون ذبائحهم .
قلت : كان اسم قائد الفيل : أنيسا .
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من طريق ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن ، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له : شمر بن مفصود ، وكان الجيش عشرين ألفا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى .
وهذا السياق غريب جدا ، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره .
والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار .
وهكذا روى ابن لهيعة ، عن الأسود ، عن عروة : أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ، ولعل ابن مفصود كان على مقدمة الجيش ، والله أعلم .
ثم ذكر ابن إسحاق شيئا من أشعار العرب ، فيما كان من قصة أصحاب الفيل ، فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعري :
تنكلوا عن بطن مكة إنها كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى ؟ فلسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري المري :
ومن صنعه يوم فيل الحبو ش ، إذ كل ما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا إذا يمموه قفاه كليم
فسول أدبر أدراجه وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا يلفهم مثل لف القزم
تحث على الصبر أحبارهم وقد ثأجوا كثؤاج الغنم
وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :
إن آيات ربنا باقيات ما يماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل مستبين حسابه ، مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى صار يحبو ، كأنه معقور
لازما حلقه الجران كما قطر من ظهر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بور
وقد قدمنا في تفسير " سورة الفتح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي : حرنت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أجبتهم إليها " .
ثم زجرها فقامت . والحديث من أفراد البخاري .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة :
" إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " . آخر تفسير سورة " الفيل " .
.... ........ ........ .....
تفسير سورة الفيل للقرطبي
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سورة الفيل: وهي مكية بإجماع .
وهي خمس آيات
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
فيه خمس مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : ألم تر أي ألم تخبر . وقيل : ألم تعلم .
وقال ابن عباس : ألم تسمع ؟ واللفظ استفهام ، والمعنى تقرير .
والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ;
ولكنه عام ; أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل ;
أي قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع منتي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون ؟
وكيف في موضع نصب ب فعل ربك لا ب ألم تر كيف من معنى الاستفهام .
الثانية :
قوله تعالى : بأصحاب الفيل الفيل معروف ، والجمع أفيال : وفيول ، وفيلة .
قال ابن السكيت : ولا تقل أفيلة . والأنثى فيلة وصاحبه فيال .
قال سيبويه : يجوز أن يكون أصل فيل فعلا ، فكسر من أجل الياء ; كما قالوا : أبيض وبيض .
وقال الأخفش : هذا لا يكون في الواحد ، إنما يكون في الجمع . ورجل فيل الرأي ، أي ضعيف الرأي . والجمع أفيال . ورجل فال ;
أي ضعيف الرأي ، مخطئ الفراسة .
وقد فال الرأي يفيل فيولة ، وفيل رأيه تفييلا : أي ضعفه ، فهو فيل الرأي .
الثالثة :
في قصة أصحاب الفيل ; وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء ،
وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، وكان نصرانيا ، ثم كتب إلى النجاشي :
إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة ، فخرج حتى أتى الكنيسة ، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه ;
فأخبر بذلك أبرهة ،
فقال : من صنع هذا ؟
فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحج إليه العرب بمكة ،
لما سمع قولك : ( أصرف إليها حج العرب ) غضب ، فجاء فقعد فيها .
أي أنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة ; فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ;
فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل ;
وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام .
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه ; فأجابه من أجابه إلى ذلك ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا ;
فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ; فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما . ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك ، يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم :
شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ; فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا ; فأتي به ،
فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم : شهران وناهس ، بالسمع والطاعة ;
فخلى سبيله .
وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ;
سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ; فتجاوز عنهم .
وبعثوا معه أبا رغال ، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت قبره العرب ; فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس ،
وفيه يقول الشاعر :
وأرجم قبره في كل عام كرجم الناس قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة بالمغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ;
فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ; ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لي بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ;
فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ; فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ; فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ;
فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك منه طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم - عليه السلام - ، أو كما قال ، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته ، وإن يحل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة :
فانطلق إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك ; فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ; فسأل عن ذي نفر ، وكان صديقا له ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال له :
يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟
فقال له ذو نفر ; وما غناء رجل أسير بيدي ملك ، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي ، فسأرسل إليه ، وأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ; فقال حسبي .
فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عين مكة ، ويطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ; فقال : أفعل .
فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عين مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ; فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجله ، وأعظمه عن أن يجلسه تحته ; فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه .
ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟
فقال له ذلك الترجمان ، فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه .
قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك . فرد عليه إبله .
وانصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم معرة الجيش .
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب
وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لا هم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك
إن يدخلوا البلد الحرام فأمر ما بدا لك
يقول : أي شيء ما بدا لك ، لم تكن تفعله بنا .
والحلال : جمع حل . والمحال : القوة وقيل : إن عبد المطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي :
لا هم أخز الأسود بن مقصود الأخذ الهجمة فيها التقليد
بين حراء وثبير فالبيد يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود قد أجمعوا ألا يكون معبود
ويهدموا البيت الحرام المعمود والمروتين والمشاعر السود
أخفره يا رب وأنت محمود
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها . فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب ، حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال له : ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل .
وخرج نفيل بن حبيب يشتد ، حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى ;
فأدخلوا محاجن لهم في مراقه ، فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك .
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثال الخطاطيف والبلسان ،
مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ; وليس كلهم أصابت .
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ; ليدلهم على الطريق إلى اليمن .
فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا :
حمدت الله إذ أبصرت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما ;
حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان يزيد أحدهما وينقص :
سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي ، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى ، تسميها النصارى الهيكل ، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا ;
فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا ، فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضبا .
فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون ;
وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة .
وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك ، وقيل وزير ، وحجر بن شرحبيل من قواده ،
وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح . فساروا ومعهم الفيل .
قال الأكثرون : هو فيل واحد .
وقال الضحاك : هي ثمانية فيلة .
ونزلوا بذي المجاز ، واستاقوا سرح مكة ، وفيها إبل عبد المطلب . وأتى الراعي نذيرا ، فصعد الصفا ، فصاح : واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل .
فخرج عبد المطلب ، وتوجه إلى أبرهة ، وسأله في إبله . واختلف في النجاشي ، هل كان معهم ;
فقال قوم كان معهم .
وقال الأكثرون : لم يكن معهم .
ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ;
فقال عبد المطلب : " إن هذه الطير غريبة بأرضنا ، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية "
وإنها أشباه اليعاسيب .
وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ;
فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم ، حتى هلكوا .
قال عطاء بن أبي رباح : جاءت الطير عشية ; فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم .
وقال الكلبي : في مناقيرها حصى كحصى الخذف ، أمام كل فرقة طائر يقودها ، أحمر المنقار ، أسود الرأس ، طويل العنق . فلما جاءت عسكر القوم وتوافت ، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به .
وقيل : كان على كل حجر مكتوب : من أطاع الله نجا ، ومن عصاه غوى . ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت .
وقال العوفي : سألت عنها أبا سعيد الخدري ، فقال : حمام مكة منها . وقيل : كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها ، ويقع في دماغه ، ويخرق الفيل والدابة . ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه .
وكان أصحاب الفيل ستين ألفا ، لم يرجع منهم إلا أميرهم ، رجع ومعه شرذمة لطيفة . فلما أخبروا بما رأوا هلكوا .
وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبرهة هو الأشرم ، سمي بذلك؟
لأنه تفاتن مع أرياط ، حتى تزاحفا ، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما ، فمن غلب فله الأمر . فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما ، في يده حربة ، وأبرهة قصيرا حادرا ذا دين في النصرانية ، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة ، فوقعت على جبينه ، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته ; فلذلك سمي الأشرم .
وحمل عتودة على أرياط فقتله . فاجتمعت الحبشة لأبرهة ;
فغضب النجاشي ، وحلف ليجزن ناصية أبرهة ، ويطأن بلاده . فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه ،
وبعث بهما إلى النجاشي ، وقال : إنما كان عبدك ، وأنا عبدك ، وأنا أقوم بأمر الحبشة ، وقد جززت ناصيتي ، وبعثت إليك بتراب أرضي ، لتطأه وتبر في يمينك ; فرضي عنه النجاشي . ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء ، ليصرف إليها حج العرب ; على ما تقدم .
الرابعة :
قال مقاتل : كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة .
وقال الكلبي وعبيد بن عمير : كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث وعشرين سنة .
والصحيح ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ولدت عام الفيل .
وروي عنه أنه قال : يوم الفيل . حكاه الماوردي في التفسير له .
وقال في كتاب أعلام النبوة : ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وكان بعد الفيل بخمسين يوما .
ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط ، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان .
قال : وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان .
وقد قيل : إنه - عليه السلام - حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم ، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ;
فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع . وقيل : إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم ; حكاه ابن شاهين أبو حفص ، في فضائل يوم عاشوراء له .
ابن العربي : قال ابن وهب عن مالك :
ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ،
وقال قيس بن مخرمة : ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل .
وقد روى الناس عن مالك أنه قال : من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه ;
لأنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه . وهذا قول ضعيف ;
لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويكتم سنه ;
وهو من أعظم العلماء قدوة به . فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا .
وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أكبر مني ، وأنا أسن منه ;
ولد النبي -صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس ،
وقيل لبعض القضاة : كم سنك ؟
قال : سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وكان سنه يومئذ دون العشرين .
الخامسة :
قال علماؤنا : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت قبله وقبل التحدي ;
لأنها كانت توكيدا لأمره ، وتمهيدا لشأنه . ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة ،
كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ;
ولهذا قال : ألم تر ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس .
وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها :
لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان
الناس .
وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة ، سودا مخططة بحمرة .
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قوله تعالى : ألم يجعل كيدهم في تضليل
قوله تعالى : ألم يجعل كيدهم في تضليل أي في إبطال وتضييع ;
لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي ، والبيت بالتخريب والهدم . فحكي عن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد الله على فرس له ، ينظر ما لقوا من تلك الطير ، فإذا القوم مشدخين جميعا ، فرجع يركض فرسه ، كاشفا عن فخذه ، فلما رأى ذلك أبوه قال : إن ابني هذا أفرس العرب .
وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا . فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت ، قالوا : ما وراءك ؟
قال : هلكوا جميعا .
فخرج عبد المطلب وأصحابه ، فأخذوا أموالهم .
وكانت أموال بني عبد المطلب منها ، وبها تكاملت رياسة عبد المطلب ;
لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء ، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا .
وقيل : إن عبد المطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر ،
ثم قال لأبي مسعود الثقفي وكان خليلا لعبد المطلب : اختر أيهما شئت .
ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا ، فقال عبد المطلب عند ذلك :
أنت منعت الحبش والأفيالا وقد رعوا بمكة الأجبالا وقد خشينا منهم القتالا
وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
قال ابن إسحاق : ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا ، وقالوا : هم : أهل الله ، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونة عدوهم .
وقال عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، في قصة أصحاب الفيل :
أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمس
من بعد ما هم بشر مبلس حبسته في هيئة المكركس
وما لهم من فرج ومنفس
والمكركس : المنكوس المطروح .
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
قوله تعالى : وأرسل عليهم طيرا أبابيل
قال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ، ولا بعدها مثلها .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ .
وعن ابن عباس : كانت لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب
وقال عكرمة : كانت طيرا خضرا ، خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع . ولم تر قبل ذلك ولا بعده .
وقالت عائشة رضي الله عنها :
هي أشبه شيء بالخطاطيف .
وقيل : بل كانت أشباه الوطاويط ، حمراء وسوداء .
وعن سعيد بن جبير أيضا : هي طير خضر لها مناقير صفر .
وقيل : كانت بيضا .
وقال محمد بن كعب : هي طير سود بحرية ، في مناقيرها وأظفارها الحجارة .
وقيل : إنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال ;
قال عكرمة : أبابيل أي مجتمعة . وقيل : متتابعة ، بعضها في إثر بعض ; قاله ابن عباس ومجاهد .
