قال ابن التين:
أشكال الغيبة :
(صور الغيبة وما يدخل فيها )
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغيبة إنما تقع فيما يكرهه الإنسان ويؤذيه فقال:(بما يكره).
قال النووي في الأذكار مفصلاً ذلك:
ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز..
ومن الصور التي تعد أيضاً في الغيبة،
قال النووي_رحمه الله:
ومنه قولهم عند ذكره :
الله يعافينا ، الله يتوب علينا ، نسأل الله السلامة ونحو ذلك ، فكل ذلك من الغيبة .
ومن صور الغيبة ما قد يخرج من المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر..
قال ابن تيمية_رحمه الله:
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت...
ومنهم من يخرج [النية في قالب] الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما ثم له..
...............
حكم الغيبة:
اختلف العلماء في عدها من الكبائر أو الصغائر ، وقد نقل القرطبي الاتفاق على كونها من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة ولم يعتد رحمه الله بخلاف بعض أهل العلم ممن قال بأنها من الصغائر .
والقول بأنها من الكبائر هو قول جماهير أهل العلم صاحب كتاب العدة والخلاف في ذلك منقول عن الغزالي .
وقد فصل ابن حجر محاولاً الجمع بين الرأيين؛
فقال: فمن اغتاب ولياً لله أو عالماً ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلاً.
وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره ، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه ، وقد يشتد تأذيه بذلك .
الدليل الاول :من القرآن
1_ قال تعالى:
{ ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات:12].
قال ابن عباس_رضي الله عنه:
حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة.
قال القاضي أبو يعلى عن تمثيل الغيبة بأكل الميت:وهذا تأكيد لتحريم الغيبة ؛
لأن أكل لحم المسلم محظور ؛
ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع ، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله (فكرهتموه)قال الفراء:أي فقد بغِّض إليكم .
وقال الزجاج: والمعنى كما تكرهون أكل لحم ميتاً ، فكذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائباً .
2_قال تعالى:
{ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات:11].
قال ابن عباس في تفسير اللمز:
لا يطعن بعضكم على بعض ، ونقل مثله عن مجاهد وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان .
قال ابن كثير_رحمه الله :
{لا تلمزوا أنفسكم}: أي لا تلمزوا الناس ، والهماز واللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال الله :
{ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].
فالهمز بالفعل، واللمز بالقول .
قال الشنقيطي: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة .
{ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].
وقد تقدم معنى الهمز واللمز وأن كليهما من الغيبة.
وقال قتادة في تفسيرها :
يأكل لحوم الناس ويطعن عليهم.
وقال الزجاج_رحمه الله:
الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم.
وأما قوله {ويل} فقد ذكر له المفسرون معنيان:
_المعني الاول:
أنها كلمة زجر ووعيد؛ بمعنى:
الخزي والعذاب والهلكة.
_المعني الثاني:
أنها واد في جهنم.
والآية نزلت في المشركين لكنها كما قال المفسرون عامة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال السعدي: وهذه الآيات إن كانت نزلت في بعض المشركين فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم .
3_قال تعالي:
{ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم}
[القلم:10-11].
قال الشوكاني_رحمه الله:
الهماز: المغتاب للناس .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيرها:
{فلا تطع المكذبين} الآيات ،فتضمن أصلين:
_أحدهما:
أنه نهاه عن طاعة هذين الضربين فكان فيه فوائد. منها:
أن النهي عن طاعة المرء نهي عن التشبه به بالأولى ، فلا يطاع المكذب والحلاف ، ولا يعمل بمثل عملهما ..
_الثاني:
إن النهي عن قبول قول من يأمر بالخلق بالناقص أبلغ في الزجر من النهي عن التخلق به...إلى آخر كلامه رحمه الله .
الدليل الثاني:
من السنة:
1_قال صلى الله عليه وسلم:
( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)
قال ابن المنذر_رحمه الله:
قد حرم النبي الغيبة مودعاً بذلك أمته، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيداً بإعلامه بأن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام .
قال النووي في شرحه على مسلم:
المراد بذلك كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك .
2_وعن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أربى الربى الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)
وفي رواية لأبي داود:
( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق).
قال أبو الطيب العظيم أبادي في شرحه لأبي داود:
(الاستطالة) ؛أي إطالة اللسان.
(في عرض المسلم)؛ أي احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه.
(بغير حق)؛ فيه تنبيه على أن العرض ربما تجوز استباحته في بعض الأحوال .
