حكم الغلو في الصالحين؛شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب

حكم الغلو في الصالحين؛شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله


شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب _رحمه الله

 باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين

أما تركهم فهو مجرور عطفًا على المضاف إليه، ولما ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب_ رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، أراد أن يبين السبب في ذلك ليحذر،

 وهو الغلو مطلقًا لاسيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديمًا وحديثًا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.

وقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} .

 قال العلماء: الغلو هو مجاورة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله:

 {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} .


 وكذا قال تعالى في هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} : 

أي: لا تتعدوا ما حدد الله لكم. وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا فيهم العصمة، فاتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام، فغلوا فيه فحطوه من منْزلته حتى جعلوه ولد بغي.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:

 ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام، الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في "الصحاح" و "المسانيد" وغير: ذلك،


وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة.

 وقال أيضًا ابن تيمية _رحمه الله: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام، وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك، بأسباب: 
منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} .

 وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء.


[سبب عبادة الأصنام]

قال: في "الصحيح" عن "ابن عباس في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} .
 قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".

 قوله: في "الصحيح"، أي: "صحيح البخاري".
 وهذا الأثر اختصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله، وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه: (وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد،
 أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، 
وأما سواع فكانت لهذيل، 
وأما يغوث، فكانت لمراد،
 ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، 
وأما يعوق، فكانت لهمدان، 
وأما نسر، فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح ... ) إلى آخره. وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.


وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس:
 أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم:
 لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، 
فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. 

قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، هكذا رواه عمر بن شبه في "أخبار مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي، 

وذكر السهيلي في "التعريف": 
أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل، وكذا سواع وما بعده. فكانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل، فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية.

ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند؟ 
فقد قيل: إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام، أم الشيطان ألهم العرب ذلك. انتهى 

وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة، ثم ائت سيف جدة، تجد بها أصناما معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تُجَبْ. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفا عليها الرمل، فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة، وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب.


وعمرو بن ربيعة: هو عمرو بن لحي، قاله الحافظ.
 قلت: وهو سيد خزاعة، 
وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم عليه السلام. 
وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك، كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون:
 "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟! 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي". إسناده حسن.

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب" .

قوله: أن انصبوا. بكسر الصاد المهملة.

قوله: أنصابًا جمع نصب، وأصله ما نصب كغرض ونحوه، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم.

قوله: حتى إذا هلك أولئك:
 أي: الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة، وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها.


قوله: ونسي العلم :
أي: زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها، وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك، وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك.

قوله: عبدت. تقدم أنه دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. 

وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين، وهو رجاء شفاعتهم عند الله، وكذلك هو السبب في عبادة صورهم، وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين.

وقد بين الله ذلك في القرآن بيانًا شافيًا، وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله.


قال: وقال ابن القيم_رحمه الله : قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم.


قوله: وقال ابن القيم :
هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام، وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم. 
قال الحافظ السخاوي في حقه: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.


قوله: قال غير واحد من السلف إلى آخره :
الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ، وقد روي عن غير واحد من السلف معنى ذلك، منهم أبو جعفر الباقر وغيره، وتقدم ما يدل على ذلك.


قوله: ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم :
أي: طال عليهم الزمان، ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم، فعبدوهم، فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم، 

كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود، ونحو ذلك. وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم، 
كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور، ونحوهم، وهو أصل عبادة الأصنام، فإنهم عظموا الأموات تعظيمًا مبتدعًا، فصوروا صورهم، وتبركوا بها، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته، 
وهذا أول شرك حدث في الأرض، 

وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان، فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم،

 وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد، فاعتادوها لذلك.

 فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به.

قال ابن القيم_ رحمه الله : وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا يعكف عليه، وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم، ويقبل ويحج إليه، ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم، نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ومنسكًا، 

ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد لله، وألا يعبد إلا الله، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أنّ مَنْ نَهى عن ذلك، 

فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى:
 {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . 

وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} .

قلت: وفي القصة فوائد نبه الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله على بعضها.

_منها:
 أن من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله، وتقليبه القلوب العجب.

_ومنها:
 معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين.

_ومنها
: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء.

_ومنها: 
معرفة سبب قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تنكرها.

_ومنها: 
أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئًا أرادوا به خيرًا فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره.

_ومنها: 
معرفة جبلة الإنسان في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.

_ومنها:
 أن فيها شاهدًا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر، وأنها أحب إلى إبليس من المعصية،
 لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.

_ومنها: 
معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.

_ومنها: 
معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.

_ومنها: 
مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح.

_ومنها:
 معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.

_ومنها:
 معرفه عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.

_ومنها: 
وهي أعجب العجب- قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال.

_ومنها: 
التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.

_ومنها: 
ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك

_ومنها: 
التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.

_ومنها: 
أن سبب فقد العلم موت العلماء. انتهى بمعناه.

_ومنها:
 شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة، وأن ضرورتهم إليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب.

_ومنها:
 الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله، لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك.

_ومنها: 
مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام.


[النهي عن الإطراء ومجاوزة الحد في المدح]

قال: وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"  أخرجاه.


قوله عن عمر :
هو ابن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرًا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبد الله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب

القرشي العدوي، أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما، ولي الخلافة عشر سنين ونصفًا، فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين.

قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" . الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، قاله أبو السعادات. وقال غيره:

لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء، أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي.


قوله: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) :
 أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى، فادعوا فيه الربوبية،
 وإنما أنا عبد لله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابًا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضمًا لجنابه، وغضًا من قدره، فرفعوه فوق منْزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبًا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب.


وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب "الاستغاثة" عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفًا. وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
 وحكى عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي، 
وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول


في قول الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}:
 إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبَّح بكرة وأصيلاً ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودًا.

قلت: وقال البوصيري:
 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم الروح والقلم.

فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. 

ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، 
لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدًا رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.

ويصدق هذه المحبة أمران:

_أحدهما: 
تجريد التوحيد:
 فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت.
 قال: "أجعلتني لله ندًّا؟
 بل ما شاء الله وحده" . 
ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك. 
ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدًا أو عيدًا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره النبي بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.

_الثاني:
 تجريد متابعته:
 وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه، كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب، الذي من جوده الدنيا والآخرة، الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائنًا من كان، لا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا لجبريل عليه السلام ولا غيرهما. فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه.


وأما التعظيم باللسان:
 فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية.


وأما التعظيم بالجوارح:
 فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه.


وبالجملة فالتعظيم النافع :
هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدًا وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان.


[النهي عن التنطع في الدين]

وقال شيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله: 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" .

هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف، وذكره أيضًا غير معزو. 

والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس، وهذا لفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 "غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى. 
فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" . وهذا إسناد صحيح. وعوف، هو الأعرابي ثقة مشهور.


قوله: إياكم والغلو.. إلى آخره :
 قل شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله: 
هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم،

 أي: هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك.

قال: ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون قالها ثلاثا" .


 قوله: "هلك المتنطعون": 
قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام، الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.

وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم; مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً.

وقال غيره: هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وكل هذه الأقوال صحيحة،

 فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون، والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون، والغالون في عباداتهم متنطعون،

قال أبو السعادات وبالجملة فالتنطع: التعمق في قول أو فعل 

وقال النووي: فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.


قوله: (قالها ثلاثًا) :
 أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التحذير والتعليم، فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، فما ترك شيئًا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به، وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها، فغلوا وتنطعوا فهلكوا، ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلموا وسعدوا، 
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 

.......   ........

كتاب القول المفيد في شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب _رحمه الله
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

قوله‏:‏ ‏"‏سبب كفر بني آدم‏"‏:
 السبب في اللغة‏:‏ ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع‏}‏
 ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏، أي‏:‏ بشيء يوصله إلى السماء‏.‏

ومنه أيضًا سمي الحبل سببًا، لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر‏.‏


وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول:
 فهو الذي يلزم من جوده الوجود ومن عدمه العدم‏.‏

أي‏:‏ إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عُدِمَ المسبب، إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏بني آدم‏"‏:
 يشمل الرجال والنساء، لأنه
 إذا قيل‏:‏ بنو فلان، وهم قبيلة، شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل‏:‏ بنو فلان، أي رجل معين، فالمراد بهم الذكور‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏وتركهم‏"‏:
 يعني‏:‏ وسبب تركهم‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏دينهم‏"‏ :
مفعول ترك، لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، 
و‏"‏دينهم‏"‏ يكون مفعولًا به‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏هو الغلو‏":
، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو‏:‏ خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب‏.‏

والغلو‏:‏ هو مجاوزة الحد في الثناء مدحًا أو قدحًا‏.‏

والقدح‏:‏ يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرًا

والغلو هنا‏:‏ مجاوزة الحد في الثناء مدحًا‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏الصالحين‏"‏:
 الصالح‏:‏ هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله‏:‏ ‏
"‏أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين‏"‏،
 وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحًا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع‏.‏

وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ 
‏(‏لولا أنا‏:‏ لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏ ،يعني‏:‏ عمه أبا طالب‏.‏


وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏

قوله‏:‏ ‏"‏وقول الله عز وجل "‏:
يعني‏:‏ وباب قول الله- عز وجل .‏


قوله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ :
نداء، وهم اليهود والنصارى، 
والكتاب‏:‏ التوراة لليهود والإنجيل للنصارى‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏لا تغلو في دينكم‏}‏:
 أي‏:‏ لا تتجاوزوا الحد مدحًا أو قدحًا، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عمومًا، فإنهم غلوا في عيسى بن مريم عليه السلام مدحًا وقدحًا،
 حيث قال النصارى‏:‏ إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة‏.‏


واليهود غلوا فيه قدحًا:
 وقالوا‏:‏ إنه أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله‏؟‏ 
فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط وتفريط‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏ :
وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه‏:‏ إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ‏}‏، هذه صيغة حصر، وطريقه ‏{‏إنما‏}‏، فيكون المعنى‏:‏
 ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله‏.‏


وفي قوله‏:‏ ‏{‏رسول الله‏}‏ إبطال لقول اليهود‏:‏
 إنه كذاب، ولقول النصارى‏:‏ إنه إله‏.‏


وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكلمته‏}‏ إبطال لقول اليهود‏:‏ إنه ابن زنا‏.‏


‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم‏}‏‏:‏ 
أن قال له كن فكان‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏وروح منه‏}‏:
 أي‏:‏ إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بين آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إلى تشريفًا وتكريمًا، 
كما في قوله تعالى في آدم‏:‏ ‏{‏ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏، فهذا للتشريف والتكريم‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏:
 الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ‏}‏:
 أي‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ‏}‏ :
 ‏{‏خيرًا‏}‏‏:‏ خبر ليكن المحذوفة، 
أي‏:‏ انتهوا يكن خيرًا لكم‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ‏}‏ :
أي‏:‏ تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فهو من جملة المملوكين المربوبين، 
فكيف يكون إلهًا مع الله أو ولدًا لله‏؟‏

