حكم عباد الأضرحة ؛شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب
شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب _رحمه الله
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!
أي: عبد القبر أو الرجل الصالح، ولما كان عباد القبور إنما دُهُوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة،
كما قال تعالى: " أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً .." نَوَّعَ الشيخ محمد بن عبدالوهاب _رحمه الله التحذير من الافتتان بالقبور، وأخرجه في أبواب مختلفة، ليكون أوقع في القلب، وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب، فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من
النهي والوعيد ما سَيَمُرُّ بك إن شاء الله، فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة.
قال: في "الصحيح" عن عائشة أن
"أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور.
فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" .
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين:
فتنة القبور وفتنة التماثيل.
قوله: في "الصحيح": أي في "الصحيحين"
قوله: أن أم سلمة: هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية; تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين.
قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) :
كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، كما جاء مبينًا في رواية في "الصحيح".
وفي "الصحيحين" أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كنيسة) : وفي رواية يقال: لها مارية، وهي بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
قوله: (أولئك) : بفتح الكاف وكسرها.
قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح): هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث،
هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا، ففيه التحري في الرواية، وجواز رواية الحديث بالمعنى.
قوله: (بنوا على قبره مسجدًا) :
أي: موضعًا للعبادة، وإن لم يسم مسجدًا كالكنائس والمشاهد.
قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) :
الإشارة بتلك الصور إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة، كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله) : مقتضى هذا تحريم ما ذكر، لا سيما وقد ثبت اللعن عليه.
قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين....) إلى آخره. هذا من كلام شيخ الإسلام، ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنه.
يعني أن الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين، ضل بها كثير من الخلق.
الأولى: فتنة القبور :
لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها تعظيمًا مبتدعًا، فآل بهم إلى الشرك، وهي أعظم الفتنتين، بل هي مبدأ الفتنة.
الثانية: وهي فتنة التماثيل:
أي: الصور، فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها، وبنوا عليها المساجد، وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور،
وهي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب
إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.
ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها،
وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد،
فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته،
كما يقصد بصلاته بركة المساجد.
كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها..
لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدًّا للذريعة.
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليط فيه.
وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه.
[لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد]
قال: ولهما عنها قالت:
"لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك:
لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا" أخرجاه.
هكذا ثبت في أول هذا الحديث "ولهما" وفي آخره: "أخرجاه" بخط المصنف، وأحد اللفظين يغني عن الآخر، لأن المراد صاحبا "الصحيحين".
قوله: (لما نزل) . هو بضم النون وكسر الزاي.
أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
قوله: (طفق) ، بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح، وبه جاء القرآن ومعناه: جعل.
قوله: (خميصة) ، بفتح المعجمة كساء له أعلام.
قوله: (فإذا اغتم بها كشفها) :
أي: إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه.
قوله: "لعن الله اليهود والنصارى" إلى آخره:
لعنهم صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد:
أي: كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله، وإن لم يسموها مساجد، فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم.
ومثل ذلك القباب والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، فإنها هي المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد.
وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزًا لهم عن غيرهم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء، فكيف بمن بناها على قبور غيرهم؟!
قوله: "يحذر ما صنعوا" :
الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها :
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرًا لأمته أن تصنع ما صنعوا.
قال القرطبي: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام.
قوله: (ولولا ذاك) :
أي: لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا ولعن من فعل ذلك.
قوله: (لأبرز قبره) :
أي: لدفن خارج بيته
ومنه الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس. أي: جالسًا خارج بيته" .
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا) . روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول،
قالوا: فأما رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، وأما رواية الضم، فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر، غير أني أخشى.
أو هي ومن معها من الصحابة. قلت: وهذا أظهر. ورواية: غير أني أخشى، لا تخالفه.
قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.
قلت: وفي الحديثين مسائل نبه الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله على بعضها:
منها:
ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
ومنها:
النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر.
ومنها:
نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
ومنها:
أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
ومنها:
لعنه إياهم على ذلك.
ومنها:
مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره،
ومنها:
العلة في عدم إبراز قبره،
ومنها:
ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النّزع.
قلت: ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك، وعلة لعن من فعله.
[النهي عن اتخاذ القبور مساجد]
قال: ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك"
فقد نهى عنه وهو في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق مَنْ فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجدًا،
وهو معنى قوله: أخشى أن يتخذ مسجدًا، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا.
وكل موضع قُصِدَتِ الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، بل كل موضع يُصَلَّى فيه يُسَمَّى مسجدًا كما قال صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" .
قوله: عن جندب بن عبد الله:
أي: ابن سفيان البجلي أبو عبد الله، وينسب إلى جده، صحابي مشهور مات بعد الستين.
قوله: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل:
أي: أمتنع من هذا وأنكره.
والخليل: هو المحبوب غاية المحبة، مشتق من الخلة بفتح الخاء وهي تخلل المودة في القلب،
كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح ... مني وبذا سمي الخليل خللاً
هذا هو الصحيح في معناه، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم.
