أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً ؛شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله
شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ} ، [الأعراف الآيتان: 191-192]
المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام، فكل من دعي من دون الله فهذه حاله،
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} .
وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} .
ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الملائكة أنهم يتبرؤون منهم يوم القيامة،
كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوايَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .
إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم لها أن قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى عبادًا لا تخلق شيئًا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر، لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم، وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام، فالمراد به ما ذكرناه.
وقوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ} : أي: ويشركون به، ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر، ومن هذه حاله فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهًا معبودًا؟!
وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف، فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئًا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرًا، ولا ينصرون أنفسهم، وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون الله.
قال: وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ... } .
حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره أنه تعالى يخبر عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوًا، فكيف إذا عدمت كلها، فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة:
القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر،
أي: ولا {يَمْلِكُونَ} من السموات والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير،
كما قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} .
وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ... } .
فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون الله؟
ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله:
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} .
يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم؛ لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد، فلعل المشرك يقول: هذا في الأصنام، أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون،
فنفى سبحانه ذلك بقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} : أي: لا يقدرون على ما تطلبون منهم، وما خص تعالى الأصنام، بل عم جميع مَن يدعى مِن دونه. ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه، فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالًا ولا وساطة بالشفاعة.
وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} .
كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} .
وهذا نص صريح على أن من دعا غير الله فقد أشرك بشرطه، وأن المدعوين يكفرون به يوم القيامة، ويتبرءون منهم كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} .
فهل على كلام رب العزة استدراك؟
ولهذا قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}: أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها.
قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
قال: وفي " الصحيح " عن أنس. قال: "شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟
فنَزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ، [آل عمران: 128] ".
قوله في "الصحيح"، أي "الصحيحين" فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والنسائي، عن حميد، عن أنس به. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن إسحاق في " المغازي ": حدثني حميد الطويل، عن أنس قال: "كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ " . فأنزل الله الآية.
قوله: شج النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال له: "لن تمسك النار".
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة. قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فشجه في وجهه، وكسر رباعيته. فقال: خذها وأنا ابن قمئة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة".
قال القرطبي: والرباعية - بفتح الراء وتخفيف الياء، وهي كل سن بعد ثنية.
قال النووي: وللإنسان أربع رباعيات. قال الحافظ: والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها. قلت: فظهر بهذا أن قول بعضهم: إنه شج في رأسه فيه نظر.
قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم.
قال القرطبي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم.
قوله: "يوم أُحد" جبل معروف إلى الآن، كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت إليه.
قوله: فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ ".
زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس "وكسروا رباعيته وأدموا وجهه" .
قوله: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
قال ابن عطية: كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله، ويريح منهم.
فقيل له: بسبب ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} :
أي: عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء لربك.
وقال غيره: المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم {أَوْيَكْبِتَهُمْ} ، {أَوْيَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن أسلموا، {أَوْيُعَذِّبَهُمْ} إن أصروا، و {لَيْسَ لَكَ مِنَ} أمرهم {شَيْءٌ} ، وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم، فعلى هذا يكون قوله:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، اعتراض المعطوف والمعطوف عليه.
وقال ابن إسحاق: أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
قال: وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا"،
بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} " .
وفي رواية: "يدعو على صفوان ابن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام،
فنَزلت: {ليس لك من الأمر شيء} " .
قوله: وفيه: أي في "الصحيح" والمراد به "صحيح البخاري"، ورواه النسائي.
قوله: عن ابن عمر. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، من عباد الصحابة، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح. مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها.
قوله: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره. هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج، وكسرت رباعيته يوم أحد.
قوله: "اللهم العن فلانًا وفلانًا".
قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء.
قلت: الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن، لا مطلق السب والشتم.
قوله: (فلانًا وفلانًا) ، يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها.
وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة، وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر الصلاة.
قوله: (بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) .
قال أبو السعادات، أي: أجاب حمده وتقبله.
وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف،
لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ما معناه: عدى سمع الله لمن حمده باللام لتضمنه معنى: استجاب له، ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن.
قوله: ربنا ولك الحمد. في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو.
قال النووي: لا ترجيح لإحداهما على الأخرى.
وقال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلاً: ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله :
والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له،
وكذا قال ابن القيم_رحمه الله :
وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردًا عن حب وإرادة، أو مقرونًا بحبه وإرادته، فإن كان الأول، فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد.