 ‏(‏تنبيه‏)‏‏:‏

لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، 
ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً‏}‏:
 أي‏:‏ كفى الله تعالى أن يكون حفيظًا على عباده، مدبرًا لأحوالهم، عالمًا بأعمالهم‏.‏


والشاهد من هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ‏}‏ :
 فنهى عن الغلو في الدين،
 لأنه يتضمن مفاسد كثيرة،
 منها‏:‏

1- أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحًا، وتحتها إن كان قدحًا‏.‏

2- أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو‏.‏

3- أنه يصد عن تعظيم الله - سبحانه وتعالى 
لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه، تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق‏.‏

4- أن المغلو فيه إن كان موجودًا، فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحًا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا إن كانت قدحًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏في دينكم‏}‏، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا‏:‏ العمل‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تجعلوا عبادتكم غلوًا في المخلوقين وغيرهم‏.‏

وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات‏؟‏

الجواب‏/‏ نعم، يدخل الغلو في العبادات،
 مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن ذلك ، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلًا للوارد أو غير هذا، فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه‏.‏


وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى‏:‏ 
‏{‏وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏وفي الصحيح‏"‏:
أي‏:‏ في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏، أي‏:‏ قال بعضهم لبعض‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏لا تذرن‏}‏:
 أي‏:‏ لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون‏.‏


قوله‏:‏ ‏{‏آلهتكم‏}‏، هل المراد‏:‏ لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحدًا من إهانتها‏؟‏

الجواب‏/ 
المعنيان، أي‏:‏ انتصروا لألهتكم، ولا تمكنوا أحدًا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضًا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولا سواعًا‏}‏، لا‏:‏ زائدة للتوكيد، مثلها في 
قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا الضالين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر، فهما دون مرتبة من سبقهما‏.‏


قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها، 
لأن قوله‏:‏ ‏{‏آلهتكم‏}‏ عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم، فخصوها بالذكر‏.‏

والآلهة‏:‏ جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله، فهو حق، وإن كان غير الله، فهو باطل‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية‏:‏ ‏"‏هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح‏"‏‏.‏


قال‏:‏ ‏"‏هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم‏:‏ أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم، عبدت‏"‏ ‏‏ ‏.‏

وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال‏:‏ ‏(‏هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح‏)‏، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 21-23‏]‏، ظاهر الآية الكريمة‏:‏
 أن قوم نوح كانوا يعبدونها ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا
 وقالوا‏:‏ ‏{‏لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ‏}‏، وهذا ‏(‏أعني‏:‏ القول بأنهم قبل نوح‏)‏ قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن‏.‏

ويحتمل - وهو بعيد - أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس‏.‏

فالمهم أن تفسير الآية أن يقال‏:‏ هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالًا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم‏.‏

قوله ‏"‏أوحى الشيطان‏"‏، أي‏:‏ وحي وسوسة، وليس وحي إلهام‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏أن انصبوا إلى مجالسهم‏"‏:
 الأنصاب‏:‏ جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏سموها بأسمائهم‏"‏:
 أي‏:‏ ضعوا أنصابًا في مجالسهم، وقولوا‏:‏ هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، لأجل إذا رأيتموهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم‏:‏ ‏{‏هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏‏.‏

وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء، فهذه عبادة قاصرة أو معدومة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت من دون الله‏)‏، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الآمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين، 
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏

هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، 
وهل تفسيره حجة‏؟‏

الجواب‏/
‏ يرجع في التفسير أولًا إلى القرآن، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، 
مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏ تفسيرها‏:‏ ‏{‏نار حامية‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 10، 11‏]‏، فإن لم نجد في القرآن، فإلى سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن لم نجد، فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك، لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم،
ط حتى قال بعض العلماء‏:‏ إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليسس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس، إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد عرفت القول الراجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ الأمد‏"‏: الزمن‏.‏

وهذا كتفسير ابن عباس، إلا أن ابن عباس يقول‏:‏ ‏"‏إنهم جعلوا الأنصاب في مجالسهم‏"‏، 
وهنا يقول‏:‏ ‏"‏عكفوا على قبورهم‏"‏، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم، فتكون هي محل القبور‏.‏

والشاهد قوله‏:‏ ‏"‏ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم‏"‏:
فسبب العبادة إذًا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم‏.‏



وعن عمر، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا‏:‏ عبدالله ورسوله‏)‏‏.‏ أخرجاه ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏لا تطروني‏"‏، الإطراء‏:‏ المبالغة في المدح‏.‏

وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه،
وهو قوله‏:‏ ‏"‏كما أطرت النصارى ابن مريم‏"‏، حيث جعلوه إلهًا أو ابنًا لله، وبهذا يوحي قول البوصيري‏:‏

دع ما ادعته النصارى في نبيهم 
        واحكم ما شئت مدحًا فيه واحتكم

أي‏:‏ دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه‏.‏

ويحتمل أن النهي عام، فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى بن مريم وما دونه، 
ويكون قوله‏:‏ ‏"‏كما أطرت‏"‏ لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق، 
لأن إطراء النصارى عيسى بن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث جعوله ابنًا لله وثالث ثلاثة، 
والدليل على أن المراد هذا قوله‏:‏ ‏(‏إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله‏)‏‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏إنما أنا عبد‏"‏:
 أي‏:‏ ليس لي حق في الربوبية، ولا مما يختص به الله - عز وجل - أبدًا‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏ فقولوا عبدالله ورسوله‏"‏:
هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله،
 قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏، 
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏، 
فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادًا لله - عز وجل - أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته‏:‏

لا تدعني إلا بيا عبادها 
           فإنه أشرف أسمائي

أي‏:‏ أنت إذا أردت أن تكلمني قل‏:‏ يا عبد فلانة، لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل‏.‏

فمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة‏:‏ 
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فهذا أفضل وصف اختاره النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه‏.‏

واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، 
وهي‏:‏

_الأول‏:‏ حق لله لا يشرك فيه غيره‏:
‏ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

_الثاني‏:‏ 
حق خاص للرسل:
 وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون‏.‏

_الثالث‏:‏ 
حق مشترك:
 وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة،
 وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏، فهذا حق مشترك، ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ هذا خاص بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏{‏وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 9‏]‏ هذا خاص بالله - سبحانه وتعالى -.‏

والذين يغلون في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجعلون حق الله له، 
فيقولون‏:‏ ‏{‏وتسبحوه‏}‏ :
أي‏:‏ الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك، لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان، فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله‏.‏

ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏
 ‏(‏كما أطرت النصارى عيسى بن مريم‏)‏:
لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو الواقع الآن، فيوجد عند قبره في المدينة من يسأله، فيقول‏:‏ يا رسول الله‏!‏ المدد، المدد، يا رسول الله‏!‏ أغثنا، يا رسول الله‏!‏ بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلًا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليًا ظهره البيت مستقبلًا المدينة، لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله‏.‏

ويقول بعض المغالين‏:‏ الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها، فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة‏.‏

فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة ولا يرضاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنا ولا لنفسه‏.‏

وصحيح أن جسده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل، ولكن كونه يقول‏:‏ إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏إياكم‏"‏، للتحذير‏.‏


وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو‏)‏

قوله‏:‏ ‏"‏والغلو‏"‏، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطرابًا كثيرًا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفًا‏:‏
 أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر،
 أي‏:‏ أحذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك، أي‏:‏ وأحذر الغلو‏.‏


والغلو كما سبق‏:‏
 هو مجاوزة الحد مدحًا أو ذمًا، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك، أيضًا، فيقال‏:‏ مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل،
 لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غداة العقبة وهو على ناقته‏:‏ ‏
(‏القط لي حصى‏.‏ فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول‏:‏ أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين‏)‏‏.‏ هذا لفظ ابن ماجه‏.‏

والغلو‏:‏ فاعل أهلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏من كان قبلكم‏"‏، مفعول مقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏فإنما‏"‏، أداة حصر، والحصر‏:‏ إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏أهلك‏"‏:
يحتمل معنيين‏:‏

_الأول‏:‏
 أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعًا مباشرة من الغلو، لأن مجرد الغلو هلاك‏.‏

_الثاني‏:‏
 أنه هلاك الأجسام، وعليه يكون الغلو سببًا للهلاك،
 أي‏:‏ إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله‏.‏


وهل الحصر في قوله‏:‏ ‏"‏فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو‏"‏ حقيقي أو إضافي‏؟‏

الجواب‏/
إن قيل‏:‏ إنه حقيقي: 
حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‏)‏ ، فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا‏:‏ إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة، صار بين الحديثين تناقض‏.‏

وإن قيل‏:‏ إن الحصر إضافي:
 أي‏:‏ باعتبار عمل معين، فإنه لا يحصل تناقض بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم تناقض، وحينئذ يكون الحصر إضافيًا، 
فيقال‏:‏ أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف‏.‏

وفي هذا الحديث يحذر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو
 سبب للهلاك:
 لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة، فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين‏:‏

_الوجه الأول‏:
 تحذيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتحذير نهي وزيادة‏.‏

_الوجه الثاني‏:‏ 
أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سببًا للهلاك كان محرمًا‏.‏


 أقسام الناس في العبادة‏:‏

والناس في العبادة طرفان ووسط، فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط‏.‏

فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلًا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب، فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطًا بين هذا وهذا‏.‏


والغلو له أقسام كثيرة:

_ منها‏:‏ الغلو في العقيدة
_ومنها‏:‏ الغلو في العبادة
_ ومنها‏:‏ الغلو في المعاملة 
_ومنها‏:‏ الغلو في العادات‏.

والأمثلة عليها كما يلي‏:‏

_ أما الغلو في العقيدة:
 فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعًا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين‏:‏

1_إما التمثيل، أو التعطيل‏.‏

2_إما أنهم مثلوا الله بخلقه:
 فقالوا‏:‏ هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفى الله عن نفسه، أو عطلوه 
وقالوا‏:‏ هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه، فنفوا ما أثبته الله لنفسه‏.‏

لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك، فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه، فأخذوا بظواهر اللفظ، 

وقالوا‏:‏ ليس لنا أن نزيد على ذلك، فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم وغيرهم في الدين، صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدًا، حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة‏.‏

وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط‏.‏

_ أما الغلو في العبادات :
 فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلال بشيء
 منها كفر وخروج عن الإسلام:
كغلو الخوارج والمعتزلة:
حيث قالوا‏:‏ إن من فعل كبيرة من الكبائر، فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، 

وكذا المعتزلة:
 حيث قالوا‏:‏ من فعل كبيرة، فهو بمنزلة بين المنزلتين‏:‏ الإيمان والكفر، فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة،
 فقالوا‏:‏ إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئًا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم 
لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون‏:‏ 
إن إبليس مؤمن لأنه مقر،
 وإذا قيل‏:‏ إن الله كفره،
 قالوا‏:‏ إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب‏.‏

وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر‏.‏

_وأما الغلو في المعاملات :
فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية،
 وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا‏:‏ من اشتغل بالدنيا، فهو غير مريد للآخرة،
 وقالوا‏:‏ لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك‏.‏

وقابل هذا التشدد تساهل من قال‏:‏ يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد، حتى الربا والغش وغير ذلك‏.‏