قال القرطبي: وإنما كان ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله، وتعظيمه ومعرفته، فلا يسع لمخالة غيره.
قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلاً" :
فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة
قال ابن القيم: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله، فمن جهلهم، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة،
قال: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم. وأيضًا فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين. وفيه جواز ذكر الإنسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك.
قوله: "ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلاً" :
فيه دليل على أن الصِّدِّيق أفضل الصحابة، حيث صرح صلى الله عليه وسلم أنه لو اتخذ خليلاً غير ربه، لاتخذ أبا بكر، فيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة.
وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله، قاله الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله. وفيه إشارة إلى خلافته،
لأن من كانت محبته لشخص أشد، فهو أحق الناس بالنيابة عنه، لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته، خصوصًا وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب لما صلى بهم عمر.
واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد به من أهل السنة، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ... ) ، إلى آخر الحديث.
قال الخلخالي: وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين :
أحدهما:
أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم
والثاني:
أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء.
والأول هو الشرك الجلي
والثاني الخفي، فلذلك استحقوا اللعن.
قلت: (الحديث أعم من ذلك):
فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها.
قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) :
أي: كما في حديث جندب.
قوله: (ثم إنه لعن) -وهو في السياق- من فعله :
أي: كما في حديث عائشة.
قوله: (والصلاة عندها من ذلك) :
وإن لم يبن مسجدًا، يعني: أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله، وإن لم يبن مسجدًا، فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور، بل لا تنعقد أصلاً لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها، من لعن من اتخذها مساجد.
وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" . رواه أحمد وأهل السنن، وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين، وفي "صحيح البخاري" أن:
"عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر":
وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور.
وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه، فإنه لعله لم يره، ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه، فلما نبهه عمر تنبه.
وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى، وعباد {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} من الشرك،
ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة،
لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها،
ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله، لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبًا يوفض إليها المشركون كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها.
قال ابن القيم_رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض،
أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه:
صيغة: (لا تفعلوا)
وصيغة: (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه، أو عدم من تحقيق لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيمًا، وأشد فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.
فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الإلهية.
قلت: وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم وهو الحق.
قوله: فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا:
أي: لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه، ولعن من فعله، فكيف يتخذون على قبره مسجدًا؟
وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده،
من غير شعور من الصحابة بذلك، فلذلك دفنوه في بيته.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا) :
أي: وإن لم يبن مسجدًا.
قوله: "بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا"،
الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة، وإن لم يبن فيها مسجدًا.
وهذا في أي موضع صلي فيه، وإن لم يعد لذلك، كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك. فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد، فقد اتخذها مساجد.
قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم:
"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" :
أي: فسمى الأرض مسجدًا، وليست مسجدًا مبنيًّا، لكن لما كان يسجد فيها سميت مسجدًا. فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو إليها فقد اتخذها مساجد. وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر.
قال البغوي في "شرح السنة":
أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس.
وقوله: (طهورا) . أراد به التيمم.
وفي حديث جندب من الفوائد أيضًا، العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن بناء المساجد على القبور، كيف بيّن لهم ذلك أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في النّزع لم يكتف بما تقدم، بل لعن من فعل ذلك.
فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقًا،
فلذلك اكتفى الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله بإيرادها عن غيرها، كحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. رواه مسلم وغيره وزاد أبو داود والحاكم: وأن يكتب عليه.
[شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد]
قال: ولأحمد بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد".رواه أبو حاتم [وابن حبان] في " صحيحه".
قوله: "إن من شرار الناس". هو بكسر الشين جمع شر.
قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء":
أي: من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم أحياء، وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم:
"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق".
فإن قلت: ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان:
"لا تزال طائفة من أمتي على الحق" . وما في معناه.
قيل: حديث ثوبان مستغرق للأزمنة، عامّ فيها، وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى.
قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد":
"الذين" في محل نصب عطفًا على "من" الموصولة،
أي: إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها.
وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم معلوم بالاضطرار من دينه.
وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفًا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها، كما قاد إلى ذلك اليهود والنصارى. فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر، أو الدفع في صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين.
أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها، وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل إليهم العواطف الروحانية.
ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله،
وهذا هو قول اليهود: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة، النساء] ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى، أو من عموم أحاديث أخر، فمن أعظم المراغمة والمناصبة والمحادة لله ورسوله، أن تحمل على غير ما وردت فيه، ويباح ما وردت بالنهي عنه، ولعن من فعله، ولكن هذا شأن عباد القبور
{أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1د.
وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة، أو مملوكة، إلا أنه في المملوكة أشد. ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك، إما مطلقًا، وإما في المملوكة.
قال الإمام أبو محمد بن قدامة:
"ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور :
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا.
ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
"أما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي، بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه،
ثم ذكر الأحاديث في ذلك. إلى أن قال: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين".
وقال ابن القيم_رحمه الله:
"يجب هدم القباب التي على القبور ؟
لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو حفص: "تحرم الحجرة بل تهدم.
فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة".
وقال الشافعي_رحمه الله :
"أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس".
