_ أراد الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله في الباب أمورًا:
_الأول:
التحذير من الغلو في قبور الصالحين.
_الثاني:
أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها.
_الثالث:
أنها إذا عبدت سميت أوثانًا ولو كانت قبور الصالحين.
_الرابع:
التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد
والأوثان :هي المعبودات التي لا صورة لها، كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها، وقد تقدم بيان ذلك.
وقيل: الوثن هو الصنم، والصنم هو الوثن، وهذا غير صحيح إلا مع التجريد، فأحدهما قد يعني به الآخر، وأما مع الاقتران، فيفسر كل واحد بمعناه.
قال: روى مالك في الموطأ :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" .
وهذا الحديث رواه مالك في باب جامع الصلاة مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله. ورواه ابن أبي شيبة
في "مصنفه" عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وعمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال،
فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات.
وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ " " الموطأ "سواء، وهو ممن تقبل زيادته.
وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة ابن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه:
"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" .
قوله: روى مالك في "الموطأ : هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين في الحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد :
قد استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما قال ابن القيم_رحمه الله :
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة من الجدران
ودل الحديث على :
أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنًا، فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي وأربابها من دون الله، وإذا أريد تغيير شيء من ذلك أنف عبادها، واشمأزت قلوبهم، واستكبرت نفوسهم،
وقالوا: تنقص أهل الرتب العالية، ورموهم بالعظائم، فماذا يقولون لو قيل لهم:
إنها أوثان تعبد من دون الله؟!
فالله المستعان على غربة الإسلام،
وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود:
"كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت". قيل: غيرت السنة.
ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين
كقبورهم ومجالسهم، ومواضع صلاتهم للصلاة، والدعاء عندها، فإن ذلك من البدع، أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم.
ولا نعلم أحدًا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور، وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك. ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة، بل خالفه أبوه وغيره، لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع.
قال ابن عبد الباقي الزّرقاني في "شرح الموطأ" :
روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد قال: "وإذا منع من ذاك فسائر آثاره أحرى بذلك".
وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى. انتهى.
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول:
"أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها،
لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة".
قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه.
وقال "المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح،
فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، [الفيل: 1] ،
و {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} ، [قريش: 1] ،
ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه،
فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعًا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".
وفي "مغازي ابن إسحاق" من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة: خالد بن دينار، حدثنا "أبو العالية؛
قال: لما فتحنا تستر [سنة: 17هـ] .
وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن،
فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟
قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟
قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه قلت: وما يرجون منه؟
قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون.
فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟
قال: رجل يقال له: دانيال.
فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟
قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض .
قال ابن القيم_ رحمه الله :
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعوا عندها أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو ليسكن عندها
بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعًا ولا عينًا،
لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السُّنَّة، فإن ذلك ونحوه لا بأس به.
وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه.
والفرق بين النوعين ظاهر، فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتًا جائزًا ودعا الله في الليل، أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس.ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرًا.
قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تعبد.
ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف، وفيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها.
وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وعلل وجه الكراهة بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدًّا للذريعة، وحسمًا للباب.
ذكره [الْمُحِبّ] الطبري [في القرى 629] .
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
قال: ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} .
قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
قوله: (ولابن جرير) :هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب "التفسير" و "التاريخ" وغيرهما.
قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من الأئمة المجتهدين، لا يقلد أحدًا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة.
قوله: (عن سفيان) : هو أحد السفيانين،
إما ابن عيينة وإما الثوري، فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته، وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد. وكان مجتهدًا، له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: (عن منصور) : هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب بمثناة ثقيلة ثم موحدة الكوفي، ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: (عن مجاهد هو ابن جبر) -بالجيم والموحدة :
أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره.
مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه.
قوله: (كان يلت لهم السويق فمات) ، فعكفوا على قبره. لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه.
وقد قيل: إن اسم الرجل صرمة بن غنم، وعن ابن عباس: كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، رواه ابن أبي حاتم.
وعن مجاهد: كان اللات رجلاً في الجاهلية، وكان له غنم فكان يسلؤ من رسلها
ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل منه حيسًا ويطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات. وكان يقرأ اللات مشددة، رواه سعيد بن منصور والفاكهي.
قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء ... ) إلى آخره. هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، ثقة مشهور، مات سنة ثلاث وثمانين.
وقد رواه البخاري، ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف.