وقيل مختلفة متفرقة ، تجيء من كل ناحية من هاهنا وهاهنا ; قاله ابن مسعود وابن زيد والأخفش .
قال النحاس : وهذه الأقوال متفقة ، وحقيقة المعنى : أنها جماعات عظام . يقال : فلان يؤبل على فلان ; أي يعظم عليه ويكثر ;
وهو مشتق من الإبل . واختلف في واحد ( أبابيل ) ; فقال الجوهري : قال الأخفش يقال : جاءت إبلك أبابيل ; أي فرقا ، وطيرا أبابيل .
قال : وهذا يجيء في معنى التكثير ، وهو من الجمع الذي لا واحد له .
وقال بعضهم : واحده إبول مثل عجول .
وقال بعضهم - وهو المبرد - : إبيل مثل سكين .
قال : ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح .
وقيل في واحده إبال .
وقال رؤبة بن العجاج في الجمع :
ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول
وقال الأعشى :
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب
وقال آخر :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقال آخر :
تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسخن
قال الفراء : لا واحد له من لفظه . وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها ( إبالة ) مشددة .
وحكى الفراء ( إبالة ) مخففا .
قال : سمعت بعض العرب يقول : ضغث على إبالة . يريد : خصبا على خصب .
قال : ولو قال قائل إيبال كان صوابا ; مثل دينار ودنانير .
وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل : الأبابيل : مأخوذ من الإبل المؤبلة ; وهي الأقاطيع .
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)
قوله تعالى : ترميهم بحجارة من سجيل
في الصحاح : حجارة من سجيل قالوا : حجارة من طين ، طبخت بنار جهنم ، مكتوب فيها أسماء القوم ;
لقوله تعالى : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة .
وقال عبد الرحمن بن أبزى : من سجيل : من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط .
وقيل من الجحيم . وهي ( سجين ) ثم أبدلت اللام نونا ; كما قالوا في أصيلان أصيلال .
قال ابن مقبل :
ورجلة يضربون البيض عن عرض ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وإنما هو سجيلا .
وقال الزجاج : من سجيل أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به ; مشتق من السجل .
وقد مضى القول في سجيل في ( هود ) مستوفى .
قالعكرمة : كانت ترميهم بحجارة معها ، فإذا أصاب
أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم . وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة . وقال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، فكان ذلك أول الجدري . وقراءة العامة ترميهم بالتاء ، لتأنيث جماعة الطير . وقرأ الأعرج وطلحة ( يرميهم ) بالياء ; أي يرميهم الله ; دليله قوله تعالى : ولكن الله رمى ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير ، لخلوها من علامات التأنيث ، ولأن تأنيثها غير حقيقي .
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
قوله تعالى : فجعلهم كعصف مأكول أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب ، فرمت به من أسفل . شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه .
روي معناه عن ابن زيد وغيره . وقد مضى القول في العصف في سورة ( الرحمن ) .
ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتي الماء مطموم
وقال رؤبة بن العجاج :
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجيل
ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول
العصف : جمع ، واحدته عصفة وعصافة ، وعصيفة . وأدخل الكاف في كعصف للتشبيه مع مثل ، نحو قوله تعالى : ليس كمثله شيء .
ومعنى مأكول مأكول حبه . كما يقال : فلان حسن ; أي حسن وجهه .
وقال ابن عباس : فجعلهم كعصف مأكول أن المراد به قشر البر ; يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح .
ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه ، فيبقى كقشر الحنطة إذا
خرجت منه الحبة .
وقال ابن مسعود : لما رمت الطير بالحجارة ، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة ، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك ، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة ;
فقال :
فإنك لو رأيت ولم تريه لدى جنب المغمس ما لقينا
خشيت الله إذ قد بث طيرا وظل سحابة مرت علينا
وباتت كلها تدعو بحق كأن لها على الحبشان دينا
ويروى أنها لم تصبهم كلهم ;
لكنها أصابت من شاء الله منهم . وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . فالله أعلم .
وقال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشا
وقالوا : أهل الله ، قاتل عنهم ، وكفاهم مئونة عدوهم فكان ذلك نعمة من الله عليهم .
... ..... ..... ........
تفسير سورة الفيل للطبري
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك, فترى بها( كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم .
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ )
يقول: ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة ( فِي تَضْلِيلٍ )
يعني: في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
وقوله: ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ) يقول تعالى ذكره: وأرسل عليهم ربك طيرا متفرقة, يتبع بعضها بعضا من نواح شتي;
وهي جماع لا واحد لها, مثل الشماطيط والعباديد ونحو ذلك.
وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى, أنه لم ير أحدا يجعل لها واحدا.
وقال الفرّاء: لم أسمع من العرب في توحيدها شيئا. قال: وزعم أبو جعفر الرُّؤاسِيّ, وكان ثقة, أنه سمع أن واحدها: إبالة.
وكان الكسائي يقول: سمعت النحويين يقولون: إبول, مثل العجول. قال: وقد سمعت بعض النحويين يقول. واحدها: أبيل.
وبنحو الذي قلنا في الأبابيل: قال أهل التأويل.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا سوّار بن عبد الله, قال: ثنا يحيى بن سعيد, قال: ثنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زرّ, عن عبد الله, في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: فرق.
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا ثنا حماد بن سلمة, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله, قال: الفِرَق.
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: يتبع بعضُها بعضا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ )
قال: هي التي يتبع بعضها بعضا.
حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الأعلى, قال: ثنا داود, عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل, أنه قال في: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ )
قال: هي الأقاطيع, كالإبل المؤَبَّلة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب القُمِّيّ, عن جعفر, عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ( طَيْرًا أَبَابِيلَ )
قال: متفرّقة.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, قال: ثنا الفضل, عن الحسن ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: الكثيرة.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن ابن سابط, عن أبي سلمة, قالا الأبابيل: الزُّمَر.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أَبَابِيلَ ) قال: هي شتى متتابعة مجتمعة.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:
( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) يقول: متتابعة. بعضها على أثر بعض.
حدثني يونس,
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد;
في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: الأبابيل: المختلفة, تأتي من ها هنا, وتأتي من ها هنا, أتتهم من كلّ مكان.
وذُكر أنها كانت طيرا أُخرجت من البحر. وقال بعضهم: جاءت من قبل البحر.
ثم اختلفوا في صفتها, فقال بعضهم: كانت بيضاء.
وقال آخرون: كانت سوداء.
وقال آخرون: كانت خضراء, لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, عن ابن عون, عن محمد بن سيرين, في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال:
قال ابن عباس: هي طير, وكانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثني الحسن بن خلف الواسطي, قال: ثنا وكيع وروح بن عبادة, عن ابن عون, عن ابن سيرين عن ابن عباس, مثله.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن ابن عون, عن ابن عباس, نحوه.
حدثنا يعقوب, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا حسين, عن عكرمة, في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: كانت طيرا خرجت خضرا, خرجت من البحر, لها رءوس كرءوس السباع.
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عمير
( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: هي طير سود بحرية, في مناقرها وأظفارها الحجارة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عمير:
( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: سود بحرية, في أظافيرها ومناقيرها الحجارة.
قال: ثنا مهران, عن خارجة, عن عبد الله بن عون, عن ابن سيرين, عن ابن عباس قال: لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعى, قال: ثنا فضيل بن عياض, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) قال: طير خُضْر, لها مناقير صُفْر, تختلف عليهم.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عمير, قال: طير سود تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها.
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)
وقوله: ( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ )
يقول تعالى ذكره: ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل, بحجارة من سجيل.
وقد بيَّنا معنى سجيل في موضع غير هذا, غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الموضع, من أقوال مَنْ لم نذكره في ذلك الموضع.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن السديّ, عن عكرمة, عن ابن عباس ( حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال: طين في حجارة.
حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: ثنا يزيد بن زُرَيع, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس ( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ )
قال: من طين.
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس ( حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال: سنك وكل.
حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: ثنا يزيد بن زريع, عن عمارة بن أبي حفصة, عن عكرمة, في قوله: ( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال: من طين.
حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن شرقي, قال: سمعت عكرمة يقول:
( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال: سنك وكل.
حدثني يعقوب, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن عكرمة, قال: كانت ترميهم بحجارة معها, قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجُدَرِيّ, قال: كان أوّل يوم رُؤى فيه الجدريّ; قال: لم ير قبل ذلك اليوم, ولا بعده.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, قال: ذكر أبو الكُنود, قال: دون الحِمَّصة وفوق العدسة.
حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو أحمد, قال: ثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, قال: كانت الحجارة التي رُمُوا بها أكبر من العدسة; وأصغر من الحِمَّصَةِ.
قال: ثنا أبو أحمد الزُّبيريّ, قال: ثنا إسرائيل, عن موسى بن أبي عائشة, عن عمران, مثله.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن سفيان, عن السديّ, عن عكرِمة, عن ابن عباس: سجِّيل بالفارسية: سنك وكل, حَجَر وطين.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر بن سابط, قال: هي بالأعجمية: سنك وكل.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: كانت مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه, وحجر في منقاره, فجعلت ترميهم بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) قال: هي من طين.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: هي طير بيض, خرجت من قِبَل البحر, مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه, وحجر في منقاره, ولا يصيب شيئا إلا هشَمه.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة, كأنت تحملها بأفواهها, ثم إذا ألقتها نَفِط لها الجلد.
وقال آخرون: معنى ذلك: ترميهم بحجارة من سماء الدنيا.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ )
قال: السماء الدنيا, قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل, وهي التي أنـزل الله جلّ وعزّ على قوم لوط.
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة, أنها طير تخرج من البحر, وأن سجيل: السماء الدنيا.
وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل, ولا لغة, وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة, أو خبر من الله تعالى ذكره.
كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل, مسير أبرهة الحبشيّ بجنده معه الفيل, إلى بيت الله الحرام لتخريبه.
وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما حدثنا به ابن حميد, قال: ثنا سلمة بن الفضل, قال: ثنا ابن إسحاق, أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء, وكان نصرانيا, فسماها القليس;
لم يُر مثلها في زمانها بشيء من الأرض; وكتب إلى النجاشيّ ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة, لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولستُ بمُنتهٍ حتى أصرف إليها حاجّ العرب .
فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشي, غضب رجل من النَّسأة أحد بني فقيم, ثم أحد بني مالك, فخرج حتى أتى القُليس, فقعد فيها, ثم خرج فلحق بأرضه, فأخبر أبرهة بذلك, فقال: من صنع هذا ؟
فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت, الذي تحجّ العرب إليه بمكة, لما سمع من قولك:
أصرف إليه حاجّ العرب, فغضب, فجاء فقعد فيها, أي أنها ليست لذلك بأهل; فغضب عند ذلك أبرهة, وحلف ليسيرنّ إلى البيت فيهدمه, وعند أبرهة رجال من العرب قد قَدِموا عليه يلتمسون فضله, منهم محمد بن خُزَاعي بن حِزَابة الذَّكواني, ثم السُّلَمي, في نفر من قومه, معه أخ له يقال له قيس بن خزاعي;
فبينما هم عنده, غَشِيهم عبد لأبرهة, فبعث إليهم فيه بغذائه, وكان يأكل الخُصَى; فلما أتى القوم بغذائه, قالوا:
والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبُّنا به العرب ما بقينا, فقام محمد بن خزاعي, فجاء أبرهة فقال: أيها الملك, إن هذا يوم عيد لنا, لا نأكل فيه إلا الجنُوب والأيدي, فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم, فإنما أكرمتكم بغذائي, لمنـزلتكم عندي.
ثم إن ابرهة توج محمد بن خُزَاعِي, وأمَّره على مضر, وأمره أن يسير في الناس, يدعوهم إلى حج القُلَّيس, كنيسته التي بناها, فسار محمد بن خزاعي, حتى إذا نـزل ببعض أرض بني كنانة, وقد بلغ أهل تهامة أمره, وما جاء له,
بعثوا إليه رجلا من هذيل يقال له عُرْوة بن حياض الملاصي, فرماه بسهم فقتله; وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي, فهرب حين قُتل أخوه, فلحق بأبرهة فأخبره بقتله, فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا , وحلف ليغزونّ بني كنانة, وليهدمنّ البيت.
ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت, أمر الحُبْشان فتهيأت وتجهَّزت, وخرج معه بالفيل, وسمعت العرب بذلك, فأعظموه, وفُظِعوا به, ورأوا جهاده حقا عليهم, حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة, بيت الله الحرام,
فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم,
يقال له ذو نَفْر, فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب, إلى حرب أبرهة, وجهاده عن بيت الله,
وما يريد من هدمه وإخرابه, فأجابه من أجابه إلى ذلك, وعَرَض له, وقاتله, فهزم وتفرق أصحابه, وأُخِذَ له ذو نفر أسيرا;
فلما أراد قتله, قال ذو نفر:
أيها الملك لا تقتلني, فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي; فتركه من القتل, وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلا حليما.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له, حتى إذا كان بأرض خثعم, عرض له نفيل بن حبيب الخثعميّ في قبيلتي خثعم: شهران, وناهس, ومن معه من قبائل العرب, فقاتله فهزمه أبرهة, وأُخِذ له أسيرا, فأتي به;
فلما همّ بقتله, قال له نفيل:
أيها الملك لا تقتلني, فإني دليلك بأرض العرب, وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران, وناهس, بالسمع والطاعة;
فأعفاه وخلَّى سبيله, وخرج به معه, يدله على الطريق; حتى إذا مرّ بالطائف, خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف, فقال:
أيها الملك, إنما نحن عبيدك, سامعون لك مطيعون, ليس لك عندنا خلاف, وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة - يعنون الكعبة - ونحن نبعث معك من يدلك, فتجاوز عنهم, وبعثوا معهم أبا رغال;
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنـزله المغمِّس, فلما أنـزله به مات أبو رغال هناك, فرَجَمت العرب قبره, فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمِّس
.
ولما نـزل أبرهة المغمس, بعث رجلا من الحبشة, يقال له الأسود بن مقصود, على خيل له حتى انتهى إلى مكة, فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم, وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم, وهو يومئذ كبير قريش وسيدها;
وهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله, ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به, فتركوا ذلك, وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة, وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم,
ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم, إنما جئت لهدم البيت, فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم, فإن لم يُرِد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة, سأل عن سيد قريش وشريفها, فقيل: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ, فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة,
قال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه, وما لنا بذلك من طاقة; هذا بيت الله الحرام, وبيت خليله إبراهيم عليه السلام أو كما قال فإن يمنعه فهو بيته وحرمه, وإن يُخْلِ بينه وبينه, فو الله ما عندنا له من دافع عنه, أو كما قال;
فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك, فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب, ومعه بعض بنيه, حتى أتى العسكر,
فسأل عن ذي نفر, وكان له صديقا, فدل عليه, فجاءه وهو في محبسه, فقال: يا ذا نفر, هل عندك غَنَاء فيما نـزل بنا ؟ فقال له ذو نفر, وكان له صديقا: وما غناء رجل أسير في يدي ملك, ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندي غناء في شيء مما نـزل بك, إلا أن أنيسا سائق الفيل لي صديق, فسأرسل إليه, فأوصيه بك, وأعظم عليه حقك, وأساله أن يستأذن لك على الملك, فتكلمه بما تريد, ويشفع لك عنده بخير, إن قدر على ذلك.
قال: حسبي, فبعث ذو نفر إلى أنيس, فجاء به, فقال: يا أنيس إن عبد المطلب سيد قريش, وصاحب عير مكة, يطعم الناس بالسهل, والوحوش في رءوس الجبال, وقد أصاب الملك له مئتي بعير, فاستأذن له عليه, وانفعه عنده بما استطعت, فقال: أفعل.
فكلَّم أنيس أبرهة, فقال: أيها الملك, هذا سيِّد قريش ببابك, يستأذن عليك, وهو صاحب عير مكة, يُطعم الناس بالسهل, والوحوش في رءوس الجبال, فأْذَنْ له عليك, فليكلمك بحاجته, وأحسن إليه.
قال: فأذن له أبرهة, وكان عبد المطلب رجلا عظيما وسيما جسيما; فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه أن يجلس تحته, وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه, فنـزل أبرهة عن سريره, فجلس على بساطه, فأجلسه معه عليه إلى جنبه, ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك إلى الملك ؟
فقال له ذلك الترجمان, فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ عليّ مئتي بعير أصابها لي; فلما قال له ذلك, قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم زهدت فيك حين كلَّمتَني, أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك, وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك, قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه, قال: ما كان ليمنع مني, قال: فأنت وذاك, أردد إليّ إبلي.
وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطب إلى أبرهة, حين بعث إليه حناطة, يعمر بن نفاثة بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة, وهو يومئذ سيِّد بني كنانة, وخويلد بن واثلة الهُذَليّ وهو يومئذ سيد هُذَيل, فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة, على أن يرجع عنهم, ولا يهدم البيت, فأبي عليهم, والله أعلم.
وكان أبرهة, قد ردّ على عبد المطلب الإبل التي أصاب له, فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش, فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة, والتحرزّ في شعف الجبال والشعاب, تخوّفا عليهم من مَعَرّة الجيش; ثم قام عبد المطلب, فأخذ بحلقة الباب, باب الكعبة, وقام معه نفر من قريش يدعون الله, ويستنصرونه على أبرهة وجنده, فقال عبد المطلب, وهو آخذ حلقة باب الكعبة:
يــا رَبِّ لا أرْجُــو لَهُــمْ سِـوَاكا
يــا رَبِّ فــامْنَعْ مِنْهُــم حِماكـا
إنَّ عَــدُوَّ الْبَيْــتِ مَــنْ عادَاكـا
امْنَعْهُـــمُ أنْ يُخَـــربُوا قُرَاكــا
وقال أيضا:
لا هُــــمَّ إنَّ العَبْــــدَ يَـــمْ
نَـــعُ رَحْلَــهُ فــامْنَع حِــلالكْ
لا يَغْلِبَــــــنَّ صَلِيبُهُــــــمْ
ومِحَـــالُهُمْ غَـــدْوا مِحَـــالكْ
فَلَئِــــنْ فَعَلْــــتَ فَرُبَّمَــــا
أوْلــى فــأمْرٌ مــا بَــدَا لَــكْ
وَلئِــــنْ فَعَلْــــتَ فإنَّــــهُ
أمْـــرٌ تُتِـــمُّ بِـــهِ فِعَــالكْ
وقال أيضا:
وكُــنْتُ إذَا أتــى بــاغٍ بِسَــلْمٍ
نُرَجِّــي أن تَكُــونَ لَنَــا كَـذلِكْ
فَوَلَّــوْا لَــمْ يَنـالُوا غَـيْرَ خِـزْيٍ
وكــانَ الحَــيْنُ يُهْلِكُــهُمْ هُنَـالكْ
وَلَــمْ أسْـمَعْ بـأرْجَسَ مِـنْ رِجـالٍ
أرَادُوا العِــزَّ فــانْتَهَكُوا حَــرامَكْ
جَــــرُّوا جُـــمُوعَ بِلادِهِـــمْ
والْفِيــلَ كَــيْ يَســبُوا عِيَــالكْ
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال, فتحرّزوا فيها, ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها;
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة, وهيأ فيله, وعبأ جيشه, وكان اسم الفيل محمودا, وأبرهة مُجْمِعٌ لهدم البيت, ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجَّهوا الفيل, أقبل نفيل بن حبيب الخثعميّ, حتى قام إلى حنبه, ثم أخذ بأذنه فقال: أبرك محمود, وارجع راشدا من حيث جئت, فإنك في بلد الله الحرام;
ثم أرسل أذنه, فبَرَك الفيل, وخرج نُفَيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى, وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم, فأبى, فأدخلوا محاجن لهم في مراقه, فبزغوه بها ليقوم, فأبى, فوجَّهوه راجعا إلى اليمن, فقام يهرول, ووجَّهوه إلى الشام, ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى المشرق, ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى مكة فبرك, وأرسل الله عليهم طيرا من البحر, أمثال الخطاطيف, مع كل طير ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره, وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس, لا يصيب منهم أحدا إلا هلك, وليس كلهم أصابت, وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا, ويسألون عن نفيل بن حبيب, ليدلهم على الطريق إلى اليمن,
فقال نُفَيل بن حبيب حين رأى ما أنـزل الله بهم من نقمته:
أيْــنَ المَفَــرُّ والإلَــهُ الطَّــالِبْ
والأشْــرَمُ المَغْلُـوبُ غَـيْرُ الْغَـالِبْ
فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق, ويهلكون على كلّ منهل, فأصيب أبرهة في جسده, وخرجوا به معهم, فسقطت أنامله أنملة أنملة, كلما سقطت أنملة أتبعتها مِدّة تَمُثُّ قيحا ودما, حتى قَدِموا به صنعاء, وهو مثل فرخ الطير, فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن يعقوب بن عتبة بن المُغيرة بن الأخنس, أنه حدّث, أن أوّل ما رُؤيت الحصبة والجدريّ بأرض العرب ذلك العام, وأنه أوّل ما رؤي بها مُرار الشجر: الحرملُ والحنظلُ والعُشرُ ذلك العام.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عداد أهل اليمن, إلى بيت الله ليهدمه من أجل بيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن, فأقبلوا بفيلهم, حتى إذا كانوا بالصَّفَّاح برك; فكانوا إذا وجَّهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه على الأرض, وإذا وجهوه إلى بلدهم انطلق وله هرولة, حتى إذا كان بنخلة اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل.
والأبابيل: الكثيرة, مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه, وحجر في منقاره, فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عزّ وجلّ كعصف مأكول;
قال: فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة, فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه, حتى أتى قومه, فأخبرهم الخبر ثم هلك
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
وقوله: ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ )
يعني تعالى ذكره: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدواب فراثته, فيبس وتفرّقت أجزاؤه; شبَّه تقطُّع أوصالهم بالعقوبة التي نـزلت بهم, وتفرّق آراب أبدانهم بها, بتفرّق أجزاء الروث, الذي حدث عن أكل الزرع.
وقد كان بعضهم يقول: العصف: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة من خارج, كهيئة الغلاف لها.
_ذكر من قال: عُني بذلك ورق الزرع:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد,
قوله: ( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال: ورق الحنطة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال: هو التبن.
وحُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:
( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) : كزرع مأكول.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: ثنا زريق بن مرزوق, قال: ثنا هبيرة, عن سلمة بن نُبَيط, عن الضحاك, في قوله ( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال:
هو الهبور بالنبطية, وفي رواية: المقهور.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال: ورق الزرع وورق البقل, إذا أكلته البهائم فراثته, فصار رَوْثا.
_ذكر من قال: عني به قشر الحبّ:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس
( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال: البرّ يؤكل ويُلقى عصفه الريح والعصف: الذي يكون فوق البرّ: هو لحاء البرّ.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن أبي سنان, عن حبيب بن أبي ثابت:
( كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) قال: كطعام مطعوم.
آخر تفسير سورة الفيل
...... ........ .......
تفسير سورة الفيل للبغوي
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
مكية
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) ؟
وكانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس وذكره الواقدي :
أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث " أرياط " إلى أرض اليمن فغلب عليها ، فقام رجل من الحبشة ، يقال له :
" أبرهة بن الصباح " أبو يكسوم ، ، فساخط " أرياط " في أمر الحبشة ، حتى انصدعوا صدعين ، وكانت طائفة مع أرياط ، وطائفة مع أبرهة ، فتزاحفا فقتل أبرهة ، أرياط ، واجتمعت الحبشة لأبرهة ، وغلب على اليمن وأقره النجاشي ، على عمله .
ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله ، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إليها مستخفيا فدخلها ليلا فقعد فيها وتغوط بها ، ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال :
من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعذرة ؟
فقيل له : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك :
ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلا لم ير مثله عظما وجسما وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة من الحبشة سائرا إلى مكة ، وخرج معه الفيل ،
فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر ، بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال :
أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي ، فاستحياه وأوثقه . وكان أبرهة رجلا حليما .
ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن ، فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلا فقال نفيل :
أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف فقال :
أيها الملك نحن عبيدك ، ليس لك عندنا خلاف ، وإنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا معه أبا رغال ، مولى لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبشة ، يقال له : الأسود بن مسعود ، على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير .
ثم إن أبرهة بعث حباطة الحميري إلى أهل مكة ، وقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت .
فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم ، فقال : إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم .
فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ولا لنا به يد إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ،
فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة .
قال : فانطلق معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر ، وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟
فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا ، ولكن سأبعث إلى أنيس ، سائس الفيل ، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ،
قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال ،
وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي ، أحب ، ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال :
أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال ، يستأذن إليك وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك ،
وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك ، فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه ،
ثم قال لترجمانه قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟
فقال له الترجمان ذلك ،
فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، وقد زهدت فيك ، قال عبد المطلب : لم ؟
قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟
قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل وإن لهذا البيت ربا سيمنعه ، قال ما كان ليمنعه مني ، قال فأنت وذاك ، فأمر بإبله فردت عليه .
فلما ردت الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشا الخبر ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رءوس الجبال ، تخوفا عليهم من معرة الجيش ، ففعلوا ، وأتى عبد المطلب الكعبة ، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا
وقال أيضا :
لا هم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
فلم أسمع بأرجس من رجال أرادوا الغزو ينتهكوا حرامك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه وهيأ فيله ، وكان فيلا لم ير مثله في العظم والقوة ويقال كان معه اثنا عشر فيلا .
فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال :
ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم .
وخرج نفيل يشتد حتى صعد في الجبل ، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار :
حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، أمثال الحمص والعدس ، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه ، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال ، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل مهلك .
وبعث الله على أبرهة داء في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك .
قال الواقدي : وأما محمود ، فيل النجاشي ، فربض ولم يسر على الحرم فنجا ، والفيل الآخر شجع فحصب .
وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل : أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر وثم بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل ، فنزلوا فأججوا نارا واشتووا فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف فعجت الريح فاضطرم الهيكل نارا فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأسف غضبا للبيعة ،
فبعث أبرهة لهدم الكعبة .
وقال فيه : إنه كان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة ;
وكان رجلا نبيها نبيلا تستقيم الأمور برأيه ، وكان خليلا لعبد المطلب ، فقال له عبد المطلب : ماذا عندك هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك ؟
فقال أبو مسعود : اصعد بنا إلى حراء فصعد الجبل ،
فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها لله وقلدها نعلا ثم أرسلها في الحرم لعل بعض هذه السودان يعقر منها شيئا ، فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم ، ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو ،
فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت ربا يمنعه ، فقد نزل تبع ، ملك اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه ، وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض ، وعظمه ونحر له جزورا .
ثم قال أبو مسعود فانظر نحو البحر ، فنظر عبد المطلب فقال :
أرى طيرا بيضاء نشأت من شاطئ البحر ، فقال :
ارمقها ببصرك أين قرارها ؟
قال أراها قد دارت على رءوسنا ،
قال : فهل تعرفها ؟ قال : فوالله ما أعرفها ما هي بنجدية ولا تهامية ولا غربية ولا شامية ،
قال : ما قدها ؟
قال : أشباه اليعاسيب ، في منقارها حصى كأنها حصى الحذف ، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضا ، أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم وكدت فوق رءوسهم ، فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت ، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا ثم دنوا ربوة فلم يسمعا حسا فقالا بات القوم ساهرين ، فأصبحوا نياما ، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون ، وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه ويخرق الفيل والدابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب فأخذ فأسا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من أموالهم ، من الذهب الأحمر والجوهر ، وحفر لصاحبه حفرة فملأها كذلك ،
ثم قال لأبي مسعود : هات فاختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك معا ،
قال أبو مسعود : اختر لي على نفسك ، فقال عبد المطلب إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهما على حفرته ، ونادى عبد المطلب في الناس ، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا ،
وساد عبد المطلب بذلك قريشا وأعطته المقادة ، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال ، ودفع الله عن كعبته وبيته .
واختلفوا في تاريخ عام الفيل ; فقال مقاتل : كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين سنة .
وقال الكلبي : بثلاث وعشرين سنة .
والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل :
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) ؟
قال مقاتل : كان معهم فيل واحد .
وقال الضحاك : كانت الفيلة ثمانية . وقيل اثنا عشر ، سوى الفيل الأعظم ، وإنما وحد لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم . وقيل : لوفاق رءوس الآي .
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) " كيدهم " يعني مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة .
وقوله : " في تضليل " عما أرادوا ، وأضل كيدهم حتى لم يصلوا إلى الكعبة ، وإلى ما أرادوه بكيدهم .
قال مقاتل : في خسارة ، وقيل : في بطلان .
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضا .
وقيل : أقاطيع كالإبل المؤبلة .
قال أبو عبيدة . أبابيل جماعات في تفرقة ،
يقال : جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا .
قال الفراء : لا واحد لها من لفظها .
وقيل : واحدها إبالة .
وقال الكسائي : إني كنت أسمع النحويين يقولون : واحدها أبول ، مثل عجول وعجاجيل .
وقيل : واحدها من لفظها إبيل .
قال ابن عباس : كانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
وقال عكرمة : لها رؤوس كرؤوس السباع . قال الربيع : لها أنياب كأنياب السباع .
وقال سعيد بن جبير : خضر لها مناقير صفر . وقال قتادة : طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار ; حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، لا تصيب شيئا إلا هشمته .
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)
( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال ابن عباس وابن مسعود :
صاحت الطير ورمتهم بالحجارة ، فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر ، وإن وقع على رأسه خرج من دبره .
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
( فجعلهم كعصف مأكول ) كزرع وتبن أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرقت أجزاؤه . شبه تقطع ، أوصالهم بتفرق أجزاء الروث .
قال مجاهد : " العصف " ورق الحنطة .
وقال قتادة : هو التبن
وقال عكرمة : كالحب إذا أكل فصار أجوف .
وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له .
..... ...... ...........
تفسير سورة الفيل للشوكاني
الاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها.
قال الفراء: المعنى ألم تخبر.
وقال الزجاج: ألم تعلم ! وهو تعجيب له صلى الله عليه وسلم بما فعله الله {بأصحاب الفيل} الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها، ومعلقة لفعل الرؤية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون لكلّ من يصلح له.
والمعنى: قد علمت يا محمد، أو علم الناس الموجودون في عصرك، ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل، وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون؟
والفيل هو الحيوان المعروف، وجمعه أفيال، وفيول، وفيلة.
قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه فيال، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم، والهمزة للتقرير كأنه قيل:
قد جعل كيدهم في تضليل،
والكيد: هو إرادة المضرّة بالغير !
لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}
أي: أقاطيع يتبع بعضها بعضاً كالإبل المؤبلة.
قال أبو عبيدة: {أبابيل} جماعات في تفرقة، يقال جاءت الخيل أبابيل،
أي: جماعات من هاهنا وهاهنا.
قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان، توبل على فلان
أي: تعظم عليه، وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له.
وقال بعضهم: واحده أبول مثل عجول.
وقال بعضهم: أبيل، قال الواحدي: ولم نر أحداً يجعل لها واحداً.
قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها: أبالة مشدّداً.
وحكى الفرّاء أيضاً: أبالة بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: كانت طيراً من السماء لم ير قبلها ولا بعدها.
قال قتادة: هي: طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا يصيب شيئًا إلاّ هشمه.
وقيل: كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقيل: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكف الكلاب.
وقيل: في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير،
كما في قول الشاعر:
تراهم إلى الداعي سرعاً كأنهم
أبابيل طير تحت دجن مسجن
وتستعملها في غير الطير كقول الآخر:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي
أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} الجملة في محلّ نصب صفة لطير.
قرأ الجمهور: {ترميهم} بالفوقية.
وقرأ أبو حنيفة، وأبو معمر، وعيسى، وطلحة بالتحتية، واسم الجمع يذكر ويؤنث.
وقيل: الضمير في القراءة الثانية لله عزّ وجلّ.
قال الزجاج: {مّن سِجّيلٍ} أي: مما كتب عليهم العذاب به، مشتقاً من السجل.
قال في الصحاح قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم.
قال عبد الرحمن بن أبزى: {مّن سِجّيلٍ} من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاماً، ومنه قول ابن مقبل:
ضرباً تواصت به الأبطال سجيلا
وإنما هو سجيناً.
قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجحدري، وكان الحجر كالحمصة، وفوق العدسة.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} أي: جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدّواب فرمت به من أسفل، شبه تقطع أوصالهم بتفرّق أجزائه.
وقيل المعنى: أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدّواب وبقي منه بقايا، أو أكلت حبه، فبقي بدون حبه. والعصف جمع عصفة، وعصافة، وعصيفة، وقد قدّمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن، فارجع إليه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس
قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح، فأتاهم عبد المطلب فقال:
إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحداً،
قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، وكانوا لا يقدّمون فيلهم إلاّ تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سوداً عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلاّ أخذته الحكة، فكان لا يحكّ الإنسان منهم جلده إلاّ تساقط لحمه.
وأخرج ابن المنذر، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب،
فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟
ألا بعثت، فنأتيك بكل شيء؟
فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلاّ أمن، فجئت أخيف أهله،
فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع، فأبى إلاّ أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل
فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} فجعل الفيل يعجّ عجاً {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}.
وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطوّلة في كتب التاريخ والسير، فلا نطوّل بذكرها.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ}
قال: حجارة مثل البندق، وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار:
حجران في رجليه، وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء، ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة، فلم تعد عسكرهم.
وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء، والضحاك عنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل بريد مجتمعة، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها، وحصاتين في رجليها، ترسل واحدة على رأس الرجل، فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاماً خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} يقول: كالتبن.
وأخرج ابن إسحاق في السيرة، والواقديّ، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل، وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.
وأخرج الواقديّ نحوه عن أسماء بنت أبي بكر.
وأخرج أبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفيل.
وأخرج ابن إسحاق، وأبو نعيم، والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل
.......... ........... .........
تفسير سورة الفيل لابن الجوزي
قوله تعالى: {ألم تر} فيه قولان:
_ أحدهما: ألم تُخْبَرْ، قاله الفراء.
_ والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج.
ومعنى الكلام معنى التعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة.
وفي سبب قصدهم لذلك قولان:
_ أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً
وقال: لست منتهياً حتى أضيف إليها حَجَّ العرب،
فسمع بذلك رجل من بني كنانة، فخرج، فدخلها ليلاً، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف ليسيرنَّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس.
_ والثاني: أن قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بِيعَةٍ، فأوقدوا ناراً، وشَوَوْا لحماً، فلما رَحَلُوا هَبَّت الرِّيح، فاضطرم المكان ناراً، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة،
فقال له كبراء أصحابه منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم: لا تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل.
وقال ابن اسحاق: أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل: وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه.
ذكر الإشارة إلى القصة:
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده،
فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته وحرمه، وإن يخلِّ بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا به قوة.
قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان،
فقال: حاجتي أن يردَّ عليَّ مائتي بعير أصابها.
فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، جئت إلى بيت هو دينك لأهدمه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل أصبتُها.
فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت رَبُّ سيمنعه. فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، فأخبر قريشاً، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفاً من مَعَرَّة الجيش إذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول:
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا
يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا
إمْنَعْهُمُ أن يُخْرِبُوا قُرَاكا
وقال أيضاً:
لاَ هُمَّ إنَّ المرْءَ يَمْ
نُع رَحْلَه فامنع حِلاَلَكْ
لاَ يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ
وَمِحَالُهم غَدْواً مِحَالَكْ
جَرُّوا جميعَ بلادهم
والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم
جهلاً وما رَقَبُوا جَلاَلَكْ
إنْ كنتَ تاركهم وكَعْ
تَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَالَكْ
ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعاً، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيراً من البحر.
