حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ....؛شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب _رحمه الله
شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، [سبأ، من الآية: 23] .
أراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مَن عبد مِن دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى، وهيبتهم منه، وخشيتهم له، فكيف يدعوهم أحد من دون الله؟!
وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا، ولا وساطة بالشفاعة، فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى، ولا يعبد، ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم.
وقد قال تعالى فيهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
فهذه حالهم وصفاتهم، وليس لهم من الربوبية
والإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، وكذا قال في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} :
أي: زال الفزع عنها " قاله ابن عباس، وابن عمر، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي والحسن وغيرهم. والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله: (لا يملكون) ، (وفي أموالهم) ،
(وما له منهم) .
و "حتى" تدل على الغاية، وليس في الكلام ما يدل على أنه غاية له،
فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون أبدًا،
يعني: منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم، والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمر الله به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة.
قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومَنْ لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: (الذين زعمتم) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
وقال ابن كثير: هذا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السماوات كلامه، أُرْعِدُوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما.
وقوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أي: قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا، أخذوا يتساؤلون،
فيقولون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟} فيقولون: قال {الْحَقُّ} .
قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} أي: العالي، فهو فوق كل شيء، فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السماوات
كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
قال: في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله.
كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض"
وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة،
فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"
قوله: في "الصحيح" أي "صحيح البخاري"
قوله: إذا قضى الله الأمر في السماء :
أي: إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون، كما روى سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن جرير عن ابن مسعود قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان.
وروى ابن أبي حاتم، وابن مردوية عن ابن عباس
قال: "لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كُشِفَ عن قلوبهم سألوا عما قال الله،
فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًا".
قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله":أي:
لقول الله تعالى؟
قال الحافظ: خضعانًا بفتحتين من الخضوع، وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: كأنه سلسلة على صفوان :
أي: كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس.
قال الحافظ: هو مثل قوله في بدء الوحي:
صلصلة كصلصلة الجرس، وهو صوت الملك بالوحي. وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه:
"إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ... " الحديث.
قوله: ينفذهم ذلك هو بفتح التحتيه وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة، ذلك:
أي القول، والضمير في (ينفذهم) عائد على الملائكة.
أي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة،
أي: يلقيه إليهم.
وقيل: وهو أظهر: أي: يخلص ذلك القول، ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك،
كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه: "فلا ينْزل على أهل سماء إلا صعقوا"
وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل" الحديث.
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي: أزيل عنها الخوف والغشي.
قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} : أي: قال الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم.
قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} : أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا حقا.
قوله:"فيسمعها مسترق السمع" : أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضًا، فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله،
كما قال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ، [الحجر الآيتان: 17-18] .
وفي "صحيح البخاري" عن عائشة مرفوعًا:
"إن الملائكة تنْزل في العنان وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم"
وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا، وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب.
قوله: (وصفه سفيان بكفه) : أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض. وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وربما، دلس لكن عن الثقات. مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة. قوله: فحرفها. بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
قوله: (وبدد) : أي: فرّق بين أصابعه.
قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) : أي: يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي، فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن، وحينئذ يقع الرجم.
قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) :
الشهاب: هو النجم الذي يرمى به. أي: ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمي به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته، وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب، وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث،
كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه فرمي بنجم فاستنار، فقال ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم، قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش:
ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه" قال معمر: قلت للزهري: "أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال نعم.
قال أرأيت: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} ، [الجن:9] .
قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والإعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس، وعلى حسب كونها في البروج الموافقة، أو المنافرة، ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها لما خلقت له،
كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
قوله: فيكذب معها مائة كذبة : أي: يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليّه من الشياطين مائة كذبة، بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، ويخبر بالجميع وليّه من الإنس، فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق، وما خلط فيه فهو كذب، ومع هذا فيفتتن الإنس بالإنس الساحر والكاهن، ويفتتنان بولّيهما من الشياطين، ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب، لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء.
