التوكل للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله

التوكل للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله


شرح كتاب التوحيد للشيخ محمدبن عبد الوهاب_رحمه الله
باب قول الله تعالى: "وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... " 

التوكل قسمان :

قال أبو السعادات: يقال: 
توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلانًا:
 إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى.

ومراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى ؟
لأنه من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد. 
بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام 
ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه كما في الآية

وقوله تعالى: 
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 

وقوله تعالى: 
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 

 وقوله تعالي:
 {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 

وقوله تعالي :
 {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} 

وقوله تعالي : 
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 

وقوله تعالي :
 {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.. وغير ذلك من الآيات.


وفي الحديث:
 "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس إيمانًا فليتوكل على الله"
 رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والحاكم 

وفي حديث آخر :
"لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا". رواه أحمد وابن ماجة.

 قال الإمام أحمد: 
التوكل عمل القلب.

 وقال أبو إسماعيل الأنصاري: 
التوكل كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته.


إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ولا يرتدوا على أدبارهم خوفًا من الجبارين،
 بل يمضوا قدمًا لا يهابونهم ولا يخشونهم، متوكلين على الله في هزيمتهم، مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.


قال ابن القيم _رحمه الله: 
فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. 


وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} .


 فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، 
وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ؟ 


فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد. 

والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة، 
وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى،
 وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية.

 فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منْزلته منها كمنْزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، 
فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل.


وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك. 


قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله:
 وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك:
 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .


لكن التوكل على غير الله قسمان:

_ أحدهما:
 التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات

والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.

_الثاني: 
التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك... فهذا نوع شرك خفي، 


والوكالة الجائزة :
هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه. 
ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام.

وقوله تعالي :
 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } 

قال ابن عباس في الآية: 
المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين،

 ثم وصف المؤمنين فقال تعالي :
 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. 


وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه :
أي: خاف من الله ففعل أوامره، وترك زواجره، 
فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور، وترك المحظور 
كما قال تعالى: 
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 


ولهذا قال السدي في قوله:
 {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} :
 هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية،
 فيقال له: اتق الله فيجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم.


وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 
 قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان

ونقصانه. قال عمر بن حبيب [الْخُطمي] الصحابي:
 إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له: 

وما زيادته وما نقصانه؟

 قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، 
وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. رواه ابن سعد.


 وقال مجاهد في هذه الآية: 
الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، رواه ابن أبي حاتم، وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم.


وقوله تعالي :
 {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 
أي: يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم وحده لا شريك له، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له.


وفي الآية وصف المؤمنين حقًّا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: 
الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده.

فإن قيل: 
إذا كان المؤمن حقًّا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء؟

قيل:
 لأن ما ذكر مستلزم لما ترك، فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته، مع التوكل عليه، وأقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، والإنفاق من المال والمنافع فكان مستلزمًا للباقي. 
فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، 
وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. 

وكذلك زيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يقتضي زيادته علمًا وعملاً، ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه. وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، 

فمن قام بهذه الخمس كما أُمِرَ لزم أن يأتي بسائر الواجبات، بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الإسلام.


وقوله تعالي : 
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 


قال ابن القيم_رحمه الله: أي: 
الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلاتحتاجون معه إلى أحد، 

وقيل: 
المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون. 


قال ابن القيم _رحمه الله : 
وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة.


 قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}

 ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب


 فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
 ولم يقولوا: 
حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟!
 وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله، فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
 هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل.

ونظير هذا قوله سبحانه: 
{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 
فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول
 كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}


وجعل الحسب له، فلم يقل:
 وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، 
كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}
 ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، 


كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}  :
فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه.


وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة:
لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله، وحسب أتباعه.
 أي: كافيهم وناصرهم، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، [الحج: من الآية: 78] ،

 وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب، استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل.



وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 

قال ابن القيم _رحمه الله :
أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش.

 وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، 
وهو في الحقيقة إحسان إليه، وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يشتفى به منه. 

قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، 


قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} :
 ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا، وكفاه، ونصره.


وفي أثر رواه أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه،
 قال الله عزّ وجل في بعض كتبه: 
"بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له بذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه".


وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار !
لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه،
 لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبًا له، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله.


وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى، ثم ذكر التوكل، 

كما قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . 
فجعل التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها، 
فحينئذ إذا توكل على الله، فهو حسبه، 
فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، 
فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكر معناه ابن القيم_رحمه الله.