واختلفوا في صفتها :
فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف.
واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال :
_أحدها: أنها كانت خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير.
_والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير.
_والثالث: بيضاء، قاله قتادة.
قال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه، وحجر في منقاره.
واختلفوا في صفة الحجارة :
فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص والعدس.
وقال عبيد بن عمير: بل كان الحجر كرأس الرجل والجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك. وكان الحجر يقع على رأس الرجل، فيخرج من دبره.
وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى أهل مكة الطير وقد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة. ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض ويقول: هلك القوم جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم.
وقيل: لم ينج من القوم إلا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير من فوقه، ولا يشعر به حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال :
_ أحدها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح.
_ والثاني:
كان بينهما ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
_ والثالث:
أربعون سنة، حكاه مقاتل.
قوله تعالى: {ألم يجعل كيدهم} وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة {في تضليل} أي: في ذهاب.
والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم {وأرسل عليهم طيراً أبابيل}.
وفي {أبابيل} خمسة أقوال :
_ أحدهما:
أنها المتفرِّقة من هاهنا وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش.
_ والثاني:
أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل.
_ والثالث:
الكثيرة، قاله الحسن، وطاووس.
_ والرابع:
أنها الجمع بعد الجمع، قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، {أبابيل}: جماعات في تفرقة.
_ والخامس:
المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم. قال الفراء، وأبو عبيدة: {أبابيل} لا واحد لها.
قوله تعالى: {ترميهم} قرأ أبو عبد الرحمن السلمي {يرميهم} بالياء.
ومعنى {عصف} في سورة [الرحمن: 12] عز وجل.
وفي معنى {مأكول} ثلاثة أقوال :
_ أحدهما:
أن يكون أراد أنه أُخذ ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه.
_ والثاني:
أن يكون أراد أن العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول ولمَّا يؤكل.
وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب. يريد أنهما مما يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة.
_والثالث:
أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال.
فالمعنى: جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال، قاله الزجاج.
........... .... .....
تفسير سورة الفيل لابن تيمية
هذه حادثة حدثت في زمن الجاهلية، في السنة التي ولد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم-
وهذه حادثة حق وصدق، يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها، وأن يعتقدها؛
لأن الله ذكرها في كتابه، وهذه الحادثة هي أن أبرهة الأشرم كان واليا على اليمن للنجاشي الذي كان ملكا للحبشة، فأراد أن يقدم للنجاشي شيئا، فصنع كنيسة ببلاد اليمن عالية في بنائها، مزخرفة في جدرانها، أنفق عليها مالا كثيرا.
ثم أراد صرف العرب ليحجوا إليها؛ لأنه كان نصرانيا، والعرب كانوا وثنيين، ولكن بعضهم كان مُتَحَنِّفًا، وبعضهم كان يدين الله ببعض دين إبراهيم الخليل
عليه السلام فأراد صرف العرب إلى ذلك، وأمرهم به، فغاظت العرب من ذلك، سواء منهم مَن كان في بلاد اليمن من العدنانيين والقحطانيين، أو في مكة من قريش.
فقام رجل من قريش، وسافر إلى بلاد اليمن، وتغوط في هذه الكنيسة، ثم تركها وسار، لا يدري عنه أحد، ولما علم بذلك أبرهة، أراد أن يُسَيِّرَ جيشًا؛
ليهدم الكعبة؛ حتى يصرف الناس جميعا إلى هذه الكنيسة التي بناها.
ولكن الله جل وعلا فيما قضاه من سابق علمه أن هذا البيت يبقى، وأن فريضة الحج والعمرة لا تزال به، وأن المؤمنين يتوجهون إليه في صلاتهم بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وأن الله جل وعلا في سابق علمه قد حَرَّمَ هذا البيت يوم خلق السماوات والأرض، وجعله بلدا آمنا.
فلما قدم أبرهة بجيوشه، وعلى رأسهم فيل عظيم يقال له: محمود، ومعه نحو من ثمانية أفيال؛
لما ساروا إلى هذا البيت قاتلهم بعض العرب، وهم في طريقهم إلى البيت، ولكن أبرهة استطاع أن يتغلب عليهم؛ لقوة جيشه.
فلما اقترب من البيت الحرام خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وفاوضه على أن يسترجع عبد المطلب منه مائتين من الإبل، كان أخذها جند أبرهة من المرعى الذي كانت ترعى فيه هذه الإبل، فتعجب أبرهة من سؤال عبد المطلب له هذه الإبل مع أنه يقصد هدم البيت الذي كان المشركون يتعبدون فيه، وكانوا يعظمونه حتى من التجأ إليه إلى هذا البيت، ولو كان قاتل أبي الإنسان، أو قاتل أخيه، أو قاتل ولده، واعتصم بهذا البيت، فإنه لا يمس بسوء.
فتعجب أبرهة من طلب عبد المطلب، وذكر له ذلك فقال: إن للبيت ربا يحميه، وخرجت قريش إلى رءوس الجبال، وتركوا البيت، فلما أراد الجيش أن يدخل البيت الحرام، صرف الله هذا الفيل، فلم يستطيع القيام فضرب ضربا شديدا بالخشب وبجميع الوسائل، فلم يقم، فلما صرف إلى اليمين، أو إلى الشمال، أو إلى الجهة الثالثة، فإنه يسرع سرعة شديدة.
وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم حجارة تحملها طير، وهذا الطير لا يُعْرَف، بل جاء من قِبَل البحر، كل طائر منها يحمل ثلاثة أحجار:
حجرا في منقاره، وحجرين في رجليه، فألقوها على جيش أبرهة، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم-:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
أي: ألم تعلم يا محمد ما فعل ربك بأصحاب الفيل.
والمعنى: قد علمت يا محمد؛
لأن هذا استفهام تقريري، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم هذه الحادثة علما متواترا، قبل أن ينزل الله عليه القرآن؛
فلهذا قال له ربه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ﴾
أي: ألم تعلم ما فعله الله بأصحاب الفيل، كان أمرا مشهورا معروفا معلوما متواترا عند المشركين، لا يتطرق إلى أحدهم أدنى شك من صحته.
قال الله : ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾
أي: قد جعل الله كيد أولئك الذين يريدون المكيدة بالبيت جعل الله كيدهم في تضليل في ضلال وهباء وخسار، فلم ينتفعوا بمقصدهم، بل عذبوا عليه.
قال الله في بيان صفة قتلهم:
﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾
أي: أن الله أرسل عليهم طيرا جماعات، جماعات ترميهم بحجارة من سجيل،
أي: ترميهم بحجارة من طين قد اشتد، وهو الذي كانت تحمله هذه الطيور
﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾
أي: أن هؤلاء صارت نهاية أمرهم إلى أن صاروا كورق الشجر الذي أكلته الدواب، ثم تركت بقيته تدوسه بأقدامها، لا تلتفت إليه، فكذلك كان حال أولئك المعذبين، وهذا الطير طير حقيقي، وهذه الحجارة حجارة حقيقة، يجب على المسلم أن يعتقد ذلك، وأن يؤمن به، وأن يصدق؛ لأنه خبر الله .
....... ............. .............
تفسير سورة الفيل لابن عثيمين
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} .
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}
يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، فعلى الأول يكون خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطاباً له وللأمة؛
لأن أمته تابعة له، وعلى الثاني يكون الخطاب عاماً له ولأمته، ابتداءً، وعلى كلٍّ فإن الله تعالى يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم أهل اليمن الذين جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة،
وسبب ذلك أن ملك اليمن أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة، بيت الله عز وجل فبنى بيتاً يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه ليصدهم عن حج بيت الله فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلاً عن الكعبة وتغوَّط فيه، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضباً شديداً، وأخبر ملك الحبشة بذلك فأرسل إليه هذا الفيل العظيم
قيل: وكان معه ستة فيلة لتساعده فجاء ملك اليمن بجنوده ليهدم الكعبة على زعمه، ولكن الله سبحانه حافظ بيته، فلما وصلوا إلى مكان يسمى المغمَّس وقف الفيل وحرن، وأبى أن يتجه إلى الكعبة فزجره سايسه ولكنه أبى، فإذا وجهوه إلى اليمن انطلق يهرول، وإن وجهوه إلى مكة وقف ،
وهذه آية من آيات الله عز وجل، ثم بقوا حتى أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل
{ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل}
قال العلماء: {طيراً أبابيل}
يعني: جماعات متفرقة، كل طير في منقاره حجر صلب {من سجيل} وهو الطين المشوي؛
لأنه يكون أصلب، وهذا الحجر ليس كبيراً،
بل هو صغير يضرب الواحد من هؤلاء مع رأسه ويخرج من دبره
{فجعلهم كعصف مأكول} أي: كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت.
هذا مجمل هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها ما فعل بأصحاب الفيل وأن كيدهم صار في نحورهم، وهكذا كل من أراد الحق بسوء فإن الله تعالى يجعل كيده في نحره، وإنما حمى الله عز وجل الكعبة عن هذا الفيل مع أنه في آخر الزمان سوف يُسلط عليها رجل من الحبشة يهدمها حجراً حجراً حتى تتساوى بالأرض
لأن قصة أصحاب الفيل مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي يكون فيها تعظيم البيت. أما في آخر الزمان فإن أهل البيت إذا أهانوه وأرادوا فيه بإلحاد بظلم، ولم يعرفوا قدره حينئذ يسلط الله عليهم من يهدمه حتى لا يبقى على وجه الأرض، ولهذا يجب على أهل مكة خاصة أن يحترزوا من المعاصي والذنوب والكبائر،
لئلا يُهينوا الكعبة فيذلهم الله عز وجل. نسأل الله تعالى أن يحمي ديننا وبيته الحرام من كيد كل كائد، إنه على كل شيء قدير.
........ ...... ..........
تفسير سورة الفيل لابن عطية
{كيف} نصب بفعل والجمهور على أنه فيل واحد،
وقال الضحاك: ثمانية، فهو اسم الجنس وقوله مردود،
وحكى النقاش: ثلاثة عشر، وهذه السورة تنبيه على الاعتبار في أخذ الله تعالى لأبرهة ملك الحبشة ولجيشه حين أم به الكعبة ليهدمها، وكان صاحب فيل يركبه، وقصته مشروحة في السير الطويلة، واختصاره أنه بنى في اليمن بيتاً وأراد أن يرد إليه حج العرب،
فذهب أعرابي فأحدث في البيت الذي بنى أبرهة فغضب لذلك واحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة، وغلب من تعرضه في طريقه من قبائل العرب،
فلما وصل ظاهر مكة وفر عبد المطلب وقريش إلى الجبال والشعاب، وأسلموا له البلد وغلب طغيانه، ولم يكن للبيت من البشر من يعصمه ويقوم دونه، جاءت قدرة الواحد القهار وأخذ العزيز المقتدر،
فأصبح أبرهة ليدخل مكة ويهدم الكعبة فبرك فيله بذي الغميس ولم يتوجه قبل مكة فبضعوه بالحديد فلم يمش إلى ناحية مكة وكان إذا وجهوه إلى غيرها هرول، فبينا هم كذلك في أمر الفيل بعث الله
{عليهم طيراً} جماعات جماعات سوداً من البحر ،
وقيل خضراً،
عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقارة ورجليه وكل حجر فوق العدسة ودون الحمصة فرمتهم بتلك الحجارة،
فكان الحجر منها يقتل المرمي وتتهرى لحومهم جذرياً، وأسقاماً، فانصرف أبرهة بمن معه يريد اليمن فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة، وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته المرفع، فنزلت الآية منبهة على الاعتبار بهذه القصة،
ليعلم الكل أن الأمر كله لله، ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته، حين لم تغن الأصنام شيئاً
ف {أصحاب الفيل}:
أبرهة الملك ورجاله،
وقرأ أبو عبد الرحمن: {ألم ترْ} بسكون الراء، والتضليل الخسار والتلف،
والأبابيل: جماعات تجيء شيئاً بعد شيء،
قال أبوعبيدة: لا واحد له من لفظه وهذا هو الصحيح لا ما تكلفه بعض النحاة
وقال معبد بن أبي معبد الخزاعي: [البسيط]
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سارت الأرض بالجرد الأبابيل
وقد تقدم تفسير حجارة السجيل غير مرة، وهي من سنج وكل أي ماء وطين، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ، وهي المسومة عند الله تعالى للكفرة الظالمين،
و{العصف}: ورق الحنطة وتبنه
ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها
حدورها من أتيّ الماء مطموم
والمعنى صاروا طيناً ذاهباً كورق حنطة أكلته الدواب وراثته فجمع المهانة والخسة وأتلف،
وقرأ أبو الخليج الهذلي {فتركتهم كعصف}، قال أبو حاتم، وقرأ بعضهم: {فجعلتهم} يعنون الطير بفتح اللام وتاء ساكنة،
وقال عكرمة: العصف حب البر إذا أكل فصار أجوف،
وقال الفراء: هو أطراف الزرع قبل أن يسنبل، وهذه السورة متصلة في مصحف أبي بن كعب بسورة {لإيلاف قريش} لا فصل بينهما،
وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام يقرأ بهما متصلة سورة واحدة
.... ...... ...........