قوله: فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا؟
هكذا بيض الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله في هذا الموضع، ولفظ الحديث في "الصحيح" فيقال:
"أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا" .
والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم، ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي، ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقًا، وتلك الكلمة من الحق كما في "الصحيح" عن عائشة قلت: "يا رسول الله: إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا،
قال: "تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة"
وفيه قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة، ولا يعتبرون بمائة كذبة؟! ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله.
وفيه أن الشيء إذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله، بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم.
قوله: فيصدق بتلك الكمة التي سمعت من السماء:
أي: يستدلون على صدقها.
قال: وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟
فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل".
قوله: عن النواس بن سمعان بكسر السين: أي: ابن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضًا. قال أبو حاتم الرازي: سكن الشام.
قوله: "ذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى،
كما يدل عليه عموم اللفظ، ويدل على ذلك أيضًا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة.
قوله:"أخذت السماوات منه رجفة" هو برفع "رجفة" على أنه فاعل،
أي: أصاب السماوات منه رجفة،
أي: ارتجفت،
كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إذا قضى الله أمرًا تكلم وتبارك وتعالى، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدًا.
قوله:"أو قال: رعدة شديدة":
يعني أن الراوي شك، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: رجفة، أو قال: رعدة، وهو بفتح الراء بمعنى الأول.
قوله:"خوفا من الله عز وجل":لا ينكر أن السماوات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله عز وجل
فقد قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} .
وقال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} .
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
وفي "البخاري" عن أبي مسعود قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل"
وفي حديث أبي ذر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كخنين النحل، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان" وهو حديث مشهور في "المسانيد".
وكذلك في "الصحيح" قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، ومثل هذا كثير.
قوله:"صعقوا وخروا لله سجدا" :
أي: يقع منهم الأمران: الصعق - وهو الغشي- والسجود، والله أعلم أيهما قبل الآخر، فإن الواو لا تقتضي ترتيبًا.
قوله:"فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل"معنى جبريل: عبد الله كما روى ابن جرير، وأبو الشيخ الأصبهاني عن على بن حسين قال: اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء راجع إلى إيل فهو معبد لله عز وجل.
وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، [التكوير: 19-21] .
قال أبو صالح [باذم] في قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . قال: جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نور بغير إذن.
وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة،
منها: ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم" .
قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة ... " إلى آخره. معناه ظاهر، فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مِمَّن عُبِدَ من دون الله، وشدة خشيتهم من الله، وهيبتم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال:
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .
وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله. فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} .
وفي ضمن ذلك النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة وغيرها،
تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} .
فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك، وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقرَبُّون عند الله، فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعًا ولا يملكون ضرًا ولا نفعًا أولى بالبطلان.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون} .
قوله:"ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل".قد بيض الشيخ محمدبن عبد الوهاب _رحمه الله بعد هذا، ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه. وتمامه: إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض. ورواه ابن جرير وابن خزيمة [في التّوحيد 206] ، وابن أبي حاتم والطبراني، وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافًا للجهمية، وإثبات الصوت خلافًا لهم وللأشاعرة.
..... ..........
