"إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ "شرح

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ "شرح


شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 


الخوف على ثلاثة أقسام

الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، فلذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله بوجوب إخلاصه بالله تعالى. 

وقد ذكره الله تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين

 قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} .

 وقال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} .

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} .

 وأمر بإخلاصه له فقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . 

وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} .

 وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 

وهو على ثلاثة أقسام.

_أحدها: 
خوف السر:
 وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، 
سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال،
 فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله ندًّا يخافه هذا الخوف فهو مشرك.

وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم: 
{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

 وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له: 
{إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} .

 وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .

وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور، فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت، 
كما يخافون الله بل أشد. 

ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبًا،
 وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله. ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى، وكذلك لو أصاب أحدًا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب.

 وإذا أراد أن يظلم أحدًا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدًا ولم يتعرض له بالأذى حتى إن بعض الناس أخذ من التجار أموالاً عظيمة أيام موسم الحاج، ثم بعد أيام أظهر الإفلاس، فقام عليه أهل الأموال، فالتجأ إلى قبر في جدة يقال له: 

المظلوم فما تعرض له أحد بمكروه خوفًا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر، وهذا الخوف لا يكون العبد مسلمًا إلا بإخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه.

_الثاني: 
أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس، فهذا محرم؛

وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث: 
"إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول إياي كنت أحق أن تخشى"  رواه أحمد.

_الثالث: 
خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة ؛

وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} .

وقال تعالي : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 

وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} .

 وقال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} . 

وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، ونسبة الأول إليه كنسبة الإسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودًا إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله،

 ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
 هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك، فهو غير محتاج إليه.

_بقي قسم رابع :
وهو الخوف الطبيعي؛

 كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .

إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} :
أي: يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذو بأس وشدة. 

قال الله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} :
 أي: فإذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على الله فإنه كافيكم وناصركم عليهم 

كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... } ، إلى قوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . 

وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} . قاله ابن كثير.

وقال ابن القيم:_رحمه الله: ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر.

 فأخبر تعالى أن هذا من كيده وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، 
قال: والمعنى عند جميع المفسرين: 
يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . 

فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم. 

قلت: فأمر تعالى بإخلاص هذا الخوف له، وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان، فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب، ففيه أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.

قال: وقوله تعالى: 
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ... }  الآية.

لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى: 
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ... } الآية
 إذ لا تنفعهم عمارتها مع الشرك،

 كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .

 أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر، المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة، الذين لا يخشون إلا الله، ولا يخشون معه إلهًا آخر.

 كما قال تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ،

 فهذه هي العمارة النافعة، 
وهي الخالصة من الشرك، فإنه نار تحرق الأعمال.

وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} .

 قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.

قلت: ولهذا قال ابن عباس في الآية: لم يعبد إلا الله، فإن الخوف كما قال ابن القيم: 
عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب.

وقوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} :

 قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: إن أولئك المهتدون، كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 
 وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.

 وتضمنت الآية أن من عَمَّر المساجد من المسلمين بالعبادة، هو من المؤمنين كما في حديث: 

إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان قال تعالي : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} . رواه أحمد والترمذي والحاكم.

قال وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ... } .

قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن قوم من الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام". 

قال ابن عباس: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله".

 وقال ابن القيم:"الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
_ إما أن يقول أحدهم: آمنا،
_ وإما أن لا يقول ذلك،
 بل يستمر على السيئات والكفر،
 فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، 
ومن لم يقل: آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم، ولم يطعهم، عوقب في الدنيا والآخرة، وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان،
 لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير له الألم الدائم. والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه، وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة، ولا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم،
 وإن سلم منهم، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين لمعاوية: 
"من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئًا". 
فمن هداه الله، وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم".

ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم له، ونيلهم إياه بالمكروه، 

وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في قراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. 

فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنْزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه 
قال: إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى.

قلت: وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن 
{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، هو الخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله، وذلك من جملة الخوف من غير الله، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، 
وفيها الخوف على نفسك، والاستعداد للبلاء إذ لا بد منه مع سؤال الله العافية.

من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله.

قال: عن أبي سعيد مرفوعًا:
 "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".

هذا الحديث رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي، 
وقال: ضعيف، وفيه أيضًا عطية العوفي، أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين، وقال: ضعفوه وموسى بن بلال، قال الأزدي: ساقط.

إسناده ضعيف، ومعناه صحيح، وتمامه:
 "وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".