3_وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم :
حسبك من صفية أنها قصيرة ، فقال:
(لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)
(لو مزج) ؛أي لو خلط بها أي على فرض تجسيدها وكونها مائعاً.
(لمزجته)؛أي غلبته وغيرته وأفسدته .
قال المباركفوري:المعنى أن الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته فكيف بأعمال نزرة خلطت بها .
ولما رجم الصحابة ماعزاً رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلب.
فسار النبي صلى الله عليه وسلم ثم مر بجيفة حمار فقال:
أين فلان وفلان؟
انزلا ، فكلا من جيفة هذا الحمار.
فقالا: يا نبي الله من يأكل هذا؟ قال: ما نلتماه من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه.
قال أبو الطيب في شرحه لأبي داود :
(فلما نلتما من عرض أخيكما)
قال في القاموس: نال من عرضه سبه.
(أشد من أكل منه) ؛أي من الحمار .
الدليل الثالث:
أقوال السلف في الغيبة:
_كان عمرو بن العاص يسير مع أصحابه فمر على بغل ميت قد انتفخ ، فقال:
والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم مسلم .
_قال عدي بن حاتم رحمه الله:
الغيبة مرعى اللئام .
_قال كعب الأحبار رحمه الله:
الغيبة تحبط العمل .
_قال الحسن البصري رحمه الله:
والله للغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جسد ابن آدم .
_قال سفيان بن عيينة رحمه الله:
الغيبة أشد من الدّين ، الدّين يقضى ، والغيبة لا تقضى .
_وقال سفيان الثوري رحمه الله:
إياك والغيبة ، إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك .
_وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب فقال:إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس .
_وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له.
..................
ما الدافع للغيبة:
(الباعث علي الغيبة)
_ ضعف الورع والإيمان يجعل المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية ولا تفر ؛
جاء في حديث عائشة في قصة الإفك قولها عن زينب بنت جحش أنها قالت :
يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً ، تقول عائشةً:
(وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع) .
قال الفضل بن عياض:
أشد الورع في اللسان . وروى مثله عن ابن المبارك .
قال الفقيه السمرقندي:
الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة ، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام
_موافقة الأقران والجلساء ومجاملتهم:
قال الله على لسان أهل النار {وكنا نخوض مع الخائضين} [المدثر:45].
قال قتادة في تفسير الآية:
كلما غوى غاو غوينا معه .
وفي الحديث :(ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس).
وقال تعالى:
{فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون}
قال ابن كثير رحمه الله:
أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل.
_الحنق على المسلمين وحسدهم والغيظ منهم:
قال ابن تيمية رحمه الله:
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين:
-الغيبة -والحسد
وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه .
قال ابن عبد البر رحمه الله:
والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم...وهذا كله بحمل الجهل والحسد
_حب الدنيا والحرص على السؤود فيها:
قال الفضيل بن عياض:
ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير .
_لهزل والمراح:
قال ابن عبد البر:
وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض..
..................
جزاء الغيبة :
(عقوبة الغيبة)
1- الفضيحة في الدنيا:
عن ابن عر قال : صعد رسول الله المنبر فنادى بصوت رفيع فقال:
(يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).
وفي رواية للحديث في مسند أحمد (لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم)
قال المباركفوري في قوله:
(ومن تتبع الله عورته)
قال : يكشف مساويه ...
لو كان في وسط منزله مخفياً من الناس .
قال أبو الطيب:أي يكشف عيوبه، وهذا في الآخرة، وقيل : معناه يجازيه بسوء صنيعه..
أي يكشف مساويه..
ولو كان في بيته مخفياً من الناس .
2- العذاب في القبر:
عن أبي بكرة رضي الله عهما قال :
مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فيعذب البول ، وأما الآخر فيعذب بالغيبة.
قال قتادة رحمه الله :
عذاب القبر ثلاثة أثلاث:
ثلث من الغيبة ، وآخر من النميمة ، وآخر من البول .
وقوله : (ما يعذبان في كبير)
قال الخطابي: معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما أو يشق فعله لو أرادوا أن يفعلاه .
3- العذاب في النار:
عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت:
من هؤلاء يا جبريل؟قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) .
قال الطيبي رحمه الله:
لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلهما جزاء من يغتاب ويفري في أعراض المسلمين ، إشعاراً بأنهما ليستا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حلة وأشوه صورة .