تفسير سورة الفيل للزمخشري
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
روي أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القُليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً، فأغضبه ذلك.
وقيل: أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود، وكان قوياً عظيماً، واثنا عشر فيلاً غيره.
وقيل: ثمانية
وقيل: كان معه ألف فيل، وقيل كان وحده؛
فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيرها من الجهات هرول؛ فأرسل الله طيراً سوداً.
وقيل: خضراً ،وقيل: بيضاً، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل؛
ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما اتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه. وقيل: كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة،
وقيل: بثلاث وعشرين سنة.
وعن عائشة رضي الله عنها:
رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان.
وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه فيها، فجهره وكان رجلاً جسيماً وسيماً.
وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر، فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته
وهو يقول:
لاَهُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ
نَعُ رحله فَامنَعْ حَلاَلَكْ
لاَ يغْلِبَنَّ صَلُيبُهُم
وَمُحَالُهُمْ عَدْواً مْحَالَكْ
إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَع
بَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا
يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن
فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية.
وفيه: أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور، وكان سبب يساره.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها.
وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم.
وعن عكرمة: من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر.
وقرئ: {ألم تر} بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم:
والمعنى: أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة.
و{كَيْفَ} في موضع نصب بفعل ربك، لا بألم تر؛ لما في {كَيْفَ} من معنى الاستفهام
{فِى تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال. يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالاً ضائعاً.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضلال} [غافر: 25]
وقيل: لامريء القيس: الملك الضليل؛
لأنه ضلل ملك أبيه، أي: ضيعه، يعني: أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه؛ وكادوه ثانياً بإرادة هدمه، فضلل بإرسال الطير عليهم
{أَبَابِيلَ} حزائق، الواحدة: إبالة.
وفي أمثالهم: ضغث على إبالة،
وهي: الحزمة الكبيرة، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة.
وقيل: أبابيل مثل عباديد، وشماطيط لا واحد لها،
وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: {يرميهم} أي: الله تعالى أو الطير، لأنه اسم جمع مذكر؛ وإنما يؤنث على المعنى.
وسجيل: كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم،
كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛
لأنّ العذاب موصوف بذلك، وأرسل عليهم طيراً، {فأرسلنا عليهم الطوفان} [الأعراف: 133].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر. وقيل: هو معرب من سنككل.
وقيل: من شديد عذابه؛
ورووا بيت ابن مقبل:
ضَرْباً تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلاَ
وإنما هو سجينا،
والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل، أي: وقع فيه الأكال: وهو أن يأكله الدود. أو بتبن أكلته الدواب وراثته، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن،
كقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} [المائدة: 75] أو أريد: أكل حبه فبقي صفراً منه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ».
.......... ............ ...........
تفسير سورة الفيل للبيضاوي
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل}
الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها،
وإنما قال: {كَيْفَ} ولم يقل ما لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام فإنها من الإِرهاصات.
إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف الحاج إليها، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود، وفيلة أخرى فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح،
وإذا رجعوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول، فأرسل الله تعالى طيراً مع كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً.
وقرئ: {أَلَمْ تَرَ} جداً في إظهار أثر الجازم، وكيف نصب بفعل لأبتر لما فيه من معنى الاستفهام.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} في تعطيل الكعبة وتخريبها.
{فِى تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال بأن دمرهم وعظم شأنها.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} جماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. وقيل لا واحد لها كعبابيد وشماطيط.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع، أو إسناده إلى ضمير ربك.
{مِّن سِجّيلٍ} من طين متحجر معرب سنككل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير، أو الاسجال وهو الارسال، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورق زرع وقع فيه، والآكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفراً منه، أو كتين أكلته الدواب وراثته.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ».
......... ........... .......
تفسير سورة الفيل للنسفي
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ}
{كَيْفَ} في موضع نصب ب {فِعْلَ} لا ب {أَلَمْ تَرَ} لما في
{كَيْفَ} من معنى الاستفهام، والجملة سدت مسد مفعولي {تَرَ} وفي {أَلَمْ تَرَ} تعجيب أي عجّب الله نبيه من كفر العرب
وقد شاهدت هذه العظمة من آيات الله، والمعنى إنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة وسمعت الأخبار به متواتراً فقامت لك مقام المشاهدة {بأصحاب الفيل}
روي أن أبرهة ابن الصباح ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك.
وقيل: أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبه، فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً واثنا عشر فيلاً غيره، فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبى جيشه وقدم الفيل، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن هرول،
وأرسل الله طيراً مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا وهلكوا، وما مات أبرهة حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه.
وروي أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه فيها فعظم في عينه وكان رجلاً جسيماً وسيماً.
وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وشرفكم في قديم الدهر، فألهاك عنه ذود أخذلك فقال:
أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال.
يقال: ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً.
وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه يعني أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس ليصرفوا وجوه الحاج إليه فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، وكادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} حزائق الواحدة إبالة.
قال الزجاج: جماعات من ههنا وجماعات من ههنا {تَرْمِيهِم} وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه {يرميهم} :
أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى {بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} هو معرب من سنككل وعليه الجمهور أي الآجر
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} زرع أكله الدود
...... ...... ......... .....
تفسير سورة الفيل لابن عبد السلام
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر أو ألم تر آثار ما فعل ربك بأصحاب الفيل لأنه ما رأه وولد بعده بأربعين سنة أو ثلاث وعشرين سنة أو ولد عام الفيل أو يوم الفيل
وسبب قصدهم لمكة أن أبرهة بن الصباح بنى بصنعاء كنيسة وأراد صرف حج العرب إليها فسمع بذلك رجل من كنانة فخرج فأتاها ليلاً فأحدث فيها فبلغ أبرهة فحلف بالله تعالى ليهدمن الكعبة فسار إليها بالفيل.
أو خرج فتية من قريش تجاراً إلى الحبشة فنزلوا على ساحل البحر على بيعة للنصارى فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح فأحرقت البيعة فبلغ النجاشي فاستشاط غضباً فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شراحيل وأبو يكسوم الكنديون وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة وكان أبرهة صاحب جيش النجاشي وأبو يكسوم نديم أو وزير وحجر بن شراحيل من قواده فساروا بالجيش ومعهم فيل واحد عند الأكثر أو كانت ثمانية فيلة فأهلكهم الله عز وجل فرجع منهم أبرهة إلى اليمن فهلك في الطريق.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}
{كَيْدَهُمْ} لقريش بإرادة قتلهم وسبيهم وتخريب الكعبة.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)}
{طَيْراً} من السماء لم ير قبلها ولا بعدها مثلها
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها بين السماء والأرض تعشش وتفرخ أو هي العنقاء المغربة التي يضرب بها الأمثال قاله عكرمة أو من طير السماء أرسلت من ناحية البحر مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره قيل كانت سوداً خضر المناقير طوال الأعناق أو كانت أشباه الوطاويط حمراً وسوداً أو أشباه الخطاطيف وسئل أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عنها فقال حمام مكة منها.
{أَبَابِيلَ} كثيرة «ح» أو متتابعة يتبع بضعها بعضاً «ع» أو متفرقة من ها هنا ومن ها هنا أو مختلفة الألوان أو جمعاً بعد جمع أو أخذت من الإبل المؤبلة وهي الأقاطيع ولا واحد للأبابيل من جنسه أو واحدة إبالة وأبول أو أبيل.
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
{سِجِّيلٍ} كلمة فارسية سنك وكل أولها حجر وآخرها طين «ع» أو الشديد أو اسم للسماء الدنيا نسب الحجارة إليها لنزولها منها أو اسم بحر في الهواء جاءت منه الحجارة وكانت كحصى الخذف أو فوق العدسة ودون الحمصة
قال أبو صالح رأيت في دار أم هانىء نحو قفيز منها مخططة بحمرة كأنها الجزع ولما رمتها الطير أرسل الله تعالى ريحاً فضربتها فزادتها شدة فلم تقع على أحد إلا هلك.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
{كَعَصْفٍ} ورق الزرع {مَّأْكُولٍ} أكلته الدود «ع» أو الطعام أو قشر الحنطة إذا أكل ما فيه أو ورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته أو العصف التبن والمأكول القصيل يجز للدواب فعل الله تعالى ذلك بهم معجزة لنبي كان في ذلك الزمان قيل هو خالد بن سنان أو توطيداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في عامه أو في يومه.
...... ........ .......
تفسير سورة الفيل لابن جزي
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} معناه: ألم تعلم،
وكيف في موضع نصب بفعل ربك لا بألم تر، والجملة معمول ألم تر {فِي تَضْلِيلٍ} أي إبطال وتخسير {أَبَابِيلَ} معناها جماعات شيئاً بعد شيء
قال الزمخشري: واحدها أبالة،
وقال جمهور الناس هو جمع لا واحد له من لفظه {بِحِجَارَةٍ}
روي أن كل حجر منها كان فوق العدسة ودون الحمصة.
قال ابن عباس: إنه أدرك عند أم هانئ نحو قفتين من هذه الحجارة، وأنها كانت مخططة بحمرة
وروي أنه كان على كل حجر اسم من يقع عليه مكتوباً {سِجِّيلٍ} قد ذكر {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} العصف ورق الزرع وتبنه والمراد أنهم صاروا رميماً، وفي تشبيههم
به ثلاثة :
_أوجه الأول أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثته فجمع التلف والخسة، ولكن الله كنّى عن هذا على حسب آدب القرآن.
_ الثاني أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدود،
_الثالث أنه أراد كعصف ماكول زرعه وبقي هو لا شيء.
....... .......... ......
التفسير الوسيط لسورة الفيل
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 105/ 1- 5].
ألم تعلم علم اليقين، وكأنك شاهدت الواقعة، بما صنع ربك العظيم القدير بأصحاب الفيل، حيث دمّرهم اللّه، وحمى بيته الحرام، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا بالله؟! وقد شاهد بعضهم الواقعة بنفسه.
ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها، في تضليل وانحراف عما قصدوا إليه، وفي تضييع وإبطال، حتى إنهم لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، بل أهلكهم اللّه تعالى.
والكيد: إرادة مضرة بالغير على الخفية.
والتضليل: الخسار والتلف.
وحيث إن قومك أيها النبي يعلمون بهذا الأمر، فليخافوا أن يعاقبهم اللّه بعقوبة مماثلة، ما داموا يصرون على الكفر باللّه تعالى، وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وكتابه الكريم، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان بالله تعالى.
وأرسل اللّه تعالى على أصحاب الفيل جماعات متفرقة من طيور سود أو خضر، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، مع كل طائر ثلاثة أحجار:
حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه،
وهي حجارة صغيرة من طين متحجر كالحمّصة وفوق العدسة، فإذا أصاب أحدهم حجر منها، خرج به الجدري أو الحصبة، حتى هلكوا.