قوله: (إن من ضعف اليقين) :
 قال في "المصباح": والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة والصحة. واليقين المراد به: الإيمان كله كما قال ابن مسعود:
 "اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان"رواه الطبراني بسند صحيح، ورواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الزهد"


من حديثه مرفوعًا ولا يثبت رفعه.
 قاله الحافظ: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق
 كما في حديث ابن عباس مرفوعًا: 
"فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". 

وفي رواية أخرى في إسنادها ضعف: 
"قلت: يا رسول الله: كيف أصنع باليقين؟ 
قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" .


قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) :
أي: تؤثر رضاهم على رضي الله، فتوافقهم على ترك المأمور، أو فعل المحظور استجلابًا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك، 
لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هو النافع الضار، وأنه لا مُعَوَّل إلا على رضاه، وليس لسواه من الأمر شيء كائنًا ما كان فلا يهاب أحدًا، ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته
 كما قال تعالى: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} .

قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله) :
 أي: تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق، بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك، وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء 
وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرًا قيض له أسبابًا ولا ينافي ذلك حديث: 
"من لا يشكر الناس لا يشكر الله". 
لأن المراد هنا إضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق، والمراد بشكر الناس عدم كفر إحسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت، فإن لم تجد فجازهم بالدعاء.

قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله) :
أي: إذا طلبتهم شيئًا فمنعوك ذممتهم على ذلك، فلو علمت يقينًا أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأن المخلوق مُدَبَّر {لا يَمْلِكُ} لنفسه {ضَرّاً وَلانَفْعاً} فضلاً عن غيره، وأن الله لو قدر لك رزقًا; أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه، وإن أرادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في إيصاله إليك; 
لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك إلى الخالق تبارك وتعالى،
 ولهذا قرر ذلك بقوله:
 "إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره". فلا ترض الخلق بما يسخط الله، ولا تحمدهم على رزق الله، ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله طلبًا لحصول رزق من جهتهم،
 {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [فاطر: 2] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله : 
اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعد الله ولا برزق الله، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفًا منهم، ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم،
 ولما قال بعض وفد بني تميم:
 "أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين"= قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله" 

وفي الحديث أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال داخلة في الإيمان وإلا لم تكن هذه الثلاث من ضعفه وأضدادها من قوته.


من التمس رضي الناس بسخط الله سخط الله عليه .

قال: وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس" . رواه ابن حبان في " صحيحه".


 هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة. 
قال: 
"كتب معاوية إلى عائشة أن اكتبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة إلى معاوية: 
سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 
"من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّلَه الله إلى الناس. والسلام عليك" رواه أبو نعيم وغيره.


قوله: "من التمس":
 أي: طلب قال شيخ الإسلام: "وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا", 
هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف:

 "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا". 

هذا اللفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه. وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كافٍ عبده 
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .
 والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب،
 وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك، لكن يرضون إذا سلموا من الإعراض، وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذامًّا، فهذا يقع كفرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم.


 وإنما يحمل الإنسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم، فلو كان خوفه خالصًا لله لما أرضاهم بسخطه، فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة، وما بهم من نعمة فمن الله، فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، ومنه الخير كله،
 {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} ، [هود، من الآية: 123] ،
 {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران، من الآية: 6] 

وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في
 قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 

وما أحسن ما قيل:

إذا صح منك الود يا غاية المنى
          فكل الذي فوق التراب تراب

قال ابن رجب _رحمه الله : 
فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، [صّ، من الآية: 5] .


وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضي الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذًا بالله من ذلك. فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الأموال والأبدان. 

وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب، لا سيما في الدين، فإن كثيرًا من الناس يفعل المعاصي ويستهين ولا يرى أثرًا لعقوبتها، ولا يدري المسكين بماذا أُصيب فقد تكون عقوبته في قلبه 

كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} . 


........      .....

شرح القول المفيد لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله
باب قول الله تعالى:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .


مناسبة الباب لما قبله:
أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله 
أعقب باب المحبة بباب الخوف; لأن العبادة ترتكز على شيئين: المحبة، والخوف.

فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس.

فلو سألت من لا يزني لماذا; لقال: خوفا من الله.
 ولو سألت الذي يصلي; لقال: طمعا في ثواب الله ومحبة له.
وكل منهما ملازم للآخر;
 فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته.

وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف، أو يغلب جانب الرجاء؟

اختلف في ذلك:

فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف; ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة.