قال عن ابن عباس: 
قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} :
 قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، 
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:
 {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . رواه البخاري.

قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ}:
 أي: كافينا فلا نتوكل إلا عليه، 

كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
أي كافيه. 
كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .


قوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}:
 أي: نعم الموكل إليه المتوكل عليه;

 كما قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 
 فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء إليه،


 قال ابن القيم_رحمه الله : 
وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير وهو نعم المولى، ونعم النصير، 
فمن تولاه، واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه، تولاه، وحفظه وحرسه، وصانه، ومن خافه، واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع.


قوله تعالي :
 "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار"، 

وفي رواية عن " ابن عباس: قال: 
كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . 
رواه البخاري، وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء [51-73] عليهم السلام.


قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم ... " إلى آخره، وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان. 
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان وعبد الله ابن مسعود، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، 
وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة، ومر به ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ 
فقالوا: نرييد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه؟
 قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه،
 فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . 
والقصة مشهورة في السير والتفاسير.


ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد، ولهذا جاء في الحديث:
 "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل". رواه ابن مردويه 
وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان، 
بل يجب على العبد القيام بهما،
 كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام،
 ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك: 
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر:
 حسبي الله ونعم الوكيل، 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل. قال: ما قلت؟
 قال: قلت: 
حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". 
وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص.

 
قال مجاهد في قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} .
 قال:الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرًا له، وأن التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير، ودفع الشر في الدنيا والآخرة.

..........   ......

شرح الشيخ ابن باز لكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله
باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين.

وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.


وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.


وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.


وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: 
"حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلي الله وعليه وسلم حين قالوا له:
 إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " 
رواه البخاري والنسائي.


 هذا الباب في قول الله تعالى:
 وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] 
وما جاء في معناها، أراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب_رحمه الله بهذه الترجمة بيان وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور في أمور الدنيا والدين جميعا، 

والتوكل هو التفويض إلى الله والثقة به سبحانه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن كل شيء بيده، 
وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن.
والمؤمن يثق بربه، ويعتمد عليه، ويعلم أنه قد سبق قضاؤه وقدره بكل شيء، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه مصرف الأمور، ومسبب الأسباب؛ 
فيؤمن بهذا، ويتعاطى مع ذلك ما شرعه الله وما أباحه من أسباب ،
 فالتوكل الثقة بالله والاعتماد عليه،
 فهذا واجب، على المؤمنين أن يعتمدوا على الله، وأن يعلموا أنه مسبب الأسباب، ومدبر الأمور، ومصرف الأشياء، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس للعبد قدرة على أي شيء لم يشأه ربه ، 

وهكذا قوله جل وعلا:
 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]


 وهكذا قوله سبحانه: 
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]


 وقوله سبحانه: 
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]


 كل هذا يدل على وجوب التوكل، فإن حسبك الله يعني: كافيك الله، وكافي أتباعك من المؤمنين، 


وهكذا قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] 
يعني: كافيه عن كل أحد، ومن كفاه الله ما أهمه لم يحتج إلى أحد، فالواجب على المؤمن أن يتوكل على الله ، وأن يضرع إليه؛ 
ولكن لا يمنعه هذا من تعاطي الأسباب، فيعمل بطاعة الله، ويدع معاصي الله؛ 

لأن هذه أسباب الجنة، فيأكل ويشرب
 لأنها أسباب حياته، ويتجنب المؤذيات التي تضره كوقوعه في النار أو إلقائه نفسه في الآبار أو لتعرضه للسباع أو أكله ما يهلكه كالسموم أو ما أشبه ذلك، فعليه أن يتعاطى الأسباب النافعة،
 وأن يحذر الأسباب الضارة، كل هذا مع التوكل 
فالتوكل يجمع الأمرين ؟!

_الأمر الأول: 
الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، ومصرف الأمور، وأن كل شيء بيده .

_ والأمر الثاني: 
تعاطي الأسباب، والأخذ بالأسباب التي شرعها الله:
 من أسباب دخول الجنة، وأسباب السلامة من النار، وذلك بأداء ما أوجب الله من الطاعات، وترك ما حرم الله من المعاصي؛
 هذه أسباب دخول الجنة.