فهؤلاء  والعياذ بالله  متطرفون بالتساهل، فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسًا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف‏.‏

والتوسط أن يقال‏:
‏ تحل المعاملات وفق ما جاست به النصوص، 
‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏، فليس كل شيء حرامًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرهم‏.‏

وأما الغلو في العادات،:
فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة، فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، 

أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى، فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدًا تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها نقول‏:‏ هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة‏.‏

وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادة التي قد تخل بالشرف أو الدين، فلا يتحول إلى العادة الجديدة‏.‏


ولمسلم عن ابن مسعود، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏هلك المتنطعون‏)‏‏.‏ قالها ثلاثًا

قوله‏:‏ ‏"‏المتنطعون‏"‏:
 المتنطع‏:‏ هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال، فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة، فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال‏.‏

والتنطع بالأفعال
 كذلك أيضًا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال‏:‏ ‏"‏هلك المتنطعون‏"‏‏.‏

والتنطع أيضًا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها،
 فهو أيضًا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألون عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصًا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم‏.‏

فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو،
 وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، 
فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط، فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط‏.‏


فيه مسائل‏:‏

_ الأولى‏:‏ 
أن من فهم هذا الباب - أي‏:‏ بما مر من تفسير الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وقال لا تذرن آلهتكم‏}‏ وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام‏.‏

وهذا حق، فإن الإسلام المبني على التوحيد خالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم، فلا تجد بلدًا مسلمًا إلا وفيه غلو في قبور الصالحين،
 وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهمًا:
 مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، 
فأهل العراق يقولون‏:‏ هو عندنا،
 وأهل الشام يقولون‏:‏ عندنا، وأهل مصر يقولون‏:‏ عندنا،
 وبعضهم يقول‏:‏ هو في المغرب، فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالًا، وهذا كله ليس بصحيح، 

فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب‏:‏ تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين‏.‏

وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله  أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص‏.‏



_ الثانية‏:‏
 معرفة أو لشرك حدث في الأرض، وجه ذلك‏:‏ 
أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقوامًا صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله، ففيه الحذر من الغلو في الصالحين‏.‏


_الثالثة‏:‏ 
معرفة أو لشيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، 
وقوله‏:‏ ‏"‏مع معرفة أن الله أرسلهم‏"‏،
 قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏،
 أي‏:‏ كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم‏.‏


_ الرابعة‏:‏ قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏قبول البدع‏"‏ :
 أي‏:‏ أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها، لأنها الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له، 
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏، فالفطر السليمة لا تقبل تشريعًا إلا ممن يملك ذلك‏.‏


_ الخامسة‏:‏
 أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد الشيخ محمد بن عبدالوهاب _رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين‏:‏

الأول‏:‏
 محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم‏.‏

الثاني‏:‏ 
أن أهل العلم والدين أرادوا بذلك خيرًا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك،
 ويؤخذ منه‏:‏ أن من أراد تقوية دينه ببدعة، فإن ضررها أكثر من نفعها‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أولئك الذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم
 ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرًا، لكن أرادوا خيرًا بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها،
 لأنها تعطي الإنسان نشاطًا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام‏.‏

ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها، فلا تزيد الإنسان إلا ضلالًا، 
لأن النبي  صلى الله عليه وسلم 
 يقول‏:‏ ‏(‏كل بدعة ضلالة‏)‏ ‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن للاحتفال بمولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصلًا من السنة، 
وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن صوم يوم الاثنين، 
فقال‏:‏ ‏(‏ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه‏)‏ ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومه مع الخميس
 ويقول‏:‏ ‏(‏إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم‏)‏

فالجواب على ذلك من وجوه‏:‏

_الأول‏:‏
 أن الصوم ليس احتفالًا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد، فاحتفالهم على العكس من ذلك‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان، فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم‏.‏

_الثاني‏:
‏ أنه على فرض أن يكون هذا أصلًا، فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد، لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعًا لبينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما بقوله، أو فعله، أو إقراره‏.‏

_الثالث‏:‏
 أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك، فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر‏.‏

_الرابع‏:‏ 
أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة، لأنه لم يكن معروفًا على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه‏.‏


مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال‏:‏

فائدة‏:‏ 
كل شيء يتخذ عيدًا يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعًا، فهو من البدع، 
والدليل على ذلك‏:‏
 أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئًا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية،
 وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة‏:‏ عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة‏.‏

وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما، قال‏:‏ 
‏(‏إن الله أبدلكما بخير منهما‏:‏ عيد الأضحى وعيد الفطر‏)‏ ‏‏، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم‏.‏

_ السادسة‏:‏
 تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه‏.‏


_ السابعة‏:‏ 
جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، 
والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كون آدميًا بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس، فإن الله يقول‏:‏
 ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏جبلة‏"‏ على وزن فعلة :
وهو ما يجبل المرء عليه، أي‏:‏ يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها‏.‏

فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين،
 فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، 
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏

أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يرتقي عن هذا، 
قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4-6‏]‏،
 فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدى، فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية، كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم‏.‏

وكذلك أهل العلم، كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليًا، ثم كلابيًا، ثم سنيًا، وابن القيم كان صوفيًا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية، فهداه الله على يده حتى كان ربانيًا‏.‏


_ الثامنة‏:
‏ فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، 
قال أهل العلم‏:‏ إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، 
وقالوا‏:‏ إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئًا فشيئًا، حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏
(‏كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار‏)‏ ‏.‏

وقالوا أيضًا‏:‏
 ‏"‏إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية‏"‏‏.‏