وقيل: يغلب جانب الرجاء; ليكون متفائلا والرسول كان يعجبه الفأل .

وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، 

ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء; فانتظر الإجابة، 
لأن الله يقول:
 {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، [غافر: من الآية60
وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب. وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل;
 لأن الله يقول:

 {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} ، [المؤمنون:60] :
 أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال بأن هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى; 
كقوله (في الحديث القدسي عن ربه:
 (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني )

وقيل: 
في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف. فهذه أربعة أقوال.

وقال الإمام أحمد: 
ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا;
 فأيهما غلب هلك صاحبه; 
أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط.

وخوف الله تعالى درجات؛
 -فمن الناس من يغلو في خوفه، 
-ومنهم من يفرط،
- ومنهم من يعتدل في خوفه.

والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا; فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله.
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه.

والخوف أقسام:

_الأول: 
خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، 
وهو ما يسمى بخوف السر؛ 
وهذا لا يصلح إلا لله - سبحانه -، فمن أشرك فيه مع الله غيره; فهو مشرك شركا أكبر، 

وذلك مثل: 
من يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم; 

كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله.

_الثاني:
 الخوف الطبيعي والجبلي;
 فهذا في الأصل مباح;
 لقوله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} ، [القصص: من الآية21] ، 

وقوله عنه أيضا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، [القصص:33] ، 

لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم; 
فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا، فمثلا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها;
 فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به. وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به;
 فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه; 
فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه.

وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف،
 مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يتهدده; فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها، وإذا لم تطاردها; 
فإنها تهلكك.

مناسبة الخوف للتوحيد: 
أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد.

وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيه ثلاث آيات:
_أولها ما جعلها ترجمة للباب:
 وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، [آل عمران: من الآية175] .

"إنما ذلكم":
 صيغة حصر، والمشار إليه التخويف من المشركين.
"ذلكم": ذا؛ مبتدأ، 
و"الشيطان": يحتمل أن يكون خبر المبتدأ، وجملة "يخوف" حال من الشيطان.

ويحتمل أن يكون "الشيطان" صفة لـ"ذلكم"، أو عطف بيان.

و"يخوف": 
خبر المبتدأ، والمعنى: ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياءه.

و"يخوف" :
تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني: "أولياءه"، ومعنى يخوفكم; أي: يوقع الخوف في قلوبكم منهم.

و"أولياءه"; 
أي: أنصاره الذين ينصرون الفحشاء 

والمنكر; لأن الشيطان يأمر بذلك; فكل من نصر الفحشاء 

والمنكر; فهو من أولياء الشيطان، ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد; فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك.


وقوله: "يخوف أولياءه" :
من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ، [آل عمران: من الآية173] ، 
وذلك ليصدوهم عن واجب من واجبات الدين، وهو الجهاد، فيخوفونهم بذلك،
وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف، أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية.

والحاصل:
 أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان في نفسك الخوف; 

فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل; 

فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه؟!
 وكم من جبان قتل في بيته؟!

وانظر إلى خالد بن الوليد، كان شجاعا مقداما، ومات على فراشه، وما دام الإنسان قائما بأمر الله; فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون.


قوله: " فلا تخافوهم ":
 لا ناهية، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك;
 أي: بل امضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، 
ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [آل عمران: من الآية175] ، 

وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، وإلا لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس،

 ولهذا قيل في المثل: 
من خاف الله خافه كل شيء، ومن اتقى الله اتقاه كل شيء، ومن خاف من غير الله خاف من كل شيء.

ويفهم من الآية :
أن الخوف من الشيطان وأوليائه مناف للإيمان، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك; فهو مناف لأصله،
 وإلا; فهو مناف لكماله.


وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ،

الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُر} :
 "إنما": أداة حصر، 
والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، 
وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي; 
فإن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله;
 لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة; لعدم انتفاعه بهذه العمارة; 
فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر،
 ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام; 
قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا; لأنها موضع عبادته.


قوله: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ):
"من": فاعل يعمر.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور،
 وهي:
- الإيمان بوجوده.
- وربوبيته.
- وألوهيته.
- وأسمائه وصفاته.

و {اليوم الآخر} : هو يوم القيامة، وسمي بذلك;
 لأنه لا يوم بعده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 
ويدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به النبي ( مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء.

ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا; 
لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء; حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل; إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به؟!

قوله: "وأقام الصلاة": أي: أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه.

والإقامة نوعان:
_إقامة واجبة:
وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات.