وقال أيضًا:
"تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض. وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير التزمنْتِي وغيرهما".
وقال القاضي ابن كج _رحمه الله:
"ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة".
وقال الأذرعي: "وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه".
قلت: وجزم النووي في "شرح المهذب" بتحريم البناء مطلقًا، وذكر في "شرح مسلم" نحوه أيضًا.
وقال القرطبي في حديث جابر:
"نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه، وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره،
وهذا الحديث حجة عليه، ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة، واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها، وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال: هو حرام كما قال به بعض أهل العلم".
وقال ابن رشد: "كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة،وهو مما لا اختلاف فيه".
وقال الزيلعي في "شرح الكنْز":
"ويكره أن يبنى على القبر.
وفي "الخلاصة" ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء".
وذكر أيضًا قاضي خان :
"أنه لا يجصص القبر، ولا يبنى عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر، والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب".
وقد ذكر ذلك ابن نجيم في "شرح الكنْز":
"ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور".
واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبه عليه ابن القيم وغيره.
فمنها:
اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ومنها:
تحري الدعاء عندها.
ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرب، وهذا بدعة منكرة.
ومنها:
ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء.
ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به، سلط الله عليهم من انتقم منهم.
وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك
من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر ؟!
ومنها:
الدخول في لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها.
ومنها:
أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد، كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك.
ومنها:
اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تَحَمَّلَهَا عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية؟
ومنها:
كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك.
ومنها:
جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك.
ومنها:
إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه، ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم.
ومنها:
جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام.
ومنها:
الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها.
ومنها:
أن كثيرًا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان،
لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هي صورته، وكذلك عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عزّ وجل.
ومنها:
النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ... } .
بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم.
ومنها:
أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا.
ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها.
ومنها:
سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات.
ومنها:
التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات.
ومنها:
تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد.
ومنها:
أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة،
كما قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" . والإحسان إلى المزور بالترحم عليه، والدعاء له
والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب عباد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك.
فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له.
ومنها:
إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها،
فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم
كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
ومنها:
محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها:
التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم، وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور،
ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته.
والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد
القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون.
.... ..... ... ....
كتاب القول المفيد في شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبدالله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده
قوله: "التغليظ": التشديد.
قوله: "من عبد الله عند قبر رجل صالح":
أي: عمل عملًا تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك.
قوله: "فكيف إذا عبده؟":
أي: يكون أشد وأعظم، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء، فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر، والثواب الحاصل بذلك،
لكن هذا ليس انتفاعًا بأشخاصهم، بل انتفاع بعمل الإنسان نفسه بما أتى به من السنة.
فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية.
والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية.
في الصحيح عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:
قوله: "في الصحيح": أي: "الصحيحين"
وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "أم سلمة" : كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم وأخبرته وهو في مرض موته بما رأتِ، كما في "الصحيح".
قولها "من الصور" الظاهر أن هذه الصور مجسمة وتماثيل منصوبة.
(أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)
قوله: "أولئك":
المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيًا كانوا.
وقوله: "أولئك" يجوز في الكاف إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس.
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن يكون مطابقًا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكرًا كان أم مؤنثًا.
الوجه الثاني:
الفتح مطلقًا.
الوجه الثالث:
الكسر للمؤنث مطلقًا، والفتح للمذكر مطلقًا.
وأشهرها: أن يكون مطابقًا للمخاطب، ثم الفتح مطلقًا، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أو: شك من الراوي.
قوله: "بنوا على قبره":
أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: (صوروا فيه تلك الصور):
أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل الصالح، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجتمع منها صور كثيرة.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله):
لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه، فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله سبحانه وتعالى .
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين :
_فتنة القبور
_ وفتنة التماثيل.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل)، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: (فتنة القبور):
لأنهم بنوا المساجد عليها.
قوله: "فتنة التماثيل":
لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين،
وإنما سمي ذلك فتنة ؟!
لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك، فإنه من الفتنة
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله.
ولهما عنها، قالت: لما نزل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طفق يطرح خميصة له على وجه، فإذا اغتم بها، كشفها، فقال وهو كذلك:
(لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
قوله: "ولهما" :
الضمير يعود على البخاري ومسلم، وإن لم يسبق لهما ذكر، لكنه لما كان ذلك مصطلحًا معروفًا، صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكرا اعتمادًا على المعروف المعهود.
وقوله: "عنها" :
أي: عن عائشة.
قالت: (لما نزل برسول الله)؛
أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله: "طفق":
من أفعال المشروع، واسمها مستتر، وجملة "يطرح" خبرها.
قوله: "خميصة":
هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه.
قوله: "فإذا اغتم بها":
أي أصابه الغم بسببها، وقد احتضر صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: "وهو كذلك":
أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يقول هذا في سياق الموت،
و"لعنة الله" :
أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ
أي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبر بأن الله لعنهم.