والمعاصي كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم 
تتراكم على القلب، فتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب، صقل قلبه وبيض ، وإلا، فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلمًا‏.‏

وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلًا بقوم نزلوا أرضًا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارًا كبيرة، وهكذا المعاصي ، 
فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرًا الشهوة فهي أشد من الشبهة، 
لأن الشبهة أيسر زوالًا على من يسرها الله عليه، إذ إن مصدرها الجهل، وهو يزول بالتعلم‏.‏

أما الشهوة:
 وهي إرادة الإنسان الباطل، 
فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى، 
لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيرًا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهود من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الخلق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، 
وقالوا‏:‏ هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك، فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب، فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إمامًا، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إمامًا، فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه -، ثم عند خلقه‏.‏

والخلاصة‏:
‏ أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم، إن المعاصي بريد الكفر، لأنه لا مانع من تعدد الأسباب‏.‏


_التاسعة‏:
‏ معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، لأن الشيطان 
هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير، لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ولو حسن قصد الفاعل‏"‏:
 أي‏:‏ إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالمًا أنها بدعة ولو حسن قصده
لأنه أقدم على المعصية كم يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة،
 أما لو كان جاهلًا فإنه لا يأثم، 

لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ‏"‏اقتضاء الصراط المستقيم‏"‏، فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، 
ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية‏:‏ ‏(‏لك الأجر مرتين‏)‏ ، لحسن قصده، 
ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع، لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي لم يعد، ‏(‏أصبت السنة‏)‏ ‏.‏

فإن قال‏:‏ إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك‏.‏

أجيب‏/
‏ بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور،
 أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم،
 ولأن هذا لم يكن عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا خلفاؤه الراشدون، 
أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة، فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله، 
لأن عمله شر حابط كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد‏)‏ ‏.‏

وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها، نقول‏:‏ ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به، فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم‏.‏

ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغير من لا يعرفون عن الإسلام شيئًا، فلو ماتوا لا نقول‏:
‏ إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة، فأمرهم إلى الله‏.‏


_العاشرة‏:
‏ معرفة القاعدة الكلية:
وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم 
 لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، 
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏، وقد سبق بيان ذلك‏.‏


_ الحادية عشرة‏:‏ 
مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة‏:‏ هي أنها توصل إلى عبادتهم‏.‏

ومثل ذلك‏:‏ 
ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره، فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر‏.‏


_ الثانية عشرة‏:‏
 معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل‏:‏ هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك‏.‏


_الثالثة عشرة‏:‏ 
معرفة عظم شأن هذه القصة، أي‏:‏ قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله، فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة، فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية‏.‏

_ الرابعة عشرة :
وهي أعجب العجب :‏ قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏وأعجب‏"‏:
أي‏:‏ أكثر عجبًا وأشد، 

والعجب نوعان‏:‏

_الأول‏:‏ بمعنى الاستحسان:
 وهو ما إذا تعلق بمحمود، كقول عائشة في الحديث‏:‏ ‏(‏كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله‏)‏ ‏.‏

_الثاني‏:‏ بمعنى الإنكار :
وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، 
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وكلام الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله
 هنا من باب الإنكار‏.‏

وكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث،
 واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيء حسنًا، 

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏،

 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103، 104‏]‏‏.‏


قوله‏:‏ ‏"‏واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال‏"‏:
 أي‏:‏ من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله، فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المارد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو، فلا نهي فيه، والله أعلم‏.‏


_ الخامسة عشرة‏:
‏ التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، 
أي‏:‏ ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك‏.‏


_ السادسة عشرة‏:
‏ ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، 
أي‏:‏ أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق ‏.‏


_ السابعة عشرة‏:
‏ البيان العظيم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم :‏ 
‏(‏لا تطروني‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، 
معنى الإطراء‏:‏ الغلو في المدح، والمبالغة فيه‏.‏

وهذا الذي نهى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد، حتى جعلوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى‏:‏ المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏"‏بلغ‏"‏، أي‏:‏ أوصل وبين‏.‏


_ الثامنة عشرة‏:
‏ نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم :‏ ‏(‏هلك المتنطعون‏)‏، فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع‏.‏


_ التاسعة عشرة‏:‏ 
التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، 
أي‏:‏ لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل، ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوه أمر ضروري للأمة،
 لأنه إذا فقد العلم، حل الجهل محله، وإذا حل الجهل، فلا تسأل عن حال الناس، فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه‏.‏


_ العشرون‏:‏
 أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء، لم يبق إلى جهال الخلق يفتون بغير علم‏.‏


_ومن أسباب فقده أيضًا‏:‏
 الغفلة والإغراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به‏.‏

ثم إن العلم قد يكون موجودًا وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعملون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به، فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في جوده ضررًا على الأمة،
 لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتًا غير عامل بما علم، ظنوا أن ما عليه الناس حق‏.‏

فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل، فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه‏.‏


الخلاصة للباب‏:‏

بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر،
 وليس هو السبب الوحيد للكفر‏.‏

وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة، فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم، فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه، فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل‏.‏

س/ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد‏؟‏

الجواب‏:/

 الغلو : مجاوزة الحد‏.‏

والتنطع معناه‏:‏ التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو‏.‏

أما الاجتهاد : فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة، فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلًا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها، فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك، فإن هذا من الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا الخلاف هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏


س/ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة‏؟‏

الجواب‏/هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل، فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع‏.‏

وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن‏.‏

والصحيح أيضًا أنها ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت‏.‏

.....     ........
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

وقول الله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:
 وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] 
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت".