_وإقامة مستحبة:
 وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب؛ فيأتي بالواجب والمستحب.


قوله: "وآتى الزكاة": 
"آتى" تنصب مفعولين؛ الأول هنا الزكاة، والثاني محذوف، تقديره مستحقها.

والزكاة: هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله.


قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} ؛
 في هذه الآية حصر، طريقه الإثبات والنفي.
"ولم يخش" نفي، "إلا الله" إثبات.

والمعنى: أن خشيته انحصرت في الله - عزوجل - فلا يخشى غيره. والخشية نوع منالخوف، لكنها أخص منه، والفرق بينهما:

1- أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله;
 لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، [فاطر: من الآية28] ، والخوف قد يكون من الجاهل.

2- أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف; فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.

قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، [التوبة: من الآية18] ، 
قال ابن عباس: (عسى من الله واجبة ((1) وجاءت بصيغة الترجي; 
لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} ، [النساء:98-99] ، 
فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها; فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو.

الشاهد من الآية: 
قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} ؛ 
ولهذا قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} ،

 ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل.

 ومن أراد أن يصحح هذا المسير; 
فليتأمل قول الرسول ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك (2) .


وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، [العنكبوت: من الآية10] ، الآية.

الآية الثالثة قوله تعالى: 
"ومن الناس": جار ومجرور خبر مقدم، 
و"من" تبعيضية.

وقوله: "من يقول": "من": مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء: من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه; فيقول: آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف; 
كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} ، [الحج: من الآية11] ، "على حرف" ; 
أي: على طرف.
فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله.

قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} ، "في": للسببية;
 أي: بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه.
 ويجوز أن تكون "في" للظرفية على تقدير: "فإذا أوذي في شرع الله"; 
أي: إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به.

قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} :
"جعل": صير، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنة; لأن الإنسان يفتتن به، فيصد عن سبيل الله; 
كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} ، [البروج: من الآية10] ،
 وإضافة الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله.

قوله: "كعذاب الله": ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله،فيوافق أمره; فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله; فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا لهذه الفتنة كالعذاب; فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله;
 لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله، ففر منه بموافقة أمرهم; فالآية موافقة للترجمة.

وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة، وهي ابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه
 وذلك على قسمين:

_الأول: 
ما يقدره الله نفسه على العبد;
 كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} ، [الحج: من الآية11] ، 

وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، [البقرة: من الآية155-156] .

_الثاني: 
ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف.
وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانا- والعياذ بالله-، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله (في موقفه في تلك المصيبة; وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما; فليكن المسلم على حذر; فالله حكيم، يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان،
 قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] .

قوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، 
وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ، [العنكبوت: من الآية10] .

كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا: نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها.

وقوله: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ، [العنكبوت: من الآية10] ، 
قيل في مثل هذا السياق: إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق.

وقيل: إنها عاطفة على ما سبقها، على تقدير أن الهمزة بعدها، أي: وأليس الله.

قوله: "أعلم" مجرور بالفتحة;
 لأنه ممنوع من الصرف للوصفية، ووزن الفعل.

فالله أعلم بما في صدور العالمين:
أي بما في صدور الجميع; فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك;
 لأن علم الله عام.

وكلمة "أعلم": اسم تفضيل، 
وقال بعض المفسرين ولاسيما المتأخرون منهم: "أعلم" بمعنى عالم، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ; ففيه فساد المعنى;
 لأنك إذا قلت: أعلم بمعنى عالم، فإن كلمة عالم تكون للإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل; فالله عالم والإنسان عالم.

وأما تحريف اللفظ; فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك.

والصواب أن "أعلم" على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل; فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل.

عن أبي سعيد (مرفوعا: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله،..............................................

وقوله: {بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ،
 المراد بالعالمين: كل من سوى الله; لأنهم علم على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته.

والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك; لعموم الآية.

وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول (حين رجع:
 (إني قد أوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا; لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه ) .

الشاهد من الآية: 
قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} ، [العنكبوت: من الآية10] ، فخاف الناس مثل خوف الله تعالى.


قوله: في حديث أبي سعيد: "إن من ضعف اليقين": "من": للتبعيض، والضعف ضد القوة، 
ويقال: ضَعف بفتح الضاد أو ضُعف بضم الضاد، وكلاهما بمعنى واحد; أي: من علامة ضعف اليقين.


قوله: " أن ترضي الناس بسخط الله ":
"أن ترضي": اسم إن مؤخرا، و "من ضعف اليقين": خبرها مقدما والتقدير: إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين.