كتاب القول المفيد في شرح.كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: مناسبة الترجمة في كتاب التوحيد: أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكًا مع الله، لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله - عز وجل ـ ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله - سبحانه - الفزع. قوله تعالى: قال ذلك ولم يقل: "فزعت قلوبهم"، إذ "عن" تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم، أي: أزيل الفزع عن قلوبهم. والفزع: الخوف المفاجئ، لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعًا. وأصله: النهوض من الخوف. وقوله تعالى: {عن قلوبهم}: أي: قلوب الملائكة، لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله تعالى: لأن في الكلام قائلًا ومقولًا له، فلو جعلنا الضمير في قالوا عائدًا على الجميع، فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟ وإعراب ماذا على أوجه: - ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر، أي: ما الذي. - ماذا: اسم استفهام مركب من ما و ذا. - ما اسم استفهام، وذا زائدة، قال ابن مالك: ومثل ماذا بعدما استفهام أومن إذا لم تلغ في الكلام وقوله: {قالوا الحق}، أي: قال المسؤولون. والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير قال القول الحق. والمعنى: أن الله - سبحانه - قال القول الحق ؛ لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق. والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: ولا يفهم من قوله: {قالوا الحق} أنه قد يكون قوله باطلًا، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بيانًا للواقع ومعروفًا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق، فلماذا الاستفهام؟! أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق. قوله تعالى: مناسبة الآية للتوحيد: أنه إذا كان منفردًا في العظمة والكبرياء، فيجب أن يكون منفردًا في العبادة. والعلو قسمان: _الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم. _الثانية: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم، فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات. وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم، لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته. وفي الآية فوائد: 1- أن الملائكة يخافون الله، كما قال تعالى: 2- إثبات القلوب للملائكة، لقوله: 3- إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحًا مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى: وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبريل له ست مئة جناح قد سد الأفق ، فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل. لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى: ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك، ولهذا جاء: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ}، ولم يقل: يسبحون في الليل، أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. 4- أن لهم عقولًا، إذا إن القلوب هي محل العقول خلافًا لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله، ويطوفون بالبيت المعمور. 5- إثبات القول لله - سبحانه وتعالى -، وأنه متعلق بمشيئته؛ لأنه جاء بالشرط: {إذا فزع}، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافًا للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيته، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه، فهو قائم بالله أزلي أبدي، كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر. ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله، ولهذا يقولون: إن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزل به جبريل على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه. وهذا في الحقيقة قول الجهمية، كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجهمية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله. 6- إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: وقال: فالله تعالى لا يقول إلا حقًا، لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، قوله: "وفي الصحيح"، سبق الكلام عليها. قوله: "قضي الله الأمر في السماء"، المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول، لقوله تعالى: قوله: "خضعانًا": أي: خضوعًا، لقوله: "كأنه":أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم. قوله: "صفوان" هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم. وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا؛ لأن الله قوله: "ينفذهم ذلك"، النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه، نفذ السهم في الرمية، أي: دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ. قوله: أي: أزيل عنها الفزع. قوله: {قالوا}، أي: قال بعضهم لبعض. قوله: أي: قالوا: قال الحق، أي: قال القول الحق، فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، أو أنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟ يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق، فيكون هذا عائدًا إلى الوحي الذي تكلم الله به. ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله - سبحانه - لا يقول إلا الحق، فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى. وهذا الحديث مطابق للآية تمامًا، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل أي قائل أن يفسرها بغيره، لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة، فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه. وأما تفسير الصحابي، فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين، فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء، كمجاهد، فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين، فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن. قلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة بل نقول: الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبيًا وجاء به النص، فالواجب علينا قبوله، ولها نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: أنه ليس عائدًا على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع،
كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقًا بخلاف الفروع. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع، مع أنها من أجل الأصول. والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه، فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك، لأنه : لا مجال للاجتهاد فيها. أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال، فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصًا صريحًا، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة، كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: "للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت"، وذكر له قسمة أبي موسى: "للابنة النصف، وللأخت النصف"، وقوله: "ائت ابن مسعود، فسيتابعني"، فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال: "قد ضللت إذًا، وما أنا من المهتدين" . فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، قوله: "فيسمعها مسترق السمع": أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة. و"مسترق": مفرد مضاف، فيعم جميع المسترقين. وتأمل كلمة "مسترق"، ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاسًا بسرعة، ويؤيده قوله: قوله: "ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض"، يحتمل أن يكون هذا من كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان. قوله: "وصفه سفيان بكفه": أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحدًا فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى: قوله: "فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته" : أي: سمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، أي: يخبره بها، و"من": اسم موصول، وقوله: "تحته" شبه جملة صلة الموصول لأنه ظرف. قوله: "ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها" : أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن. والسحر: عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقد التبس على بعض طلبة العلم، فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى، فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبًا مطلقًا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبًا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبًا بالنسبة لمن في المسجد. وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدًا، فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه محرم، فلا يسمى كاهنًا؛ لأن الكاهن من خيبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادًا إلى فراسة، فإنه ليس من الكهانة في شيء، لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادًا على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال. فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه، فإننا لا نصدقه، لأن الله تعالى يقول: وإن كان موثوقًا في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره، فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودًا فيه، فلا يسمى كاهنًا، لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم، إما محبة لله - عز وجل ـ، أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة. والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع. ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا، لقوله تعالى: فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كَذْبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء) . قوله: "فربما أدركه الشهاب.... إلخ"، الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به. قال العلماء في تفسير قوله تعالى: فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم. وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعًا فيها أما النجم، فلو وصل إلى الأرض، لأحرقها. واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد أو انقطعوا في وقته فقط؟ والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا. قوله: "فيكذب معها مئة كذبة"، هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة: أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟ الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقًا، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان، قالوا: إذن لا بد أن يصدق. فوائد الحديث: 1- إثبات القول لله- عز وجل -. 2- عظمة الله - سبحانه وتعالى -. 3- إثبات الأجنحة للملائكة. 4- خوف الملائكة من الله - عز وجل - وخضوعهم له. 5- أن الملائكة يتكلمون ويعقلون. 6- أنه لا يصدر عن الله إلا الحق. 7- أن الله - سبحانه - يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله - عز وجل - حكيم. وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالًا لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحانًا وابتلاءً. 8- كثرة الجن، لأنه يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدًا، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانًا. وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات، فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها البيوت، ويقول: أن أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة، فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله يقول : إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية، لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه. 9- أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك. 10- أن الساحر يصر للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء، فيجب الحذر منهم بكل حال. وعن النواس بن سمعان (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) خوفًا من الله عز وجل.
قوله: "وعن النواس...."، هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة، وهي أن في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة، فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم وأحمد من حديث ابن عباس حديثًا قد يكون شاهدًا له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا، ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين. وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود، لكن يدل على أن له أصلًا. قوله: "إذا أراد أن يوحي بالأمر"، أي: بالشأن. قوله: "تكلم بالوحي"، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط، فالإرادة سابقة، والكلام لاحق، فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي، كالسمع والبصر، ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه لا يتلكم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه. قوله: "أخذت السماوات من رجفة"، السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به، فيكون منصوبًا بالكسرة، ورجفة: فاعل. قوله: "أو قال: رعدة شديدة"، شك من الراوي، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة، لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء، حتى السماوات التي ليس فيها روح. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجدًا". فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدًا؟ فالجواب: أن الصعق هنا - والله أعلم - يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا. قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل" : أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرًا. قوله: "بما أراد" : أي: بما شاء، لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة": لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي. فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" . قوله: "قال الحق وهو العلي الكبير"، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق، لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأيًا كان، فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحى الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهمًا، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر. قوله: "وهو العلي الكبير"، تقدم الكلام عليه. قوله: "فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" : أي: قال الحق، وهو العلي الكبير. قوله: "فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل ـ"، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل. من فوائد الحديث: 1- إثبات الإرادة لقوله: "إذا أراد الله" وهي قسمان: شرعية، وكونية. والفرق بينهما : _أولًا: من حيث المتعلق، فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ، سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية، فتتعلق بما يقع، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه. _ثانيًا: الفرق بينهما من حيث الحكم: أي حصول المراد، فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية، فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضًا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة. وقوله: لأن الله لا يريد الإغواء شرعًا، أما كونًا وقدرًا، فقد يريده. وقوله: وقوله تعالى: لأن قوله: 2- أن المخلوقات وإن كانت جمادًا تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: 3- إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون؛ لأنهم يسألون: ويجابون: قال {الحق}، خلافًا لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك، فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب. 4- إثبات تعدد السماوات، لقوله: "كلما مر بسماء". 