سورة قريش ؛تفاسير: بن كثير،السعدي،والقرطبي،الطبري،الشوكاني ،والبغوي،بن عطية،ابن عثيمين ،ابن الجوزي ،ابن تيمية،البيضاوي ،تفسير الجلالين ،المختصر في التفسير ،التفسير الميسر ..إعراب ..خواطر
تفسير سورة قريش لابن كثير
يلَافِ قُرَيْشٍ (1)
تفسير سورة لإيلاف قريش وهي مكية .
ذكر حديث غريب في فضلها :
قال البيهقي في كتاب " الخلافيات " :
حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي بمرو ، حدثنا أحمد بن عبيد الله النرسي ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ثابت بن شرحبيل ، حدثني عثمان بن عبد الله [ بن ] أبي عتيق ، عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة ، عن أبيه ، عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب ;
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضل الله قريشا بسبع خلال : أني منهم وأن النبوة فيهم ، والحجابة والسقاية فيهم ، وأن الله نصرهم على الفيل ، وأنهم عبدوا الله عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن "
ثم تلاها رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم " لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " .
هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام ، كتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، وإن كانت متعلقة بما قبلها .
كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ; لأن المعنى عندهما : حبسنا عن مكة الفيل وأهلكنا أهله
( لإيلاف قريش ) أي : لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين .
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
وقيل : المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين
في أسفارهم ;
لعظمتهم عند الناس ، لكونهم سكان حرم الله ، فمن عرفهم احترمهم ، بل من صوفي إليهم وسار معهم أمن بهم . هذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم . وأما في حال إقامتهم في البلد ،
فكما قال الله : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ]
ولهذا قال : ( لإيلاف قريش ) بدل من الأول ومفسر
ولهذا قال : ( إيلافهم رحلة الشتاء والصيف )
وقال ابن جرير : الصواب أن " اللام " لام التعجب ، كأنه يقول : اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك .
قال : وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)
ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال :
( فليعبدوا رب هذا البيت ) أي : فليوحدوه بالعبادة ، كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما ،
كما قال تعالى : ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون
من المسلمين ) [ النمل : 91 ]
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
وقوله : ( الذي أطعمهم من جوع )
أي : هو رب البيت ،
وهو " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "
أي : تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا . ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه ،
كما قال تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ) [ النحل : 112 - 113 ]
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن عمرو العدني ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" ويل أمكم قريش ، لإيلاف قريش " ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى - يعني ابن يونس - ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب ، عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ويحكم يا معشر قريش ، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف " .
هكذا رأيته عن أسامة بن زيد ، وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، أم سلمة الأنصارية ، رضي الله عنها ، فلعله وقع غلط في النسخة أو في أصل الرواية ، والله أعلم .
آخر تفسير سورة " لإيلاف قريش " .
....... ......... .
تفسير سورة قريش للسعدي
إِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
قال كثير من المفسرين:
إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها
أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب.
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قال كثير من المفسرين: إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب.
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)
فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب، حتى احترموهم، ولم يعترضوا لهم في أي: سفر أرادوا، ولهذا أمرهم الله بالشكر،
فقال: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } أي: ليوحدوه ويخلصوا له العبادة.
{الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (4)
فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى.
فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة، وخص الله بالربوبية البيت لفضله وشرفه، وإلا فهو رب كل شيء..
.... ...... .......
تفسير سورة قريش للطبري
يلَافِ قُرَيْشٍ (1)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:
لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)
اختلفت القرّاء في قراءة:
( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ ) , فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بياء بعد همز لإيلاف وإيلافهم, سوى أبي جعفر, فإنه وافق غيره في قوله ( لإيلافِ ) فقرأه بياء بعد همزة, واختلف عنه في قوله ( إِيلافِهِمْ ) فروي عنه أنه كان يقرؤه:
" إلْفِهِمْ" (1) على أنه مصدر من ألف يألف إلفا, بغير ياء. وحَكى بعضهم عنه أنه كان يقرؤه: " إلافِهِمْ" بغير ياء مقصورة الألف.
والصواب من القراءة في ذلك عندي:
من قرأه: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ ) بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة, من آلفت الشيء أُولفه إيلافا, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وللعرب في ذلك لغتان: آلفت, وألفت; فمن قال: آلفت بمدّ الألف قال: فأنا أؤالف إيلافا; ومن قال: ألفت بقصر الألف قال: فأنا آلف إلفا, وهو رجل آلف إلفا. وحكي عن عكرمة أنه كان يقرأ ذلك: " لتألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف ".
حدثني بذلك أبو كُرَيب, قال: ثنا وكيع, عن أبي مكين, عن عكرِمة.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, ما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ليث, عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد, قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: " إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ" .
واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) , فكان بعض نحويي البصرة يقول: الجالب لها قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فهي في قول هذا القائل صلة لقوله جعلهم, فالواجب على هذا القول, أن يكون معنى الكلام: ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل, نعمة منا على أهل هذا البيت, وإحسانا منا إليهم, إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف, فتكون اللام في قوله ( لإيلافِ ) بمعنى إلى,
كأنه قيل: نعمة لنعمة وإلى نعمة, لأن إلى موضع اللام, واللام موضع إلى.
وقد قال معنى هذا القول بعض أهل التأويل.
_ ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إيلافِهِم رِحْلَة الشتاءِ والصَّيْف )
قال: إيلافهم ذلك فلا يشقّ عليهم رحلة شتاء ولا صيف.
حدثني إسماعيل بن موسى السديِّ, قال: أخبرنا شريك, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد ( لإيلافِ قُريْشٍ )
قال: نعمتي على قريش.
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي, قال: ثنا فروة بن أبي المَغْراء الكندي, قال: ثنا شريك, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد, مثله.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, قال: ثنا خطاب ابن جعفر بن أبي المغيرة قال: ثني أبي, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, في
قوله: ( لإيلافِ قُريْشٍ ) قال: نعمتي على قريش.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: قد قيل هذا القول, ويقال: إنه تبارك وتعالى عجَّب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: اعجب يا محمد لِنعَم الله على قريش, في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف.
ثم قال: فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك يستدل بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) .
وكان بعض أهل التأويل يوجِّه تأويل قوله: (لإيلافِ قُريْشٍ ) إلى أُلفة بعضهم بعضا.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: ( لإيلافِ قُريْشٍ ) فقرأ:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ إلى آخر السورة, قال: هذا لإيلاف قريش, صنعتُ هذا بهم لألفة قريش, لئلا أفرّق أُلفتهم وجماعتهم, وإنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم, فصنع الله ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن هذه اللام بمعنى التعجب.