قوله: "بسخط الله": الباء للعوض؛
يعني: أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله، فتستبدل هذا بهذا; فهذا من ضعف اليقين.

واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، كما تقول: تيقنت هذا الشيء، أي: علمته يقينا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله; إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم;
 فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أمن في ذلك من الغرور.

وأن تحمدهم على رزق الله،..........................................

قوله: " وأن تحمدهم على رزق الله ":
 الحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم، ولكنه هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم; لأنه يشمل المدح.


و"رزق الله": عطاء الله;
 أي: إذا أعطوك شيئا حمدتهم، ونسيت المسبب وهو الله،
 والمعنى: أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب، وهو الله; فالذي أعطاك سبب فقط، والمعطي هو الله، ولهذا قال النبي : (إنما أنا قاسم، والله يعطي ).

أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك; فليست هذا داخلا في الحديث، بل هو من الشرع; 
لقوله: (من صنع إليكم معروفا; فكافئوه، فإن لم تجدوا ماتكافئونه به; فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ).

إذن الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد: 
أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا المسبب وهو الله (، وهذا من ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلي، وهو الله (الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضا; لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيده، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم
 وقال له: أعطها فلانا، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب; لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها; 
لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط، وعلى هذا; فنقول: إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء; فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب، وأن الحمد كله لله (فهذا حق، وليس من ضعف اليقين.


وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله،........................................

قوله: " وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ": هذه عكس الأولى; 
فمثلا: لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه وشتمه; 
فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن من قصر بواجب عليه، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل أنه لم يعط; فلا يذم من حيث القدر; لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء.

وقوله: "ما لم يؤتك": علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف; لأنه فضلة، والتقدير: ما لم يؤتكه.

إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره 
قوله: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره )، هذا تعليل;
 لقوله: " أن تحمدهم وأن تذمهم ".


و"رزق الله": 
عطاؤه، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب; فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل،
 وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسبابا قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك.


وقوله: " ولا يرده كراهية كاره ": 
أي: أن رزق الله إذا قدر للعبد; فلن يمنعه عنه كراهية كاره; فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.

وعن عائشة رضي الله عنها; أن رسول الله ؛
قال: (من التمس رضا الله بسخط الناس وأرضى عنه الناس، ومن التمسك رضا الناس بسخط الله; سخط الله عليه وأسخط عليه الناس (رواه ابن حبان في " صحيحه" .


قوله: في حديث عائشة رضي الله عنها: (من التمس رضا الله بسخط الناس (، "التمس ": طلب، ومنه قوله في ليلة القدر: التمسوها في العشر ).

وقوله: "رضا الله": 
أي: أسباب رضاه.

وقوله: "بسخط الناس": 
الباء للعوض; أي: إنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط: " رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ".

وقوله: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس": 
هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه؛ لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته; لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

قوله: (ومن التمس رضا الناس بسخط الله ):
"التمس": طلب; 
أي: طلب ما يرضي الناس، ولو كان يسخط الله; فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، 
لهذا قال: "سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"; فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته.

مناسبة الحديث:
قوله: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله";
 أي: خوفا منهم حتى يرضوا عنه; فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى.

فيستفاد من الحديث ما يلي:

1- وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس لأن الله هو الذي ينفع ويضر.

2- أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان.

3- إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين;
 لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، [الشورى: من الآية11] ، 
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة،
 وأما أهل التعطيل; فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ; 
لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق،
 فنرد عليهم بأمرين: بالمنع، ثم النقض:

فالمنع: أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله (كغضب المخلوقين.

والنقض: فنقول للأشاعرة: أنتم أثبتم لله 
(الإرادة، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، والرب (لا يليق به ذلك، فإذا قالوا: هذه إرادة المخلوق. 
نقول: والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق. وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية; فهذه الأقيسة باطلة لوجوه:

_الأول: 
أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق، ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع.

_الثاني: 
أنه تقول على الله بغير علم; لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر; فيقال له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص؟
 ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل.

_الثالث: 
أن فيه جناية على النصوص، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه; لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب; فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله (كفرا أو ضلالا).