5- أن لكل سماء ملائكة مخصصين، لقوله: "سأله ملائكتها". 6- فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: (هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى) ، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر. 7- أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل ـ فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ويقولون: خان الأمين فصدها عن حيدرة، وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب، لأنه كان يقول في غزوة خيبر، أنا الذي سمتني أمي حيدرة . وفي هذا تناقض منهم لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة. 8- إثبات العزة والجلال لله - عز وجل ـ، لقوله: "عز وجل"، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان: 1- عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء. 2- عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد. 3- عزيز: بمعنى غالب قاهر. قال ابن القيم في النونية: وهو العزيز فلن يرام جنابه ** أنى يرام جناب ذي السلطان وهو العزيز القاهر الغلاب ** لم يغلبه شيء هذه صفتان وهو العزيز بقوة هي وصفه ** فالعز حينئذ ثلاث معان وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة. فيها مسائل: _ الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى: _الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله، فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير، فكيف يتعلق الإنسان بها؟! ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب، لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي، فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئًا مخلوقًا ربما يصنعه بيده حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر إذا جاع أحدهم أكلها؟! وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع - وهو أحسنها - يجعلها إلهًا له. _ الثالثة: تفسير قوله: _ الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفًا من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب. _ الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا، أي: يقول: قال الحق. _السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل. _ السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم. _الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجدًا). _التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله، لقوله: (أخذت السماوات منه رجفة)، أي: لأجله تعظيمًا لله. _ العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره، أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به، لأنه الأمين على الوحي. _ الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين : أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون. _ الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضًا، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه. _ الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: _الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه. _ الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان، لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء، صار صادقًا. اعتراض وجوابه: كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟ والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها، فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع. _ السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق. وقوله: "مئة كذبة" هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد. _السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده، فهو تخرص، فالكلمة التي تسمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس. _ الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟! وهذا صحيح، و ليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه، فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مئة كذبة، فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء يغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان، ولهذا لما نزل قوله تعالى: تركهما كثير من الصحابة اعتبارًا بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة، فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع. _ التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها... إلخ، الكلمة: هي الصدق، لأن هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذبًا ما راجت بين الناس. _ العشرون: إثبات الصفات خلافًا للأشعرية المعطلة، الأشعرية: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه. والمراد تعطيل أكثر ذلك فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة، ذفالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا، فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة، فهم معطلة اعتبارًا بالأكثر، لأنهم لا يثبتون من الصفات إلى سبعًا، وصفاته وتعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف، فمثلًا: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف. والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق، فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام،
ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله، لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها. وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها. والرد عليهم بما يلي: 1- أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها، فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها، فتثبتها بالدليل السمعي. 2- أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع، فمثلًا: الإرادة ثابتة لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمسًا والقمر قمرًا والسماء سماءً والأرض أرضًا، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه سبحانه وتعالى يريد، إذ لولا الإرادة، لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها. فنقول لهم: الرحمة لا تمضي لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من الله، فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة. والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس، فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا، فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق. _ الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفًا من الله - عز وجل -، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ. _ الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدًا، أي: تعظيمًا لله واتقاء لما يخشونه، فتفيد تعظيم الله - عز وجل - كالتي قبلها. |
....... .........
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلي الله وعليه وسلم
قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]،
فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض
وصفه سفيان ابن عيينة بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.
فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة،
فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيُصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم :
إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفا من الله ؛
فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجدا؛ فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله
قد أراد الشيخ محمدبن عبد الوهاب_ رحمه الله:
والقائم بالدعوة إلى الله وتجديد ما اندرس من معالم الإسلام في هذه الجزيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري المتوفى سنة 1206 من الهجرة النبوية، أراد رحمه الله بهذا الباب بيان حال الملائكة عند سماع كلام الله، وأنه يصيبهم خوف شديد؛
فإذا كان هذا حال الملائكة فكيف بغيرهم، وعُلم بهذا أنه لا يصلح أن يدعون مع الله وغيرهم من باب أولى، فكلهم عبيد مقهورون مربوبون ليس لهم حق في الإلهية والعبادة، العبادة حق الله وحده،
ولهذا قال جل وعلا: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23]
يعني زال عنها الفزع،
والشيخ محمد بن عبدالوهاب _رحمه الله يقول: باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ يعني:
باب بيان الفائدة العظيمة من هذه الآية وما جاء في معناها،
وأن ذلك يدل على أن العبادة حق الله وحده، وأن الملائكة ومن دونهم من الناس وهكذا الجمادات من باب أولى كلها لا تصلح أن تُعبد من دون الله، كلها مخلوقة، كلها مربوبة، كلها تحت قهر الله وسيطرته، كلها تخاف الله وترجوه؛
فلا يليق بالمكلف أن يعبد مع الله سواه، فالله جل وعلا هو الخالق، وهو رب العالمين، وهو المستحق لأن يُعبد، وما سواه مخلوق مربوب من الملائكة وغير الملائكة، قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23]
يعني زال عنه الفزع الذي حصل له بسبب الوحي قَالُوا مَاذَا [سبأ:23]
يسأل بعضهم بعضًا ماذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]
قال ربنا الحق وهو العلي الكبير، العلي في ذاته وأسمائه وصفاته، الكبير الذي لا أعظم منه ولا أكبر منه جل وعلا، فيسمعها مسترق السمع، الجن الشياطين تسترق السمع ويركب بعضهم فوق بعض غير متراصين بعضهم فوق بعض، ووصفهم سفيان بكفه فحرفها هكذا وبدد بين أصابعه ما هي متلاصقة هكذا كل واحد فوق واحد بينهم فضاء يستمعون، وهذه من قدرة الله، الله قدرهم على هذا كالطيور حتى السماء الدنيا،
قال تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن:8-9]
فيسمع المسترقون الكلمة التي أوحى الله بها إلى جبرائيل، وجبرائيل يسأله من في السماوات فيخبرهم فيسمعون هؤلاء المسترقون يسمعون الكلمة فيلقيها على الذي يليه والذي يليه والذي يليه وهكذا حتى تصل الأخير فيلقيها على لسان الساحر والكاهن،
يقول: صدر في السماء كذا وقال الله كذا وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها
وإما قتل قبل أن يلقي الكلمة هذا الشيطان فتفوته الكلمة وربما ألقاها لحكمة من الله ليبتلي عباده ويمتحنهم جل وعلا، وربما ألقاها ثم يصيبه الشهاب، فيكذب معها هذا الساحر والكاهن مائة كذبة.
وهكذا في حديث النواس بن سمعان أن الرب إذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة
وقال: رعدة شديدة خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع الملائكة ذلك خروا صعقوا وخروا لله سجدًا؛
فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله بما أراد. الحديث.
هذان الحديثان كلاهما مع الآية كلاهما يدلان على أن الملائكة يصيبهم خوف عظيم وذعر عظيم حين يسمعون كلام الله،
وأن هذه الشياطين تسترق السمع، فإذا سمعوا الكلمة التي تكلم بها سكان السماء الدنيا فيما بينهم ألقوها إلى الكاهن أو الساحر إذا أراد الله امتحان الناس بذلك، وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها فالساحر والكاهن يلقون تلك الكلمة على أصحابهم سيكون كذا بما سمعوا من السماء سيموت فلان سيخسف بالمحل الفلاني، سينزل مطر في المحل الفلاني على حسب ما سمعوا، فيكذب الكهنة والمنجمون الكذبات الكثيرة فيقول الناس:
قد صدق يوم كذا في كذا وكذا فيصدقونه في كذبه كله بسبب الكلمة التي سمعت من السماء، وهذا من الابتلاء والامتحان نعوذ بالله،
ولهذا قال صلي الله وعليه وسلم: من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة كما يأتي إن شاء الله، ويقول صلي الله وعليه وسلم: من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول:
فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله وعليه وسلم ويأتي البحث في هذا في الأبواب الآتية.