فالقائل إذا قال: الحمد لله، وقال: ربنا ولك الحمد، تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد.
وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف، وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فقالا: يقتصر على قول: سمع الله لمن حمده.
قوله: وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن
عمرو، والحارث بن هشام. إنما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم رؤساء المشركين يوم أُحد، والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم وأبو سفيان، ومع ذلك فما استجيب له فيهم، بل أنزل الله عليه:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .
فتاب الله عليهم وآمنوا، مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار، منها غزوهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في بلاده، وشجهم له، وكسر رباعيته، وقتلهم بني عمهم المؤمنين، وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين، وإعلانهم بشركهم وكفرهم، ومع هذا كله لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم عن نفسه، ولا عن أصحابه، كما قال تعالى :
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} .
بل لجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم، ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهرا، وخلفه سادات الأولياء يُؤَمِّنون على دعائه، ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم، بل تاب عليهم وآمنوا، فلو كان عنده صلى الله عليه وسلم من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة، ولكن الأمر كما قال تعالى:
{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم، وينصرون من لاذ بحماهم، ويدعونهم برًّا وبحرًا في غيبتهم وحضرتهم.
[إنذاره عليه الصلاة والسلام لأقاربه وعشيرته]
قال: وفيه عن أبي هريرة قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه"
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} .
قال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا".
ش: قوله: وفيه، أي: في "صحيح البخاري".
قوله: عن أبي هريرة. اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً، وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فَسُمِّيَت في الإسلام عبد الرحمن".
وقال غيره: اسمه عبد الله بن عمرو، وقيل: ابن عامر. وقال ابن الكلبي: اسمه عمير بن عامر، ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا هريرة.
وروى الدولابي بإسناده عن "أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دوسي من فضلاء الصحابة، وحفاظهم، وعلمائهم، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره، وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث، ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة؟ .
قوله: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. في "الصحيح" من رواية ابن عباس "صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا " .
قوله: حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته. والأقربين: أي الأقرب فالأقرب منهم.
1- لأنهم أحق الناس بِبِرِّك وإحسانك الديني والدنيوي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ قال: "أمك قال: ثم من، قال: ثم أباك، ثم أختك وأخاك".
2- ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد، والطاعة له.
3- ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، ولذلك أُمِرَ بإنذارهم خاصة، وقد أمره الله أيضًا بالنذارة العامة كما قال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}
.وقال: {لِتُنْذِرَقَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} .
ولا تنافي بينهما، لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة.
قوله: "يا معشر قريش" المعشر كمسكن: الجماعة.
قوله، أو كلمة نحوها. هو بنصب "كلمة" على أنه معطوف على ما قبله، أي أو قال كلمة نحو قوله: يا معشر قريش، أي: بمعناها.
قوله: "اشتروا أنفسكم":
أي: بتوحيد الله، وإخلاص العباده له وعدم الإشراك به، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فإن جميع ذلك ثمن النجاة، والخلاص من عذاب الله، لا الاعتماد على الأنساب، وترك الأسباب، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب: ودفع بقوله: " {لا أغني عنكم من الله شيئا} " .
ما عساه أن يتوهم بعضم أنه يغني عنهم من الله شيئا بشفاعته، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرا، ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه،
كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
فكيف يملك لغيره نفعًا أو ضرًا، أو يدفع عنه عذاب الله؟
وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة، فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم، لا أنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء.
وفي صحيح البخاري بعد قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا" فلعل المصنف اختصرها.
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب". بنصب "ابن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب،
وكذا القول في قوله: "ويا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد"صلى الله عليه وسلم.
قوله: "سليني من مالي ما شئت" .
في رواية مسلم عن عائشة. قالت "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، سلوني من مالي ما شئتم".
فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجيهم من عذاب الله، ولا يدخلهم الجنة، ولا يقربهم إلى الله، وإنما الذي يقرب إلى الله، ويدخل الجنة، وينجي من النار برحمة الله، هو طاعة الله.
وأما ما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم، كما قال: "سلوني من مالي ما شئتم"
وكما قال: "ألا إن لكم رحمًا سأبلها ببلالها" . رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر، وهو عند مسلم في حديث آخر.
فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم، خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من الأنبياء والصالحين، أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب "البردة [البوصيري] ".
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم.