_الرابع:
 أن فيها طعنا في الرسول (وخلفائه الراشدين; لأننا نقول: هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول (وخلفاؤه يعلمون بها أم لا؟
فإن قالوا: لا يعلمون; فقد اتهموهم بالقصور، 
وإن قالوا: يعلمون ولم يبينوها; فقد اتهموهم بالتقصير. فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها، لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما:
التمثيل والتكييف; 
لقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ، [النحل: من الآية74] ،
 وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، [الإسراء: من الآية36] ، فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين; فلا تستوحش من إثبات ذلك;
 لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا، وهو يريد لخلقه الهداية، 
وإذا أثبت رسوله (ذلك له; فلا تستوحش من إثباته; 
لأنه :
أصدق الخلق.
وأعلمهم بما يقول عن الله.
وأبلغهم نطقا وفصاحة.
وأنصح الخلق للخلق.

فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله، 

وقال: هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب; 
فيقال: هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، 
أما الذين آمنوا; فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى،
 قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، [النساء: من الآية26] ، فهو لا يريد أن يعمي عليهم الأمر، فيقول: إنه يغضب وهو لا يغضب، ويقول: إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان.

فيه مسائل:
_الأولى: 
تفسير آية آل عمران: وهي قوله تعالى:
 {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [آل عمران:175] ، وسبق.

_الثانية:
 تفسير آية براءة: 
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّااللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، [التوبة: من الآية18] ، وسبق.

_الثالثة:
 تفسير آية العنكبوت: 
وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، [العنكبوت: من الآية10] ، وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق.

_الرابعة:
 أن اليقين يضعف ويقوى: تؤخذ من الحديث:
 "إن من ضعف اليقين ... " الحديث.

_الخامسة: 
علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث:
 وهي: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله.

_السادسة: 
أن إخلاص الخوف لله من الفرائض:
 وتؤخذ من قوله (في الحديث: "من التمس ... " الحديث، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى.

_السابعة:
 ذكر ثواب من فعله: وهو رضا الله عنه، وأنه يرضي عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة.

_الثامنة: 
ذكر عقاب من تركه: وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده.

وخلاصة الباب:
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه; فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله;
 انقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده، بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.


.......    .....
شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله

باب قول الله تعالى:
 إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 

وقوله تعالي : 
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.


وقوله تعالي: 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.


عن أبي سعيد  مرفوعا:
 إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.


وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه.


يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب_ رحمه الله:
 "باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]" 

أراد الشيخ محمد بن عبدالوهاب_رحمه الله
  بهذه الترجمة بيان وجوب خوف الله تعالى،
 وأن الواجب على العبد أن يخاف ربه خوفا يحمله على إخلاص العبادة له سبحانه، ويحمله على أداء ما فرض عليه، ويحمله عن الكف عما حرم الله عليه، ويحمله على الوقوف عند حدوده ، هذه فائدة الخوف أن يكون خوفًا حقيقيًا يحمله على أداء الفرائض وترك المحارم والوقوف عند حدود الله والإخلاص له في العمل، 

والخوف أقسام ثلاث:
_ أحدهما: 
الخوف من الله وهو أوجبها وأعظمها، ويجب إخلاصه لله ، وهذا صرفه لغير الله شرك، فمن خاف غير الله من أصنام أو أوثان أو أشجار أو أحجار يعتقد فيها أن لها تصرف، 
وأنه يخاف شرها، فهذا من الشرك الأكبر كخوف عباد القبور وعبادا الأصنام منها وعباد الكواكب وهذا يقال له خوف السر، وهذا يجب إخلاصه لله، ويجب الحذر من صرفه لغير الله .


_القسم الثاني: 
خوف يحمل على فعل المعصية أو ترك واجب من المخلوقين خوف المخلوقين على هذا الوجه فهذا لا يجوز وفيه نزل قوله تعالى:
 فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] أو يحمله الخوف على عدم الجهاد، على عدم أداء الواجب، إلى غير ذلك، بل يجب عليه أن يخاف الله ، وأن يراقب الله، وإذا خاف المخلوقين فليكن خوفه من المخلوق بحدود شرعية، خوفا يحمله على ما شرع الله، وعلى ما أباح الله فقط، ولا يحمله على المعاصي، فالخوف من المخلوق من الأشياء الطبيعية والأشياء الحسية جائز؛ 
كخوفه من اللصوص فيغلق بابه أو يضع حارسا عند بابه أو في مزرعته أو نحو ذلك، هذا خوف فطر الله عليه الناس وهو خوف جائز يجب أن يوجد مقتضاه من الحراسة وضبط الأمور ونحو ذلك، أو خوفه من التخمة فلا يأكل ما يضره، أو خوفه من السم فيبتعد عما يضره، أو من السباع فيأخذ السلاح إذا سار في الطريق الذي فيه السباع،
 وما أشبه ذلك من الخوف الذي شرع الله فيه التحرز والبعد عما يضر الإنسان؛
 لكن لا يجوز أن يحمله هذا الخوف على فعل المعاصي أو ترك الواجبات، فإذا خاف من مخلوق خوفا يحمله على أن يدع الجهاد الواجب أو على أن يعصي لخوف الناس أو لسبب الناس أو بترك ما أوجب الله ..... الفواحش صار خوفا محرما؛ لأنه جره إلى ما حرم الله .


