شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله
باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم"
الكاهن :
هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرا. وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛
لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليا لله، وهو من أولياء الشيطان،
كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .
قوله: " روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
" من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما ".
قوله: "عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم"
هي حفصة، ذكره أبو مسعود الثقفي؛
لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها.
وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره.
فإن في بعض روايات الصحيح:
" من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
قوله: " لم تقبل له صلاة" إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟
قال النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث; فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. .
وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه ،
قال القرطبي:
" يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛
فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور".
وعن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
" من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "- رواه أبو داود.
وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن النبي صلي الله عليه وسلم:
" من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ".
هذا على قول من يقول:
هو كفر دون كفر، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين.
وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان. وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.
قوله:
" فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم".
قال القرطبي: " المراد بالمنزل الكتاب والسنة".
وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟
وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله .
قال:
"ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا":
أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره.
روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر ابن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمةالحفاظ;
مات سنة سبع وثلاثمائة.
وهذا الأثر رواه البزار أيضا ولفظه:
" من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " .
وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛
لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضا.
قال: "وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا:
" ليس منا من تَطير أو تُطيِّر له، أو تَكهن أو تُكهِّن له، أو سَحر أو سُحر له.
ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد"_ رواه البزار بإسناد جيد .
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى" إلى آخره.
قال البغوي: العراف:
الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم _ رواه البزار بإسناد جيد
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى كاهنا " " إلى آخره".
قوله: "ليس منا "
فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدم أن الكهانة والسحر كفر.
قوله: "من تطير"
أي فعل الطيرة
"أو تطير له"
أي قبل قول المتطير له وتابعه،
كذا معنى "أو تكهن أو تكهن له"
كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر.
فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلي الله عليه وسلم؛
لكونها إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر. فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه.
قوله: "رواه البزار" هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير.
وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
قوله: "قال البغوي إلى آخره"
البغوي - بفتحتين - هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة فقيها زاهدا، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
وقيل: هو الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية:
العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
قوله: العرّاف: الذي يدعي معرفة الأمور
ظاهره: أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله:
" إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف".
وقال أيضا:
" والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو معناه".
وقال أيضا:
والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب.
وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى.
وقال الإمام أحمد:
العرافة طَرَف من السحر. والساحر أخبث
. وقال أبو السعادات: العراف المنجم، والحازر الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به.
وقال ابن القيم_ رحمه الله:
" من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا.
والمقصود من هذا:
معرفة أن من يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات فهو :
إما داخل في اسم الكاهن،
وإما مشارك له في المعنى فيلحق به.
وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف.
ومنه ما هو من الشياطين،
ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية،
ونعني بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام،
كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم؛
فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلي الله عليه وسلم،
وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا أو عرافا أو في معناهما،
فمن أتاهم فصدقهم يما يقولون لحقه الوعيد.
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة.
ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات :
فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن،
إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي،
إما :بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي
ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات;
فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب،
ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم في وصف الكهان:
" فيكذبون معها مائة كذبة " .
فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛
لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} .
وليس هذا من شأن الأولياء؛ فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها;
وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس،
ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟
وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور.
وحسبك بحال الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله،
بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه
وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم
: " ما أرى مَن فعل ذلك له عند الله من خلاق ".
يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه،
وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار، ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور.
فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء،
لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر،
فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟
ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب.
نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
و قول:
"وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره". هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف.
ولفظه: " رُبّ معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق
فيه مسائل:
_الأولى:
لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
_الثانية:
التصريح بأنه كفر.
_الثالثة:
ذكر من تُكُهِّن له.
_الرابعة:
ذكر من تُطير له.
_الخامسة:
ذكر من سُحر له.
_السادسة:
ذكر من تعلم أبا جاد.
_السابعة:
ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
يوم القيامة " ورواه أحمد بن زنجويه عنه بلفظ:
" رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق ".
قوله: "ما رأى" يجوز فتح الهمزة بمعنى: لا أعلم. ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن.
وكتابة "أبي جاد" وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف،
وهو الذي جاء فيه الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
قوله: "وينظرون في النجوم"
أي ويعتقدون أن لها تأثيرا وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
الخلاصة :
اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية،
لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب.
وأما ما يخبر به الجني مواليه من الإنس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا فكثير جدًّا في أناس ينتسبون إلى الولاية والكشف، وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء.