والمقصود من هذا هنا :
الدلالة على أن الملائكة عباد يخافون الله ويراقبونه، وأنهم لا يصلحون؛ لأن يعبدوا من دون الله فهم عبيد مملوكون مقهورون يصيبهم من الخوف والذعر ما يصيبهم عند سماع كلام الله، فعلم بذلك أنهم لا يصلحون للعبادة وأن غيرهم من باب أولى .
الأسئلة:
س/ هل أحد من الناس من قال بجواز النشرة في السحر؟
ج/ بعض العلماء يجيزها للضرورة، إذا لم يتيسر إلا إتيان الساحر، ولكنه قول ضعيف، قول ليس بصواب.
س/ كثير من الناس على القول هذا؟
ج/ لا هذا غلط يبين لمن يسأل أن هذا لا يجوز، الرسول صلي الله وعليه وسلم لما سئل عن النشرة
قال: هي من عمل الشيطان،
النشرة من عمل الشيطان، حل السحر بالسحر من عمل الشيطان، ولا تكون من عمل الشيطان إلا إذا كانت بالسحر والرقية المذمومة التي بأسماء الشياطين أو بالأدوية المحرمة، أما إن كانت بالقرآن وبأدوية مباحة فليست من عمل الشياطين.
س/ هل الساحر إذا تاب؟
ج/فيما بينه وبين الله يصح توبته، ولكن يقتل.
س/حكم من يتصل بالشياطين ويخبر عن الأشياء الضائعة مثلا والمسروقة؟
ج/ ما يجوز سؤالهم ولا إتيانهم، لا يسألون عن مسروق ولا عن مكان الضالة، هذا باطل لا يجوز سؤالهم .
س/ من أتى كاهنا أو عرافا نفس الذي يسأل؟
ج/ فقد كفر بما أنزل على محمد إذا صدقه في علم الغيب، أما إن كان عامي أتاه ما يدري هذا يعلم أن هذا لا يجوز ولا يلحقه الكفر، أما إذا صدقه بعلم الغيب أنه يعلم الغيب.
س/ الذي يعلم الحكم ويذهب ليسأل عن الضائع؟
ج/ ما يجوز، لا يجوز إتيانه لأن الرسول قال: لا تأتوهم ولا تسألوهم نهى عن إتيانهم وعن سؤالهم.
س/ يعني يدخل تحت؟
ج/تحت الوعيد .
س/..........؟
ج/ ظاهر القرآن أنه قد يجد وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن:9]
يعني حول السماء يركب بعضهم بعضا وقد يكون معهم أشياء يجلسون عليها وقد يكون هناك مقاعد يمكنهم فيها ما هو ممنوع، هو ممكن الله أخبر عن هذا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]
هذه المقاعد ما يدرى ويش هذه المقاعد التي يقعدونها.
س/ أليست كنا؟
ج/ يعني قبل الشهب قبل أن يرموا بالشهب لما جاء الوحي شدد عليهم بالشهب حتى عجزوا عن الوصول إلى السماء .
س/ ما المقصود بأن الذي يشرب الخمر أنه لا تقبل صلاته أربعين يوما، وهل يترك الصلاة؟
ج/ لا، لا يتركها لكن يفوته ثوابها، مثل من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، تجزئه ويفوته ثوابها أما إذا ترك الصلاة كفر، نسأل الله العافية .
س/ الرؤيا إذا كان الواحد جنب؟
ج/ ولو جنب قد تكون صحيحة، وقد تكون من وساوس الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، وقد تكون صحيحة ولو أنه جنب. ولكن السنة له أن ينام على وضوء.
س/ الرجل إذا قال لزوجته هي عليه حرام بنية الطلاق يكون طلاقا؟
ج/ لا، يكون ظهارا .