_النوع الثالث:
 نوع طبيعي عادي لا يحمله على فعل محرم ولا على ترك واجب، كخوفه من الحية والعقرب وأشباه ذلك فيتجنب ذلك. وخوفه من اللص فيغلق بابه وأشباه ذلك، هذا خوف جائز لا محذور فيه إذا لم يحمله على ما حرم الله، ولم يحمله على ترك ما أوجب الله، ولهذا 
قال تعالى:
 إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] هذا في النوع الثاني، وهو ما وقع يوم أحد من دس الشيطان التخويف من الكفار والتثبيط عن الجهاد فنهاهم الله عن ذلك، وقال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] 
وأمرهم بجهاد أعداء الله فنفر إليهم النبي صلي الله وعليه وسلم بمن معه من الصحابة بعد وقعة أحد فشرد المشركون إلى بلادهم ورجع النبي صلي الله وعليه وسلم يوم حمراء الأسد ولم يكن شيئا؛ 
لأن المشركين قد ذهبوا إلى بلادهم بعد الوقعة، وهذا ليس خاصا بهذه الوقعة؛ 
بل هو عام فكل خوف يحمل على فعل المعصية أو ترك الواجب فهو مذموم منهي عنه، 
وهكذا قوله جل وعلا:
 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]
 يعني أفرده بالخوف، وهذا خوف السر الذي أوجبه الله، وهكذا الخوف الذي يحمله على المعاصي أو ترك الواجب هذا يجب تركه، فيجب على المؤمن أن يخشى الله وحده خشية عظيمة كاملة يخص الله به ، 
كما يحمله أيضا خوف الله على فعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله، وكما يوجب عليه ذلك تقواه سبحانه والمسارعة إلى ما أوجب وترك ما حرم فإن هذا كله مما أوجب الله عليه، وهذا خوف مشروع له ومأمور به، إنما المنهي عنه أن تخاف من المخلوق خوفا يحملك على فعل ما حرم الله عليك وترك ما أوجب الله عليك، ولهذا قال: لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18] ......كلها بل أفرده بالخوف وخصه بالخوف الذي أوجبه عليه ، وليس داخلا في ذلك الخوف الطبيعي كما عرفت بل هو مستثنى من ذلك إلا إذا حمل على فعل محرم أو ترك واجب.

وهكذا قوله جل وعلا:
 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] هذا ذم له، فبعض الناس إذا أوذي لم يصبر ولم يتحمل بل يحمله ذلك على فعل ما حرم الله وترك ما أوجب الله وهذا مذموم، بل يجب عليه أن يتقي الله وأن يراقب الله، وإذا أوذي في الله أخذ الأمور من وجهها الشرعي بالمحاكمة بالقصاص بالشكوى إلى ولاة الأمور،
 أما أن يحمله ذلك على ترك ما أوجب الله عليه وفعل ما حرم الله عليه فهذا غير جائز له، بل يجب عليه الحذر من ذلك، وأن يدفع الأذى بالطرق الشرعية، أذى الناس يدفع بالطرق الشرعية من المحاكمة من القصاص من الرفع إلى ولاة الأمور إلى غير هذا من الطرق الجائزة التي يجوز له فعله ليدفع الأذى.


وفي حديث أبي سعيد يقول صلي الله وعليه وسلم:
 إن من ضعف اليقين  يعني من ضعف الإيمان، اليقين هو الإيمان كله- إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. 
هذا من ضعف الإيمان إرضاء الناس بسخط الله في المعاصي، هذا من ضعف الإيمان، كذلك حمدهم على رزق الله الذي ساقه الله إليك احمد الله واشكره .
 وإذا فعلوا لك معروفا هم يشكرون على معروفهم ويجازون؛ لكن الحمد كله لله وحده، هو الذي هداهم، هو الذي جعلهم يحسنون إليك، هو الذي جعلهم يبذلون المعروف فتشكر الله أولا وتحمده  وتخصه بذلك وتشكر المخلوقين على قدر إحسانهم من لا يشكر الناس لا يشكر الله فيشكرون على قدر إحسانهم، ويثنى عليهم ويكافؤون؛ لكن يكون في قلبك حمد الله أعظم وشكر الله أكبر؛ 
لأنه المسبب فهو الذي هداهم وهو الذي حرّك قلوبهم حتى ساقوا إليك هذا الخير من كفاءة في دفع ظلامتك، والإحسان إليك، من قضاء دينك، من مواساة لك، تشكرهم على ذلك، وتدعو لهم، لكن الشكر الحقيقي الذي يجب أن يستقر في القلب يكون لله وحده؛ لأنه هو الذي ساق إليك هذا الخير.