وأن معنى الكلام: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف, وتركهم عبادة ربّ هذا البيت, الذي أطعهم من جوع, وآمنهم من خوف، فليعبدوا ربّ هذا البيت, الذي أطعمهم من جوع, وآمنهم من خوف. والعرب إذا جاءت بهذه اللام, فأدخلوها في الكلام للتعجب اكتفوا بها دليلا على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها, كما
قال الشاعر:
أغَــرَّكَ أنْ قَــالُوا لِقُـرَّةَ شـاعِرًا
فيالأبــاهُ مِــنْ عَــرِيفٍ وَشَـاعِرِ (2)
فاكتفى باللام دليلا على التعجب من إظهار الفعل، وإنما الكلام: أغرّك أن قالوا:
اعجبوا لقرّة شاعرا، فكذلك قوله:
(لإيلافِ) .
وأما القول الذي قاله من حَكينا قوله, أنه من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فإن ذلك لو كان كذلك, لوجب أن يكون " لإيلاف " بعض أَلَمْ تَرَ , وأن لا تكون سورة منفصلة من أَلَمْ تَرَ ، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان، كلّ واحدة منهما منصلة عن الأخرى ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك.
ولو كان قوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لم تكن أَلَمْ تَرَ تامَّة حتى توصل بقوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) لأن الكلام لا يتمّ إلا بانقضاء الخبر الذي ذُكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس,
في قوله: (إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشتاءِ وَالصَّيْف)
يقول: لزومهم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبى, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
في قوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) قال: نهاهم عن الرحلة, وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت, وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف, فلم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف, فأطعمهم بعد ذلك من جوع, وآمنهم من خوف, وألفوا الرحلة, فكانوا إذا شاءوا ارتحلوا, وإذا شاءوا أقاموا, فكان ذلك من نعمة الله عليهم.
حدثني محمد بن المثنى, قال: ثني ابن عبد الأعلى, قال: ثنا داود, عن عكرمة قال: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن يختلفون إلى هذه في الشتاء, وإلى هذه في الصيف ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) فأمرهم أن يقيموا بمكة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ ) قال: كانوا تجارا, فعلم الله حبهم للشام.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) قال: عادة قريش عادتهم رحلة الشتاء والصيف.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) كانوا ألفوا الارتحال في القيظ والشتاء.
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
وقوله: ( إِيلافِهِمْ ) مخفوضة على الإبدال, كأنه قال: لإيلاف قريش لإيلافهم, رحلة الشتاء والصيف، وأما الرحلة فنُصبَت بقوله.( إِيلافِهِمْ ) , ووقوعه عليها.
وقوله: ( رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ) يقول: رحلة قريش الرحلتين: إحداهما إلى الشام في الصيف, والأخرى إلى اليمن في الشتاء.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ) قال: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام, والشتاء إلى اليمن في التجارة, إذا كان الشتاء امتنع الشأم منهم لمكان البرد, وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ) قال: كانوا تُجَّارا.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, ثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الكلبيّ( رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ )
قال: كانت لهم رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن, ورحلة في الصيف إلى الشأم.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, قال: ثنا خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة قال: ثني أبي, عن سعيد بن جُبير,
عن ابن عباس ( إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ) قال: كانوا يشْتون بمكة, ويَصِيفون بالطائف.
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)
وقوله: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) يقول: فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة, وليعبدوا ربّ هذا البيت, يعني بالبيت: الكعبة.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا مُغيرة, عن إبراهيم, أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه, صلى المغرب بمكة, فقرأ: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) فلما انتهى إلى قوله: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) أشار بيده إلى البيت.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, قال: ثنا خطاب ابن جعفر بن أبي المغيرة, قال: ثني أبي, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, في قوله ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) قال الكعبة.
وقال بعضهم: أمروا أن يألفوا عبادة ربّ مكة كإلفهم الرحلتين.
_ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ, قال: ثنا مروان, عن عاصم الأحول, عن عكرِمة, عن ابن عباس, في قول الله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ) قال: أُمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت, كإلفهم رحلة الشتاء والصيف.
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
وقوله: ( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ )
يقول: الذي أطعم قريشا من جوع.
كما حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس,
قوله: ( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ) يعني: قريشا أهل مكة بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ .
( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )
فقال بعضهم: معنى ذلك: أنه آمنهم مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال, والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض.
_ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس، ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) حيث قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا .
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد,
قوله: ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) قال: آمنهم من كلّ عدو في حرمهم.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ )
قال: كان أهل مكة تجارا يتعاورون ذلك شتاء وصيفا, آمنين في العرب, وكانت العرب يغير بعضها على بعض, لا يقدرون على ذلك, ولا يستطيعونه من الخوف, حتى إن كان الرجل منهم ليُصاب في حيّ من أحياء العرب, وإذا قيل حِرْمِيٌّ خُليَ عنه وعن ماله, تعظيما لذلك فيما أعطاهم الله من الأمن.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )
قال: كانوا يقولون: نحن من حرم الله, فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية, يأمنون بذلك, وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )
قال: كانت العرب يغير بعضها على بعض, ويسبي بعضها بعضا, فأمنوا من ذلك لمكان الحرم, وقرأ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ .
وقال آخرون: عُنِي بذلك: وآمنهم من الجذام.
_ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا قال: قال الضحاك: ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )
قال: من خوفهم من الجذام.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) قال: من الجذام وغيره.
حدثنا أبو كُريب, قال: قال وكيع: سمعت أطعمهم من جوع, قال: الجوع ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) الخوف: الجذام.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, قال: ثنا خطاب بن جعفر بن أبي المُغيرة, قال: ثني أبي, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) قال: الخوف: الجذام.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه ( آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) والعدو مخوف منه, والجذام مخوف منه, ولم يخصص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدوّ دون الجذام, ولا من الجذام دون العدوّ, بل عمّ الخبر بذلك، فالصواب أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه, فيقال: آمنهم من المعنيين كليهما.
آخر تفسير سورة قريش
.... ...... .........
تفسير سورة قريش للقرطبي
يلَافِ قُرَيْشٍ (1)
تفسير سورة قريش
مكية في قول الجمهور
ومدنية في قول الضحاك والكلبي
وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
لإيلاف قريش
قيل : إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى . يقول : أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش ;
أي لتأتلف ، أو لتتفق قريش ، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها .
وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب ، ولا فصل بينهما في مصحفه .
وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام لا يفصل بينهما ، ويقرؤهما معا .
وقال عمرو بن ميمون الأودي : صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ; فقرأ في الأولى : والتين والزيتون وفي الثانية ألم تر كيف و لإيلاف قريش .
وقال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى ;
لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة ،
ثم قال : لإيلاف قريش أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش .
وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها ، فلا يغار عليها ولا تقرب في الجاهلية .
يقولون هم أهل بيت الله جل وعز ; حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ، ويأخذ حجارتها ، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه ، فأهلكهم الله - عز وجل - ، فذكرهم نعمته .
أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش ، أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم ; وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه .
ذكره النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال : حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ،
في قوله تعالى : لإيلاف قريش قال : نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
قال : كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف . وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما ; على ما نبينه أثناء السورة .
وقيل : ليست بمتصلة ;
لأن بين السورتين بسم الله الرحمن الرحيم وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى ،
وأن اللام متعلقة بقوله تعالى : فليعبدوا أي : فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار .
وكذا قال الخليل : ليست متصلة ; كأنه قال : ألف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت . وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة ; كقولك : زيدا فاضرب .
وقيل : اللام في قوله تعالى : لإيلاف قريش لام التعجب ; أي اعجبوا لإيلاف قريش ; قاله الكسائي والأخفش .
وقيل : بمعنى إلى . وقرأ ابن عامر : ( لإئلاف قريش ) مهموزا مختلسا بلا ياء .
وقرأ أبو جعفر والأعرج ( ليلاف ) بلا همز طلبا للخفة .
الباقون لإيلاف بالياء مهموزا مشبعا ; من آلفت أولف إيلافا .
قال الشاعر :
المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف
ويقال : ألفته إلفا وإلافا .
وقرأ أبو جعفر أيضا : ( لإلف قريش ) وقد جمعهما من قال :
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
قال الجوهري : وفلان قد ألف هذا الموضع ( بالكسر ) يألف إلفا ، وآلفه إياه غيره .
ويقال أيضا : آلفت الموضع أولفه إيلافا . وكذلك : آلفت الموضع أؤلفه مؤالفة وإلافا ; فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة . وقرأ عكرمة ( ليألف ) بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود .
وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره . وكان عكرمة يعيب على من يقرأ لإيلاف . وقرأ بعض أهل مكة ( إلاف قريش ) استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
فلا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذود العدا عن عصبة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه . وربما قالوا : قريشي ، وهو القياس ;
قال الشاعر :
كل قريشي عليه مهابة
[ سريع إلى واعي الندى والتكرم ]
فإن أردت بقريش الحي صرفته ، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه ; قال الشاعر ( عدي بن الرفاع ) :
[ غلب المساميح الوليد سماحة ] وكفى قريش المعضلات وسادها
والتقريش : الاكتساب ، وتقرشوا أي تجمعوا . وقد كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم ، حتى اتخذوه مسكنا .
قال الشاعر :
أبونا قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
وقد قيل : إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر . فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي .
والأول أصح وأثبت .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ،
ولا ننتفي من أبينا .
وقال وائلة بن الأسقع : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . صحيح ثابت ، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما .
واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال : أحدها : لتجمعهم بعد التفرق ، والتقرش : التجمع والالتئام . قال أبو جلدة اليشكري :
إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم
الثاني : لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم . والتقرش : التكسب .
وقد قرش يقرش قرشا : إذا كسب وجمع . قال الفراء : وبه سميت قريش .
الثالث : لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة ، فيسدون خلته . والقرش : التفتيش . قال الشاعر :
أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو فهل له إبقاء
الرابع : ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا ؟ فقال : لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش ; تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى . وأنشد قول تبع :
وقريش هي التي تسكن البح ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الرث والسمين ولا تت رك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف
قرأ مجاهد وحميد ( إلفهم ) ساكنة اللام بغير ياء . وروي نحوه عن ابن كثير .
وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ( إلفهم ) .
وروي عن ابن عباس وغيره . وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة ( إلافهم ) مهموزا مختلسا بلا ياء .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ( إئلافهم ) بهمزتين ، الأولى مكسورة والثانية ساكنة .
والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ . الباقون إيلافهم بالمد والهمز ; وهو الاختيار ، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان .
وهو مصدر آلف : إذا جعلته يألف . وألف هو إلفا ; على ما تقدم ذكره من القراءة ; أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف .
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف قال : لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ، منة منه على قريش .
وقال الهروي وغيره : وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة : هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل بنو عبد مناف .
فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام ; أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام . وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة . والمطلب إلى اليمن . ونوفل إلى فارس .
ومعنى يؤلف يجير . فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين .
فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم .
قال الزهري : الإيلاف : شبه الإجارة بالخفارة ; يقال : آلف يؤلف : إذا أجار الحمائل بالخفارة . والحمائل : جمع حمولة . قال : والتأويل : أن قريشا كانوا سكان الحرم ، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع ، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين ، والناس يتخطفون من حولهم ، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله ، فلا يتعرض الناس لهم .
وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره : حدثنا سعيد بن محمد ، عن بكر بن سهل الدمياطي ، بإسناده إلى ابن عباس ، في قول الله - عز وجل - : لإيلاف قريش إلافهم رحلة الشتاء والصيف .
وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة ، جرى هو وعياله إلى موضع معروف ، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا ; حتى كان عمرو بن عبد مناف ، وكان سيد زمانه ، وله ابن يقال له أسد ، وكان له ترب من بني مخزوم ، يحبه ويلعب معه .
فقال له : نحن غدا نعتفد ، قال ابن فارس : هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري : بالدال هي أم بالراء ; فإن كانت بالراء فلعلها من العفر ، وهو التراب ، وإن كانت بالدال ، فما أدري معناها ، وتأويله على ما أظنه : ذهابهم إلى ذلك الخباء ، وموتهم واحدا بعد واحد .
قال : فدخل أسد على أمه يبكي ، وذكر ما قاله تربه . قال : فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق ، فعاشوا به أياما .
ثم إن تربه أتاه أيضا فقال : نحن غدا نعتفد ، فدخل أسد على أبيه يبكي ، وخبره خبر تربه ، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف ، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره ، فقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب ، وتذلون وتعز العرب ، وأنتم أهل حرم الله جل وعز ، وأشرف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم . فقالوا : نحن لك تبع . قال : ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد ، ففعلوا .
ثم إنه نحر البدن ، وذبح الكباش والمعز ، ثم هشم الثريد ، وأطعم الناس ; فسمي هاشما .
وفيه قال الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم جمع كل بني أب على رحلتين : في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتى صار فقيرهم كغنيهم ; فجاء الإسلام وهم على هذا ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش ، وهو قول شاعرهم :
والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ،
فقال : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع بصنيع هاشم وآمنهم من خوف أن تكثر العرب ويقلوا .