ويحتمل أن يراد بها الدعاء، فتكون خبرية لفظًا إنشائية معنى،
والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد):
الجملة هذه تعليل لقوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى)،
كأن قائلًا يقول: لماذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ،
فكان الجواب:
أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد،
أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبينة على القبور.
يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك، أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. أخرجاه .
قوله: "يحذر ما صنعوا":
أي: إنه ـ صلى الله عليه وسلم قال ذلك في سياق الموت تحذيرًا لأمته مما صنع هؤلاء،
لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد.
قوله: "ولولا ذلك أبرز قبره" :
أبرز : أي: أخرج من بيته،
لأن البروز معناه الظهور،
أي لولًا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدًا، لأخرج ودفن في البقيع مثلًا، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدًا، فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره صلى الله عليه وسلم .
ومن أسباب ذلك:
إخباره صلى الله عليه وسلم أنه ما قبض نبيي إلا دفن حيث قبض ، ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر،
كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر، كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم، وصلاة المغرب.
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا):
خشي فيها روايتان: خشي، وخشي .
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضى الله عنهم.
وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي صلى الله عليه وسلم .
والحقيقة أن الأمر كله حاصل، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفًا من اتخاذ قبره مسجدًا، والصحابة رضي أي عنهم اتفقوا على أن يدفن صلى الله عليه وسلم في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك.
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن بدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه ـ صلى الله عليه وسلم
قال: (ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض)، وخوفًا من اتخاذه مسجدًا.
في هذا الحديث والحديث السابق:
التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وهم أفضل الصالحين،
لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولى من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها:
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
اعتراض وجوابه:
إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآن، فإنه في وسط المسجد،
فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن المسجد لم يبن على القبر، بل بني المسجد في حياة النبي ـصلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني:
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.
الوجه الثالث:
أن إدخال بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم
ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94هـ تقريبًا، فليس مما أجازة الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضًا سعيد بن المسيب من التابعين، فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع:
أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنيًا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظًا ومحوطًا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة،
أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه،
فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع، فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله، قال:
"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يموت بخمس
وهو يقول:
(إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذي خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) .
قوله: "بخمس" :
أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: "أبرأ" :
البراءة: هي التخلي، أي: أتخلى أن يكون لي منكم خليل.
قوله: "خليل":
هو الذي يبلغ في الحب غايته، لأنه حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:
قد تخللت مسلك الروح مني
وبهذا سمي الخليل خليلًا
والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله عز وجل فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه،
وهما: إبراهيم في قوله تعالى:
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]،
ومحمد لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا).
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله، ومحمدًا حبيب الله، وهذا تنقص في حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم
لأنهم بهذه المقالة جعلوا مرتبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون مرتبة إبراهيم،
ولأنهم إذا جعلوه حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس، فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة، فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا.
فالمهم:
أن العامة مشكل أمرهم، دائمًا يصفون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب الله،
فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم، فالرسول خليل الله، لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا)،
هذا تعليل لقوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس في قلبه خلة لأحد إلا الله عز وجل .
قوله: (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا).
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليًا أفضل من أبي بكر.
وقوله: "لو" :
حرف امتناع لامتناع، فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع صلى الله عليه وسلم من اتخاذ أبي بكر خليلًا
لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلًا.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم):
للتنبيه وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.
قوله: "ألا فلا تتخذوا" :
هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: (فإني أنهاكم عن ذلك):
هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدًا لهذا النهي لأهمية المقام.
من فوائد الحديث:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من أن يتخذ أحدًا خليلًا، لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
2- أن الله تعالى اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ففيه فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
3- فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم باتخاذه خليلًا.
4- فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة :
لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)،
وقوله: "فإني أنهاكم عن ذلك".
6- أن من دفن شخصًا في مسجد وجب عليه نبشه إخراجه من المسجد.
7- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه،
لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم على تحذير أمته منه، وهذا من كما رأفته ورحمته بالأمة.
8- أن من بنى مسجدًا على قبر وجب عليه هدمه.
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله.
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد
قوله: (فقد نهي عنه في آخر حياته...) :
هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقوله: (فقد نهي عنه في آخر حياته) الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد.
قوله: (ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله) :
فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد.
قوله: (والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد).
"عندها" :
أي: عند القبور، وقوله: "من ذلك"،
أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا، فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولهذا نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور، فقال: (لا تصلوا إلى القبور) .
وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدًا":
فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجدًا،
بل كل مواضع يصلى فيه، يسمى مسجدًا، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم :
(جعلت لي أرض مسجدًا وطهورًا) .
قوله: (وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدًا) الضمير في "قولها" يرجع إلى عائشة رضي الله عنها.
قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قد يقال: (خشي أن يتخذ مسجدًا):
أي: مكانًا يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد.
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في مسجد بني على قبر، فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة، وإن لم يبن مسجد.
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
_الأول:
أن تبنى عليها مساجد.
_الثاني:
أن تتخذ مكانًا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد، فإذا كان هؤلاء القوم مثلًا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى، فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضًا من اتخاذها مساجد.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجدًا).