كذلك ذمهم على ما لم يؤتك الله ما أعطاني فلان ما فعل بي فلان ما أحسن لي فلان ما واساني فلان لا، اسأل الله  وإن كان لك حق عندهم فلن يضيعه الله لك، سوف يجزيك عنه يوم القيامة إذا جحدوك، ولكن هذا لا يمنع من طلب الحق الذي عليهم، تطلب دينك، تطلب حقك من الزكاة، إذا كنت من أهل الزكاة لا مانع من ذلك، لكن لا تذمهم على ذلك من أجل أنهم لم يعطوك لا، تذم من ذمه الله، وتحمد من حمده الله، تذمهم لأنهم عصوا الله ورسوله بترك الزكاة بترك الواجب بترك تسليم دينك، تذمهم على ما حرم الله عليهم؛ لكن لا من أجل نفسك، هذا من أجل أنهم فعلوا ما لا ينبغي فلست ممن ينتقم لنفسه، ولكنك تذم من ذمه الله، وتثني على من أثنى الله عليه.


ثم قال: إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره. يعني الرزق الذي لم يقدر لك لا يجره حرصك إنما عليك الأسباب كما قال النبي صلي الله وعليه وسلم: احرص على ما ينفعك واستعن بالله. عليك أن تعمل الأسباب؛ ولكن لا تجزع إذا لم يحصل المطلوب، فهذا من أمر الله 
قل: قدر الله وما شاء فعل .

وكذلك تعلم أنه لا يرده كراهية كاره ما قدره الله لك من الأرزاق، سيأتيك ولو كره زيد أو عمرو ولو كره الناس فعليك أن تؤمن بهذا، وأن تأخذ بالأسباب، وأن تعلم أن رزق الله الذي كتبه لك سوف يأتي وأن ما لم يكتبه فلك فلن يأتي وإن اجتمع الناس على أن يأتوا به لا يستطيعون.

وهكذا قوله صلي الله وعليه وسلم في حديث عائشة: من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

 هذا حديث عظيم يجب على المؤمن أن يلتمس رضا الله وأن يعتني برضا الله، وأن يأخذ بأسباب رضا الله؛ 

لأن الله إذا رضي حصل لك به كل خير وإذا سخط حصل لك كل شر، فعليك بالتماس رضاه وطاعة أمره ولو غضب الناس، لكن لا يمنعه ذلك من مداراتهم اتقاء شرهم بالأسباب التي شرعها الله،
 ولكن ليس ذلك يجيز لك أن ترضيهم بسخط الله، بل عليك أن تؤدي حق الله، وتدع معصية الله وإن سخط الناس، وعليك أن تدفع شرهم بالطرق التي شرعها الله .

ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: 
"من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" و..... له ذلك، فعلى المؤمن أن يأخذ بالحزم وعليه بالجد، فيلتمس رضا الله وإن سخط الله، ويبتعد عن رضا الناس بسخط الله، ولو رجى معروفهم أو إحسانهم فالأمر إلى الله ،
 فيلتمس الخير من عند الله، وليأخذ بالأسباب الشرعية في طلب الرزق، ولا يضره كونهم سخطوا أو رضوا، الواجب أن يقدم حق الله ويلتمس رضاه وأن يبتعد عن إرضاء الناس بسخطه ، مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله من جلب الرزق، ودفع الرزق، 
وفي أخذ حقك من الناس بالطرق الشرعية التي ليس منها إرضاؤهم بسخط الله، وليس منها ترك ما أوجب الله عليك أو فعل ما حرم الله عليك من أجل مراءاتهم بل عليك أن تأخذ بالحزم وأن .... بمقتضى الإيمان وتلتمس رضا الله بسخط الناس، ولو سخطوا وتمتنع عن إرضائهم بسخط الله ولو قطعوا راتبك أو فعلوا أو فعلوا فالرزق عند الله وهو الذي بيده كل الأمور .
تعليقات