وعن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم :
( من أكل لحم أخيه في الدنيا قرِّب إليه يوم القيامة فيقال له: كُله ميتاً كما أكلته حياً فيأكله ويكلح ويصيح) .
............
كفارة الغيبة:
الغيبة كغيرها من الكبائر فرض الله التوبة منها:
قال تعالى:
{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور:31].
والتوبة النصوح هي التي تحقق شروط التوبة وهي:
_الندم:
قال صلى الله عليه وسلم :
(الندم توبة) .
قال أبو الجوزاء : والذي نفس محمد بيده إن كفارة الذنب للندامة.
_أن يقلع عن الذنب :
قال ابن القيم رحمه الله :
"لأن التوبة مستحيلة مع مباشرة الذنب" .
_العزم على أن لا يعود إليها:
فعن النعمان بن بشير رحمه الله:
قال : سمعت عمر يقول :
{ توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم: 8].
قال : هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود .
وهذه الشروط مطلوبة في سائر المعاصي ومنها التوبة.
.................
شرط الاستحلال من الغيبة:
وأضاف جمهور الفقهاء شرطاً وهو أن يستحل من اغتابه.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن تؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه.
قال البغوي: قوله ( فليتحلله)؛
أي ليسأله أن يجعله في حل من قبله،
يقال: تحلله واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل، ومعناه: أن يقطع دعواه ويترك مظلمته ، فإن ما حرمه الله من الغيبة لا يمكن تحليله .
قال سفيان بن عيينة:
الغيبة أشد عند الله عز وجل من الزنا وشرب الخمر ، لأن الزنا وشرب الخمر ذنب فيما بينك وبين الله عز وجل ، فإن تبت عنه تاب الله عليك ، والغيبة لا يغفر لك حتى يغفر لك صاحبك .
ورأى بعض الفقهاء ومنهم ابن تيمية وابن القيم وابن الصلاح وابن مفلح إسقاط شرط الاستحلال إذا أدى إلى أذية صاحب الحق وزيادة الجفوة بينهما.
قال ابن مفلح رحمه الله:
وهذا أحسن من إعلامه (أي الدعاء له) فإن في إعلامه زيادة إيذاء له ، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ بما لا يعلم، ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم...وفيه مفسدة ثالثة..وهي زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة..
وهذا الرأي مروي عن السلف.
قال حذيفة رحمه الله :
كفارة من اغتبته أن تستغفر له ..
قال مجاهد رحمه الله:
كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعوا له .
قال ابن المبارك رحمه الله:
التوبة في الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته .
وقال أيضاً: إذا اغتاب رجل رجلاً فلا يخبره ، ولكن يستغفر الله .
ذب الغيبة:
أوجب العلماء على المسلم عدم سماع الغيبة ، إذ سماعها كفعل قائله في الوزر ، قال تعالى :
{ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} [النساء:140].
قال الطبري رحمه الله:
في هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع .
قال القرطبي رحمه الله:
فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر...فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .
ودفع الغيبة حين حضورها من أعظم الأعمال،
قال صلى الله عليه وسلم :
( من ذب عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار).
وفي رواية :
( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) .
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
من اغتيب عنده مؤمن فنصره جزاه الله بها خيراً في الدنيا والآخرة ، وما التقم أحد لقمة شراً من اغتياب مؤمن .
قال المناوي: ذلك لأن عرض المؤمن كدمه ، فمن هتك عرضه فكأنه سفك دمه ، ومن عمل على صون عرضه فكأنه صان دمه ، فيجازى على ذلك بصونه عن النار يوم القيامة إن كان ممن استحق دخولها ، وإلا كان زيادة رفعة في درجاته في الجنة .
وقد ذب النبي صلى الله عليه وسلم عن عرض من اغتيب عنده، ففي حديث طويل من رواية عتبان بن مالك رضي الله عنه، وفيه قال قائل منهم:
أين مالك بن الدُّخشن؟
فقال بعضهم: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تقل له ذاك ، ألا تراه قد قال : لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم .
قال عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس لا تغيّروا عليه؟ قالوا: نتقي لسانه ، قال : ذاك أدنى أن تكونوا شهداء .
....................