كذلك تعاطي ما ينفعه في الدنيا من الأكل والشرب واللباس والزراعة والتجارة والنجارة وغير هذا من الأسباب التي يحتاج إليها؛ فيفعل الأسباب التي بها نظام حياته، وبها سلامته، ويتعاطى الأسباب التي تنفعه في هذه العاجلة، وتعينه على طاعة الله ورسوله، ويتباعد عن الأسباب الضارة التي تضره في دينه أو دنياه، 
فالمعاصي تضره في دينه، وهكذا تضره في دنياه، وهكذا ما يضره في بدنه من طعنه نفسه أو بالسلاح أو إحراق نفسه بالنار أو إلقاء نفسه في المهلكات، كل هذه الأشياء ممنوعة يجب عليه أن يمتنع منها؛ 
لأن الله منعه منها.

فعرفت بذلك أن التوكل ليس هو مجرد -كما يظن بعض الصوفيةأن يعتمد على الله ويدع الأسباب ينام في بيته لا، هذا غلط، 
بل يتوكل على الله بثقته به واعتماده عليه وإيمانه بأنه مصرف الأمور، وأن أسبابك يا عبد وأعمالك لا تنفع إلا إذا شاء الله ، ثم يضيف إلى ثقته بالله واعتماده عليه أخذه بالأسباب أسباب الدين وأسباب الدنيا، أسباب النجاة يوم القيامة بطاعة الله ورسوله وترك معاصي الله، وأسباب الدنيا من الطلب الحلال طلب الرزق من طريق الزراعة ومن طريق البيع والشراء ومن طريق النجارة ومن طريق الحدادة من طريق الخياطة من طريق العمل في البناء الطرق المباحة التي يحتاجها الناس، يعمل ويعتمد على الله، ويطلب منه جل وعلا التوفيق والإعانة، ويستعين به على الرزق الحلال، ويبتعد عن الحرام، حتى يلقى ربه هذا هو التوكل.


وهكذا حديث ابن عباس، و عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
 "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد وأصحابه لما قالوا لهم:
 إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، يعني: يوم أحد، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"
 فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار، ألقاه النمرود، لما دعاهم إلى الله، ودعاهم إلى توحيد الله، وكسر أصنامهم، غضبوا عليه،
 وأمر نمرودهم الخبيث أن يجمع له حطب عظيم، فجمعوا له حطبا عظيما، وأوقدوا نارا عظيمة، ثم أمر أن يلقى في النار، فلما ألقي في النار قال عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأطفاها الله، 
وقال: كوني بردا وسلاما:
 قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فأطفأها الله عنه، وكفاه شرها وشرهم، وأنجاه من باطلهم، وصارت آية من الآيات، ومعجزة من المعجزات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقا، عليه الصلاة والسلام.


وهكذا محمد عليه الصلاة والسلام لما جرى ما جرى يوم أحد من غزوة كفار أهل مكة واجتماعهم عند المدينة وحصارهم المدينة، ثم خروج النبي إليهم عليه الصلاة والسلام، وحصول الوقعة، وقتل فيها من قتل من الصحابة، وجرح من جرح، ثم انشمر الكفار إلى بلادهم فقال المشركون: 
إنهم قد جمعوا لكم، وجاء بعض المرجفين
 وقالوا: إنهم قد جمعوا لكم، وأنهم ليسوا مضوا بل هم يجمعون ويعدون العدة ليعودوا،
 فقال النبي عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] 

هكذا ينبغي لأهل الإيمان أن يقولوها عند الشدائد، ولكن لا تمنعهم من إعداد العدة،
 فالنبي صلي الله وعليه وسلم قالها ومع ذلك أعد العدة، 
وأمر المسلمين أن ينهضوا لقتال عدوهم على ما بهم من الجراح والتعب، أمرهم أن ينهضوا، وأن يقاتلوا عدوهم؛ لكن عدوهم ألقى الله في قلبه الرعب وانشمر إلى مكة ولم يعد إليهم.


المقصود أن هذا يوجب على المؤمنين الأمرين جميعا: الثقة بالله والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب والعناية بالأسباب، كإعداد السلاح، وإعداد القوت من الطعام والشراب، وفعل ما ينفعهم، 
ولهذا لما كان يوم الأحزاب ولما رجع الكفار يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين أعدوا عدة عظيمة، وأعدوا لعدوهم وحفروا الخندق حول المدينة؛ لأنه من أسباب تعويق الكفرة من دخول المدينة، فهذه الأسباب التي فعلها الرسول صلي الله وعليه وسلم ، لبس درعين يوم أحد، وحمل السلاح، وجعل البيضة فوق رأسه تقيه السلاح، وهكذا الصحابة حملوا السلاح وقاتلوا، كل هذه أسباب مأمور بها، ولهذا قال : 
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] 
فهذا كله من الأسباب مع الثقة بالله والتوكل عليه.
تعليقات