حكم الأستعاذة !
شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله
" باب من الشرك الاستعاذة بغير الله "
الاستعاذة: الالتجاء، والاعتصام،والتحرز،
وحقيقتها: الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذًا،وملجأ ووزرًا،
فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه، وهذا تمثيل وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله، والاعتصام به، والإطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة. هذا معنى كلام ابن القيم.
وقال ابن كثير: الاستعاذة هي:
الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير. وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء،
فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله،
ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية،
وتواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الله تعالى:
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} .
وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} .
فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره، ولا يذل ولا يخضع لغيره، ولا يتوكل إلا عليه..
لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه،
إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك، فهو ربك، ولا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًّا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، فهو الإله الحق إله الناس، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجئوا إلى غير حماه،
فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه وملكه وإلهه، وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية،
هذا معنى كلام ابن القيم،
فإذا تحقق العبد بهذه الصفات:
الرب والملك والإله، وامتثل أمر الله واستعاذ به، فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات، بل هو من حقائق توحيد الإلهية..
فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدًا لغير الله كذلك في الاستعاذة، ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه، بخلاف ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يستعاذ فيه إلا بالله، كالدعاء، فإن الاستعاذة من أنواعه.
قال: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
المعنى والله أعلم على قول أن الإنس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقًا، أي: إثمًا وطغيانًا وشرًا، فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن، وعلى القول الثاني بالعكس، وزيادتهم للإنس رهقًا بإغوائهم وإضلالهم، وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض سيره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم.
قال مجاهد: كانوا يقولون إذا هبطوا واديًا: نعوذ بعظيم هذا الوادي، فزادوهم رهقًا. قال: زادوا الكفار طغيانًا. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر.
والآثار بذلك عن السلف مشهورة، ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية، من جملتها الاستعاذة بغير الله.
وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله، ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شيء من ذلك.
قال ملا علي القاري الحنفي: ولا تجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، إلى أن قال: وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} .
فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره، أو إخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، واستغاثته وخضوعه له.
وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك. ذكره الشيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله.
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من نزل منْزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك" رواه مسلم.
قوله: "عن خولة بنت حكيم":
أي: ابن أمية السلمية، يقال لها: أم شريك. ويقال لها: خويلة بالتصغير، ويقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) :
هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته.
قال القرطبي في "المفهم":
معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر.
وقيل: معناه الشافية الكافية،
وقيل: الكلمات هنا: هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه {هُدىً وَشِفَاءٌ} وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى والالتجاء إليه، كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه.
وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه، ومغفرة ذنبه.
وقال غيره: وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز، واستدلوا بحديث خولة،
وقالوا: فيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وردوا به على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن..
قالوا: فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق.
قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك.
وقال ابن القيم _رحمه الله:
ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به، وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخدامًا، وصدق هو استخدام الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به.
قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} :
أي: من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا أو هامة أو دابة، أو ريحًا أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.
وما ههنا موصولة ليس إلا، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله تعالى، فإن الجِنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، هذا معنى كلام ابن القيم.
قال: والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي إليه.
قوله: "لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك":
قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات. قال الشيخ محمدبن عبدالوهاب _رحمه الله: فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره
............. ....
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبد الوهاب _رحمه الله
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6].
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلي الله وعليه وسلم يقول:
من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك رواه مسلم.
و لما كان هدف الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله من كتاب التوحيد إيضاح المسائل التي وقع الناس فيها من الشرك والجاهلية؛
فلهذا تتبع ما وقع من الناس للتنبيه عليه؛ من ذلك دعاء غير الله كما تقدم، وهكذا الذبح لغير الله، وهكذا النذر لغير الله، ومن ذلك الاستعاذة بغير الله، فكثير من الجهلة يستعيذون بالجن وهذا من الشرك،
يقول: يا جن كذا أعذنا من كذا، يا جن كذا افعلوا كذا، وبين الشيخ محمدبن عبدالوهاب_ رحمه الله أن هذا من جملة الشرك بالله، الله يقول: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200]
فالاستعاذة تكون بالله جل وعلا بغيره:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]،
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]
أمر الله نبيه أن يستعيذ بربه، فالاستعاذة من جملة أنواع العبادة يجب صرفها لله وحده، فلا يستعاذ بالجن ولا بالأصنام ولا بالملائكة ولا بالأنبياء ولا بغير ذلك، ولكن يستعاذ بالله وصفاته،
قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] ذكر هذا على سبيل الذم لهم والعيب، وكان بعض أهل الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا نعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهاء قومه، فأنزل الله جل وعلا في ذلك ما أنزل من الذم والعيب وأن الواجب الاستعاذة بالله، فالإنسان في أي مكان يستعيذ بالله، أعوذ بالله من كذا، أعوذ بالله من شر هذا الوادي، أعوذ بالله من شر هذا المكان وأهله، أعوذ بالله شر فلان وما أشبه ذلك.
وفي الصحيح صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها أن النبي صلي الله وعليه وسلم قال:
من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك.
وفي رواية لمسلم: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ماذا لقيت من عقرب لدغتني البارحة!
قال: أما إنك لو قلت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك فيشرع للمسلم التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وهذا من الدلائل على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ وأنه كلامه سبحانه، فكلام الله غير مخلوق وهو القرآن، وهكذا كلامه مع الرسل ومع الأنبياء كله كلام الله صفة من صفاته كغضبه ورضاه ورحمته ومحبته وغير هذا كلها صفات تليق بالله جل وعلا، لا يشابه خلقه سبحانه وتعالى، وهو جل وعلا بصفاته هو الخلاق ومن سواه مخلوق.
قال جل وعلا: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]،
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86].
وهناك كلمات كونية: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]
هذه كلمات كونية لا يخالفها شيء، والكلمات الشرعية الكلمات التي نزلت بها الرسل كالقرآن فهذا يعمل به القليل ويخالفه الكثير،:
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] لكن كلمة الله المتلوة والكونية كلها غير مخلوقة وهي صفة من صفاته.
فكن كلمة من الله قولاً والمخلوق هو الذي كان المخلوق هو المكون الذي كان بكن، وهكذا جميع المخلوقات من سماء وأرض وجبال وأشجار وجن وإنس وغير هذا كلها مخلوقة له سبحانه وتعالى، فما سواه مخلوق وهو الخلاق العليم جل وعلا،
فالاستعاذة تكون بالله أو بصفة من صفاته كما في حديث: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك أو بكلماته التامة كل هذا حق.
الأسئلة
س/ الكلمات تشمل الكائنة وتشمل الآيات؟
كلماته الشرعية القرآن وكلماته الكونية التي يأمر بها سبحانه في التصرف في عباده جل وعلا.
س/ما صحة من اقتصر بالتعوذ بكلمات الله التامات في أذكار المساء فقط دون الصبح؟
لا عام في كل وقت يستعيذ بكلمات الله التامات في كل وقت.
س/ يقول بعضهم أن الاستعانة بالجن جائزة إذا كان مما يقدر عليه الجن؟
لا ما يصلح، لأنه فتح باب شر، فالجن ولو كلموك ممن يصرعون تقول: هذا لا يجوز لكم، هذا حرام عليكم، اخرجوا منه لا يجوز لكم هذا الفعل.