هي الغِيبة التي بها يحصل للفرد نجاة مما لا يحمد عقباه، أو مصيبة كانت محتملة الوقوع به، مثل التي تطلب للنصيحة عند الإقبال على الزواج لمعرفة حال الزوج، أو كأن يقول شخص لآخر محذرًا له من شخص شرير:
كما أن الغِيبة محرمة لما فيها من أضرار تمس الفرد، إلا أنَّها مباحة بضوابطها لغرض شرعي صحيح، لا يمكن الوصول لهذا الغرض إلا بهذه الغِيبة، وبدون هذه الضوابط تصبح محرمة.
حالات تجوز فيها الغيبة:
ذكر العلماء بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة لما في ذلك من مصلحة راجحة.
ومن هذه الحالات:
1- التظلم إلى القاضي أو السلطان أو من يقدر على رد الظلم:
قال تعالى:{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء:148].
قال الشوكاني: استثناء أفاد جواز ذكر المظلوم بما يبين للناس وقوع الظلم عليه من ذلك الظالم .
وقال صلى الله عليه وسلم :
(ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته).
واللي هو الظلم ، والواجد هو الغني القادر على السداد.
قال سفيان: يحل عرضه:
أن يقول: ظلمني حقي .
قال وكيع: عرضه: شكايته ، وعقوبته : حسبه .
2- الاستفتاء:
فيجوز للمستفتي فيما لا طريق للخلاص منه أن يذكر أخاه بما هو له غيبة ، ومثل له النووي بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو فلان فهل له ذلك أم لا .
جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :
(خذي ما يفكيك وولدك بالمعروف) .
قال البغوي رحمه الله: هذا حديث يشتمل على فوائد وأنواع من الفقه، منها جواز ذكر الرجل ببعض ما فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه ، لأن النبي لم ينكر قولها:
إن أبا سفيان رجل شحيح .
3- الاستعانة على تغيير المنكر:
فقد يرى المسلم المنكر فلا يقدر على تغييره إلا بمعونة غيره ، فيجوز حينذاك أن يطلع الآخر ليتوصلا على إنكار المنكر.
قال الشوكاني رحمه الله:
وجواز الغيبة في هذا المقام هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة بالضرورة الدينية التي لا يقوم بجنبها دليل ، لا صحيح ولا عليل .
4- التحذير من الشر ونصيحة المسلمين:
جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستشيره في أمر خطبتها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم وأسامة بن زيد فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :
(أما معاوية فرجل ترب لا مال له ، وأما أبو الجهم فضراب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد) .
قال ابن تيمية رحمه الله:
الشخص المعين يذكر ما فيه من الشر في مواضع. . أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم...
ويدخل في هذا الباب ما صنعه علماؤنا في جرح الرواة نصحاً للأمة وحفظاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم.
قال النووي رحمه الله :
اعلم أن جرح الرواة جائز ، بل هو واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة ، وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين .
5- المجاهر بنفسه المستعلن ببدعته:
استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(ائذنوا له، بئس أخو العشيرة ، أو ابن العشيرة) .
قال القرطبي رحمه الله:
في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة .
ومما يدل على اتصاف هذا الرجل بما أحل غيبته ما جاء في آخر الحديث،
حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه اتقاء فحشه).
قال الحسن البصري رحمه الله:
ليس لصاحب البدعة ولا الفاسق المعلن بفسقه غيبة .
وقال زيد بن أسلم رحمه الله:
إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي .
والذي يباح من غيبة الفاسق المجاهر ما جاهر به دون سواه من المعاصي التي يستتر بها.
قال النووي رحمه الله:
كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس..فيجوز ذكره بما يجاهر به ، ويحرم ذكره بغيره من العيوب.
وينبغي أن يُصنع ذلك حسبة لله وتعريفاً للمؤمنين لا تشهيراً وإشاعة للفاحشة أو تلذذاً بذكر الآخرين.
قال ابن تيمية رحمه الله:
وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى ، لا لهوى الشخص مع الإنسان مثل الإنسان مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض..
فهذا من عمل الشيطان و إنما الأعمال بالنيات .
6- البعد عن مواطن الريبة:
وينبغي على المسلم أن يبعد نفسه عن مواطن الريبة والتهمة التي تجعله موضعاً لغيبة الآخرين ، وأن يكشف ما قد يلتبس على الناس، وقد سبق إلى ذلك أكمل الخلق وأعدلهم.
فقد أتته زوج صفية في معتكفه في المسجد ، ولما انتصف الليل قام صلى الله عليه وسلم معها يقلبها إلى بيتها فلقيه اثنان من أصحابه ، فلما رأياه يمشي معها أسرعا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إن الشيطان يبلغ في الإنسان مبلغ الدم ، وخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً).
قال ابن حجر رحمه الله:
فيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص..
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم:
قال الشوكاني رحمه الله:
عن أبى هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كيف التخلص من الغيبة :
(علاج الغيبة)
_تقوى الله عز وجل والاستحياء منه:
ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات الوعيد والوعد وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث تحذر من الغيبة ومن كل معصية وشر، ومن ذلك
{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}
[الزخرف:80].
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(استحيوا من الله عز وجل حق الحياء ، قلنا :
يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله ،
قال: ليس ذاك ، ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى ، وليحفظ البطن وما وعى )
_تذكر مقدار الخسارة التي يخسرها المسلم من حسناته ويهديها لمن اغتابهم من أعدائه وسواهم.
قال صلى الله عليه وسلم:
( أتدرون من المفلس؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ،
قال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناتهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
وروي أن الحسن قيل له:
إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه الحسن رطباً على طبق وقال : بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام .
_أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب نفسه ،
وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه:
قال أنس بن مالك:
أدركت بهذه البلدة "المدينة" أقواماً لم يكن لهم عيوب ، فعابوا الناس ، فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس ، فنسيت عيوبهم.
قال الحسن البصري رحمه الله:
كنا نتحدث أن من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله عز وجل به .
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه.
_مجالسة الصالحين ومفارقة مجالس البطالين:
قال صلى الله عليه وسلم :
(مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد ، لا يعدمك من صاحب المسك ،
إما أن تشتريه أو تجد ريحه ، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة) .
قال النووي في فوائد الحديث :
فيه فضيلة مجالسة الصالحين ، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب ، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته ، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة.
قراءة سير الصالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم:
قال أبو عاصم النبيل:
ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرم الغيبة .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
كان بعض أصحابنا نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة. أي لقِلّته .
وقال محمد بن المنكدر:
كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت .
_ان يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن الغيبة.
قال حرملة : سمعت رسول ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني ، فكنت أغتاب وأصوم.
فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة.
قال الذهبي : هكذا والله كان العلماء ، وهذا هو ثمرة العلم النافع .
الفرق بين الغيبة والبهتان والإفك:
الإفك:فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
بّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان, ففي الحديث ؛
قيل:أرأيت إن كان فيه ما أقول؟
قال:(إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته),
وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا:
لا يأكل حتى يُطعم, ولا يَرحل حتى يُرحل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اغتبتموه)،
فقالوا: يا رسول الله: إنما حدثنا بما فيه قال:
(حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) .
وقال الجرجاني:
_والبهتان:
والبهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه.
والبهتان:إنما يكون في الباطل كما قال الله :
{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58].
والبهت قد يكون غيبة، وقد يكون حضوراً ،
قال النووي_رحمه الله:
وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجه.
قال الحسن البصري_رحمه الله:
الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان.
_فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه .
_وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه .
_وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه.
والنَّمِيمَة: أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرض لأذاه؛ لما فيها من مفسدة إلقاء البغضاء بين الناس، ويستثنى منها أنَّ فلانًا يقصد قتلك في موضع كذا، أو يأخذ مالك في وقت كذا، ونحو ذلك، لأنَّه من النَّصيحة الواجبة كما تقدم في الغيبة.
والغمز: أن تعيب الإنسان بحضوره.
واللمز: بغيبته وقيل بالعكس
الخلاصة:
قال كعب بن زهير في الذي يستمع للغيبة:
فالسامع الذم شريك له
ومطعم المأكول كالآكل
وقال آخر:
وسمعك صُنْ عن سماع القبيح
كصون اللسان عن القول به
فإنك عند استماع القبيـح
شـريك لقـائلـه فانتبـه
ويقول كمال الدين بن أبي شرف في ذكره للحالات التي تجوز فيها الغيبة:
القدح ليس بغيبة في ستة
متظلّـم ومعـرِّف ومحـذِّر
ومجاهر بالفسق ثمت سائل
ومن استعان على إزالة منكر
وقال ابن المبارك:
وإذا هممت بالنطق في الباطل
فاجـعـل مكـانـه تسـبيحـاً
فاغتنام السكوت أفضل من
خوض وإن كنت في الحديث فصيحاً