وقال ابن القيم_ رحمه الله :
 "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".

وعن عمر  أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال:
 لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله أخرجاه.

قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم:
 إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو

ولمسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله ثلي الله وعليه وسلم قال: هلك المتنطعون - قالها ثلاثا".


 يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله:
 "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين" 

يعني: 
فاحذروا أيها الناس من الغلو الذي هلك به من قبلكم، فالغلو هو تجاوز الحد في المحبة، يقال: غلت القدر إذا ارتفع الماء بسبب النار التي تحتها فالغالي زاد في الحب حتى عبد محبوبه من دون الله،
 قال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]
 يعني لا تجاوزوا الحدود، الزموا الحد الشرعي في المحبة: محبة الأنبياء والصالحين بالتأسي بهم والسير على منهاجهم والعمل بما أمروا به، لا بالغلو فيهم ولا بعبادتهم من دون الله، ولكن محبة الصالحين بسلوك مسلكهم الطيب، ومحبة الأنبياء بامتثال أوامرهم وترك نواهيهم، أما العبادة فحق الله وحده، ليس لأحد أن يصرفها لغيره كائنًا من كان،

 قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]،

 قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]،

 قال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]،

 قال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، والنهي لأهل الكتاب نهي لنا أيضًا من باب أولى، إذا كان أهل الكتاب ينهون عن ذلك فكذلك نحن ننهى عن الغلو في ديننا وهو تجاوز الحد فيما شرعه الله، فالغلو في محبة الأنبياء يفضي إلى عبادتهم من دون الله، والغلو في محبة الصالحين كذلك يفضي إلى عبادتهم في دين الله، والغلو في الأوامر يفضي إلى الزيادة والبدعة.

في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله جل وعلا في سورة نوح: 
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]
 قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم يعني أوقع في قلوبهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم لما أسفوا عليهم وعظم عليهم فراقهم دس عليهم الشيطان هذه الدسيسة قال: حطوا صورهم في مجالسهم كأنهم عندكم تتأسوا بهم، تذكرون أعمالهم كأنكم تشاهدونهم، وهو يريد بهذا أن يصيدهم حتى يقع الشرك، فصوروا وأطاعوا الشيطان، وصوروا صورهم ونصبوها في مجالسهم: هذا ود، وهذا سواع، وهذا إلى آخره، فلما هلكوا ونسخ العلم الذي من أجله حصلت الصور عبدت هذه الأصنام من دون الله.


قال بعض السلف: فلما طال عليهم الأمد عبدوهم من دون الله،
 قال: ما صور أولكم هذه الصور إلا لأنها تفعل كذا، تجيب الداعي، تسمع الداعي، يستغاث بها؛ 
حتى زين لهم الشيطان هذا الباطل فوقعوا في الشرك، 

كما قال ابن القيم رحمه الله: لما ماتوا صوروا تماثيلهم ثم عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

فالواجب الحذر من نصب الصور في المجالس أو في المساجد أو في غير ذلك، الواجب إتلافها مثل ما قال صلي الله وعليه وسلم: لا تدع صورة إلا طمستها
 وقال: هلك المتنطعون يعني المتشدقون الغالون،
 وقال صلي الله وعليخ وسلم: أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون فالواجب الحذر منها وإتلافها وعدم التصوير إلا للضرورة التي لا بدّ منها ويحفظها كالتابعية التي يضطر إلى الصورة لها.


وقال عمر  عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال:
 لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله هكذا 

روى البخاري في الصحيح عن عمر  عن النبي صلى الله وعليه وسلم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم يعني: لا تغلوا في كما غلت النصارى في عيسى، إنما أنا عبد يعني:
 من عباد الله فإياكم والغلو في، فقولوا: عبد الله ورسوله رسول الله، عبد الله، نبي الله، حذر أمته من وقوع الغلو فيه كما وقع فيمن قبله من اليهود والنصارى، فهو عبد الله، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام.


وفي الحديث الصحيح يقول صلي الله وعليه وسلم : إياكم والغلو في الدين، إياكم والغلو في الدين، إياكم والغلو في الدين قالها ثلاثًا، رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما،
والصحابي ابن عباس والمخرج أحمد وجماعة بإسناد صحيح، أن النبي عليه الصلاة والسلام
 قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم، الغلو في الدين 

وقال صلي الله وعليه وسلم :
 هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون يعني المتشددون الغالون فهذا يوجب الحذر من الغلو في العبادات وفي المشايخ وفي كل شيء، الواجب لزوم القصد في كل أمر في المحبة وفي غير ذلك، يلزم القصد وعدم التكلف، فالغالي مبتدع، والمقصر جاف عاص، والواجب الوسط محبة المؤمنين والثناء عليهم بما هم أهله ومعاونتهم في الخير لكن من دون غلو، لا يُغلى فيهم بأن يعبدوا مع الله ولا يجفون بأن يذموا ويعابوا، ولكن يشهد لهم بالخير على حسب أعمالهم الطيبة، ولا يغلى فيهم بل يجب الحذر من الغلو ولو كان أعبد الناس، لا يجوز الغلو حتى في أفضل الخلق وهو محمد صلي الله وعليه وسلم، يجب الإخلاص لله، والعمل بطاعته، والحذر مما نهى عنه، وعدم الاستجابة إلى دعوة عباد الشيطان من الغلو أو التنطع في القول أو تعاطي بعض الأسباب الأخرى من الاعتكاف على القبور والبناء عليها أو لأسباب أخرى، الواجب الحذر من جميع الأسباب التي تجر إلى الشرك، وكل الأسباب التي تجر تسمى تنطعًا وتسمى غلوًا.