وهذا يشهد له العرف، فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم، كالوزارات والإدارات لو سألت واحدًا منهم أين المسجد؟
لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه، صار يسمى مسجدًا.
قوله: "بل كل موضع يصلى..."، فقوله: "مسجدًا" :
أي: مكانًا للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين،
وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه،
كما قال للسجادة التي تصلي عليها مسجد أو مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى.
الخلاصة:
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور :
لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.
ولا يجوز أيضًا أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد :
لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلًا يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه،
قلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجدًا، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة،
وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجدًا بالمعنى العام.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعًا:
(إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). ورواه أبو حاتم في "صحيحه" .
قوله: "مرفوعًا"، المرفوع:
ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "إن من شرار الناس" :
من: للتبعيض، وشرار: جمع شر،
مثل صحاب جمع صحب،
والمعنى: أصحاب الشر،
وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: "من تدركهم الساعة":
من: اسم موصول اسم إن،
والساعة، أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة،
كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: "وهم أحياء"، الجملة حال من الهاء في "تدركهم".
وفي قوله: "تدركهم الساعة وهم أحياء" إشكال،
وهو أنه ثبت عن النبي :
( قوله: "لا تزل طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله" ،
وفي رواية: "حتى تقوم الساعة" ، فكيف نوفق بين الحديثين لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء، فهم من شرار الخلق؟!
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله: "حتى تقوم الساعة":
أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل، لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، فالله يرسل ريحًا تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلى شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
قوله: (الذين يتخذون القبور مساجد):
ش فهم من شرار الخلق، وإن لم يشركوا:
لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كانت دون مرتبتها، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم، فهي محرمة.
فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم :
(إن من شرار الناس) دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضًا، لقوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163]،
وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين، فليس كمن صلى أربعًا.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب، ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة، لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان، فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.
وكلام الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله في قوله:
"فيمن عبدالله" يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره، فهو شبيه بمن اتخذه مسجدًا لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأنًا يفضل به على غيره، فالشيخ عمم، والدليل خاص.
شمول
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان، لكونه قبرًا، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات، فيكون التعميم من باب القياس لا من باب النص له لفظًا.
فيه مسائل:
الأولى:
ما ذكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي صلى الله عليه وسلم ـالذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: "ولو صحت نية":
لأن الحكم علق على مجرد صورته، فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق مجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا يقدر عليها فيعطي أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد، فلا حاجة فيه إلى النية.
أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتبارًا بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى،
وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابه، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه،
أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد،
ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك، فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة "إنما الأعمال بالنيات" هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب/
لا تعارضه، لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل، كالأشياء المحرمة، كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
الثانية:
النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك،
تؤخذ من قوله: "وصوروا فيه تلك الصور"،
ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة، كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم
أو شرعًا، مثل: الأولياء، والصالحين، والأنبياء، وما أشبه ذلك.
الثالثة:
العبرة في مبالغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، كيف بين لهم هذا أولًا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال؟!
ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
وهذا مما يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم ـ على حماية جانب التوحيد،
لأنه خلاصة دعوة الرسل،
ولأن التوحيد أعظم الطاعات، فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك
حتى قال بن مسعود:
(لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا ، لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذبًا معصية، وهي أهون من الشرك.
فالشرك أمره عظيم جدًا، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم، فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، ليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين،
وهذا في الحقيقة نوع من الشرك
لأنه يوجب الغفلة عن الله عز وجل ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك عبدًا لما تعبد له، فقال:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) ، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا، فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟!
وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان،
كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
ويم نساء ويوم نسر
فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصًا على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك، فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
_الأولى:
في سائر حياته.
_والثانية:
قبل موته بخمس.
_والثالثة:
وهو في السياق.
الرابعة:
نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد"، فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
الخامسة:
أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم :
"اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وبئس رجلًا جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
السادسة:
لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله:
"لعنة الله على اليهود والنصارى".
السابعة:
أن مراده تحذيره إيانًا عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: "يحذر ما صنعوا"
أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
الثامنة:
العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة:
"ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا".
هناك علة أخرى، وهي:
إخباره بأنه من نبي يموت إلا دفن حيث يموت ، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
التاسعة:
في معنى اتخاذها مسجدًا، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
1- بناء المساجد عليها.
2- اتخاذها مكانًا للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة، فقد اتخذها مسجدًا بالمعنى العام.
العاشرة:
أنه قرن بين من اتخذها مسجدًا وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: "مع خاتمته":
وهي: أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء، هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
الحادية عشرة:
ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفين اللتين هما أشر هما البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الحادية عشرة:
ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع.
قوله: "قبل أن يموت بخمس" :
أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: "أشر أهل البدع" :
يقال: أشر،، ويقال: شر، بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالًا.
وإنما تكلم الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما،
لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه، صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام:
الرد على الرافضة والجهمية، فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولًا.
وحالهما: أنها أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
_والرافضة:
اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك ؟
لأنهم رفضوا زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟
فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرًا جدي.
فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبدالله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقًا والعياذ بالله . فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها، إلا أنه يقال: إن عبدالله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته، فالله أعلم.
فالمهم أن عليًا رضي الله عنه رأى أمرًا لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقًا، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر،
لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام، لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة، كتحريم الخمور وما أشبه ذلك،
لكنها تناقضه في الباطن، فهم يرون أثمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام،
وذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولًا إذا أطلع عليه الإنسان عرف حالهم:
"إنهم أشد الناس ضررًا على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد"،
فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق - وهما أبو بكر وعمر - بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك، كعبد الله بن أبي بن سلول وأشباهه والعياذ بالله، فأنظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟
وأما الجهمية:
فهم أتباع الجهم بن صفوان،
وأول بدعته أنه أنكر صفات الله،
وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية، كالمعتزلة ومتأخري الرافضة،
لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة،
ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصائبة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضًا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصائبة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات،
ومنهم :
من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله - سبحانه - إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته،
فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم :
من أنكر أن يكون الله متصفًا بالإثبات أو العدم،
فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة، حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم، لأننا إن قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات،
فنقول: لا موجود ولا معدوم، فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن، لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لابد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر،
فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إنه صلى، فهو مجبر، وإن قتل، فهو مجبر، وهكذا، فعطلوا بذلك حكمة الله !
لأنه إذا كان كل عامل مجبراَ على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنسانًا أو تذمه،
لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين،
لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟
فيكون أعطى من لا يستحق، وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم،
لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب/
بأنه باطل، لأن المالك إذا كان متصفًا بصفات الكمال لن يخلف وعده،
وقد قال الله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112]، فلو أخلف هذا الوعد، لكان نقصًا في حقه وظلمًا لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء،
فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا:
إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر،
لأنه ادعى الربوبية لنفسه فقط، فصار ذلك كافرًا.
قال ابن القيم _رحمه الله عنهم:
والناس في الإيمان شيء واحد
كالمشط عند تماثل الأسنان
فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث منه مذهب الرافضة،
حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله:
"إن جميع البدع أصلها من الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله:
"إن جميع البدع أصلها من الرافضة"، فهم أصل البلية في الإسلام،
ولهذا قال الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله: "أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة"، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين،
أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه،
لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلى واحده، وهي من كانت على ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه.
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية:
"شر أهل البدع".
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار لأن أظهر هذا المذهب ونشره.
وقول الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله:
"وبسبب الرافضة حدث الشك، وعبادة القبور، وهم أول من بني عليها المساجد"،
ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض، فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعًا لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
الثانية عشرة:
ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شده النزع، تؤخذ من قولها:
"طفق بطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها"، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كاد الرسول صلى الله عليه وسلم يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان من الناس، وهذا من حكمة الله عز وجل ،
فهو صلى الله عليه وسلم شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأوذي إيذاء عظيمًا،
وكذلك أيضًا فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر، لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها،
ومنها الابتلاء، فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
الثالثة عشرة:
ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم :
(إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا)، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة، لأننا لا نعلم أحدًا نال هذه المرتبة إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم .
الرابعة عشرة:
التصريح بأنها على من المحبة،
ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه، فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة ؟
فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره، فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: (بأن أبا بكر أحب الرجال إليه) ، ثم قال هنا "لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا" فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة:
التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم :
(ولو كنت متخذًا من أمتى خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا)، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضًا:
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب،
لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب، لكان حمزة بن عبد المطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي صلى الله عليه وسلم .
السادسة عشرة:
الإشارة إلى خلافته:
لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل:
إن أبا بكر هو الخليفة من بعده،
لكن لما قال: (لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا) علم أنه رضي الله عنه أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أحق الناس بخلافته.
......... ........... ....
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها:
"أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلي الله وعليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما، عنها، قالت: "لما نُزل برسول الله صلي الله وعليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال:
وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" أخرجاه.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله وعليه وسلم قبل أن يموت بخمس،
وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛
ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله.
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قوله:
"خشي أن يتخذ مسجدا"، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال صلي الله وعليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا:
إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ورواه أبو حاتم في صحيحه.
هذه الترجمة أراد بها الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله التأكيد من التحذير من الغلو وأسباب الشرك يقول رحمه الله: "باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!"
يعني جاءت النصوص تدل على شدة الإثم، وعظم الإثم في التعبد عند القبور؛
لأنه وسيلة إلى الشرك فكيف إذا وقع الشرك كان الأمر أعظم!
فكيف إذا عبدت من دون الله واتخذت آلهة؟
صار الأمر أعظم! صارت الغاية وقعت وهي الشرك، نسأل الله العافية، فالرسول ثلي الله وعليه وسلم نهى وحذر من اتخاذ القبور مساجد؛
لأن هذا وسيلة إلى الشرك وذريعة فإذا وقع الشرك فذلك هو الغاية القصوى التي هي غاية الشر والفساد،
قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]
قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة ذكرت للنبي صلي الله وعليه وسلم كنيسة،
الكنيسة: معبد النصارى، رأتها في أرض الحبشة، والحبشة من النصارى، غالبهم من النصارى، وقد أسلم كثير منهم، فقال: أولئكِ إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله!