فجعلهم فضلات وبقايا، مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب، ثم راثته، فأهلكهم جميعا.
وحجارة من سجيل: أي من ماء وطين، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ، وهي المسوّمة عند اللّه تعالى للكفار الظالمين.
والعصف: ورق الحنطة وتبنه.
والمعنى: صاروا طحينا ذاهبا كورق الحنطة، أكلته الدواب وراثته، فجمع ذلك المهانة والخسة والتلف.
هذه هي قصة أصحاب الفيل الثابتة ثبوتا قطعيا، أثبتها القرآن، وعاش أحداثها عرب مكة من قريش
سنة (571 م)، في العام الذي ولد فيه النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهي قصة عجيبة غريبة، لإظهار مثال من أمثلة قدرة اللّه تعالى، حيث يغفل الناس عن الأمثلة الكثيرة الواقعية المشابهة، يتبين منها أن اللّه تعالى بقدرته العظيمة قادر على أن يدفع السوء عن البيت الحرام وعن كل ما يريد حمايته في كل وقت،
وهو القادر على أن يعاقب الطغاة المتجبرين، الذين يشركون مع اللّه إلها آخر، ويصدّون الناس عن البيت الحرام للعبادة فيه، وعن الإيمان برسالة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكفى بذلك إنذارا وتحذيرا، وحماية وصونا، وفضلا ونعمة، وإعلاما بأن اللّه جلت قدرته ينصر من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وعقيدتنا:
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
[ال عمران: 3/ 126].
......... .......... ..........
تفسير الجلاليين لسورة الفيل
{أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجب أي اعجب
{كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} هو (محمود)،
وأصحابه: أبرهة ملك اليمن وجيشه، بنى بصنعاء كنيسة ليصرف إليها الحاج عن مكة، فأحدث رجل من كنانة فيها ولطخ قبلتها بالعذرة احتقاراً لها فحلف أبرهة ليهدمنّ الكعبة، فجاء مكة بجيشه على أفيال مقدمها
(محمود) فحين توجهوا لهدم الكعبة أرسل الله تعالى عليهم ما قصّه في قوله:
{أَلَمْ يَجْعَلْ} أي جعل {كَيْدَهُمْ} في هدم الكعبة {فِى تَضْلِيلٍ} خسار وهلاك؟
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} جماعات جماعات؟
قيل لا واحد له كأَساطير،
وقيل واحده: أبُول أو إبال أو إبيل كعجول ومفتاح وسكين.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} طين مطبوخ.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورق زرع أكلته الدواب وداسته وأفنته
أي: أهلكهم الله تعالى كل واحد بحجره المكتوب عليه اسمه، وهو أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. يخرق البيضة والرجل والفيل ويصل إلى الأرض.
وكان هذا عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
..... ..........
التفسير الميسر لسورة الفيل . |
{أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
ألم تعلم أيها الرسول كيف فعل ربك بأصحاب الفيل: أبرهة الحبشي وجيشه الذين أرادوا تدمير الكعبة المباركة؟
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}
ألم يجعل ما دبَّروه من شر في إبطال وتضييع؟
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
وبعث عليهم طيرًا في جماعات متتابعة، تقذفهم بحجارة من طين متحجِّر
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
فجعلهم به محطمين كأوراق الزرع اليابسة التي أكلتها البهائم ثم رمت بها.
.... ........
إعراب سورة الفيل
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿١﴾أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴿٢﴾وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿٣﴾تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴿٤﴾فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴿٥﴾
أَلَمْ: الهمزة: حرفُ استفهام يُفيد التّقرير والتعجّب.
لَمْ: حرفُ نفي وجزم وقلب مبني على السّكون.
تَرَ : فعلٌ مُضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلّة (الألف المقصورة)،
والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديرهُ أنت.
كَيْفَ: اسمُ استفهامٍ مبني على الفتح يُفيد التّعجّب والتّهويل في محلّ نصب مفعول به.
فَعَلَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح.
رَبُّكَ: فاعلٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه الضّمة، وهو مُضاف، والكاف: ضميرٌ مُتّصل مبني على الفتح في محلّ جرّ مُضاف إليه.
بِأَصْحَابِ: الباء: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر. أَصْحَابِ: اسمٌ مجرور بـ (الباء) وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
الْفِيلِ: مضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة.
أَلَمْ: الهمزة: حرفُ استفهام. لَمْ: حرفُ نفي وجزم وقلب مبني على السّكون.
يَجْعَلْ: فعلٌ مضارعٌ مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه السّكون،
والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديره هو.
كَيْدَهُمْ: كَيْدَ: مفعولٌ به منصوب وعلامة نصبه الفتحة، وهو مُضاف،
هُمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلّ جرّ مُضاف إليه.
فِي: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
تَضْلِيلٍ: اسمٌ مجرور بـ (في) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
وَأَرْسَلَ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح.
أَرْسَلَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح،
والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.
عَلَيْهِمْ: عَلَى: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
وهمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلّ جرّ بحرف الجر.
طَيْرًا: مفعولٌ به منصوب وعلامة نصبه تنوين الفتح.
أَبَابِيلَ: نعتٌ منصوبٌ لـ (طَيْرًا) وعلامة نصبه الفتحة لأنّه ممنوعٌ من الصّرف (مُنتهى الجموع).
تَرْمِيهِم: فعلٌ مُضارعٌ مرفوع وعلامة رفعه الضّمة المُقدّرة على الياء منع من ظهورها الثّقل،
والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هي،
وهمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلّ نصب مفعول به.
بِحِجَارَةٍ: الباء: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر. حِجَارَةٍ: اسمٌ مجرورٌ بـ (الباء) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
مِّن: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
سِجِّيلٍ: اسمٌ مجرورٌ بـ (مِنْ) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
فَجَعَلَهُمْ: الفاء: حرفُ عطفٍ مبني على الكسر.
جَعَلَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح،
والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو.
هُمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلّ نصب مفعول به.
كَعَصْفٍ: الكاف: حرفُ جرٍّ مبني على الفتح. عَصْفٍ: اسمٌ مرور بـ (الكاف) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
مَّأْكُولٍ: نعتٌ مجرور لـ (عَصْفٍ) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
.... ........
يقول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل: 1 - 5].
حادثة الفيل، حادثة هامة في تاريخ العرب، ومِنَّةٌ مَنَّ اللهُ بها عليهم، وللتنبيه على دلالته العظيمة أنزل اللهُ السورة التي تحدثت عن الحادث بسؤال تعجبي،
فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ)، فالحادثة كانت معروفة للعرب، ومشهورةً عندهم، حتى جعلوها مبدأ تاريخٍ فيقولون: حدثَ كذا عامَ الفيل، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات.
والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلمَ كان في عام الفيل، ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة.
السورةُ إذن لم تكن للإخبار بقصةِ يجهلونها، فهي حادثةٌ مستفيضة الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة، وإنما كانت تذكيراً عظيمَ الدلالةِ على رعايةِ الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النورِ الأخير، ومحضن العقيدة الجديدة،
والنقطة التي تبدأ منها زحفها العظيم لنشر هذا الدين العظيم ومطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض، وإقرار الهدى والحق والخير فيها.
وماحدث في حادث الفيل: أن الحاكم الحبشي لليمن في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكمِ الحبشة بعد طردِ الحُكْمِ الفارسي منها وتسميه الرواياتُ:
"أبرهة" فَبَنَى كَنِيسَةً في اليَمَنِ بِصَنْعَاءَ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا يُقَالُ لَهَا: الْقُلّيْسَ، وجمع لها كلَ أسبابَ الفخامةِ، وَكَانَ يَنْقُلُ إلَيْهَا الرّخَامِ الْمُجَزّعِ وَالْحِجَارَةُ الْمَنْقُوشَةُ بِالذّهَبِ مِنْ قَصْرِ بِلْقِيسَ صَاحِبَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَكَانَ فِيهِ بَقَايَا مِنْ آثَارِ مُلْكِهَا، فَاسْتَعَانَ بِذَلِكَ عَلَى مَا أَرَادَهُ فِي هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْ بَهْجَتِهَا وَبِهَائِهَا، وَنَصَبَ فِيهَا صُلْبَانًا مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَجَعَلَ فِيهَا مَنَابِرَ مِنْ الْعَاجِ وَالْآبُنُسِ،
وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ فِي بِنَائِهَا حَتّى يُشْرِفَ مِنْهَا عَلَى عَدَنَ!
فَكَانتْ كَنِيسَةً هَائِلَةً، رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ، وَاسِعَةَ الْفِنَاءِ، مُزَخْرَفَةِ الْأَرْجَاءِ.
على نيةِ أن يصرفَ بها العربَ عن البيتِ الحرام في مكة، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك، وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية.
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتِهم بيتِ الله الحرام، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيمَ وإسماعيلَ صاحبي هذا البيت، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب.
وكانت معتقداتهم على تهافتها أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك.
وأمعن رجلٌ من كِنَانِة باحتقار كنيسة الْقُلّيْسَ التي بنى أبرهة فَخَرَجَ حَتّى أَتَى فَقَعَدَ فِيهَا -يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا- ثُمّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ "أَبْرَهَةُ" فَقَالَ:
مَنْ صَنَعَ هَذَا؟
فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي تَحُجّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكّةَ لَمّا سَمِعَ قَوْلَك:
أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ" غَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا،
أَيْ أَنّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ؛
فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَن إلَى الْبَيْتِ حَتّى يَهْدِمَهُ.
وقاد جيشاً جراراً تصاحبه الفيلة، وفي مقدمتها فيلٌ عظيمٌ ذو شهرةٍ خاصةٍ عندهم.
فتسامعَ العربُ به وبقصده، وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم، فوقف في طريقه رجلٌ من أشرافِ أهلِ اليمنِ وملوكِهم يُقَالُ لَهُ: "ذُو نَفْرٍ" فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهةَ وجهادِه عن البيتِ الحرام، فأجابَه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، ولكن أبرهةَ هزمه وأخذه أسيراً.
ثم وقف له في الطريق كذلك نُفَيلُ بنُ حبيبٍ الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عربٌ كثير، فهزمهم كذلك، وأسر نفيلاً.
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجالٌ من ثقيف، فقالوا له:
إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة، وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للاّت!
فَأَكْرَمَهُمْ لِاسْتِسْلَامِهِمْ، وَبَعَثُوا مَعَهُ دَلِيلًا يقال له:
"أَبُو رِغَالٍ" يدله على الكعبة، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتّى أَنَزَلَهُ الْمُغَمّسَ واسمه في الوقت الحاضر الوادي الأخضر، يحاذي مشعر عرفة من شمالها الشرقي-، فَلَمّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ وقُبِر فَرَجَمَتْ الْعَرَبُ قَبْرَهُ بعد ذلك لفعله المشين.
ولما استقر أبرهةُ بالمغمسِ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ:
الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى مَكّةَ، فَسَاقَ إلَيْهِ أَمْوَالَ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، فَهَمّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ثُمّ عَرَفُوا أَنّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ.
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ رَسُولاً إلَى مَكّةَ، وَقَالَ لَهُ:
سَلْ عَنْ سَيّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهَا، ثُمّ قُلْ لَهُ: إنّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَك:
إنّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إنّمَا جِئْت لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبِ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي؛ فَأْتِنِي بِهِ فَجَاءَ عَبْدَ الْمُطّلِبِ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ:
وَاَللّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ،
فقال الرسولُ: انْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ فَإِنّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِك.
وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ أَوْسَمَ النّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ فَلَمّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلّهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إلَى جَنْبِهِ.
ثُمّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ حَاجَتُك؟
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التّرْجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدّ عَلَيّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ،
قَالَ أَبْرَهَةُ: لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ: قَدْ كُنْت أَعْجَبْتنِي وَدِينُ آبَائِك قَدْ جِئْت لِهَدْمِهِ لَا تُكَلّمُنِي فِيهِ؟
قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ: إنّي أَنَا رَبّ الْإِبِلِ وَإِنّ لِلْبَيْتِ رَبّا سَيَمْنَعُهُ،
قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنّي، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَرَدّ أَبْرَهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْإِبِلَ الّتِي أَصَابَ لَهُ.
فَلَمّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ، وَالتّحَرّزِ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ وَالشّعَابِ، تَخَوّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرّةِ الْجَيْشِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللّهَ ويستنصرونه عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ.
ثم أرسل عبدُ المطلبِ حلقةَ بابِ الكعبة، وانطلقَ هو ومن معه من قريشٍ إلى شَعَفَ الجبالِ يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل.
فَلَمّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيّأَ لِدُخُولِ مَكّةَ، وَهَيّأَ فِيلَهُ وَعَبّى جَيْشَهُ وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ ثُمّ الِانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ.
فَلَمّا وَجّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكّةَ، بَرَكَ الْفِيلُ وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجّهُوهُ إلَى الشّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ إلَى مَكّةَ فَبَرَكَ فَأَرْسَلَ اللّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَمَعَ كُلّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا، حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحمّصِ وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إلّا هَلَكَ وَلَيْسَ كُلّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطّرِيقَ الّذِي مِنْهُ جَاءُوا، فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة معهم، وقُرَيْشٌ وَعَرَبُ الْحِجَازِ عَلَى الْجِبَالِ، يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ.
هذه قصة أصحاب الفيل وهكذا فعل الله بمن أراد بيتَه الحرامَ بخرابٍ وهدمٍ، يقول الله محذراً من إرادة الظلم والمعصية فيه:
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
[الحج: 25]،
فمجرد إرادةُ الظلمِ والإلحادِ في الحرمِ، موجبٌ للعذاب، وإن كان العبد في غيره لا يعاقب إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظمَ الظلمِ، من الكفرِ والشركِ، وإرادةِ الهدمِ والصدِ عن سبيلِه، ومنعِ من يريدُه بزيارةٍ، فما ظنكم أن يفعلَ اللهُ بهم؟
وفي هذه الآية الكريمة: وجوبُ احترامِ الحرمِ، وشدةُ تعظيمه، والتحذيرُ من إرادةِ المعاصي فيه وفعلِها.
أما إرادته هو بالخراب والدمار فذاك أعظمُ جرمٍ وأشنعُه.
وقصد البيتِ الحرامِ الذي قال الله عنه:
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)
[البقرة: 125] من المارقين الحوثيين بصواريخهم التي وفق الله جنودنا البواسل لصدها فهي جريمة شنعاء وبادرة خطيرة تنبئك أن الباطنيين المارقين عقيدتهم على مر التاريخ واحدة وإن طال بهم الزمن وفرقتهم القرون.
ولقد القرامطة مكة واعتدوا اعتداء شنيعاً على الحجاج سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقتلوا ما يزيد على عشرين ألفا من الحجيج واقتلاع القرمطي -لعنه الله- الحجر الأسود ونقله للأحساء.
فيعلم من هذا أن البيت الحرام لا حرمة له عند الباطنيين ويتربصون بأهل السنة الدوائر.
نعود للآية فمعنى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)
أي مرجعاً يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه، ولا يقضون منه وطرا،
(و) جعله (أَمْنًا) يأمن به كل أحد، حتى الوحش،
وحتى الجمادات كالأشجار.
وقد وقفت مع سورة عظيمة من سور القرآن الكريم، أتدبر من خلالها ما يشير إليه القرآن الكريم من منهجٍ للتدبر في قضية من القضايا التي عالجها القرآن وأبدأ فيها وأعاد، ألا وهي قضية مآل المجرمين والمكذبين الذين أرادوا طمس الحق،
ودغم الحقيقة فأتاهم العذاب من حيث لا يحتسبون،
وهذه السورة على قصر آياتها تؤسس منهجاً عظيماً لمجالات تدبر هذا النوع من الآيات، آيات مصير الأمم المكذبة والمعاندة، ويسأل المتدبر نفسه، تمر عليَّ آيات يَذْكُرُ الله تعالى فيها عذابَ عدد من الأمم كعاد وثمود وفرعون وغيرهم، فما الجوانب التي أعيد النظر فيها وأقف معها وأتأملها في مثل هذه القصص؟!.
وعند تأمل هذه السورة التي تتحدث عن عذاب أصحاب الفيل نجد القرآن الكريم قد ذكر الأسس العظيمة للتدبر في مثل هذه القصص والتي يمكن ذكرها في هذه الورقة باختصار.
كيف أتدبر في آيات الأمم المعذَّبة:
عند قراءة آيات يذكر الله فيها عذابه لأمة من الأمم فإن القارئ ينبغي عليه أن يتأمل عدداً من الأمور كمحاور عامة للتدبر، ذكرها الله في هذه السورة العظيمة وهي:
_أولاً: تشير هذه السورة إلى ضرورة إعمال الخيال والفكر والرؤية القلبية للأحداث، فعند قراءة آية عذاب، ينبغي للقارئ فتح المجال للعقل لتصور ذلك المصير الذي آل إليه المكذبون والمعاندون، والآية صريحة في هذا حيث يقول جل في علاه:
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ والرؤية هنا رؤية القلب والفكر لا رؤية البصر، فإنَّ انطلاق الخيال في تلك القصة مؤثر ولا شك في فؤاد القارئ ونفسه، خيال يساعده معرفة الصورة القرآنية المرسومة للعذاب والنوع الذي عُذِّبوا به، فتأمل ذلك النوع في جميع قصص الأمم السالفة.
_ ثانياً: القضية الثانية التي يتفكر فيها ويتأملها القارئ لهذه الآيات، هي تأمل فعل الله تعالى بهم،
وكيف بدل الله حالهم، وبذلك تزداد عظمة الله في نفسه، ولذا سلطت الآياتُ الرؤيةَ القلبيةَ على فعل الله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ﴾
تأمل كيف تَكَوَّنَ ذلك العذابُ بأمره، وكيف حل بهم بعد أن أمنوا مكره تعالى، وكيف ساقهم لذلك المصير المؤلم حيث أصبحوا جثثاً هامدة لا حراك فيها، وكيف سعوا بأنفسهم نحو ذلك المصير،
كل آيات تلك الأمم المعذبة بأنواع العذاب، تجتمع في الدلالة على عظمة الرب سبحانه وتعالى القادر على ذلك الفعل،
فتأمل ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ ذلك الفعل في كلِّ قصة للظالمين.
_ ثالثاً: القضية الثالثة التي تشير إليها هذه السورة العظيمة؛ تحقير جميع القوى المادية التي يتخذها أعداء الله،
فهي لا شيءَ أمام قدرة الله تعالى وعظمته وكبرياءه وجبروته وربوبيته، وتشير السورة إلى خسران أولئك باتكالهم المطلق على قواهم المادية في حرب أهل الحق وإبادتهم، تأمل كيف نسبهم الله إلى قواهم
فقال: ﴿أَصْحَابِ الْفِيلِ﴾، في مقابل عظمة قول الله تعالى: ﴿رَبُّكَ﴾ ، تلفت السورةُ إلى أمر مهم ينبغي تدبره في جميع آيات المعذبين في القرآن،
وهو تفكر القلب في تلك القوى التي يتكل عليها أولئك، كيف تصبح أمام قوة الله ونصره هشيماً ورميماً تذروه الرياح، كيف تصبح تلك البيوت والقرى خاوية على عروشها، وكيف يصبح القوم صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية، حين يحل غضب الله
ولعنته ومقته بهم، تأمل تلك القدرة الإلهية العظيمة التي يحاول هؤلاء عبثاً أن يقفوا أمامها كما جاء أولئك بأفيالهم فكانت كعصف مأكول!.
_ رابعاً: القضية الرابعة التي تبرزها السورة أمام أنظار المتدبرين، التفكر كيف تركهم الله يخططون ويدبرون ويتآمرون وينفقون من أموالهم وأوقاتهم، ليكون ذلك كله حسرة ووبالاً عليهم، كيف جعل الله ذلك كله وبالاً عليهم، وجعل عاقبة ذلك الكيد منهم ضلالاً عما أرادوا الوصول إليه، فهم يخططون لقهر أولياء الله؛ فتكون تلك الخطط موصلة لقهرهم هم ووبالاً عليهم، إنهم يكيدون بمن!،
تأمل قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)﴾،
كيف والله سبحانه يقول: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 30)﴾ [الأنفال]،
إن هذه القضية تتجلى في كل قصة من قصصهم، فتأمل كيف جمع فرعون السحرة فكانوا حجة عليه، وسبب فضيحته على الملأ، وتأمل كيف أوقد قوم إبراهيم النار فكانت معجزة عظيمة باهرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، إنه خط دقيق يسير مع جميع تلك القصص القرآنية،
أشارت إليه هذه السورة كقاعدة لما ينبغي تدبره في كل قصة عذاب لأمة ظالمة، فتأمل!.
_ خامساً: القضة الخامسة التي تبرزها الآيات في هذه السورة لتكون منهجاً للتدبر في جميع القصص من هذا النوع،
تَأَمُّلُ آلة العذاب التي قهر الله أولئك الأقوام وعذبهم بها، وتقليب الذهن تفكراً وتأملاً في الطريقة التي أحال الله حالهم من العزة الظاهرة على مسرح الحياة بين أقوامهم وأتباعهم، إلى منظر بئيس يشفي صدور قومٍ مؤمنين، منظرٍ أرادوا هم أن يكون للمؤمنين المتقين، فكان من نصيبهم وكان مآلهم.
والمقصود هنا تأمل ما هو الأسلوب والطريقة التي عذبوا بها، وانطلاق الذهن من ذلك ليعلم أن جنود الله لا حصر لها،
كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (31)﴾ [المدثر]،
إنها جنود يمحق الله بها الباطل وأهله فلا يفجأ القوم إلا الريح العاصف أو الصيحة أو الخسف أو الغرق أو الداوب المهكلة، أو الآلام الجسمية والنفسية المبرحة، أو ما شاء مدبر الأفلاك إرساله من جنوده القادرة بإذنه على تدمير كل شيء بأمر ربهم سبحانه.
إنه لا سبيل لتوقع طريقة مكر الله بمن أراد المكر بأولياءه وجنده، انظر هنا إلى ضخامة تلك الأجساد التي جاءوا على ظهورها، كيف دمرها الله بطير جاءتهم من علوٍّ تقذفهم بحجارة خُلقتْ لعذابهم وإهلاكهم:
﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) ﴾،
تأمل كيف جاء الأمر إلى تلك الطيور فانطلقت جماعات متتابعة لإهلاكهم وفناءهم، فذهبوا كأمس الذاهب. قف هنا وتأمل في كل قصة في القرآن قدرة الله في ذلك سبحانه وتعالى.
_ سادساً: القضية الأخيرة في هذه السورة التي تحدد مجالاً للتدبر في مثل هذه القصص،
هي تأمل النهاية التي تُختم بها كل تلك القصص من مصير الظالمين ونجاة المؤمنين بفضل الله سبحانه وتعالى، في كل تلك المشاهد ترى في الختام نجاة المؤمنين وفلاحهم في الدنيا أو الآخرة، وهلاك الكافرين والمنافقين،
وتأمل هنا في هذه السورة كيف أصبح الحال بعد الكِبْر والفخر والخيلاء، إلى ما يشبه روث الدوابِّ التي تأكله فتلقيه، تقطعت أوصالهم كما تقطع هذا الزرع بعد أكله وتفرقه،
﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ﴾ ، أيُّ نهاية ظنها أولئك القوم حين خرجوا أشرين بطرين محاصرين أهل الحق، لم تكن هذه الصورة المرسومة الآن أمام المؤمنين، ولكنه الله سبحانه الذي يدافع عن المؤمنين:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)﴾.
وهكذا تتسع مجالات التدبر في كل قصة من قصص القرآن التي تحكي مصير تلك الأمم ليقف المؤمن فيزداد إيماناً بعظمة الله وقوته القاضية بخسران أعداءه، ورحمة الله ورأفته القاضية بنجاة أولياءه