الأسئلة:

س/أحد آبائنا علمنا أن نبتدئ الخطاب بكلمة يا سيدي لمن أسدل معروفا أو علم وكذلك أن ينهى بقوله: خادكم فلان ابن فلان فهل هذا من الغلو؟

ج /الأولى في هذا ترك هذا، الأولى ترك هذا لأن النبي لما قيل له أنت سيدنا قال: السيد الله تبارك وتعالى، فخطاب الإنسان بيا سيدي قد يفضي إلى الغلو قد يفضي إلى التعاظم في نفسه تركها أولى، وإلا مثل ما قال صلي الله وعليه وسلم : وليقل سيدي ومولاي للعبد، يقول المملوك لسيده، فترك هذا أحوط، لا يقول عبدي وأمتي، وليقل سيدي ومولاي يعني العبد فيه جوازه للعبد فيه شيء من التسامح يدل على أن الأمر أسهل لكن ينبغي تركه؛
 لأنه لما قيل له وهو أفضل الخلق أنت سيدنا
 قال: السيد الله تبارك وتعالى، قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان كما يأتي في آخر الكتاب إن شاء الل،ه المقصود أن المؤمن يخاطب يا أبا عبد الله يا أبا محمد يا فلان بالعبارات التي تناسبه يا حضرة الوزير، الشيء الذي يناسب ترك سيدي أحوط وأولى.


س/ نهاية الخطاب بقول: خادكم فلان؟
ج/ لا بأس، خادم سهل الخادم يخدم الأمير ويخدم القاضي في تنفيذ الأوامر.


س/تقبيل يد العالم هل هو من الغلو؟
ج/ لا، ولكن تركه أحسن، وإلا قبلوا يد النبي صلي الله وعليه وسلم وقبلوا رجله في بعض الأحيان، لكن تركها أولى كان الهدي مع الصحابة ومع النبي صلي الله وعليه وسلم المصافحة وإذا دعت الحاجة تقبيل الرأس ما بين العينين. يقول أنس : كان أصحاب النبي إذا تقابلوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا.


س/ بالنسبة للذين صوروا صور الصالحين قوم نوح هل في شريعتهم الصورة عندهم غير محرمة؟
ج/ ما أدري عنهم لكن صارت سببا لوقوع الشرك، أما كونها في شريعتهم جائزة الله أعلم، لكن مقتضى ذم الناس لهم أنها غير جائزة؛ لأنه ذمهم على هذا يقتضي أنها ممنوعة في حقهم ولهذا ذموا عليها.


س/ الصلاة في المكان الذي به صورة معلقة أو تلفاز مشغل؟
ج/ عند الحاجة تصح، لكن تركها أولى، لكن إن كان ما هناك حاجة لا يصلي في المحل هذا، أما إذا كانت دعت الحاجة مثل ما رخص عمر في الصلاة في الكنائس عند الحاجة إذا دعت الحاجة إلى محل يصلي فيه لا بأس إن شاء الله، مثل إنسان حضرته الصلاة في محل فيه صورة ولا يمكن الخروج منه أو إنسان مريض في المحل الذي فيه صورة ما له حيلة يعني الشيء الذي تدعو له الضرورة وإلا الأولى والأفضل الخروج عن التشبه بالنصارى واليهود.


س/الذين يعتنقون التلفاز بعضهم يشغلونه ولا يبالون عنه إن كان إنسان في مثل هذه الحالة عنده قرابة معهم، هل يزورهم أم يقاطعهم إن كانوا ما يسمعون نصيحته؟
ج/ التلفاز فيه تفصيل الذي ما يسمع إلا الطيب ولا يرى إلا الطيب فالأمر سهل إن كان عاقل وفاهم وإلا هو وسيلة إلى شر.


س/ الذي يطلقه بدون ما يميز؟
ج/ ينصح ينصح يوجه إلى الخير؛ لأن فيه بعض المشاهدات تضره.


س/ وإذا رفض وعندك علاقة به علاقة رحم هل تزوره أم لا تزوره إلا رفض يسمع نصيحتك؟
ج/ والله تركه أحوط إن كان يشاهد المعاصي يشاهد الشيء المنكر ينبغي النصيحة، إن لم يقبل يستحب الهجر.


س/ المعانقة مع التقبيل أو بدون التقبيل؟
ج/ المعانقة لي الرأس مع الرأس هذه المعانقة، والتقبيل شيء كانت فاطمة إذا دخلت على النبي صلي الله وعليه وسلم قام إليها وقبلها وأخذ بيدها، وكانت إذا دخل عليها أبوها دخلت إليه وقبلته وأخذ بيدها عليه الصلاة والسلام.



س/لكن في مثل هذه الحالة الرجل إذا كان عنده علم والإنسان يقدره ويحترمه؟
ج/الأمر سهل ولكن المصافحة أولى عدم التكلف أولى إلا إذا قدم من السفر كما كان يفعل الصحابة إذا كان قدوم من سفر وعانقه المعانقة لي الرأس مع الرأس أو تقبيل ما بين عينيه لا بأس، أما الحضر فعدم التكلف أولى المصافحة أولى.


س/حكم تقبيل اليد؟
ج/تركها أولى.

س/ ما فعل مع النبي صلي الله وعليه وسلم ؟
ج/قد فعله بعض الناس مع النبي صلي الله وعليه وسلم وبعض الأئمة يشدد فيه، ولكن على كل حال تركه أولى. بعض أهل العلم يسمي السجدة الصغرى لكن تركها أولى، لا ينبغي التشديد ولا ينبغي التساهل، تركه أولى وبس.


س/ هل يجوز للإنسان يقبل قدم والديه؟
ج/ لا، المصافحة تكفي أو تقبيل ما بين عينيه رأسه.


س/ والذي يفعل هذا؟
ج/ تركه أولى، تركه أولى.

تعليقات