قوله تعالى : رحلة الشتاء والصيف ، رحلة نصب بالمصدر ; أي ارتحالهم رحلة ;
أو بوقوع إيلافهم عليه ، أو على الظرف . ولو جعلتها في محل الرفع ، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف ، لجاز . والأول أولى .
والرحلة الارتحال .
وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء ،
لأنها بلاد حامية ، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام ، لأنها بلاد باردة .
وعن ابن عباس أيضا قال : كانوا يشتون بمكة لدفئها ، ويصيفون بالطائف لهوائها . وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء ، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ; فذكرهم الله تعالى هذه النعمة .
وقال الشاعر :
تشتي بمكة نعمة ومصيفها بالطائف
وهنا أربع مسائل :
الأولى : اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء : أن قوله تعالى : لإيلاف متعلق بما قبله . ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده ،
وهو قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت قال : وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ ، واستئناف بيان وسطر بسم الله الرحمن الرحيم ، فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام ، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرويا ، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني ، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا .
فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك ، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك . هذا رأيي فيه ، ولا دليل على ما قالوه ، بحال ، ولكني أعتمد الوقف على التمام ، كراهية الخروج عنهم .
قلت : ومن الدليل على صحة هذا ، قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله رب العالمين ثم يقف . الرحمن الرحيم ثم يقف .
وقد مضى في مقدمة الكتاب . وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله : كعصف مأكول ليس بقبيح .
وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية ، فيتخللها من قطع القراءة أركان ؟
وليس أحد من العلماء يكره ذلك ، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى : فجعلهم كعصف مأكول انتهاء آية .
فالقياس على ذلك :
ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم ، والغرض ينتهي ، أو لا يتم ، ولا ينتهي .
وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم ، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور .
ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن ;
فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم ، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه ، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن ، ويشبه المنثور بالمنظوم ، وذلك إخلال بحق المقروء .
الثانية : قال مالك : الشتاء نصف السنة ، والصيف نصفها ، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن معه ، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ، وهو يوم التاسع عشر من بشنس ، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس .
وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة ، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم ، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء .
وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه .
وقال عنه أشهب وحده : إذا سقطت الهقعة نقص الليل ، ، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف ، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر ، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر .
وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم امرأ حتى يدخل الشتاء ؟
فقال : لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور . ولو قال يدخل الصيف ، لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس .
شقال القرظي : أما ذكر هذا عن محمد في بشنس ، فهو سهو ، إنما هو تسعة عشر من بشنس ،
لأنك إذا حسبت المنازل على ما هي عليه ، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة ، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس . والله أعلم .
الثالثة : قال قوم : الزمان أربعة أقسام : شتاء ، وربيع ، وصيف ، وخريف . وقال قوم : هو شتاء ، وصيف ، وقيظ ، وخريف .
والذي قاله مالك أصح ;
لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا .
الرابعة : لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين ، شتاء وصيفا ، على ما تقدم ، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين ، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر ;
كالجلوس في المجلس البحري في الصيف ، وفي القبلي في الشتاء ، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد ، واللبد واليانوسة للدفء .
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)
قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده ، لأجل إيلافهم رحلتين .
ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط ،
لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم ;
على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة ، التي هي نعمة ظاهرة .
والبيت : الكعبة .
وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان :
أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فيميز نفسه عنها .
الثاني : لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك ، تذكيرا لنعمته .
وقيل : فليعبدوا رب هذا البيت أي ليألفوا عبادة رب الكعبة ، كما كانوا يألفون الرحلتين .
قال عكرمة : كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن ، فقيل لهم : فليعبدوا رب هذا البيت أي يقيموا بمكة . رحلة الشتاء ، إلى اليمن ، والصيف : إلى الشام .
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
قوله تعالى : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف قوله تعالى : الذي أطعمهم من جوع أي بعد جوع . وآمنهم من خوف قال ابن عباس : وذلك بدعوة إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات .
وقال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضها من بعض ، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم - وقرأ - أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء .
وقيل : شق عليهم السفر في الشتاء والصيف ، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن ، فحملوه ; فخافت قريش منهم ، وظنوا أنهم قدموا لحربهم ، فخرجوا إليهم متحرزين ، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام ، وأغاثوهم بالأقوات ; فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر ، فيشترون الطعام ، على مسيرة ليلتين .
وقيل : هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم ، فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد القحط ، فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون .
فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن ; فحملوا الطعام إلى مكة ، وأخصب أهلها .
وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان : وآمنهم من خوف أي من خوف الجذام ، لا يصيبهم ببلدهم الجذام .
وقال الأعمش : وآمنهم من خوف أي من خوف الحبشة مع الفيل .
وقال علي - رضي الله عنه - : وآمنهم من خوف أن تكون الخلافة إلا فيهم .
وقيل : أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك . فالله أعلم ، واللفظ يعم .
...... ......... ........
تفسير سورة قريش للشوكاني
سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف،
وهي أربع آيات
وهي مكية عند الجمهور.
وقال الضحاك والكلبي: هي مدنية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة "لإيلاف" بمكة.
وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ولا يعطيها أحداً بعدهم: أني فيهم.
وفي لفظ: النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على افيل، وعبدوا الله سبع سنين.
وفي لفظ: عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم "لإيلاف قريش"" قال ابن كثير: هو حديث غريب، ويشهد له ما أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فضل الله قريشاً بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم، وهي لإيلاف قريش، وفضلهم بأن فيهم النبوة، والخلافة، والسقاية".
وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعاً نحوه، وهو مرسل. اللام في قوله:
1- "لإيلاف" قيل هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها، كأنه قال سبحانه:
أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش.
قال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى،
لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: "لإيلاف قريش" أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون: هم أهل بيت الله عز وجل، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتاً في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته: أي فعل ذلك لإيلاف قريش: أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم، وذكر نحو هذا ابن قتيبة،
قال الزجاج: والمعنى، فجعلهم كعصف مأكول "لإيلاف قريش"
أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.
وقال في الكشاف: إن اللام متعلق بقوله: "فليعبدوا" أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط،
لأن المعنى: أما لا فليعبدوه. وقد تقدم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد،
والمعنى: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة.
وقال الكسائي والأخفش: اللام لام التعجب: أي اعجبوا لإيلاف قريش.
وقيل هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور "لإيلاف" بالياء مهموزاً من ألفت أؤلف [إيلافاً].
يقال: ألفت الشيء ألافاً وألفاً، وألفته إيلافاً بمعنى، ومنه قول الشاعر: المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف وقرأ ابن عامر لإلاف بدون الياء، وقرأ أبو جعفر لإلف وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال: زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف وقرأ عكرمة ليألف قريش بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام الأمر لغة معروفة.