وقال: إنه كان حجرًا فعبدوه، واشتقوا له من اسم الله الإله، وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد، وخفف لكثرة الاستعمال،
وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الإله، فلا ينافي ذلك أيضًا،
فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنًا يعبد،
كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين:
ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم،
وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم، فإنهم غلوا فيهم، وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد، وجعلوها ملاذًا لقضاء المآرب.
وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والآخرين إلى يوم القيامة.
وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم، ونهانا عن الغلو فيهم، فلا نرفعهم فوق منْزلتهم، ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم،
فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم، فإن الشرك بهم غلو فيهم، وأنزلوهم منازل الإلهية، وعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم، فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم، العاكفين على قبورهم،
معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي
باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها كالذين يعكفون على الأصنام واتخاذها أعيادًا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات،
فإن من اقتفى آثارهم كان متسببًا في تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم; فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر.
فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟!
قال: وعن ابن عباس قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن.
و قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" :
أي: من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة.
وقيل في تعليل ذلك:
إنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها،
كما في حديث آخر:
"فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت".
وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال، وتقدير ذلك غير مضبوط،
لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع.
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، فتحرم سدًّا للذريعة،
كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرمت الخلوة بالأجنبية، وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة،
لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به، وذلك ممكن في بيتها.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعًا:
"لعن رسول الله زوارات القبور" .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن زوارات القبور" . رواه أحمد
معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم:
إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها كالذين يعكفون على الأصنام واتخاذها أعيادًا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات، فإن من اقتفى آثارهم كان متسببًا في تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم; فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر.
فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟!
قال: وعن ابن عباس قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن.
وقوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" .
أي: من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة.
وقيل في تعليل ذلك:
إنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها،
كما في حديث آخر:
"فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت".
وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال، وتقدير ذلك غير مضبوط،
لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع.
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، فتحرم سدًّا للذريعة،
كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة،
وكما حرمت الخلوة بالأجنبية، وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة،
لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به، وذلك ممكن في بيتها.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعًا: "لعن رسول الله زوارات القبور" .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن زوارات القبور" . رواه أحمد
وابن ماجة، والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان.
ولا يعارض هذا حديث:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم وغيره;
لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه، فهو عامّ والأول خاص، والخاص مقدم عليه، وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عند الأصوليين.
وقوله: (والسرج) . هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور.
قال أبو محمد المقدسي:
لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله،
لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام.
وقال ابن القيم_رحمه الله :
اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر.
ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله،
هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، وقرن بينهما، فهما قرينان في اللعنة،
فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، بل لأجل نجاسة الشرك،
ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها، وليس النهي عن الإسراج لأجل النجاسة، فكذلك البناء.
قوله: (رواه أهل "السنن") :
يعني هنا أبا داود، وابن ماجة، والترمذي فقط، ولم يروه النسائي.
..... .... ....
القول المفيد في شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله :
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله "
قوله: " اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ":
أي: جعلوها مساجد;
إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها; فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل:
هل استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يجعل قبره وثنا يعبد أم اقتضت حكمته غير ذلك؟
الجواب:
يقول ابن القيم_رحمه الله :
إن الله استجاب له; فلم يذكر أن قبره صلى الله عليه وسلم جعل وثنا، بل إنه حمي بثلاثة جدران;
فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنا.
قال ابن القيم في "النونية"_رحمه الله :
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران.
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنا، ولكن قد يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له صلى الله عليه وسلم بدعائه عند قبره; فيكون قد اتخذه وثنا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنا.
.... ...
شرح ابن باز _رحمه الله لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله :
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله "
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال:
اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى " [النجم:19]
قال: "كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره".
وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس _رضي الله عنهما: "كان يلتُّ السويق للحاج".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"لعن رسول الله صلي الله وعليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج" رواه أهل السنن.
أن الواجب على المؤمن الحذر من الغلو في الصالحين مطلقًا أنبياء أو ملائكة أو غيرهم، يجب الحذر من ذلك؛
لأن من قبلنا ابتلوا بهذا الشيء ووقعوا فيه:
من اليهود والنصارى، فالواجب الحذر من ذلك،
ولهذا تقدم قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله:
"باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الغلو في الصالحين"
وتقدم قوله: "باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده"،
ثم ذكر الباب هنا:
"باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله"
والمقصود من هذا الحذر من الغلو في أهل الصلاح، سواء كانوا أنبياء أو ملائكة أو غيرهم.
فالواجب أن ينزلوا المنزلة التي أنزلهم الله إياها؛
فلا يدعون مع الله، ولا يستغاث بهم، ولا ينذر لهم، ولا تتخذ قبورهم مساجد ولا يطاف بها، إلى غير ذلك.