تبين له التوحيد، وعرف غربة الدين: فأين هذا من قول صاحب "البردة" والبرعي وأضرابهما من المادحين له صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارًا، ويبين اختصاصه، بالخالق تعالى وتقدس،
كما قال تعالى:
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها، وكلام نبيها لوساوس صدرها، وماألقاه الشيطان في نفوسها.
ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله، فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ومحبة الصالحين وتعظيمهم، ولعمر الله إن تبرئتهم من هذا التعطيم والمحبة، هو التعطيم لهم والمحبة، وهو الواجب المتعين. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في سورة بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين، والتنقص بهم، وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى، وبخسوه حقه، وتنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بذلك.
أما تنقّصهم للخالق تعالى، فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر.
وأما بخسهم حقه تعالى، فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى، فإذا جعلوا شيئًا منها لغيره، فقد بخسوه حقه. وأما تنقصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللصالحين، فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به،
كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، جِدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن، قاله المصنف.
وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك،
لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئًا، كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم:
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وفيه أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل طاعته، ومتابعته في محياه ومماته، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"ألا إن آل أبي -يعني فلانًا- ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين" رواه مسلم.
وروى عبد بن حميد عن الحسن. أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته قبل موته
فقال: "ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة".
.............. ........
كتاب القول المفيد في شرح كتاب التوحيد
باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} الآية [الأعراف: 191 ،192]
مناسبة الباب لما قبله:
لما ذكر الشيخ محمدبن عبد الوهاب _رحمه الله الاستعاذة والاستغاثة بغير الله - عز وجل ,
ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل، وذكر رحمه الله ثلاث آيات:
الآية الأولى والثانية قوله: {أيشركون}، الاستفهام للإنكار والتوبيخ
أي: يشركونه مع الله.
قوله: {ما لا يخلق}، هنا عبر بـ {ما} دون "من"،
وفي قوله: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له} [الأحقاف: 5] عبر بـ {من}.
والمناسبة ظاهرة:
لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا، فالمدعو جماد، لأن الذي لا يخلق شيئًا ولا يصنعه جماد لا يفيد.
قوله: {شيئًا} :
نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: {وهم يخلقون}:
وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص.
والرب المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقًا، بل هو الخالق، فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء.
والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم، لأن ما جاز انعدامه أولًا، جاز عقلًا انعدامه آخرًا.
فكيف يعبد هؤلاء من دون الله، إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!
إشكال وجوابه:
قوله: {ما لا يخلق} الضمير بالإفراد، وقوله: {وهم يخلقون} الضمير بالجمع، فما الجواب؟
أجيب/
بأن قوله: {ما لا يخلق} عاد الضمير على {ما} باعتبار اللفظ، لأن {ما} اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع، فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع، كقوله: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ}.
وقوله: {وهم يخلقون} عاد الضمير على {ما} باعتبار المعنى، كقوله: {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.
قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}، أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو، لأن هؤلاء المعبودين قاصرون.
والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه.
قوله: {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، بنصب أنفسهم على أنه مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال، لان العامل لم يشتغل بضمير السابق.
أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم، فكيف ينصرون غيرهم؟!
فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:
1- أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2- أنهم مخلوقون من العدم، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداءً ودوامًا.
3- أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: {لا يستطيعون} أبلغ من قوله: "لا ينصرونهم"،
لأنه لو قال: "لا ينصرونهم"، فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون،
لكن لما قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} كان أبلغ لظهور عجزهم.
4- أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} الآية [فاطر: 13].
الآية الثالثة قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ}.
يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، و{من دونه}: أي: سوى الله.
قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، {ما}: نافية، {من} حرف جر زائد لفظًا،
وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر،
لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة {ما يملكون} خبر المبتدأ الذي هو {الذين}.
وقوله: {من قطمير}، القطمير: سلب نواة التمرة.
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء.
القطمير:
وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.
الفتيل:
وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير:
وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير،
فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملًا؟
أجيب /
إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقيًا، فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلًا إحراقه للنهي عن إضاعة المال.
قوله: {إن تدعوهم}، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: {لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ} جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت، لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42]
فإذا كانت كذلك، فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله؟! بل هذا سفه، قال تعالى:
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} هو كقوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6].
فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون، فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيزًا والمسيح.
وإن كانوا أحجارًا وأشجارًا ونحوها، فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها، فتكفر بشرك من يشرك بها،
ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]،
وما ثبت في "الصحيحين" عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله) ، فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار، فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت.
قوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]،
هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكًا عند من خاطبه به،
فيقول: ولا ينبئك مثل خبير،
ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله، لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبره خبر صدق،
لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
والخبير: العالم ببواطن الأمور.
( مسألة: )
هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟
اختلف في ذلك على قولين:
_القول الأول:
أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين زيارة القبور: (السلام عليكم) دعاء لا يقصد به المخاطبة،
ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم: بأن الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام ،
وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه، فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام، فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعونهم، فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعون،
لأن هذا كفر بالقرآن، فتبين هذا أنه لا تعارض بين قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ، وبين هذه الآية.
وأما قوله: {ولو سمعوا}، فمعناه، لو سمعوا فرضًا ما استجابوا لكم، لأنهم لا يستطيعون.
_القول الثاني:
أن الأموات يسمعون.
واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة.
وبما ثبت في "الصحيح" من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم.
والجواب عن هذين الدليلين:
أما الأول، فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته في التشهد، وهو لا يسمعهم قطعًا.
أما الثاني، فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن، وعلى كل، فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
وفي الصحيح، عن أنسٍ قال: شج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال:
(كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟)،
فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .
قوله: "وفي الصحيح"، سبق الكلام على مثل هذا التعبير.
قوله: "أحد"، جبل معروف شمالي المدينة،
ولا يقال: المنورة، لأن كل بلد دخله الإسلام
فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفًا عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل:
المدنية النبوية لحاجة تمييزها، فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
كما أشار الله إلى ذلك بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]،
وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.
وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصرٍ ما دمنا على هذه الحال، إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعًا.
قوله: "شج":
الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
قوله: "وكسرت رباعيته":
السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين. قوله فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قوله (يُفلح) من الفلاح وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
قوله: "فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}":
أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
و{شيء}: نكرة في سياق النفي، فتعم.
قوله: {الأمر}:
أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له فيهم شيء.
ففي الآية خطاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله - سبحانه - في كلمة واحدة: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟)، فإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء، كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء، فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه، لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فكيف يملك لغيره؟
ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه.
فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلاحهم، قيل له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل ويقول:
(والله، لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي على أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) ،
فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان :
لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قومًا كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟!
وما دام الإنسان لم يمت، فكل شيء ممكن، كما أن المسلم - نسأل الله الحماية - قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.
فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصيًا.
قوله: "فنزلت"، الفاء للسببية، وعليه، فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام:
(كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟).
وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول - إذا رفع رأسه من الركون في الركعة الأخيرة من الفجر - :
(اللهم العن فلانًا وفلانًا) بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، "ربنا ولك الحمد"،
فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}
قوله: "وفيه"، أي الصحيح.
قوله: (إذا رفع رأسه من الركون في الركعة الأخيرة من الفجر)، قيد مكان الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.
قوله: (يقول: اللهم العن فلانًا وفلانًا)
اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.
و"فلانًا وفلانًا": بينه من الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: (بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
قوله: (فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ})، هنا قال: "فأنزل"، وفي الحديث السابق قال: "فنزلت"، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هؤلاء، وقوله: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟)، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم، فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية، لان القلوب بيد الله - سبحانه وتعالى - ولو أن الأمر كان على ظن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة، لم يبق إلا العذاب.
ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، ولله - سبحانه - يمن على من يشاء من عباده.
وليس بعيدًا من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفًا بالعداوة لما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيدًا، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم، فإذا هو في آخر رمق، فقالوا:
ما جاء بك يا فلان؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فأخبروا عني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فأخبروه،
فقال: (هو من أهل الجنة)، فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة، فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمة، ويضل من يشاء لحكمة، فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله - عز وجل - من أي إنسان.
وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
حين أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فقال: (يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا.
يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئًا يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا. ويا فاطمة بنت محمد إسليني من مالي ما شئت لا أغني عنكِ من الله شيئًا.
قوله: "قام"، أي: خطيبًا.
قوله: "أنزل عليه"، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: {وأنذر عشيرتك} [الشعراء: 214].
قوله: {أنذر}، أي: حذر وخوف،
والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.
قوله: {عشيرتك}، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.
قوله: {الأقربين}، أي: الأقرب فالأقرب، فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخواته، ثم أعمامه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار،
لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين.