الخطاب للمرأة أولئكِ بكسر الكاف خطاب للمرأة لأم حبيبة، وأم حبيبة:
هي بنت أبي سفيان بن حرب زوجة النبي صلي الله وعليه وسلم أم المؤمنين كانت مع زوجها في الحبشة ثم تزوجها النبي صلي الله وعليه وسلم.
فبين صلي الله وعليه وسلم أن المشركين كانوا يتعبدون عند القبور ويصورون الصور، فالواجب الحذر من أخلاقهم وسيرتهم.
أولئكِ إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور صور فلان وفلان.
أولئك شرار الخلق عند الله يعني:
هؤلاء الذين يتخذون الصور على القبور ويعبدونها من دون الله هم شر الخلق، فنصب الصور وسيلة للشرك وبناء القبور وسيلة إلى الشرك، فكلاهما وسيلة بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور على القبور أو في بيوت المصورين أو في المساجد كلها وسيلة للشرك كما فعل قوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق فوقع الشرك.
ثم بين صلي الله وعليه وسلم أن أولئكم هم شرار الخلق عند الله؛
لأن شرار الخلق هم الكفار، وخيار الخلق هم المؤمنون فالمؤمن بالله ورسوله هم خيار الخلق وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وشرار الخلق هم عباد غير الله وعلى رأسهم أئمتهم كفرعون وأشباهه.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: لما نُزل برسول الله،
يعني: لما نزل به ملك الموت عند قرب الأجل، جعل يطرح خميصة له على وجهه، الخميصة: كساء فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال
وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد يحذر الناس، وفي هذه الحالة حالة قرب الأجل من شدة نصحه وكمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام، في هذه الحالة الخطيرة يقول صلي الله وعليه وسلم:
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك، يعني لولا الخوف أن يتخذ قبره مسجدًا لأبرز مع الناس في البقيع، ولكنه خُشي:
يعني خشى الصحابة أن يتخذ مسجدًا فدفنوه في بيت عائشة، حتى لا يتوصل الناس إلى اتخاذه مسجدًا، والمقصود من هذا التحذير من التعبد عند القبور وعبادة أهلها ودعائهم من دون الله والاستغاثة بهم ونحو ذلك.
فالتعبد عند القبور وسيلة للشرك، والعبادة لأهل القبور هو الشرك الأكبر.
روى مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي صلي الله وعليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس، يعني في مرض موته:
إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلاً؛
فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً
قال في الرواية:
ولكن أخوة الإسلام يعني: كافية، والخلّة معناها أعلا المحبة، فالله اتخذه خليلاً وهو المحبوب الذي قد أعطي أعلى المحبة، كما اتخذ إبراهيم خليلاً
كما في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125].
ولو كنتُ متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً فيه الشهادة لفضل أبي بكر وأنه أفضل الصحابة، ولو كان يجوز له أن يتخذ خليلاً لاتخذه ، لكمال محبته له ولصدقه في اتباع الرسول صلي الله وعليه وسلم، ولكونه بذل أمواله وجاهه وبدنه وقوته في نصر دين الله رضي الله عنه وأرضاه.
ألا وإن من كان قبلكم هذا التحذير جاء التحذير
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد في رواية مسلم زيادة:
وصالحيهم، والمؤلف كأنه نقل من اقتضاء الصراط المستقيم، واقتضاء الصراط المستقيم سقطت كلمة: وصالحيهم، وهو في مسلم.
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،
فإني أنهاكم عن ذلك بالغ في النهي، فيجب على المؤمن وعلى أهل الإيمان أن يحذروا اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد؛
لأن هذا هو شرك، متى تعبد الناس حولها وقعوا في الشرك.
قال المؤلف رحمه الله: فقد نهى النبي صلي الله وعليه وسلم عن ذلك في آخر حياته كما في حديث جندب، وأكد هذا عند خروج روحه كما في حديث عائشة، وكل موضع يصلى فيه يتخذ مسجداً، كل موضع يبنى فيه مسجدًا يسمى مسجدًا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا،
كما قال النبي صلي الله وعليه وسلم: جعلت الأرض لي مسجدًا وطهورًا فالواجب أن يحذر المسلم اتخاذ القبور مساجد أو الصلاة عندها أو اتخاذها محلاً للعكوف والدعاء كل هذا من وسائل الشرك.
روى الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال:
إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد يعني من شرار الناس فالذين يبقون حتى تقوم الساعة هم من شرار الناس لا تقوم الساعة إلا على الأشرار،
فإن الله يبعث ريحًا طيبة في آخر الزمان تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى إلا الأشرار وهم الكفار فعليهم تقوم الساعة، وتقوم عليهم الساعة وهم يتهارجون كتهارج الحمر يعبدون غير الله ويشركون به سبحانه ولا يعرفون ربًا ولا إلهًا.
ومن تدركهم الساعة وهم أحياء هم من شرار الناس، وهكذا من يتخذ القبور مساجد؛
لأنهم بعملهم دعاة إلى الشرك.
الأسئلة
س/ قراءة القرآن في المقبرة؟
ج/ لا تجوز، لا يجوز قراءة القرآن في المقبرة، قراءة القرآن تكون في البيوت وفي المساجد يقول صلي الله وعليه وسلم:
اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة
لأن القبور ما يقرأ عندها ولا يصلى عندها ولا تتخذ محلا للدعاء، إذا زار يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين والمستأخرين كما بين النبي صلي الله وعليه وسلم دعاء الزيارة.
س/ يقولون: في قاعدة للوسائل أحكام الغايات فإذا قلنا مثلا أن عبادة القبر؟
ج/ يعني في التحريم ما هو في كل شيء، يعني في التحريم وسائل الشرك محرمة لكن لا تكون الوسائل شرك، الشرك غير والوسائل غير فاتخاذ القبور مساجد والصلاة عندها من وسائل الشرك والشرك عبادتها من دون الله وهكذا الصلاة بعد العصر وبعد الفجر من وسائل الشرك، وليست شركا، فالشرك أن تعبد الشمس من دون الله
أما كونك تصلي بعد العصر أو عند الغروب أو عند طلوع الشمس وأن تقصد الله هذا لا يجوز هذا من وسائل الشرك، والشرك أن تعبد الشمس مع الله جل وعلا وهكذا الصلاة عند القبور وسيلة، والشرك أن تعبد أصحاب القبور، نسأل الله العافية.
س/لا يقتضي إذا كانت الغاية كفر أن تكون الوسيلة كفر؟
ج/ لا، الوسيلة لا، الوسيلة فيها تفصيل.
س/قول من قال في قصة أهل الكهف: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] معناها؟
ج/قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] ظنوا أنها جائزة وأنها عبادة جهلا منهم، وجاءت الشريعة بأن هذا منكر، الشريعة الإسلامية قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] هذا من جهلهم تدل السنة على أن هؤلاء قالوه من جهلهم.
س/يدل على هذا أن النبي صلي الله وعليه وسلم لعن اليهود والنصارى أنه ما كان من شريعة من قبلنا فعلهم ذلك؟
ج/ نعم، نعم، لو كان من شريعتهم ما لعنهم.
س/قبر الرسول صلي الله وعليه وسلم ما هو بداخل المسجد؟
ج/ في بيت عائشة، والبيت برمته في المسجد.
س/يعني ما يسمى داخل المسجد؟
ج/لا ما يسمى؛
لأنه في البيت لكن لما وسع المسجد الوليد بن عبد الملك دخله، وقد أخطأ في هذا، ولكن ما يكون في المسجد، البيت الذي في المسجد، البيت مستقل.
س/ والقبة؟
ج/ هذه وضعها بعض الأتراك المتأخرين في القرن التاسع أو العاشر وهو غلط منهم.
س/ قول شيخ الإسلام: ورواه أبو حاتم في صحيحه؟
ج/ ابن حبان يعني أبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
س/ بالنسبة لمسألة قبر النبي صلي الله وعليه وسلم أغلب المشركين وعلمائهم يحتجون بهذا؟
ج/ يبين لهم أنه في بيته صلي الله وعليه وسلم ما هو في المسجد، وحجتهم داحضة، ويبين لهم أن هذا غلط، وإلا هي شبهة لضعفاء البصيرة.
س/ بعض الناس عندما يحضر إلى المقبرة يقومون بالتذكير على الحاضرين ؟
ج/ ما في بأس التذكير ما يخالف النبي صلي الله وعليه وسلم نصح الناس وهو في المقبرة وهو ينتظر الدفن نصحهم بحديث علي في الصحيحين وفي حديث البراء بن عازب في السنن، نصح إذا جلسوا ينتظرون نصحهم طيب.
س/ التذكير في المقابر هل هو سنة أو مستحب؟
ج/ مستحب لفعل النبي صلي الله وعليه وسلم.
س/ ما حكم الصلاة إذا كان القبر موجودا في وسط المسجد؟
ج/ ما تصح الصلاة، الرسول قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد جئت بلد مسجدها فيه قبور لا تصلي فيه حتى ينبش إلا إذا كان القبر هو الأول، والمسجد هو الذي بدأ فيه يهدم المسجد، على الدولة الإسلامية أن تهدم المسجد، أما إن كان القبر هو الجديد والمسجد قديم فالواجب نبش القبر ونقله إلى محل آخر.
س/ وضع القبر النبي صلي الله وعليه وسلم في هذه الحالة هل فيه استثناء؟
ج/ لا، هو ما هو في المسجد، هذا في بيت عائشة، الغلط من إدخال الوليد له لما أدخله في المسجد لما وسعوا المسجد صار شبهة لضعفاء البصيرة الذم على الذي أدخله.
س/ الذي صلى في مسجد وفيه مقبر ولا يعلم هل يعيد الصلاة؟
ج/يعيدها نعم.
س/ أنا صليت من كم سنة ما أدري عنها؟
ج/تعيدها.
س/ ما أدري كم صلاة؟
ج/ حسب ظنك.
س/ كيف الترتيب؟
ج/الترتيب كل يوم لحاله على حسب ظنه.