وقد وقع هذا في بني إسرائيل فاتخذوها مساجد، وعبدوهم من دون الله من اليهود والنصارى، ووقع في هذه الأمة الذي خافه صلي الله وعليه وسلم ، وقع في هذه الأمة فاتخذت كثيرًا من القبور آلهة تعبد من دون الله، كما وقع في كثير من الأمصار، كما وقع في مصر عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما، وفي العراق عند قبر أبي حنيفة وعند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقبور أخرى، فالواجب على أهل الإسلام الحذر من هذه الفتنة والبلية.
أما زيارة الصالحين للسلام عليهم والدعاء لهم لا بأس، يقول النبي صلي الله وعليه وسلم :
زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة فالزيارة للذكرى والدعوة للأموات هذا لا بأس به،
أما أن يزاروا ليدعوا من دون الله ليصلى عند قبورهم ليعكف عند قبورهم ليتبرك بها هذا هو المنكر.
وإذا كان الأمر فوق ذلك بأن دعوا مع الله واستغيث بهم صار الأمر أكبر، وهذا الشرك الأكبر.
روى مالك في الموطأ عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال:
اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله..
"مالك":
هو مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر الأصبحي رحمه الله، إمام دار الهجرة في زمانه، أحد الأئمة الأربعة، المتوفى سنة 179 رحمه الله، "رواه مالك في موطئه" كتاب جمع فيه آثارًا وأخبارًا سماها الموطأ عن النبي صلي الله وعليه وسلم ، مرسلاً عن زيد بن أسلم، ويروى مرفوعًا متصلاً عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال:
اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فهذا يبين أن اتخاذ القبور مساجد
تسمى أوثانًا إذا عبدت من دون الله صارت أوثانًا، مثلما تعبد الأصنام والأشجار والأحجار.
اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يعني:
مصلى يصلون عندها سواء عبدوها أو ما عبدوها، لا يجوز؛
لأن الصلاة عندها وسيلة إلى الشرك بها.
وهكذا فعلوا مع اللات كما روى ابن جرير،
شخص كان يلت السويق للحاج في الطائف،
فلما مات عكفوا على قبره وعكفوا على الصخرة التي كان يلت عليها، كان يساعد الحاج يلت لهم السويق، ويساعدهم،
فقالوا: هذا رجل صالح فعبدوه من دون الله واستغاثوا به وصار وثنًا معروفًا عند الجاهلية، وهكذا مناة في الجاهلية صخرة تعبد في المشلل عند قديد في طريق المدينة إلى مكة،
فأنزل الله في هذا قوله سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:19-23].
فالواجب الحذر مما فعله أولئك لا مع القبور ولا مع الأصنام ولا مع غير ذلك؛
لأن ما وقع فيه الأولون يوجب لنا الحذر حتى لا يصيبنا ما أصابهم، فلما وقع الأولون في الغلو في اللات والعزى ومناة وفي غيرها وجب على المتأخرين أن يأخذوا حذرهم وألا يتشبهوا بأولئك الهالكين.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لعن رسول الله صلي الله وعليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، وفي اللفظ الآخر: لعن رسول الله صلي الله وعليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها مساجد.
الشاهد قوله:
المتخذين عليها المساجد والسرج، زوارات القبور النساء، لكن المقصود من الحديث ذكر المتخذين عليها المساجد والسرج؛
لأن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها وتعظيمها وسيلة إلى تعظيمها بالشرك بعبادتها من دون الله،
وأما زيارة النساء فمسألتها معروفة لا يجوز زيارة النساء؛
لأنهن ضعيفات قليلات الصبر، فمن رحمة الله ومن إحسانه أن منعهن من الزيارة، كانت الزيارة مشروعة للجميع ثم منعن من الزيارة، أقرت زيارة الرجال، ومنع النساء من الزيارة،
وكان النبي صلي الله وعليه وسلم أولاً نهى عن الزيارة مطلقًا، لما كان الناس حديثي عهد بشرك، ثم رخص النبي صلي الله وعليه وسلم في الزيارة ثم منعت النساء؛
لأنهن ضعيفات وصبرهن قليل، فمن رحمة الله منعن من الزيارة،
أما الرجال فيشرع لهم الزيارة للذكرى زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة كان النبي يزوروها عليه الصلاة والسلام،
ويقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، وعلم أصحابه ذلك عليه الصلاة والسلام، فهي تشرع للرجال للذكرى ذكر الموت والآخرة والدعاء للموتى بالمغفرة والرحمة،
أما اتخاذ المساجد على القبور فهي من وسائل الشرك، وإذا كان مع ذلك إسراج وتنوير وتطييب كان الأمر أشد وأخطر.