وقوله: (حين أنزل عليه) يفيد أنه لم يتأخر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل قام، فقال: (يا معشر قريش!)، أي:
يا جماعة قريش.
وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: (أو كلمة نحوها)، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه فـ"أو": للشك والتردد.
قوله: (اشتروا أنفسكم)، أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
وفي قوله: (اشتروا أنفسكم) من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر، لأن المشتري يكون راغبًا.
قوله: (لا أغني عنكم من الله شيئًا)، هذا هو الشاهد،
أي: لا أدفع أو لا أنفع،
أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم، لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك، فقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن: 21، 22].
قوله: "شيئًا"، نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء.
قوله: (يا عباس بن عبد المطلب)، هو عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبد المطلب جد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعباس، بالضم،
لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافًا ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.
فإن قيل: كيف يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم :
عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله - عز وجل ـ؟
فالجواب/ إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
فلو فرض أن لك أبًا يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى، فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقرارًا، ولكنه خبر عن أمر واقع، كما لو قلت: كفر فلان، نافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجودًا غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: (لا أغني عنك من الله شيئًا)، أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغني عن أحد شيئًا حتى عن أبيه وأمه.
قوله: (يا صفية عمة رسول الله!)، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب.
قوله: (يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت)، أي: اطلبي من مالي ما شئت، فلن أمنعك لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: (لا أغني عنك من الله شيئًا).
فهذا كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته،
فما بالك بمن هم أبعد؟! فعدم إغنائه عنهم شيئًا من باب أولى، فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق، لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق، إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الإيمان به واتباعه.
أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه، فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن النجاة من عذاب الله.
ففي الحديث امتثال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمر ربه في قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]،
فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، فدعا وعم وخصص، وبيَّن أنه لا ينجي أحدًا من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.
وإذا كان القرب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئًا، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم
لأن جاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينتفع به إلا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم
فيه مسائل:
_الأولى:
تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
فيه مسائل:
_ الأولى:
تفسير الآيتين، وهما آيتا الأعراف، وسبق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
_ الثانية:
قصة أحد، يعني: حيث شج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ... الحديث.
_الثالثة:
قنوت سيد المرسلين... إلخ:
أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم، فكيف ينقذون غيرهم؟
وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات، فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله سبحانه في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله، فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟
فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.
_ الرابعة:
أن المدعو عليهم كفار :
تؤخذ من قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفارًا.
وهذه المسألة - أي أن المدعو عليهم كفار - ترمي إلى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق، فقد قطع الله - سبحانه وتعالى - أن يكون له من الأمر شيء
لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفارًا، أليس يملك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو عليهم؟.
نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئًا، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم،
لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفارًا لم يملك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا بالنسبة إليهم.
_ الخامسة:
أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار :
أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: {ليس لك من الأمر شيء}، وإلا، فهم شجوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضًا حرصوا على قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.
_السادسة:
أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}:
أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قطع عنه هذا الشيء، فغيره من باب أولى.
_ السابعة:
قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فتاب عليهم، فآمنوا :
وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته، فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا، لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر رضي الله عنه قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئًا من أمر الله.
_ الثامنة:
القنوت في النوازل:
وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، فإنه ينبغي أن يدعى لهم حتى تنكشف.
وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره ، إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون،
وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر رضي الله عنه ولم يقنت،
ولأنه شهادة، فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.
وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم،
أما ما كان من فعل الله، فإنه يشرع له ما جاءت به السنة،
مثل:
الكسوف، فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا.
وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك، فإنه يقنت اتباعًا للسنة في هذا الأمر.
ثم من الذي يقنت، الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.
وقيل: يقنت كل إمام مسجد.
وقيل: يقنت كل مصل، وهو الصحيح، لعموم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وهذا يتناول قنوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند النوازل.
_التاسعة:
تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم :
وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم،
لكن هل هذا مشروع أو جائز؟
الجواب/
هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة، كانت التسمية أولى،
ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز؟!
لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم : (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) .
(مسألة )
هل الذي نهي عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب/
المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عمومًا، فلا بأس به،
وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة عمومًا، ولفط ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال:
(لأقربن صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) ،
ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم!
أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.
أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار، فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قريش بالهلاك، بل قال:
(اللهم! عليك بهم، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) ، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله عن ظلمه.
فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.
وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: (اللهم أحصهم عددًا، ولا تبق منهم أحدًا) على جواز ذلك!
لأنه وقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ولن الأمر وقع كما دعا، فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.
فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة، فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.
ثم إن خبيبًا دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.
وفيه أيضًا إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: (اللهم! سلط عليه كلبًا من كلابك) ، فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.
_ العاشرة:
لعن المعين في القنوت:
هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه، فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبدًا، فهذا فيه نظر لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهي عن ذلك.
_ الحادية عشرة:
قصته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أنزل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}:
وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشًا، فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
_ الثانية عشرة:
جده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون:
أي: اجتهاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمدًا جن، كيف يجمعنا وينادينًا هذا النداء؟
وقوله: "وكذلك لو يفعله مسلم الآن"، أي: لو أن إنسانًا جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتادًا عند الناس،
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]،
وقال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44]،
فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم أنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.
_ الثالثة عشرة:
قوله للأبعد والأقرب:
(لا أغنى عنك من الله شيئًا)، صدق رحمه الله فيما قال، فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئًا،
تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد، لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلًا للتقليد، يدعون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا على المنكر بأنه لا يعرف حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومقامه عند الله،وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة،
فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له،
لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد،
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]،
ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السلام من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله - سبحانه - على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق، فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
.... ..... ........
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا [الأعراف:191-192].
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [ فاطر:13].
وفي الصحيح عن أنس قال:
"شُج النبي صلي الله وعليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟
فنَزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]
وفيه: "عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلي الله وعليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:
اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد،
فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] الآية.
وفي رواية: "يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنَزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128].
وفيه عن أبي هريرة قال: "قام فينا رسول الله صلي الله وعليه وسلم حين أنزل عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]
قال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلي الله وعليه وسلم ،
لا أغني عنكِ من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئا".
فهذا الباب يريد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله إيضاح بطلان الشرك،
وأنه لا يجوز الشرك بالله مطلقًا مع أي أحد من الناس، وأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده، وأنه لو كان الشرك يجوز لأحد لكان للأنبياء؛
لأنهم أفضل الناس وخير الناس،
ومع هذا الأنبياء لا يجوز أن يعبدوا من دون الله وتصيبهم مصائب وتحل بهم المصائب كما تحل بغيرهم، فوجب على المكلفين إخلاص العبادة لله وحده وأنه سبحانه هو المستحق لأن يعبد دون كل من سواه
كما قال : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]
قال تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]
فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله:
"باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]"
يريد بهذه الترجمة بيان بطلان الشرك من جميع الوجوه، وأن العبادة حق الله وحده لا تصرف لأحد لا للعباد ولا للرؤساء ولا للأنبياء ولا للملائكة ولا لغيرهم، كلهم عبيد لله،
يقول جل وعلا: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]
كلهم عبيده فلا يجوز أن يُعبدوا معه، ولهذا قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف:191-192]
هذه صفات أربع تدل على بطلان عبادتهم من دون الله:
الصفة الاولي:
أنهم لا يخلقون شيئًا عاجزون، الخلاق هو الله وحده.
الصفة الثانية:
أنهم مخلوقون مربوبون مقهورون، وهم يخلقون فهم مخلوقون.
الصفةالثالثة:
أنهم لا يستطيعون لهم نصرًا،
الصفة الرابعة :
لا يستطيعون نصر أنفسهم من أعدائهم إذا أراد الله بهم شيئًا غلبهم أعداؤهم، فهم لا يستطيع نصر أنفسهم ولا نصر غيرهم.
فهذه الصفات الأربعة كلها متوفرة في غير الله .
مخلوق ليس بخالق، لا ينصر نفسه ولا ينصر غيره، فلا يستطيعون نصر من والاهم ولا نصر أنفسهم فبطلت عبادتهم من دون الله، وصاروا بهذا عاجزين لا يصلحون أن يعبدوا من دون الله ولا يُتعلق عليهم.
قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]
القطمير اللفافة التي على النواة كلها ملك لله جل وعلا إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]
فالمدعون من دون الله لا يسمعون دعاءك إما جماد وإلا ميت وإلا غائب بعيد لا يسمعك وإن سمع لم يستجب إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]
لأنه ما بين ميت وغائب وشجر وحجر ونحو ذلك.