وقرأ بعض أهل مكة إلاف قريش واستشهد بقول أبي طالب: تذود الورى من عصبة هاشمية إلا فهم في الناس خير إلاف وقريش هم: بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من لود النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفاً إن أريد به الحي، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر: وكفى قريش المعضلات وسادها وقيل إن قريشاً بنو فهر بن مالك بن النضر، والأول أصح.
وقوله: 2- "إيلافهم" بدل من إيلاف قريش، و "رحلة" مفعول به لإيلافهم وأفردها، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس، وقيل إن إيلافهم تأكيد للأول لا بدل، والأول أولى.
ورجحه أبو البقاء،
وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر: أي ارتحالهم رحلة "الشتاء والصيف"
وقيل هي منصوبة على الظرفية،
والرحلة: الارتحال، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة،
والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة. وروي أنهم كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف.
والأول أولى، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام.
قال ابن قتيبة: إنما كانت تعيش قريش بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف.
3- "فليعبدوا رب هذا البيت" أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم:
أي إن لم يعدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة، والبيت الكعبة.
وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها. وقيل لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته.
4- "الذي أطعمهم من جوع" أي أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وقيل إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم،
فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط، "وآمنهم من خوف" أي من خوف شديد كانوا فيه.
قال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضاً، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " ويحكم يا قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لإيلاف قريش"
قال: نعمتي على قريش "إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف "فليعبدوا رب هذا البيت"
قال: الكعبة "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قال: الجذام.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه " لإيلاف قريش * إيلافهم " قال: لزومهم "الذي أطعمهم من جوع"
يعني قريشاً أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال: "وارزق أهله من الثمرات" "وآمنهم من خوف" حيث قال إبراهيم "رب اجعل هذا البلد آمنا"
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "لإيلاف قريش" الآية، قال:
نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت، وكفاهم المؤمنة، وكان رحلتهم في الشتاء والصيف ولم يكن لهم راحلة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع، وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة وكان ذلك من نعمة الله عليهم.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال:
أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف، وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشر، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان، وهي في دواوين الإسلام.
..... ...........
تفسير سورة قريش للبغوي
يلَافِ قُرَيْشٍ (1)
مكية
( لإيلاف قريش ) قرأ أبو جعفر :
" ليلاف " بغير همز " إلافهم " طلبا للخفة ،
وقرأ ابن عامر " لئلاف " بهمزة مختلسة من غير ياء بعدها [ على وزن لغلاف ]
وقرأ الآخرون بهمزة مشبعة وياء بعدها ، واتفقوا - غير أبي جعفر - في " إيلافهم " أنها بياء بعد الهمزة ، إلا عبد الوهاب بن فليح عن ابن كثير فإنه قرأ : " إلفهم " ساكنة اللام بغير ياء .
وعد بعضهم سورة الفيل وهذه السورة واحدة ; منهم أبي بن كعب لا فصل بينهما في مصحفه ، وقالوا : اللام في " لإيلاف " تتعلق بالسورة التي قبلها ، وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة ، وقال : ( لإيلاف قريش ) .
وقال الزجاج : المعنى : جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي [ يريد إهلاك أهل ] الفيل لتبقى قريش [ وما ألفوا من ] رحلة الشتاء والصيف .
وقال مجاهد : ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف .
والعامة على أنهما سورتان ،
واختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله " لإيلاف " ،
قال الكسائي والأخفش : هي لام التعجب ،
يقول : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، ثم أمرهم بعبادته كما تقول في الكلام لزيد وإكرامنا إياه على وجه التعجب : اعجبوا لذلك : والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلا على التعجب من إظهار الفعل منه .
وقال الزجاج : هي مردودة إلى ما بعدها تقديره : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
وقال [ ابن عيينة ] : لنعمتي على قريش .
وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، وكل من ولده النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ،
أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أخبرنا بشر بن بكر عن الأوزاعي ، حدثني شداد أبو عمار ، حدثنا واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " .
وسموا قريشا من القرش ، والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وهم كانوا تجارا حراصا على جمع المال والإفضال .
وقال أبو ريحانة : سأل معاوية عبد الله بن عباس : لم سميت قريش قريشا ؟
قال : لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ،
وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ،
قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟
قال : نعم ، فأنشده شعر الجمحي :
وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجة البحر على سائر البحور جيوشا تأكل الغث والسمين ولا تترك
فيه لذي الجناحين ريشا هكذا في الكتاب حي قريش يأكلون البلاد أكلا [ كميشا ] ولهم في آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهم والخموشا
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قوله تعالى : ( إيلافهم ) بدل من الإيلاف الأول
( رحلة الشتاء والصيف ) " رحلة " نصب على المصدر ، أي ارتحالهم رحلة الشتاء والصيف .
روى عكرمة ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم ويعبدوا رب هذا البيت .
وقال الآخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة ، إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ والأخرى في الصيف إلى الشام .
وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون :
قريش سكان حرم الله وولاة بيته فلولا الرحلتان لم يكن لهم بمكة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكة ، أهل الساحل من البحر على السفن وأهل البر على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة ، وأهل البر بالمحصب ، وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة فألقوا بالأبطح ، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤنة الرحلتين
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)
وأمرهم بعبادة رب البيت فقال: "فليعبدوا رب هذا البيت"، أي الكعبة.
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
( الذي أطعمهم من جوع ) أي من بعد جوع بحمل الميرة إلى مكة ( وآمنهم من خوف ) بالحرم وكونهم من أهل [ مكة ] حتى لم يتعرض لهم [ في رحلتهم ]
وقال عطاء عن ابن عباس :
إنهم كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني حتى كان فقيرهم كغنيهم .
قال الكلبي : وكان أول من حمل [ السمراء ] من الشام ورحل إليها الإبل : هاشم بن عبد مناف
وفيه يقول الشاعر .
قل للذي طلب السماحة والندى هلا مررت بآل عبد مناف هلا مررت بهم تريد قراهم
منعوك من ضر ومن إكفاف الرائشين وليس يوجد رائش
والقائلين هلم للأضياف والخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي والقائمين بكل وعد صادق
والراحلين برحلة الإيلاف عمرو [ العلا ] هشم الثريد لقومه
ورجال مكة [ مسنتون ] عجاف سفرين سنهما له ولقومه
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال الضحاك والربيع وسفيان :
" وآمنهم من خوف " من خوف الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام .
..... ...... ..
تفسير سورة قريش لابن تيمية
...... ..... .....
تفسير سورة قريش لابن عطية
سورة قريش
وهي مكية بلا خلاف.
سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ على إفعال والهمزة الثانية ياء، وقرأ ابن عامر «لألآف» على فعال إِيلافِهِمْ على أفعال بياء في الثانية، وقرأ أبو بكر عن عاصم:
بهمزتين فيهما الثانية ساكنة، قال أبو علي: وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له،
وقرأ أبو جعفر: «إلفهم» بلام ساكنة، وقُرَيْشٍ ولد النضر بن كنانة، والتقرش: التكسب، وتقول ألف الرجل الأمر وآلفه غيره، فالله عز وجل آلف قريشا أي جعلهم يألفون رحلتين في العام، رحلة في الشتاء وأخرى في الصيف. ويقال أيضا ألف بمعنى آلف،
وأنشد أبو زيد: [الطويل]
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في جيدها يتوضح
فألف وإلاف مصدر ألف، و «إيلاف» مصدر آلف،
قال بعض الناس: كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة، وقيل الأرباح،
ومنه قول الشاعر: [الكامل]
سفرين بينهما له ولغيره ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال ابن عباس: كانت رِحْلَةَ الشِّتاءِ إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى من أرض الشام.
قال أبو صالح: كانتا جميعا إلى الشام،
وقال ابن عباس أيضا: كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم، فهاتان رحلتا الشتاء والصيف،
قال الخليل بن أحمد فمعنى الآية: لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من الفهم هذه النعمةلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ.
قال القاضي أبو محمد: وذكر البيت هنا متمكن لتقدم حمد الله في السورة التي قبل، وقال الأخفش، وغيره: لِإِيلافِ، متعلقة بقوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] ، أي ليفعل بقريش هذه
الأفاعيل الجميلة، وقال بعض المفسرين معنى الآية: أعجبوا لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، هذه الأسفار وإعراضهم عن عبادة الله، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي أَطْعَمَهُمْ وَآمَنَهُمْ لا سفرهم،
المعنى: فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال: وارزقهم من الثمرات، وآمنهم بدعوته حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا،
وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل، وهذا قول مردود،
وقال عكرمة: معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ لآخرتهم،
وقال قتادة: إنما عددت عليهم الرحلتان لأنهم كانوا يأمنون الناس في سفرتهم، والناس يغير بعضهم على بعض، ولا يمكن قبيلا من العرب أن يرحل آمنا، كما تفعل قريش، فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم،
وقوله تعالى: مِنْ جُوعٍ معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء،
وقوله تعالى: مِنْ خَوْفٍ أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون، ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف.
وقال ابن عباس والضحاك: مِنْ خَوْفٍ معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوما.
... ...... .......
تفسير سورة قريش للبيضاوي
{لإيلاف قُرَيْشٍ} متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} والفاء لما في الكلام من معنى الشرط،
إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل: {إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف}
أي الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون، أو بمحذوف مثل أعجبوا أو بما قبله كالتضمين في الشعر أي {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} {لإيلاف قُرَيْشٍ}،
ويؤيده أنهما في مصحف أُبيَّ سورة واحدة، وقرئ: {ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء}،
وقريش ولد النضر بن كنانة منقول من تصغير قرش، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم وإطلاق الإِيلاف، ثم إبدال المقيد عنه للتفخيم. وقرأ ابن عامر {لئلاف} بغير ياء بعد الهمزة.
{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} أي بالرحلتين والتنكير للتعظيم،
وقيل المراد به شدة أكلوا فيها الجيف والعظام. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أصحاب الفيل أو التخطف في بلدهم ومسايرهم، أو الجذام فلا يصيبهم ببلدهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها».
...... ..... ......
تفسير سورة قريش لابن عثيمين
{لإِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِيلَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ} .
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها،
إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، (على قريش)
وهي إيلا فهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، {لإيلاف قريش.
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} والإلاف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين؛
لأنه يحصل منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله أن يعبدوا رب هذا البيت
قال: {فليعبدوا رب هذا البيت} شكراً له على هذه النعمة، والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو أن تكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق،
أي فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً.
أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال:
سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنا، على وجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معاني العبادة، وتطلق العبادة على نفس المتعبد به،
وقد حدّها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بهذا المعنى فقال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة.
وقوله: {رب هذا البيت} يعني به الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26] . وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: {رب هذا البيت}
وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم {طهر بيتي للطائفين} أضاف الله البيت إليه تشريفاً وتعظيماً، إذاً خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسة مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً، وفي آية ثانية
قال: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} وبعدها قال: {وله كل شيء} احتراز من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها فقال: {وله كل شيء} ، ولكل مقام صيغة مناسبة،
ففي قوله: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91] .
مناسبة بيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط،
أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده قوله: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} {الذي} هذه صفة للرب، إذاً فمحلها النصب، ولهذا يحسن
أن تقف فتقول {فليعبدوا رب هذا البيت} ثم تقول: {الذي أطعمهم} لأنك لو وصلت فقلت: «رب هذا البيت الذي أطعمهم» لظن السامع أن «الذي» صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم به المعنى.
{الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} بين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه،
{وآمنهم من خوف} وقاية من الخوف في الأمر الظاهر؛ لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو، وخاف أهلها وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة،
{وآمنهم من خوف} آمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها، ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمة ولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد من المسلمين لم يأتها ولا مرة إلا محرماً، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه.
صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه الجزاء، فأعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه، دولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم التي ليست صيوداً تحرم، لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم أن يذبحوا وينحروا في هذا المكان.
وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67] .
يعني أفلا يشكرون الله على هذا؟! فهذه السورة كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع.
فإذا قال قائل: ما واجب قريش نحو هذه النعمة؟ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الان من قريش أو غيرهم؟
قلنا: الواجب الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم،
لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] .
فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد. والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، فبلادنا ـ ولله الحمد ـ اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رغداً وعيشاً. أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت، وأن نكون إخوة متآلفين،
والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوا فيما بينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه؛
لأنه ليس مشرعاً معصوماً حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ.
الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36] .
أما كون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنه باطل فهذا خطأ، وهذا من دأب المشركين الذين أبوا أن
يتبعوا الرسول وقالوا: {إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22] .
.... ...... .....
تفسير الجلاليين لسورة قريش
{إيلافهم} تأكيد وهو مصدر آلف بالمدّ
{رِحْلَةَ الشتآء} إلى اليمن
{وَ} رحلة {الصَّيْفِ} إلى الشام في كل عام يستعينون بالرحلتين للتجارة على المقام بمكة لخدمة البيت الذي هو فخرهم، وهم ولد النضر بن كنانة.
{فَلْيَعْبُدُواْ} تعلق به لـ (إيلاف) والفاء زائدة {رَبَّ هذا البيت}.
{الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} أي من أجله
{وَءَامَنَهُمْ مِّنْ خَوْفِ} أي من أجله وكان يصيبهم الجوع لعدم الزرع بمكة وخافوا جيش الفيل.
... ...... ......
المختصر في التفسير لسورة قريش
يلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)
سورة قريش
- مَكيّة-
مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ:
الامتنان على قريش وما يلزمهم تجاه ذلك.
التَّفْسِيرُ:
1 - لأجلِ عادة قريش وإلْفِهم.
2 - رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام آمنين.
3 - فليعبدوا الله ربّ هذا البيت الحرام وحده، الَّذي يسَّر لهم هذه الرحلة، ولا يشركوا به أحدًا.
4 - الَّذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، بما وضع في قلوب العرب من تعظيم الحرم، وتعظيم سكانه.
..... ...... ....
تفسير سورة قريش لابن الجوزي
قوله تعالى: {إيلافهم} قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والتغلبي عن ابن ذكوان،
عنه {إلافهم} بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم.
وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم {إلفهم} بسكون اللام أيضاً.
ورواه الشموني إلا حماداً بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء.
وقرأ الباقون بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة مثل عيلافهم.
وجمهور العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. قال الفراء: والرحلة منصوبة بايقاع الفعل عليها.
قوله تعالى: {فليعبدوا ربَّ هذا البيت} أي: ليوحِّدوه {الذي أطعمهم من جوع} أي: بعد الجوع، كما تقول: كسوتك من عُرْي، وذلك أن الله تعالى آمَنَهم بالحرم، فلم يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، فكان ذلك سبباً لإطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استَغْنوا.
قوله تعالى: {وآمنهم من خوف} وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يَعْرِضُ لهم أحد.
....... ....... .....
التفسير الميسر لسورة قريش
{لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)}
اعْجَبوا لإلف قريش، وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتيهم في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، وتيسير ذلك؛
لجلب ما يحتاجون إليه.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}
فليشكروا، وليعبدوا رب هذا البيت- وهو الكعبة- الذي شرفوا به، وليوحدوه ويخلصوا له العبادة.
{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
الذي أطعمهم من جوع شديد، وآمنهم من فزع وخوف عظيم.
...... ... ........
إعراب سورة قريش
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾
لِإِيلَافِ: اللّام: حرفُ جرٍّ مبني على الكسر.
إيلَافِ: اسمٌ مجرور بلام التّعليل وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف.
قُرَيْشٍ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسر.
إِيلَافِهِمْ: بدلٌ مُطابقٌ من (إيلَافِ) مجرور وعلامة جرّه الكسرة، وهو مُضاف، هِمْ: ضميرٌ مُتّصلٌ مبني على السّكون في محلِّ جرِّ مُضاف إليه.
رِحْلَةَ: مفعولٌ بهِ منصوبٌ للمصدر (إِيلَافِهِمْ) وعلامة نصبه الفتحة، وهو مُضاف.
الشِّتَاءِ: مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسرة.
وَالصَّيْفِ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح، الصَّيْفِ: اسمٌ معطوفٌ على (الشِّتَاءِ) مجرور وعلامة جرّه الكسرة
فَلْيَعْبُدُوا: الفاء: حرفُ استئناف. اللّام: لامُ الأمرِ حرفٌ مبني على السّكون، وهي جازمة.
يَعْبُدُوا: فعلٌ مُضارعٌ مجزوم بـ (لام الأمر) وعلامة جزمه حذف حرف النّون لأنّه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة ضميرٌ مُتّصلٌ مبني على السّكون في محلِّ رفع فاعل.
رَبَّ: مفعولٌ بهِ منصوب وعلامة نصبهِ الفتحة، وهو مُضاف.
هَـذَا: اسمُ إشارةٍ مبني على السّكون في محلِّ جرِّ مُضاف إليه.
الْبَيْتِ: بدل من اسم الإشارة (هَذَا) مجرور وعلامة جرّه الكسرة.
الَّذِي: اسمٌ موصولٌ مبني على السّكون في محلِّ نصب نعت لـ (رَبَّ).
أَطْعَمَهُمْ: أَطْعَمَ: فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو، هُمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلِّ نصب مفعول بهِ، والجُملة الفعليّة لا محلّ لها من الإعراب صلة الموصول.
مِّنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
جُوعٍ: اسمٌ مجرورٌ بـ (من) وعلامة جرّه تنوين الكسر.
وَآمَنَهُمْ: الواو: حرفُ عطفٍ مبني على الفتح،
آمَنَ: فعلُ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستترٌ تقديرهُ هو، هُمْ: ضميرٌ مُتّصل مبني على السّكون في محلِّ نصب مفعول به، والجُملة الفعليّة (وَآمَنَهُمْ) معطوفة على جملة (أَطْعَمَهُمْ).
مِّنْ: حرفُ جرٍّ مبني على السّكون.
خَوْفٍ: اسمٌ مجرورٌ بـ (من) وعلام جرّه تنوين الكسر.
...... ..........
خواطر علي سورة قريش
يلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ (1) :(4) قريش
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها ،
وهي سورة الفيل، إذ إن في سورة الفيل بيان لمنة الله عزَّ وجلَّ على أهل مكة ،بما فعل بأصحاب الفيل ،الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة ،وهي رحلة الشتاء والصيف.
وأما قريش: فَعَلَمٌ على القبيلة، وهم ولد النضر بن كنانة، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشي.
وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي, بل هو كناني.
وقال القرطبي: والقول الأول أصح وأثبت .
وسموا بذلك؛ لتجمعهم بعد التفرق،
فالتقريش: التجمع والالتئام، وكانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكنًا، وأسكنهم مكة، ونظّم شؤونها، ووضع أساسَ سيادتها الدينية والسياسية، وأسَّس دارَ الندوة حيث كان يجتمع أعيانُ قريش للتشاور في أمور السلم والحرب، وإنجازِ معاملاتهم.
وقيل قريش : من القرش وهو التكسب لتجارتهم وجمع المال،
وقيل قريش : تصغير قرش, وهي دابة تكون في البحر، هي أعظم دواب البحر خطرا، لا تظفر بشيء من دواب البحر إلا أكلته، فسميت قريش بها؛ لأنها أعظم العرب فعالا،
وفي السورة بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين، وبيان منّة الله عز وجل عليهم بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة.
