الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع


الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية


شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله 

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان


 أراد الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله بهذه الترجمة الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. 

فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.


قال: وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .


يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً} .

أي: أعطوا نصيبًا أي: حظًّا {مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .

 روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال:
 "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السدنة وأهل السقاية قال: أنتم خير، قال فنَزلت فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر] ونزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ ... } إلى. { ... نَصِيراً} ".

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: 
"جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال: ما أنتم وما محمد؟
 فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟
 فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل الله: 
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} ".

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.

وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم، وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: الجبت: الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضًا الجبت: الشرك،

وعنه الجبت: الأصنام، 
وعنه الجبت: حيي ابن أخطب، 
وعن الشعبي الجبت: الكاهن.
 وعن مجاهد الجبت: كعب ابن الأشرف.


قلت: الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري: الجبت: 
كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.
 وفي الحديث :
"الطيرة والعيافة والطرق من الجبت" 
قال: وهذا ليس من محض العربية لاجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذولقي.

قال الشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله: 
وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
 وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب.

قال: وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} .


 يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: 
قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب، الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون ما سواه {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ؛
 أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا، هم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} ، 
أي: أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه،
 أي: غضبًا لا يرضى بعده، وجعل منهم القردة والخنازير،
 أي: مسخ منهم الذين عصوا أمره، فجعلهم قردة وخنازير،

 كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَالَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .

وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت، والقيام بأمره، وترك الاصطياد فيه، وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت، فتحيلوا اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله تعالى إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، فكان جزاؤهم من جنس عملهم.


قال العوفي عن ابن عباس في قوله: 
{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.

وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود قال: 
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ 
فقال: إن الله لم يهلك قومًا أو قال: لم يمسخ قومًا فيجعل الله لهم نسلاً ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" .

وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك.

وقوله: {وعبد الطاغوت} :
قال شيخ الإسلام: الصواب أنه معطوف على قوله:
 {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} :
 فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية،
 أي: من لعنه الله ومن غضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها

هو اسم الله مظهرًا ومضمرًا، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في "عبد".

ولم يعد سبحانه لفظ "من" لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود.

قال: وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 
 يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدًا.

وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين :
أحدهما: أنهم المسلمون. 
والثاني: أنهم المشركون. وعلى القولين فهم مذمومون.

1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 
"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا" 
. رواه البخاري ومسلم.

2- ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع. ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك، فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى، فيجرها ذلك إلى الشرك، 
لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله بهذه الآيات.


قال عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. 
قالوا: يا رسول الله! آليهود والنصارى؟
قال: فمن؟! "  أخرجاه.

هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا
للصحيحين". ولعله نقله عن غيره ولفظهما، والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري
 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم
. قلنا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال فمن؟! " .
 ويحتمل أن يكون مرويًّا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه.

قوله: (لتتبعن) :هو بضم العين وتشديد النون.

قوله: (سنن) : بفتح المهملة
 أي: طريق من كان قبلكم
أي: الذين قبلكم قال الْمُهَلَّب: الفتح أولى،
 وقال ابن التين: قرأناه بضمها.

قوله: (حذو القذة بالقذة) ، هو بنصب حذو على المصدر، والقذة - بضم القاف - واحدة القذذ وهي ريش السهم، وله قذتان متساويتان
 أي: لتفعلن أفعالهم، ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم، كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، ثم إن هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام،
 لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع، وهذا من معجزاته، فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد، وتعظيم القبور واتخاذها مساجد، حتى عبدوها ومن فيها من دون الله، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمس عجينًا، واتخاذ الأحبار والرهبان أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، والإعراض عن كتاب الله، والإقبال على كتب الضلال

من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى.

قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) :
الْجحر - بضم الجيم بعدها حاء مهملة - معروف.

وفي حديث آخر:
 "حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك" 

 وفي حديث آخر: "حتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه" 
صحت بذلك الأحاديث، فأخبر أن أمته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والاختلاف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله : 
هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة.

وقال غيره: وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ولا قولاً، وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون ما لا يعلمون، ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين.


ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون:
 من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه، لكن ليس الحديث إخبارًا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة.

قوله: "قالوا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟
 قال فمن؟
 " هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف، 
أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم؟
 وقوله: قال: "فمن" استفهام إنكار، 
أي: فمن هم غير أولئك؟ ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى،

 وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض، كما قال بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام، فحيث قيل: فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس، وسياسة الرعية، وحيث قيل: اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات، أصولها وفروعها كذا قال.
 ولا يلزم وجود قرينة، بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقًا، والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى، إذ المقصود التمثيل لا الحصر.

ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح؛
 لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع.


[إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمر أمته سيتسع]

قال: ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
 "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا" .


ورواه البرقاني في " صحيحه " وزاد:
 "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".


هذا الحديث رواه أبو داود في "سننه" وابن ماجة بالزيادة التي زكرها الشيخ محمدبن عبد الوهاب _رحمه الله، ورواه الترمذي مختصرًا ببعضها.


قوله: (عن ثوبان) :
 هو ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.


قوله: (زوى لي الأرض) :
 قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره.

وقال القرطبي: 
"أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة فأدرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه.
 وكما قال: "إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ".
 ويحتمل أن يكون مثلها الله له، والأول أولى".


قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) :
قال القرطبي: "هذا الخبر وجد مخبره كما قاله، فكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة، بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب وإلى أقصى المشرق، ما وراء خراسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد. ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه".

وقوله: (زوى) :
يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، وأن يكون مبنيًّا للمفعول والأول أظهر.


قوله: (وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض) :
 قال القرطبي: يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنْز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما.
 وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما: "والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وعبر بالأحمر عن كنْز قيصر،
 لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنْز كسرى 
لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة. 
وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في إمارة عمر رضي الله عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده. كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي. والأبيض والأحمر منصوبان على البدل.


قوله: (وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة) : هكذا ثبت في أصل الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في أصل "مسلم" وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها.

قال القرطبي:
 "وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة ،
فكأنه قال: بسنة عامة.
 ويعني بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما 
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} :أي: بالجدب المتوالي.


قوله: (من سوى أنفسهم):
 أي: من غيرهم يعني الكفار.


قوله: (فيستبيح بيضتهم) :
قال الجوهري: بيضة كل شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض، وهو جوانبها.

وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم.

قلت: وهذا هو الظاهر، وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا) .
 فأما إذا وجدت هذه الأوصاف، فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع.


قوله: (وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) .
 قال بعضهم: أي: إذا حكمت حكمًا مبرمًا فإنه نافذ لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار

طوعًا وكرهًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
 "لا راد لما قضيت".

قلت: الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق، فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك مطلقًا فأجيب بهذا، واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو، فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق.


قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ... ) إلى آخره:
أي: حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار، فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة، ثم أيضًا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط، وكذلك وقع، فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضًا، فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو، واستولوا عليهم، كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب، فاختلفت ملوك المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خراسان، وعلى العراق وديار الروم، وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار، وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها، فهي في أيديهم إلى اليوم، بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتى استنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره.


[خوف الرسول صلى الله عيه وسلم من الأئمة المضلين]

قوله: ورواه البرقاني في "صحيحه". البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة.
 قال الخطيب: كان ثبتًا ورعًا، لم نر في شيوخنا أثبت منه،

عارفًا بالفقه كثير التصنيف، صنف مسندًا ضمنه ما اشتمل عليه "الصحيحان" وجمع حديث الثوري، وحديث شعبة، وطائفة وكان حريصًا على العلم منصرف الهمة إليه.

قلت: وهذا "المسند" الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا إليه المصنف.


قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) :
أي: الأمراء والعلماء والعباد، الذين يقتدي بهم الناس، ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون، فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم، 
كما قال تعالى عن أهل النار:
 {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} . 

وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} . 

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . 

ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم، والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين، أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى، وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم؛
 الذين يعلمون الحق ولا يعملون به، ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله، بل بما تهوى أنفسهم.فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده، بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما رواه أبو داود وغيره.

فمن كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من الأئمة المهديين، ومن خالفهم فهو من الضالين، كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، أو نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار، وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه، ويضر بهم إذا كفروا

به وحاربوه، ويدعي أن ذلك من كراماته.

وكالذي يمشي في الأسواق عريانًا، ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علمًا، بل يعيب علماء الشرع، ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر، ويدعي أنه صاحب علم الباطن، وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، 
ونحو ذلك من الكفر والهذيان. وكالذي يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف، أو يدعي أن الأولياء يدعون، ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، أو أنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج والشموع، وكسوتها بالحرير والديباج، والفرش النفيسة، أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه، فقد ضل وأضل وابتدع، أو أن ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل، وأن الهدى لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره، وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية. 
فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذر منهم.

والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 فافهم عن ربك وكن على بصيرة، ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس، فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الفرض، والعصمة منتفية عن غير الرسول، وربك أدرى بما في الضمائر، فرب مَنْ تعتقده إمام هدى ليس كذلك، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
 {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2.

فكل مَن أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله، فهو من أهواء الذين لا يعلمون، ومن لم يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتبع هواه.

قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

 وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} .

وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: 
"هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي.

وقال يزيد بن عميرة: "كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال حين يجلس: الله حكم قسط هلك المرتابون". الحديث.

 وفيه: "واحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورًا".
 رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه:

وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها.


قوله: (وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة) :
أي: إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامة، وكذلك وقع، فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى.


قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين): الحي واحد الأحياء، وهي القبائل وفي رواية أبي داود:


"ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين":
  والمعنى: أنهم ينْزلون معهم في ديارهم، ويصيرون منهم بالردة ونحوها.

[لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من الناس الأوثان]

قوله: (وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) :
الفئام - مهموز - الجماعات الكثيرة، قاله أبو السعادات، وفي رواية أبي داود: (وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) ، ومعناه ظاهر.

وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك، وعبادة الأوثان في هذه الأمة.
 وفي معنى هذا ما في "الصحيحين" عن أبي هريرة مرفوعًا: 
"لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة" .
 قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتًا مبنيًّا مغلقًا.

وفي "صحيح مسلم" عن عائشة مرفوعًا:
 "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى"  
وقيل: إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات، وكانوا يعبدونه، ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم.

إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون

قوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون) :
كلهم يزعم أنه نبي.
 قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينًا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة". أخرجه أبو نعيم. وقال: هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام.

قلت: حديث ثوبان أصح من هذا.


قال القاضي عياض: عُدَّ من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، وعرف واتبعه جماعة على ضلالته، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا.


وقال الحافظ: قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج في خلافة

أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه. ويقال: إن سجاح تابت أيضًا.


ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فاتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه فأحبه الناس، ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة، وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه.

ومنهم: 
الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ 
فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك، وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.


قوله: (وأنا خاتم النبيين) :
 الخاتم - بفتح التاء- بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم. قال الحسن: خاتم الذي ختم به، أي: آخر النبيين،

 كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 
وإنما ينْزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليًا إلى قبلته، فهو كآحاد أمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنْزير، وليضعن الجزية" .


قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم"

قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل:
 إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وكذلك قال: إنهم أهل الحديث عبد الله ابن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم.
 وقال المديني في رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة، لأن العرب هم الذين يستقون بها.

قلت: ولا تعارض بين القولين، إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث، ولا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا يكون منصورًا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحديث من العرب وغيرهم.

فإن قيل: فلم خصصه بالعرب؟ 
قيل: المراد التمثيل لا الحصر، 
أي: أن العرب إن استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم.

قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة:
 لأن الأمة إذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة.

وقال الشيخ محمدبن عبد الوهاب _رحمه الله :
 وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم. 
والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.


قوله: (حتى يأتي أمر الله):
الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم.
 وأصله في "مسلم" عن عبد الرحمن بن شماسة أن عبد الله بن عمرو قال: 
"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر لعبد الله: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: 
"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك. فقال عبد الله: ويبعث الله ريحًا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة" .

وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود مرفوعًا: 
"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" .

 وفي "صحيحه" أيضًا: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" 
 وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام. 

وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، رواه أحمد. 

ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعًا: 
"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على مَنْ ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال" رواه أبو داود والحاكم.
 وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الأحاديث "حتى تأتيهم الساعة":
ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح، ذكره الحافظ وهو المعتمد.


وقد اختلف في محل هذه الطائفة ؟!
فقال ابن بطال: إنّها تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، 
كما روى الطبري من حديث أبي أمامة: "قيل يا رسول الله وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس) 
" وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (هم بالشام) . وهذا قول أكثر الشارحين.


وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائمًا إلى أن يقاتلوا الدجال، بل قد تكون في موضع آخر، لكن لا تخلو الأرض منها حتى يأتي أمر الله.

قلت: وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات، بل ليس فيه إلا عباد القبور، 
وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات، ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة، 
وأيضًا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدًا من أهل الكفر، وإنما بأسهم وقتالهم بينهم. 
وعلى هذا فقوله في الحديث: (هم ببيت المقدس) . وقول معاذ: (هم بالشام) . 
المراد أنهم يكونون في بعض الأزمان دون بعض، وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا.

قوله: (تبارك وتعالى) :
قال ابن القيم: البركة نوعان:
_ أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى.

_والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عزّ وجل، فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك.
 كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} . فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك،
 وأما صفة تبارك، فمختصة به كما أطلقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
 {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أفلا تراها كيف اطّردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره، 
وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، 
فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك، دال على كمال بركته وعظمته وسعتها.

وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك: تعاظم.
 وقال ابن عباس: جاء بكل بركة واعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم.

........   .....

شرح كتاب القول المفيد لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله 

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان:
سبب مجيء الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله بهذا الباب لدحض حجة

 من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، 
وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك، 
لأن هذه الأمة معصومة منه، 
لقوله: «إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم».
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.


قوله: (أن بعض هذه الأمة):
أي: لا كلها، لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم، فلا يبقى إلى شرار الناس.
وقوله: (تعبد)، بفتح التاء، 
وفي بعض النسخ: (يعبد)، بفتح الياء المثناة من تحت.
فعلى قراءة (يعبد) لا إشكال فيها،
 لأن (بعض) مذكر.
وعلى قراءة: (تعبد)، فإنه داخل في قول ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولًا 
        تأنيثًا أن كان لحذف موهلا

ومثلوا لذلك قولهم: قطعت بعض أصابعه، فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض.

فإذا صحت النسخة (تعبد)، فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.
قوله: (الأوثان)، جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله.

وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51].
ذكر الشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
_ الآية الأولى :
قوله تعالى: {ألم تر}، الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر.
والخطاب إما للنبي، أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، أي: ألم تر أيها المخاطب؟
 أي: أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب، لأنهم حرموا بسبب معصيتهم، فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.
قوله: {نصيبًا من الكتاب} المنزل.
والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل.

وقد ذكروا لذلك مثلًا، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، 
وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟
 فقال لهم: أنتم خير من محمد، ولهذا جاء في أخر الآية: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} [النساء: 51].

 أي: يصدقون بهما، ويقرونهما لا ينكرونهما، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان، فقد آمن بها.

_والجب: قيل: السر،
 وقيل: هو الصنم،
 والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.

_والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

فالمعبود كالأصنام،
 والمتبوع كعلماء الضلال،
مخ والمطاع كالأمراء، فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم.
والمراد من كان راضيًا بعبادتهم إياه، أو يقال: 
هو طاغوت باعتبار عابديه، لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانًا، لمجاوزتهم الحد بذلك.

والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتًا.

وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، فإذا كان الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت، فتكون الآية مطابقة للترجمة تمامًا.



 الآية الثانية قوله تعالى: {قل هل أنبئكم}:
الخطاب للنبي ردًا على هؤلاء اليهود الذي اتخذوا دين الإسلام هزوًا ولعبًا.


وقوله: {أنبئكم}:
 أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق،
 أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله: {بشر من ذلك}:
شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.

وقوله: {ذلك} المشار إليه ما كان عليه الرسول وأصحابه، فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذي على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول وأصحابه ليسوا على الحق، فقال الله تعالى: {قل هل أنبئكم}.

مثوبة: تمييز لشر، لأن شر اسم تفضيل،
 وما جاء بعد أفعل التفضيل مبينًا له يكون منصوبًا على التمييز.
قال ابن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكرة
         ينصب تمييزًا بما قد فسره

إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ** مفضلًا كأنت أعلى منزلا

والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء، أي: بشر من ذلك جزاء عن الله.

أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابًا.

من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله، لأن الاستفهام انتهى عند قوله: 
{مثوبة عند الله}، وجواب الاستفهام: 

 أي: طرده وأبعده عن رحمته.

أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418).


والقاعدة العامة عند أهل السنة:
 أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله عز وجل، فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله، فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.

القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبهًا بالإنسان،
 والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.

والإشارة هنا إلى اليهود، فإنهم لعنوا كما قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} الآية [المائدة: 78].

وجعلوا قردة بقوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]،

 وغضب الله عليهم بقوله: {فباؤوا بغضب على غضب} [البقرة: 90].

قوله: {وعبد الطاغوت}، فيها قراءتان في: {عبد} وفي: {الطاغوت}:
_الأولى: بضم الباء: {عبد}، وعليها تكسر التاء في: {الطاغوت}، لأنه مجرور بالإضافة.
_الثانية: بفتح الباء: {عبد} على أنه فعل ماض معطوف على قوله: {لعنه الله} صلة الموصول،
 أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد: {من} مع طول الفصل؛
 لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت مَنْ لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة، 
فعلى هذه القراءة يكون: {عبد} فعلًا ماضيًا، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على (من) في قوله: {من لعنه الله}، {الطاغوت} بفتح التاء مفعولًا به.

وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه، لأن الفاعل في صلة الموصول هو: {الله}، والفاعل في عبد يعود على (من).
وعلى كل حال، فالمراد بها عابد الطاغوت.

فالفرق بين القراءتين بالباء فقط، فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.

والطاغوت على قراءة الفعل في: {عبد} تكون مفتوحة: {عبد الطاغوت}، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة: {عبد الطاغوت}.

وذكر في تركيب: {عبد} مع: {الطاغوت} أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين: {عَبَدَ} {عَبُدَ}.

 الآية الثالثة قوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا}، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة، 
وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله- عز وجل-، فيسر الله لهم غارًا، فدخلوا فيه، وناموا نومة طويلة بلغت:
 {ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعًا} [الكهف: 25] وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، 

ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يترسب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعامًا، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لابد أن نبني على قبورهم مسجدًا.

وقوله: {قال الذين غلبوا على أمرهم}، المراد بهم: الحكام في ذات الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: {لنتخذن عليهم مسجدًا}، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.


 فوائد الآيات السابقة:
من فوائد الآية الأولى ما يلي:

1- أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيبًا من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.

2- أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية:
 لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دون من المعاصي.

3- وجوب إنكار الجبت والطاغوت :
لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم، فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.

4- ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله:
 «لتركبن سنن من كان من قبلكم»، 
فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت، فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضًا من يؤمن بالجبت والطاغوت.


 ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:
1- تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قومًا غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير،
 فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين، فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟! 
الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟

والجواب /
الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.

2- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله:
لقوله: {بشر من ذلك مثوبة عند الله}، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.

3- سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.

4- إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء، لقوله: {لعنه الله}، فإن اللعن من صفات الأفعال.

5- إثبات الغضب لله، لقوله: {وغضب عليه}.

6- إثبات القدرة لله، لقوله: {وجعل منهم القردة والخنازير}.

وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
والجواب: لا، لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي: «أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل»، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا، فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.

7- أن العقوبات من جنس العمل :
لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهًا بالإنسان، فعلوا فعلًا ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكًا، فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تمامًا، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، 
قال تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]،
 وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40].

8- أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت، لقوله: {وعبد الطاغوت}، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه، لأنه عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.

9- وفي الآية نكت نحوية في قوله: {عليه} و: {منهم} في قوله تعالى: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير}، فالضمير في: {لعنه} الهاء، و: {غضب عليه} مفرد، و: {منهم} جمع، مع أن المرجع واحد، وهو: {من}.

والجواب/
 أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفى الجمع المعنى،
 وذلك أن: {من} اسم موصول صالحه للمفرد وغيره، 
قال ابن مالك:
ومن وما وأل تساوي ما ذكر

لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ.

وقال: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة}، ولم يقل: وجعلهم قردة :
لان اللعن والغضب عام لهم جميعًا، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملًا لبني إسرائيل.


ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:
1- ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.

2- أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور :
لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد، 
لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام غلوا فيهم.

3- أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي لعلي حين بعثه: 
«ألا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته».
عن أبي سعيد (رضي الله عنه)، أن رسول الله قال:
 «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟
 قال: «فمن». أخرجاه.
قوله في الحديث: «لتتبعن»، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله: «سنن من كان قبلكم»، 
فيها روايتان: «سُنَن» و: «سَنَن».
أما: «سنن» بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.
وأما: «سنن»، بالفتح: فهي مفرد بمعنى الطريق.
وفعل تأتي مفرده مثل: فنن جمعها أفنان،
 وسبب جمعها أسباب.
وقفوله: «من كان قبلكم»، أي: من الأمم.

وقوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره، بل هو عام مخصوص، لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص، 
لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر النبي أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق،
وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمم الأمةُ السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أوى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، 
مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.
ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.
السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئًا من هذه السنن.

فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين، فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجت في هذه الأمة، 

ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.

ومنها: دعاء غير الله، وقد جاء في هذه الأمة.

ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.

ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب، فقد قالت اليهود: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64]، 
وقالوا: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]، 
وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه، فقد وجد من قال: ليس له يد،
 ومن قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بإنه ليس داخلًا في العالم، وليس خارجًا عنه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، فوصفوه بما لا يمكن وجوده، 
ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.

ومنها أكسل السحت، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: أكل الربا، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: التحيل على محارم الله، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظًا ومعنى، كاليهود حين قيل لهم: {ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة} [البقرة: 58]، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك، فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، 
قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، 
وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.

قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود في (حطة) فقالوا: (حنطة).
نون اليهود ولام جهمي هما 
               في وحي رب العرش زائدتان

أمر اليهود بأن يقولوا حطة 
               فأبوا وقالوا حنطة لهوان

وكذلك الجهمي قيل له استوى 
            فأبى وزاد الحرف للنقصان

ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي بقول شيخه.
فإذا تأملت كلام النبي وجدته مطابقًا للواقع:
 «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، 
ولكن يبقى النظر: هل هذا الحديث للتحذير أو للإقرار؟

الجواب/

 لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار، فلا يقول أحد سأحسد وسآكل الربا، وساعتدى على الخلق،
 لأن الرسول قال ذلك، فمن قال ذلك، فإننا نقول له: أخطأت، لأن قول النبي لا شك أنه للتحذير، 
ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟
 قال: «فمن؟».

ثم نقول لهم أيضًا: إن الرسول أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن.
فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.

ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين:
 إن هؤلاء لضالون، ووجد في هذه الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون.
فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى.
والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلًا في الأمم السابقة.
ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثًا في هذه الأمة.

أما مناسبة الحديث للباب:
فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.
قوله: «حذو القذة بالقذة» :
 حذو بمعنى: محاذيًا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن، أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة.

والقذة: هي ريشة السهم، والسهم له ريش لابد أن تكون متساوية تمامًا، وإلا، صار الرمي به مختلًا.
قوله: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، هذه الجملة تأكيد منه للمتابعة.

وجحر الضب من اصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولى أن ندخله، فالنبي قال ذلك على سبيل المبالغة، كقوله: 
«من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين»، 
ومن اقتطع ذراعًا، فمن باب أولى.

قوله: (قالوا اليهود والنصارى) يجوز فيها وجهان:
_الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟

_الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟
وعلى كل تقدير، فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي، فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.

واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودًا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله،
 أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.
والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصر، 
وقيل: من النصرة، 
كما قال تعالى: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14].
قوله: {قال فمن}، من هنا: اسم استفهام، 
والمراد به التقرير،
 أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي أنهم اليهود والنصارى.


 من فوائد الحديث:
1- ما أراده الشيخ محمدبن الوهاب_رحمه الله بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، 
لأنه من سنن من قبلنا، وقد أخبر أننا سنتبعهم.

2- ويستفاد أيضًا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله.

3- أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك- ولله الحمد- موجود في القرآن والسنة.

4- استعظام هذا الأمر عند الصحابة، لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام،
أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي.

5- أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعد من الحق، لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، وأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، 
فإذا كان طول الأمد سببًا لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في (البخاري) من حديث أنس رضي الله عنه، أنه قال: سمعت النبي يقول: «لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شره منه، حتى تلقوا ربكم»، 
ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد، 
لحديث أنس رضي الله عنه حديث صحيح سندًا ومتنًا، فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في (البخاري)، والمراد به من حيث الجملة، 
ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين، فلا تيأسوا، فتقولوا: إذًا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا مثل من سبق، 
لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر، فأنظرو إلى جنس الرجال وجنس النساء، أيهما خير؟
والجواب: جنس الرجال خير، قال تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228]،
 لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال، فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.
فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في بعض الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم، فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم.

أما الصحابة، فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل، 
لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: «لتتبعن سنن...» إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟

الجواب/ الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين، فإن لدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله، لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.


 (تنبيه):
قوله: «حذو القذة بالقذة» لم أجده في مظانه في (الصحيحين)، فليحرر.
ولمسلم عن ثوبان (رضي الله عنه)، أن رسول الله قال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض».
قوله: «زوى لي»، بمعنى جمع وضم:
 أي: جمع له الأرض وضمها.

قوله: «فرأيت»:
 أي: بعيني، فهي رؤية عينية، ويحتمل أن تكون رؤية منامية.

قوله: «مشارقها ومغاربها»:
 وهذا ليس على الله بعزيز، لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي ما سيبلغ ملك أمته منها.

وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، أو أن الرسول قوي نظره حتى رأى البعيد؟

الأقرب إلى ظاهر اللفظ: 
أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد؟

وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي: 
أي أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها، فالله على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يجمع له الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.

 اعتراض وجوابه:

فإن قيل: 
هذا إن حمل على الواقع، فليس بموافق للواقع، لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي المجرد، فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟

والجواب/

 بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير، إذ قوة الله- سبحانه- أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فلا يجوز أن نقول: 
كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.
وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: 
تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.

وقوله: «فرأيت مشارقها ومغاربها»:
 أي أماكن الشرق والغرب منها.

قوله: «وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول سيبلغ ملكها ما زوي للرسول منها، وهذا هو الواقع، فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعًا بالغًا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي.
قوله: «وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض»، الذي أعطاه هو الله.

والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر، فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة.

وقوله: «أعطيت» هل النبي أعطيها في حياته، أم بعد موته؟

الجواب/
 بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته، فهو كالمعطى له،
 لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول.
«وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا».

قوله: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة»، هكذا في الأصل: (بعامة)،
 والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في بعض النسخ: (بسنة عامة).
السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر،
 قال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، 
وقال تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} [الأعراف: 130]،
 ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد، فتكون الباء للظرفية.

وعامة، أي: عمومًا تعمهم، هذه دعوة.

قوله: «وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم» :
أي لا يسلط عليهم عدوًا. والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: «من سوى أنفسهم».
ومعنى: «يستبيح»: يستحل، 
والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.
والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.

قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد».
اعلم أن قضاء الله نوعان:
1- قضاء شرعي قد يرد، فقد يريده الله ولا يقبلونه.
2- قضاء كوني لا يرد، ولابد أن ينفذ.

وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى: {والله يقضى بالحق} [غافر: 20].

_ومثال القضاء الشرعي:
 قوله تعالى: {وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]، لأنه لو كان كونيًّا، لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله.

_ومثال القضاء الكوني: 
 لأن الله تعالى لا يقضي شرعًا بالفساد، لكنه يقضي به كونًا وإن كان يكرهه سبحانه، فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.

والمراد بالقضاء في هذا الحديث:
 القضاء الكوني، فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق، فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوًّا واستكبارًا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.

وفي قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد» من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر، لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.

واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة، فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئًا إلا والحكمة تقتضيه، 

 فتبين أنه لا يشاء شيئًا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافًا لما أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، 
فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفًا من الله، لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، 

ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5].
فنحن نقول: إن الله- جل وعلا- لا يفعل شيئًا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، 

 لأننا أقصر من أن نحيط علمًا بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.

والمقصود من قوله: «إذا قضيت قضاء، فإن لا يرد» :
بيان أن من الأشياء التي سألها النبي ما لم يعطها،
 لأنه الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله- عز وجل-.
والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل القضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة، فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.

كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله- عز وجل- منعه حتى نسأل لكن من الأشياء ما لا تقتفي الحكمة وجوده وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل أو يؤخر له ويدخر له عند الله عز وجل، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب، فإننا نجزم بأنه ادخر له.

وقوله: «وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة» هذه واحدة.

والثانية: قوله: «أن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا».

وهذه الإجابة قيدت بقوله: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا» إذا وقع ذلك منهم، فقد يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، فكأن إجابة الله لرسوله في الجملة الأولى بدون استثناء،

 وفى الجملة الثانية باستثناء: «حتى يكون بعضهم...».

وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد»، فصارت إجابة الله لرسوله مقيدة.
ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدًا، فكل من يدين بدين الرسول، فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة، فإنه لا يهلك الآخرون.
فإذا صار بعضهم يقتل بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، فإنه يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع، فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونًا في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، سلط الله عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطًا لا نظير له، فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرًا على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونه، وهي حية تشاهد ثم تموت.


قال ابن الأثير في (الكامل): 
(لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فأنا أقدم رجلًا وأوخر أخرى، فمن الذين يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ‍ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟
 فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكن نسيًا منسيًّا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي...)، 
وذكر كلامًا طويلًا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدًا من ذلك، فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.

وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضًا، وسبي بعضهم بعضًا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.

ورواه البرقاني في (صحيحه)، وزاد:
 «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف، لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم...».


قوله: «إنما أخاف على أمتي الأثمة المضلين»:
بين الرسول أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين.

والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إمامًا في الخير أو الشر، 
وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: {وجعلناهم أئمة يدعو إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [القصص: 41].

والذي في حديث الباب: (الأئمة المضلين)، أئمة الشر، وصدق النبي، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.

والمراد بقوله: (الأئمة المضلين): 
الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان، فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.

قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة متسجابة، لصرفتها للسلطان، فإن بصلاحه صلاح الأمة.
قوله: «إذا وقع عليهم السيف...» إلخ، هذا من آيات النبي، وهذا حق واقع، فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا.


قوله: «ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين»:
 الحي: بمعنى القبيلة.
وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين، أو الأمران معًا؟
الظاهر أن المراد جميع ذلك.

وأما الحي، فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، 
وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء، فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ- والعياذ بالله- ويفسد، فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.


قوله: «وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» :
الفئام، أي: الجماعات، وهذا وقع، ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام، أي: ليسوا أحياء، فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة، فيجتمعون.


قوله: «وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون»؛
حصرهم النبي بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون، لأن النبي خاتما النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك، فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد يتلقى منه بواسطة الملك، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.

وقوله: «كذابون ثلاثون» هل ظهروا أم لا؟

الجواب/ 
ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر، لأن النبي لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم، فهم ينتظرون.

«يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

قوله: «كلهم يزعم»، أي: يدعي.

قوله: «وأنا خاتم النبيين»، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: «لا نبي بعدي»، 

فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام،

 فالجواب/
إن نبوته سابقة لنبوة محمد، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فليس تشريعًا جديدًا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد، لأنه أخبر به مقررًا له.

قوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة»، المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين.
هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيًّا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئامًا يعبدون الأصنام، وأن أناسًا يدعون النبوة، فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدًا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون،
 فقال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة».
والطائفة: الجماعة.

وقوله: «على الحق»، جار ومجرور خبر تزال.

قوله: «منصورة»، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالًا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضًا منصورة.


قوله: «لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم»:
خذلهم، أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم، لأن الأمور بيد الله، 

وقد قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»، وكذلك لا يضرهم من خالفهم، لأنهم منصورون بنصر الله، فالله- عز وجل- إذا نصر أحدًا فلن يستطيع أحد أن يذله.

قوله: «حتى يأتي أمر الله»:
 أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلى شرار الخلق، فعليهم تقوم الساعة.

الشاهد من هذا الحديث:
 قوله في رواية البرقاني: «حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان».

وقوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة»، هذه لم يحدد مكانها، فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما.

فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحد منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم حتى يأتي أمر الله.


( مسألة ):

 قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث، فما مدى صحة هذا القول؟


الجواب/
 هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما اشبه ذلك، فهذا ليس بصحيح، لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة،
 لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه... إلخ.

فالمقصود: 
إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة، فهو من أهل الحديث بالمعنى العام.

وأهل الحديث هم: 
كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله، فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحًا.

فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلًا لا يعتبر اصطلاحًا، من المحدثين، ومع ذلك، فهو رافع لراية الحديث.

والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان:
 أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، 
وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.

وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكًا بالحديث هم الذين يعتنون به.
ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحًا، فيخرج غيرهم.

فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحًا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به، فيحنئذ يكون صحيحًا.

 فيه مسائل:

_ الأولى: 
تفسير آية النساء، 

_ الثانية:
 تفسير آية المائدة، 
والشاهد منها هنا قوله: {وعبد الطاغوت}.


_ الثالثة:
 تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لتتخذن عليهم مسجدًا}، 
وقد سبق بيان معناها.


_ الرابعة:
 وهي أهمها :
 ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟
 هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية.

وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.


_ الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، 

يعني: إن هذا القول كفر وردة :
لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.


_السادسة:
 وهي المقصودة بالترجمة: 
أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.


_ السابعة: تصريحه بوقوعها،
 أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار إليها رحمه الله هي قوله: 
(باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، 

وحديث أبي سعيد هو قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
 قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟». أخرجاه.
وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.


_الثامنة: العجب العجاب: 
خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه،
 وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين، فتتبعهم، وقتل كثيرًا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.

ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفى القرآن أن محمدًا خاتم النبيين، فكيف صادقًا، 
وكيف يصدق من هذا التناقض؟
 ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.


_ التاسعة: 
البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة،
 يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.

يؤخذ هذا من آخر الحديث:
 «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».


_العاشرة:
 الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، 
وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم على خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، 

_الحادية عشرة: 
أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق.


_ الثانية عشرة: 
ما فيه من الآيات العظيمة،
 أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، 
والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.

منها :
إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، 
وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. 
وإخباره بأنه أعطي الكنزين.
 وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.
 وإخباره بأنه منع الثالثة.
 وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع.
 وإخباره بإهلاك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين.
 وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. 
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.

فمما في هذا الحديث: 
إخباره بأن الله- سبحانه وتعالى- زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله عليه.

ومنها:
 إخباره أنه أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.

ومنها: 
إخباره بإجابة دعوته لأمته في الإثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا... إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها، فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: 
«إن النبي أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل، فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلًا، وانصرف إلينا، فقال: سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها»، أي: منعني إياها.

ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: 
إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع، فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك، فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا.

ومنها: 
إخباره بإهلاك بعضهم بعضًا وسبي بعضهم بعضًا، هذا أيضًا واقع.

ومنها: 
خوفه على أمته من الأئمة المضلين، 
والأئمة: جمع إمام، 
والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته.

ومنها:
 إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، 

قال ابن حجر: (هذا الحصر بالثلاثين لا يعني انحصار المتنبئين بذلك، لأنهم أكثر من ذلك).
شقلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى،
 أي أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا- والله أعلم- هو السر في ترك الشيخ محمدبن عبدالوهاب_ رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.

ومنها:
 إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
قال الشيخ محمدبن عبدالوهاب- رحمه الله:
 (مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول).


_ الثالثة عشرة: 
حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين،
 ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام:
 أمراء وعلماء وعباد، فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنه متبوعون، فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء له التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم، فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم، لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.


_ الرابعة عشرة:
 التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.

.............      ........

شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبدالوهاب_رحمه الله

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
وقول الله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ "[النساء: 51].

وقوله تعالى:
 "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ "[المائدة: 60].

وقوله تعالى:
 قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21].

عن أبي سعيد أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال: لتتبعن سَنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ أخرجاه.

ولمسلم عن ثوبان  أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها. وأعطيت الكنْزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم؛ وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه.

وزاد: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون؛ كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.


يقول الشيخ محمدبن عبدالوهاب_ رحمه الله:
 باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، 
يعني باب ما جاء بالأدلة أن بعض هذه الأمة يسلك مسلك من كان قبله، وأنهم يعبدون الأوثان كما عبدها من قبلهم، 

قال جل وعلا:
 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] 

وجد في الأمة من آمن بالجبت والطاغوت، فالجبت الشعر والطاغوت الشيطان،
 وقيل الجبت كل شيء لا خير فيه وكل بلاء يقال له جبت، 
الصنم جبت.. والطاغوت جبت.. والشرك جبت..والطاغوت الشيطان،

 وقد وقع في هذه الأمة من بلي بالسحر وعبادة الطواغيت والتعلق بهم تقليدًا للأمة السابقة.

وهكذا قوله جل وعلا: 
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 60] 

فكما أن من كان من قبلنا من عبد الطاغوت فهكذا يكون في هذه الأمة من يعبد الطاغوت فهو كل ما عبد من دون الله يقال له طاغوت.

فإن كان لم يرض فالطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادته كالأنبياء والصالحين ليسوا بطواغيت، وإنما الطواغيت الشيطان الذي دعتها إلى عبادتها وزينتها للناس،
 وهكذا الصنم يقال له: طاغوت.. والمعبود من دون الله وهو راض كفرعون والمنمرود يقال له: طاغوت، والحاكم بغير ما أنزل الله يقال له: طاغوت.

المقصود: 
أن دعاة الباطل يقال لهم طواغيت، فكما في الماضيين في اليهود والنصارى فهذا يوجد في هذه الأمة.

قال تعالى: 
قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21]

 يعني قال رؤساؤهم وكبراؤهم لنتخذن عليهم مسجدًا، فهكذا في هذه الأمة من قلد المشركين وعبد القبور واتخذ المساجد عليها كما يوجد الآن في أمصار المسلمين التعلق بالقبور وعبادتها من دون الله عز وجل، وعبادة الأنبياء والصالحين، كل هذا تقليد لمن مضى واتباع لمن مضى، وسير على من مضى من المشركين.
ويدل على هذا المعنى قوله صلي الله وعليه وسلم: لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، فكما وقع في الماضين يقع في هؤلاء المتأخرين: 
حذو القذة بالقذةقذة السهم بقذته الأخرى.

حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموهيعني من شدة المبالغة في متابعتهم وتقليدهم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. 

وهذا ضرب لشدة التقليد والمتابعة للماضين، حتى لو فرضنا أنهم دخلوا جحر ضب لدخلتموه؛
 يعني أنهم يبالغون في اتباع من مضى من الكفرة والظالمين حتى لو قدر أنهم دخلوا جحر ضب لدخلها هؤلاء المتأخرون.

قالوا: تعني اليهود والنصارى، 
قال: فمن؟
 وفي اللفظ الآخر: فارس والروم؟ 
قال: فمن الناس إلا أولئك؟!

والمعنى أن هذه الأمة تقلد اليهود والنصارى وفارس في عبادة غير الله كعبادة القبور واتخاذ الآلهة من دون الله من الأنبياء والصالحين وهذا موجود الآن في مصر والشام وغير ذلك.

وكثير من الناس يعبدون النبي صلي الله وعليه وسلم إذا جاؤوا إلى قبره دعوه واستغاثوا به وبعضهم يستغيث من بلاد بعيدة بالنبي صلب الله وعليه وسلم أو بالمسيح أو بعيسى أو بموسى أو بعبدالقادر الجيلاني في العراق أو بأبي حنفية في العراق، وهكذا ما يقع في مصر من عبادة الحسين والبدوي وغيرهم ممن بُلي بهم عامة الناس نسأل الله العافية.


وهكذا في الشام يعبدون الداعية إلى الإلحاد ابن عربي وهكذا في أمصار كثيرة في إفريقية وفي المغرب وغير ذلك، كل هذا الذي أخبر به النبي صلي الله وعليه وسلم وقع، وقع في الناس الشرك، وكان في الجزيرة من يعبد زيد بن خطاب في جبيلة، عليه قبة في جبيلة حتى هدمها الشيخ رحمه الله ومن معه، وكانوا يعبدون جملة من الغيران والأشجار في الدرعية وفي الرياض وفي غيرها، حتى أزالها الله بهذه الدعوة المباركة.

وهكذا حديث ثوبان يقول صلي الله وعليه وسلم: 
إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها،
 وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، 
وإن أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض،
 وإني دعوت الله لأمتي ألا يعذبها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدو من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، 
وأن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاء لا يرد، 
وإني أعطيت لأمتك ألا أهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم -يعني من غيرهم- فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا يعني حتى يقع منهم الفتنة والشرك- والفتن فيما بينهم فيتسلط عليهم الأعداء، أما إذا اجتمعوا على الحق وتمسكوا به فإن الله ينصرهم
 كما قال في آخر الحديث: 
ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللهما دام أهل الحق متمسكين به، فإنه لا سلطان للعدو عليهم، فإذا اختلفوا وتنازعوا وتقاتلوا دخل العدو وتمكن من كثير من بلادهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول صلي الله وعليه وسلم: 
إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين يعني دعاة الباطل دعاة الشرك هم أصل البلاء، هم الذين تقع بهم الكوارث، دعاة الشر والفساد من أمراء ومن علماء نسأل الله العافية.

وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، وهذا من أعلام النبوة وقد وقع السيف في عهد عمر وقتل عمر، ثم قتل عثمان ثم استمرت الفتن نسأل الله العافية.

ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللههذا بشارة أن الله جل وعلا يبقي في هذه الأمة طائفة على الحق منصورة تكون قدوة لغيرها في الخير حتى تأتي الريح الطيبة التي يقبض الله بها أرواح المؤمنين والمؤمنات فلا يزال في هذه الأمة من يعبد الله ويستقيم على دينه حتى يأتي أمر الله بقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات فيبقى الأشرار فعليهم تقوم الساعة.

وأخبر أنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي يعني قبيلة وفي اللفظ الآخر: قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، والذي قبلها... لتتبعن سَنن من قبلكم، فأخبر صلي الله وعليه وسلم أنه لا تزال هذه الأمة بالخير ما لم تبتل بالأمة المضلين وما لم تختلف فيما بينها، فإذا اختلف بليت بالشر والتحق منها الكثير بالمشركين وعبدوا الأوثان وقلدوا غيرهم واتبعوا سنن من كان قبلهم بسبب اختلافهم وتقاتلهم وإضاعتهم أمر الله عز وجل.

وفي الحديث هذا:
 أنه سيخرج في أمته كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وهذا وقد وقع وآخرهم الدجال يدعي أنه نبي ثم يدعي أنه رب العالمين وهو آخرهم قبحه الله!
ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.


الأسئلة :

س/ تقليد اليهود والنصارى في أي شيء؟
ج/ في الشرك وغيره كما قد وقع.


س/ما معنى الفئام؟
ج/ يعني الجم الغفير.


س/ قوله: حتى يسبي بعضهم بعضًا يدل على أنهم يكفرون بعضهم؟
ج/ نعم، نسأل الله العافية، وقد أول ذلك في عهد عثمان وعلي أول الفتنة وقعت في عهد عثمان وعلي.

تعليقات