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14]
لأنهم عاجزون، لو سمع ما استجاب لك إلا فيما يقدر عليه، وما يقدر عليه لا بأس ليس من الشرك،
إذا كان يقدر تقول له: سلفني كذا، أقرضني كذا، ساعدني في كذا، أو توكله على عمل يستطيع لا بأس،
لكن تدعوه في شيء لا يستطيعه هذا هو الشرك الأكبر،
أو تدعو غائبًا تعتقد أنه يسمع دعاءك وهو غائب بغير واسطة بل لاعتقاد أنه يصلح لهذا وأن هذا السر فيه، كما يظنه بعض الصوفية الهالكين هذا هو الشرك الأكبر.
قال تعالي :
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] لو قدر أنهم سمعوا ما استجابوا؛
لأنهم إما جماد وإما ميت وإما غائب لا يسمع،
أما الحاضر ففيه تفصيل، الحاضر إن كان يسمع ويستطيع فلا بأس،
كما قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] الإسرائيلي استغاث موسى على القبطي، أو تقول لإنسان:
يا فلان أغثني من غلامك الذي تعدي عليه عبده أو من زوجتك أو من كلبك أو من ولدك أو ما أشبه ذلك، أو تستعيذ به في الحرب،
تقول:عندك الثغرة ذي احمى الثغرة وأنا أحمي الثغرة هذه، أو تستعين به في غرس الشجر أو إصلاح السيارة في أشياء يستطيعها لا بأس هذا أمر أجمع المسلمون على جوازه لا حرج فيه، ولا تستقيم أمور الناس إلا بهذا، لكن المقصود من هذا الذي فيه الذم والعيب هو دعاء الغائبين والأموات والعاجزين أو الجمادات هذا هو الشرك الأكبر.
وفي الصحيح عن أنس , أنس بن مالك خادم النبي صلي الله وعليه وسلم صحيح البخاري
قال: شج النبي صلي الله وعليه وسلم يوم أحد، الشجة ما يقع في الرأس يقال له شجة ما يقع في الرأس والوجه يقال له شجة وهو شج يوم أحد،
قال: وكسرت رَباعيته الرباعية الضرس الرابع في الفم وكسرت البيضة على رأسه يوم أحد وأصابه نكبة عظيمة يوم أحد من المشركين فصبروا والحمد لله،
قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]
أصابهم يوم بدر ما أصابهم، والحروب سجال تارة يدال العدو ابتلاء وامتحانًا وتارة ينصر المسلمون وهو الأغلب، فقال عند هذا صلي الله وعليه وسلم لما رأى الدم:
كيف يفلح قوم شجوا نبيهم استبعد فلاحهم مع شدة بغضهم وعداوتهم له صلي الله وعليه وسلم وحربهم له، فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] الآية.
يعني الأمر إلى الله هو الذي يدبر الأمور، وهو الذي قدر يوم أحد وقدر ما حصل من مصائب له الحكمة البالغة، فالأمر إليه ليس إليك يا محمد ولا غيرك.
فدل ذلك على أن الأنبياء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا هذا الشاهد، وأنه لا يصلح أن يدعون من دون الله ما داموا قد يُقتلون قد يصلبون قد يجرحون قد يُغلبون فدل ذلك على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا، وأن العبادة حق الله وحده هذا الشاهد.