ولما ذكر المصنف شيئًا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة.
والكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب.
والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فتلقيه في أذن الكاهن،
والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم.
وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب.
وقال الخطابي: الكهان فيما علم بشهادة الامتحان: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات.
[من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا] .
قال: وروى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا" .
هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنى العنْزي، ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله - في نسخة:
عبد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وليلة" . هكذا رواه،
وليس فيه "فصدقه".
قوله: (عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) . هي حفصة، على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي،
لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها
وكذلك سماه بعض الرواة.
قوله: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء) .
العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان، وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه، أو شك في خبره،
لأن إتيان الكهان منهي عنه،
كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي
"قلت: يا رسول الله إن منا رجالاً يأتون الكهان
قال: فلا تأتهم" . رواه مسلم
. ولأنه إذا شك في خبره، فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يومًا) :
إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسؤول؟
قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في أرض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء، لكن لا ثواب له فيها، قاله جمهور أصحابنا.
جقالوا: فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان:
سقوط الفرض، وحصول الثواب.
فإذا أداها في أرض مغصوبة، حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله، هذا كلامه.
وهو مبني على الملازمة بين الإجزاء وعدم الإعادة.
والصواب أن عدم الإعادة لا يستلزم الإجزاء، لكن الصلاة في الأرض المغصوبة في إجزائها نزاع، والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزئ وتجب إعادتها.
وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي:
يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئًا من ذلك من التعزيرات. وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
[من أتى كاهنًا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد]
قال: وعن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" . رواه أبو داود.
هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه:
حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد. ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن أتى كاهنًا قال موسى في حديثه: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة، قال مسدد: امرأته حائضًا، أو أتى امرأة.
قال مسدد: يعني: امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، ورواه
الترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه وقال الترمذي:
لا نعرفه إلا من حديث الأثرم، وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده.
وقال البغوي: سنده ضعيف،
وقال الذهبي: ليس إسناده بالقائم.
قلت: أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر، وأخطأ في إطلاق ذلك، فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة، منها ما ذكره المصنف بعده، وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد، منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس
"أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر؟ ".
ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في "صحيحه".
وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر" .
والأحاديث في ذلك كثيرة. وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم.
قال: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن ... "من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" .
وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا ولفظ أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري فقد روي عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة، حديث "أن موسى كان رجلاً حييا ... " الحديث.
قال العراقي في أماليه: حديث صحيح.
وقال الذهبي: إسناده قوي.
وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك، فإنه لم يروه أحد منهم، وأظنه تبع في ذلك الحافظ، فإنه عزاه في "الفتح" إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم، ولعله أراد الذي قبله.
قوله: "من أتى كاهنًا ... " إلى آخره.
قال بعضهم: لا تعارض بين هذا الخبر،
وبين حديث:
"من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" .
إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدًا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر، فإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته من الملائكة، أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال، وفيه نظر.
وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قِبَل الشياطين، أو من قِبَل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.
وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعًا:
"من أتى كاهنًا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر".
قال المنذري: ضعيف. فهذا - لو ثبت - نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له، فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيدة بتصديقه.
قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم".
قال الطيبي: المراد بالمنزل الكتاب والسنة،
أي: من ارتكب هذه فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليه انتهى. وهل الكفر في هذا الموضوع كفر دون كفر أو يجب التوقف؟
فلا يقال: ينقل عن الملة.
ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل: هذا على التشديد والتأكيد، أي: قارب الكفر والمراد كفر النعمة، وهذان القولان باطلان.
قال: ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك: "المسند" وغيره روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة.
وهذا الأثر رواه البزار أيضًا وإسناده على شرط مسلم ولفظه:
"من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" .
وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما، لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا.
قال: وعن عمران بن الحصين مرفوعًا "ليس منا من تطير أو تطير له، [أو تكهن] أو تكهن له،
[أو سحر] أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". رواه البزار بإسناد جيد.
ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى ... ) إلى آخره.
ش: هذا الحديث رواه الطبراني كما قال "المصنف" في "الأوسط" قال المنذري: إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد.
قوله: (ليس منا) أي: ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا.
قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة أو تطير له، أي: أمر من يتطير له، وكذلك معنى تكهن أو تكهن له [أو سحر] أو سحر له.
قوله: (رواه البزار) . اسمه أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب "المسند الكبير" الذي عزا إليه المصنف، روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق. قال الدارقطني: ثقة يخطئ ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين.