الصبر..
شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار اللهلما كان ببديع حكمته، ولطيف رحمته، قضى أن يبتلي النوع الإنساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم، وأمرهم بالصبر على ذلك، وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك، ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع:
صبر على المأمور..
وصبر عن المحظور..
وصبر على المقدور..
ويشملها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} .
وقوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
ولما كان الصبر لايحصل إلا بالله كما قال:
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} .
أرشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما.
وقال تعالى:
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والصبر ضياء". رواه أحمد ومسلم.
وقال عليه السلام: "ما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" . رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث آخر "الصبر نصف الإيمان" . رواه أبو نعيم والبيهقي في الشعب.
وقال عمر: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". رواه البخاري [معلّقاً قبل: 6470] .
وقال علي بن أبي طالب:
"ألا إن الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بان الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له". والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة.
واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، فالصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والسخط، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم.
قال: وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} .
أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
أخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله، أي: بقدره وأمره
كما قال في الآية الأخرى:
{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
قال ابن عباس في قوله: إلا بإذن الله: إلا بأمر الله،
يعني:
من قدره ومشيئته ومن يؤمن بالله يهد قلبه،
أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة. وقد يخلف عليه أيضًا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرًا منه كما قال:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
قال ابن عباس:
يهد قلبه باليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه
وفي الحديث الصحيح:
عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} :
تنبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضى.
قوله: قال علقمة:
هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح.
وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين.
قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة ... " إلى آخره:
هذا تفسير للإيمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح،
لأن هذا اللازم للإيمان الراسخ في القلب، وقريب منه تفسير سعيد بن جبير:
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} :
يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وأن الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر.
قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"
قوله: "هما":
أي الاثنتان
قوله: "بهم كفر":
أي: هما بالناس، أي: فيهم كفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
أي: هاتان الخصلتان هما كفر قائم في الناس.
فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله:
"ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" . وبين كفر منكّر في الإثبات.
قوله: الطعن في النسب :
أي: عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم.
قوله: "والنياحة على الميت" :
أي: رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر،
وذلك كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه ونحو ذلك.
وفيه دليل على أن الصبر واجب،
لأن النياحة منافية له، فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر ما لا ينقل عن الملة.
قال: ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا:
"ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية" .
قوله: "ليس منا" :
هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلها ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ
في الزجر،
وقيل أي: ليس من أهل سنتنا وطريقتنا،
لأن الفاعل لذلك ارتكب محرمًا، وترك واجبًا. وليس المراد إخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك،
كما يقول الرجل لولده عند معاقبته: لست مني ولست منك، فالمراد أن فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان.
قوله: "من ضرب الخدود" :
قال الحافظ: خص الخد بذلك لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله، قلت: بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر، فكما لو ضرب الخد، فيدخل في معنى ضرب الخد، إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم.
قوله: "وشق الجيوب" :
جمع جيب وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وكانوا يشقونه حزنًا على الميت.
قال الحافظ: والمراد إكمال فتحه إلى آخره.
قلت: الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله.
قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله: هو ندب الميت.
وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور.
وقال الحافظ: أي: من النياحة ونحوها. وكذا الندب به كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور.
وقال ابن القيم_رحمه الله:
الدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثله التعصب للمذاهب والطوائف، والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية، وكونه منتسبًا إليه يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي ويزن الناس به، فكل هذا من دعوى الجاهلية.
والصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله، وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجة، وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور"
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر،
لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم الصبر الواجب، والإضرار بالنفس من لطم الوجه، وإتلاف المال; بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه، والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى، وبدون هذا يثبت التحريم الشديد، فأما الكلمات اليسيرة إذا كانت صدقًا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم، ولا تنافي الصبر الواجب. نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن [عائشة] "أن أبا بكررضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه
وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه" .
وكذلك صح عن "فاطمة رضي الله عنها أنها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه". الحديث.
واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلاً، وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط. وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة، وحلق الشعر، وخمش الوجوه، ونحو ذلك.
أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك فيجوز،
بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، ولا ينافي الرضى بقضاء الله، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.
قلت: ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه إبراهيم:
"تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون" .
وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟
قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" .
قال: وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" .
هذا الأثر رواه الترمذي، والحاكم، وحسنه الترمذي وفي إسناده سعد بن سنان. قال الذهبي في موضع: سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح. وأخرجه الطبراني، والحاكم عن عبد الله بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي.
قوله:
"إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا". قال شارح الجامع الصغير:
أي: بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة، كما يعلم من مقابله الآتي، ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به،
لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها، حتى بالقلم يسقط من الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه.
وفي الصحيح: "لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" .
وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
"لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله:
المصائب نعمة، لأنها مكفرات للذنوب، ولأنها تدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، ومعلوم أن هذا من أعظم النعم، ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب، أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه بحسب ذلك.
فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عزّ وجل رحمة للخلق، والله تبارك وتعالى محمود عليها،
فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها،
وإن اقترن بها للمؤمن معصية، فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال:
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
فحصل له غفران السيئات، ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم. فالصبر واجب على كل مصاب; فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصًا.
قوله: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه"، أي: أخر عنه العقوبة بذنبه.
قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة"، هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبًا بحتى مبنيًّا للفاعل.
قال العزيزي:
"أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفي الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب".
قلت: وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفًا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا، والله تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه، كما لم يرضها لإثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم.
كما قال تعالى:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
لهذا "لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأسقام قال رجل:
يا رسول الله وما الأسقام؟
والله ما مرضت قط قال: قم عنا فلست منا" رواه أبو داود. وهذه الجملة هي آخر الحديث.
فأما قوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن عظم الجزاء ... " إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.
وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافًا لما يظنه كثير من الناس، وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر، وفيه تنبيه على رجاء الله وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره، وفيه معنى قوله تعالى:
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية.
قال المصنف: وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" . حسنه الترمذي.
هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه: حدثنا قتيبة، ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أراد الله بعبده الخير ... " الحديث الذي قبل هذا ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء ... " الحديث. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجة وصححه السيوطي.
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعًا:
"إذا أحب الله قومًا ابتلاهم فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع" .
قال المنذري: رواته ثقات.
قوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء"، بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم، فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقًا.
قلت: ولما كان الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء، كما في حديث سعد:
"سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟
قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" . رواه الدارمي، وابن ماجة، والترمذي وصححه.
وقد يحتج بقوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء".
من يقول:
إن المصائب والأسقام يثاب عليها غير تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إن كانت سببًا لعمل صالح كالتوبة، والاستغفار والصبر والرضى، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث :
"إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من الله عزّ وجل" . رواه أبو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم.
وعلى هذا فيجاب عن الأول "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: إذا صبر واحتسب.
قوله: "وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم":
صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله، ولما كان الأنبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء، وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصب أحدًا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم، ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم.
فإن قلت: كيف يبتلي الله أحبابه؟!
قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم كما صحت بذلك الأحاديث.
وفي أثر إلهي:
"أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب"
ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في
حديث "إذا سبقت للعبد من الله منْزلة ... " الحديث. ولأن ذلك يدعو إلى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب
كما قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه،
ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع إليه;
ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه، ولا يتضرع عند حصول البأساء
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} .
ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم، فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين، فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه، وأن لا تدعو مع الله إلهًا آخر لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة.
فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله بفعل المأمور، وترك المحظور، كنت ممن يعبد الله،
وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك، وهذا كثيرًا ما يحصل بالمصائب.
وإذا كانت هذه النعم في المصائب، فأولى الناس بها أحبابه، فعليهم حينئذ أن يشكروا الله. لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
قوله: "فمن رضي فله الرضى":
أي: من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله جزاءً وفاقًا.
كما قال تعالى:
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
وهذا دليل على فضيلة الرضى، وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال:
"لا تتهم الله في شيء قضاه لك" .
فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، دعاه ذلك إلى الرضى،
قال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
وقال ابن عون: ارْضَ بقضاء الله من عسر
ويسر فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك، ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفًا لهواك؟
ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك، وذلك لقلة علمك بالغيب، إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضى.
ذكره ابن رجب قال: وهذا كلام حسن.
قوله: "ومن سخط"، هو بكسر الخاء قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به:
أي: من سخط أقدار الله فله السخط
أي: من الله وكفى بذلك عقوبة.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على إيجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل.
واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام، وابن القيم. قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.
قال وأما ما جاء من الأثر:
"من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًّا سواي". فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا:
"من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله، فليلتمس إلهًا غير الله".
قال الهيثمي: فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين، وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات.
فإن ثبت هذا دل على وجوبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
وأعلى من ذلك، أي: من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها. انتهى.
واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر الله.
فإن قيل: ما الفرق بين الرضى والصبر؟
فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر،
وقال الخواص: "الصبر دون الرضى، الرضى أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان، والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر".
قلت: كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى، فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث: "وأسألك الرضى بعد القضاء" .
لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة، فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة. قاله ابن رجب.
........... ...
شرح ابن باز لكتاب التوحيد للسيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله
وقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
قال علقمة:
هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال:
اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت.
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
وعن أنس أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم
قال: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة.
وقال النبي صلي الله وعليه وسلم:
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط حسنه الترمذي.
أراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله :
بهذه الترجمة بيان أن الصبر على المصائب من واجبات الإيمان، وأن الواجب على المؤمن ألا يجزع إذا أصابته مصيبة في نفسه أو في ماله أو في ولده أو غيره من أقاربه، فيتحمل ويتصبر ولا يجزع،
قال الله تعالى:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]
ويقول تعالي: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]
ويقول النبي صلي الله وعليه وسلم:
ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر فمن الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله، وعدم الجزع،
قال الله جل وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11] "
قال علقمة" يعني: ابن قيس النخعي أحد التابعين "
هو الرجل تصيبه المصيبة"
يعني: في نفسه أو في ماله أو في ولده "فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"
هذا معنى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]
يعني يؤمن بأن الله قضى هذه القضية وقدرها عليه فيحتسب ويصبر ولا يجزع، فإن الله يهدي قلبه للخير ويطمئنه ويثبته بسبب عمله الطيب.
وهكذا جميع القضايا، هكذا يجب على المؤمن سواء كان في نفسه أو في جماعته أو في بلده أو في المسلمين لا يجزع بل يتصبر ويتحمل ويسأل ربه العافية ويدعو الله بما يحب من الدعوات الطيبة ولإخوانه المسلمين ولا يجزع.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال: اثنتان في الناس هما بهم الكفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت.
الطعن في النسب تنقص الأنساب، وعيب الأنساب تكبرا وتعاظما وازدراء للناس واحتقارا لهم، هذا من أنواع الكفر، المنكر يعني من أنواع القبائح والمنكرات، "وقوله: كفر" يعني: شعبة من شعب الكفر، وهذا كفر دون كفر، ليس من الكفر الأكبر بل هو من الكفر الأصغر الذي يقع في الناس، وكثير من الناس يتنقص أنساب الناس ويطعن فيهم؛ تفاخرا أو تكبرا أو حقدا منه على آل فلان أو آل فلان، وهذا لا يجوز؛
بل يجب على المؤمن أن ينزه لسانه عن ذلك، ولهذا قال صلي الله وعليه وسلم في الحديث الآخر:
أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن:
الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت هذا كله من أعمال الجاهلية،
أما إذا كان على سبيل التعريف، لو كان من باب التمييز فلان من سبيع فلان من بني هاشم فلان من كذا يبين أسباب الناس لا من قبيل الطعن ولا من قبيل التنقص بل من باب الخبر فهذا لا بأس به، وليس داخلاً في هذا.
_والثاني: النياحة،
وهي المقصودة هنا لأنها تدل على الجزع، فلا يجوز للمؤمن النياحة وهي رفع الصوت بالصياح: وا كفياه، وا انكسار ظهراه، وا انقطاع ظهراه، وما يعتبر من النياحة، أما دمع العين وهو البكاء فلا بأس،
كما قال صلي الله وعليه وسلم: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون فدمع العين لا يؤاخذ به ، ولكن رفع الصوت وهو النياحة هذا هو الممنوع، وهو نوع من الجزع ضد الصبر. والواجب الصبر.
وهكذا حديث ابن مسعود: ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية؛
لأن هذا نوع من الجزع، ضرب الخدود وشق الجيوب أو غير الجيب لكن الغالب أنها ..... المرأة من شدة الجزع، والدعاء بدعوى الجاهلية التي يفعلها الجاهليون، وا انقطاع ظهراه، وا انكسار ظهراه، وا كاسياه، وا ناصراه؛ ما يفعله الجهال هذا كله منكر، فيجب التحمل والصبر والثبات، والعلم بأن الله قدر هذه الأقدار وقسمها ولا بد من الموت؛ الموت لا بد منه، وهكذا المصائب الأخرى إذا أصابه فقر أو مرض أو مات ولد له أو أصابه شيء من آفات الدنيا فالواجب الصبر والتحمل وعدم الجزع وعدم عمل الجاهلية؛
ولكن يتحمل ذلك ويصبر، ولا يقول إلا ما يرضي الرب، ويسأل ربه العافية، ويستعين به على أمور دينه ودنياه، ويتعاطى الأسباب التي شرعها الله جل وعلا من الصلاة من قوله:
إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، ويتعاطى الأسباب التي شرعها الله جل وعلا.
وهكذا قوله في حديث أبي موسى عند الشيخين يقول صلي الله وعليه وسلم: أنا برئ من الصالقة والحالقة والشاقة فالصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها،
والشاقة: التي تشق ثوبها، وكل هذا من أمر الجاهلية.
ويقول عليه الصلاة والسلام: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا إذا أراد الله تكفير سيئاته قد تعجل له العقوبة، إما بفقر، وإما بمرض،
وإما بتلف مال، وإما بهلاك الزراعة، وإما بغير هذا من أنواع المصائب، ويصبر ويحتسب فيكفر بها خطاياه وسيئاته. وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه ذنبه، وبقي معافى في بدنه، معافى في ماله، معافى في كل شيء حتى يوافي بذنوبه كاملة يوم القيامة، نسأل الله العافية، فتكون العقوبة أشد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمعنى أن مصائب الدنيا تكفر بها الذنوب والعقوبات، وقد يمحا بها جميع ما على العبد من سيئاته بسبب كثرة ما أصابه من المصائب، فالمؤمن لا يجزع بل يصبر ويحتسب، ويرجو من الله أن يكفر بها خطاياه، وأن يحط بها سيئاته، هكذا يكون المؤمن.
والحديث الآخر يقول:
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط يعني: كلما عظم البلاء عظم الجزاء، إذا اشتد المرض صار الأجر أكثر، وإذا اشتدت المصيبة في المال أو في الولد أو في غير ذلك صار الجزاء أعظم، وصار الثواب أكبر.. إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم يبتليهم ليمحصه،م وليزيل خطاياهم، حتى يلقوه وهم نقيون من الذنوب سالمون؛ فيدخلون الجنة من أول وهلة،
وفي هذا المعنى يقول صلي الله وعليه وسلم:
أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه في الرواية الأخرى: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء
والمقصود: أن ما يصيب العبد من أنواع البلايا إذا كان مؤمنا إذا كان طيبا فإن الله يكفر بها من خطاياه، ويحط بها سيئاته، وقد تكون عقوبة عاجلة فيسلم بها من عقوبة الآخرة، فينبغي له أن يرضى ويحتسب ويسلم ويصبر وأن يحذر الجزع.