وتضمنت تعداد نعم اللَّه العظمى على قريش أهل مكة، حيث جمع اللَّه كلمتهم، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم، ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء، وإلى الشام صيفا؛
لتوفير الثروة والغنى، وأمنهم من المخاوف؛
لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم؛
لأنهم سكان الحرم، وعمّار الكعبة، ورد القبائل فلا يغير عليهم أحد،
فقوله تعالى : ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْش ﴾ ، فالإلف بمعنى الجمع والضم، ويراد به هنا التجارة التي كانوا يقومون بها مرتين في رحلتين ، مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام؛
لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد،
فهي نعمة من الله سبحانه على قريش في هاتين الرحلتين؛
لأنه يحصل منهما فوائد كثيرة ومكاسب تجارية، إضافة إلى أنهم يرجعون إلى بلدهم مكة آمنين في أسفارهم لعظمتهم عند الناس ، ولكونهم سكان حرم الله، فمن عرفهم احترمهم، بل من سار معهم أمن بهم، هذا هو حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم، وصيفهم، وأما في حال إقامتهم، فكما قَالَ تَعَالَى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67].
وفي قوله تعالى : ( إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف) ، فقد كان ملوك النواحي يعظمون أهل مكة ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله، وسكان حرمه، وولاة الكعبة، حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة: أهل الله.
وقيل أن الذي سنَّ لقريش هاتين الرحلتين هو هاشم بن عبد مناف ، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وسبب ذلك:
أنهم كانوا تعتريهم خصاصة، فإذا لم يجد أهل بيت طعاما لقوتهم حمل ربُّ البيت عياله إلى موضع معروف، فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعا، ويسمى ذلك (الاعتفار)،
فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهَمُّوا بالاعتفار، فبلغ خبرهم هاشمًا، فقام هاشم خطيبًا في قريش
وقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقِلُّون فيه، وتكثر العرب، وتذلون، وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله، والناس لكم تُبّع، ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم.
ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته، حتى صار فقيرهم كغنيهم.
وأما قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت ﴾ فقد أرشدهم الله تعالى إلى شكر هذه النعم بعبادة رب البيت ،والمراد به الكعبة، وهنا أضاف ربوبيته إليه، فقال: ﴿ رَبَّ هَذَا الْبَيْت ﴾ وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم
والمعنى : أي: فليشكروا الله، وليوحدوه، ويخلصوا له العبادة بما أنعم به عليهم من النعم العظيمة؛ ومنها تهيئته سبحانه هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببًا في تلك النعم عليهم.، كما جعل لهم حرمًا آمنًا ،وبيتًا محرمًا ، كما قَالَ تَعَالَى في محكم آياته :
﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 91].
ومعنى عبادة الله رب البيت، ألا يعبدوا صنمًا ولا ندًا ولا وثنًا، ومن استجاب لهذا الأمر ،جمع الله له بين أمن الدنيا ، وأمن الآخرة، ومن عصاه ، سلبهما منه،
كما قَالَ تَعَالَى في محكم آياته :
﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون ﴾ [النحل: 112].
أما قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف ﴾:
فالمعنى : أي أطعمهم من بعد الجوع، وكان صلى اللهُ عليه وسلم يتعوذ بالله من الجوع.
فقد روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ” .
وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما في قوله تعالى : “﴿ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ ﴾ وَذَلِكَ بِدَعوَةِ إِبرَاهِيمَ عليه السلام حَيثُ قَالَ: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 126]”
وقال ابن زيد: “كانت العرب يغير بعضها على بعض ،ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم، ثم قرأ قَولَهُ تَعَالَى:
﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ﴾ [القصص: 57]”
﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾
فرب هذا البيت سبحانه وتعالى هو الذي أوسع لهم الرزق، ومهد لهم سبله، فقد كانوا في ضر ومجاعة ،حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقر حتى استغنوا،
وذلك لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق، وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات، حتى رحمهم ربهم ورب أبيهم إبراهيم عليه السلام الذي استجاب الله لدعوته،
حيث قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ (إبراهيم: 37)،
وقوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 129),
فاستجاب الله دعاءه؛ فأطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، وأورثهم القبول عند غيرهم، وبعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته.
ولم يتخلف ذلك عنهم إلا حينَ دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» متفق عليه ، فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين، وذلك أول الهجرة.
وفي قوله تعالى : ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ أي: آمنهم من فزع وخوف، ويَسَّر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين، وغارات المغيرين، ولولا ذلك لكانوا في جوع وضنك عيش ،فكانوا يذهبون آمنين، ويعودون سالمين، لا يمسهم أحدٌ بسوء- على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع-، فكان احترام البيت ضربًا من القوة المعنوية التي تحتمي بها قريش في الأسفار، وكان سببًا لرفعة شأنهم بين العرب كما قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ (المائدة: 97)،
وقال تعالى: ﴿ ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (القصص: 57)،
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: 67)،
فلهذا ألفته نفوسهم وتعلقت به, وكل ذلك بتسخير رب البيت سبحانه الذي حفظ حرمته، وزادها في نفوس العرب تعظيمًا برد الحبشة عنه حين أرادوا هدمه وإهلاكهم فجعلهم عبرة لغيرهم. فإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت فَلِمَ يتوسلون إليه بتعظيم غيره وتوسيط سواه عنده؟!
وفي هذا الجمع لهم بين الإطعام من الجوع والأمن من الخوف نعمة عظمى؛ لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معًا، إذ لا عيش مع الجوع، ولا استقرار مع الخوف، وتكمل النعمة باجتماعهما. ولذا في سنن الترمذي :
( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا »
ومن فوائد سورة قريش :
أولًا: أن نعم الله على عباده كثيرة ،ومن أعظمها بعد الإيمان: الأمن والغذاء، قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار ﴾ [إبراهيم: 34].
وقال تعالى ممتنًّا على عباده بنعمة الغذاء: ﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ﴾ [عبس: 24-32].
وقال تعالى ممتنًّا على عباده بنعمة الأمن: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون ﴾ [الأنعام: 82].
وقال تعالى ممتنًّا على أهل سبأ بهذه النعمة: ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين ﴾ [سبأ: 18].
ثانيًا: أن دوام هذه النعم وبقاءها إنما يكون بشكرها ،وذلك بإخلاص العبادة له وطاعته واجتناب نواهيه، قَالَ الله تَعَالَى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون ﴾ [النور: 55].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد ﴾ [إبراهيم: 7].
ثالثًا: أن شكر هذه النعم يكون بالقلب والقول والفعل، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ [لقمان: 12].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ﴾ [سبأ: 13].
وأن ذهاب هذ ه النعم ،إنما يكون بسبب المعاصي والذنوب، قَالَ الله تَعَالَى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار ﴾ [إبراهيم: 28-29].
وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ:
“كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ:
يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟
فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!”
وما أجمل قول القائل :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
فالواجب على العباد أن يقابلوا هذه النعم، بإفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه ندًا ولا صنمًا ولا وثنًا، ليزيدهم الله في الرزق، ويتم عليهم الأمن في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82).