وفي الصحيح عن ابن عمر أنه كان النبي صلي الله وعليه وسلم إذا رفع رأسه من الفجر يدعو على جماعة من قريش قبل الفتح يدعو عليهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ويلعنهم؛
لأنهم رؤساء الكفار ذاك الوقت، فقال الله في حقهم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]
يعني:
دعوت أو لم تدع الأمر ماض، أمر الله ماض فيهم، فهداهم الله وأسلموا، أسلم صفوان بن أمية، وأسلم الحارث بن هشام، وأسلم سهيل بن عمرو، وأسلم أبو سفيان وكانوا من كبار الكفرة ومن صناديدهم ومن أئمتهم ثم هداهم الله فأسلموا، الأمر بيد الله جل وعلا،
وهكذا لما نزل قوله تعالى:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]
يخاطب النبي صلي الله وعليه وسلم
قام على الصفا وناداهم:
يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا قبل أن يهاجر، اشتروا أنفسكم من الله بالتوحيد والإيمان لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، عمه صلي الله وعليه وسلم ، عم رسول الله، لا أغني عنكِ من الله شيئًا، (يا صفية) عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئًا،
المعنى:
استقيموا على توحيد الله، استقيموا على طاعة الله، ولا تعتمدوا عليّ لأني رسول الله، لا هذا حق الله فالواجب طاعته واتباع شريعته والرسل عليهم البلاغ، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فمنهم من قُتل كما قتل اليهود جماعة من الأنبياء ويصيبهم الجراح وتصيبهم الأمراض، أيوب وهو نبي الله مكث في المرض مدة طويلة، ونبينا أصابه ما أصابه يوم أحد عليه الصلاة والسلام، فالأنبياء يصيبهم ما يصيب الناس، يبتلون وتكون لهم العاقبة الحميدة أمره الله أن يبلغ قريشًا أنه لا يملك لهم من الله شيئًا كونه قريباً لهم كونه منهم كونه من قريش لا يغني عنهم من الله شيئا حتى يسلموا ويوحدوا كون العباس عمه وصفية عمته وفاطمة بنته ما يغني عنهم من الله شيئًا حتى يسلموا حتى ينقادوا لشرع الله،
فالشاهد من هذه الترجمة كلها ؟
بيان أن العبادة حق الله وحده، وأنها لا تصلح لأحد من الناس لا للأنبياء ولا لغيرهم، بل هي حق الله يجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده في دعائهم وصلاتهم وصومهم وزكاتهم وصدقاتهم وغير ذلك، عليه الاعتماد سبحانه وهو المستحق لأن يعبد
كما قال : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]
قال تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106].
الأسئلة:
س/في بعض النسخ: أبو هريرة يقضول: قام فينا رسول الله ﷺ حين أنزل عليه؟
ج/يعني في الصحابة وإلا هو أسلم متأخرًا يعني يروي عن الصحابة ؛
لأن أكثر رواياته عن الصحابة.
مداخلة: حديث: لا نذر في غضب معي تخريجه. بسم الله الرحمن الرحيم قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث قال حدثنا محمد بن الزبير قال حدثني أبي أن رجلا حدثه أنه سأل عمران بن حصين عن رجل نذر ألا يشهد الصلاة في مسجد، فقال عمران: سمعت رسول الله ﷺ
يقول: لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين، وقد خرجه من طريق عبد الوارث البيهقي رحمه الله تعالى والطيالسي وقال البيهقي هذا منقطع الزبير لم يسمع من عمران، وخرجه الإمام أحمد أيضا
وقال حدثنا عبد الوهاب قال أخبرنا محمد بن الزبير عن أبيه عن رجل عن عمران بن حصين قال ﷺ: لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ومن طريقه أخرجه الحاكم وخالفهم الإمام يحيى بن أبي كثير اليمامي رحمه الله فقال: قال الإمام النسائي أخبرنا علي بن ميمون قال حدثنا معمر بن سليمان عن عبد الله بن بشر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد الحنظلي عن أبيه عن عمران بن حصين قال قال رسول الله ﷺ: لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين قال أبو عبد الرحمن: محمد بن الزبير ضعيف لا يقوم بمثله حجة وقد اختلف عليه في هذا الحديث.
وقال الإمام النسائي أيضا: أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن محمد بن الزبير الحنظلي قال أخبرني أبي أن رجلا حدثه أنه سأل عمران بن حصين عن رجل نذر نذرا لا يشهد الصلاة في قومه فقال عمران: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ولكن هذه الطرق مدارها على محمد بن الزبير وقد قال فيه أبو عبد الرحمن ضعيف لا يقوم بمثله حجة، وقد روى له أبو داود في المراسيل والإمام النسائي، قال فيه يحيى بن معين: ضعيف لا شيء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي في حديثه إنكار،
وقال الإمام البخاري: منكر الحديث، وفيه نظر، وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة.
الشيخ: ثم مع هذا يروي عن رجل مبهم ما باشر السماع مع ضعفه بينه وبينه عمران رجل والرواية التي فيها موصولة بالعنعنة.
مداخلة: فيه إكمال: وهذا النوع الثاني من أنواع النذر المنعقد عند الحنابلة رحمهم الله تعالى.
الشيخ: يكفي هذا.
س/ .. الدعاء لهم بالهداية ..؟
ج/ .. إلا إذا آذوا المسلمين يدعى عليه مثل ما دعا قال: اللهم اهد دوسًا وأت بهم، ودعا لأهل ثقيف أن الله يهديهم لكن إذا آذوا .. إذا آذوا المسلمين يدعى عليهم.
س/ صفية عمة رسول الله ﷺ...؟
ج/ أم الزبير رضي الله عنها.