يشعر بها عند تفكره في حقيقة الأخلاق، وانتمائها إلى عالمٍ غير العالم المادي القاسي الذي يحيط به..
يشعر بها عند النظر في غرائز الأمومة والبقاء والحب والأكل والشرب، التي تنصلح بها حياتهُ وحياة الكائنات حولهُ...
يشعر بها عند إدراكه لحرية إرادته، ومسؤوليته عن أفعاله، التي ترقيه عن حضيض الحيوانية والعبثية..
وهذه الحاجة الفطرية هي التي جعلت للدين تلك الـمكانة المهمة في تاريخ البشر.
قال تعال:(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولاكنَّ أكثر الناس لايعلمون){الروم:٣٠}
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء. ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } الآية(١)
وأقر علماء الأديان أن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتي هجمية وبدائية،والإستقراء يؤكد أنه وجدت في التاريخ مدن بلامصانع أو معامل أو مدارس ،ومن غير علوم أو فنون أو فلسفات ؛
لكن لم توجد في تاريخ الإنسانية الطويل مدينة بلا معابد ،ولم توجد جماعة إنسانية بغير ديانة؛
لأن الدين ظاهرة إنسانية عامة وشاملة ،وحيثما يوجد الناس يسكن الدين.(٢)
ويقول محمد عبد الله دراز: الفكرة الدينيةُ تعبر عن حاجات النفس الإنسانية في مختلف ملكاتها ومظاهرها، حتى إنّهُ كما صح أن يُعرفَ الإنسانُ بأنهُ حيوانٌ مفكِّرٌ أو أنه حيوان مدني بطبعه، يسوغ لنا كذلك أن نعرفهُ بأنّهُ حيوان متدينٌ بفطرته(٣)(٤).
ويقولُ أرنولد توينبي: إنَّ جوهر الدين ثابتٌ ثباتَ جوهَرِ الطّبيعةِ البشريةِ ذاتها؛ فالدينُ في الحقيقة صفةٌ ذاتيّةٌ مميِّزَةٌ للطّبيعةِ البشريّةِ(٥).
ومعجم لاروس للقرن العشرين يصف هذا المعنى قائلًا: إنَّ الغريزة الدينيةَ مشتركةٌ بين كلِّ الأجناس البشريّةِ، حتى أشدَّها همجيةً. وأقربَها إلى الحياة الحيوانيةِ. وإنَّ الاهتمامَ بالـمَعنى الإلٰهيِّ وبما فوق الطبيعة هو إحدَى النّزَعاتِ العالمية الخالدة للإنسانيةِ(٦).
ومن الفلاسفة العقليين من جعل الفطرة مجموعة غرائز تقوم بالنفس البشرية يشترك فيها أجناس البشر،يعمل الفرد علي إشباعها حسب بيئته وثقافته،وغاية هذة الغريزة التوجه إلي الله ،وإشباعها يتم باعتناق إحدي الديانات التي تتطور بتطور البشرية،وتتجاوب مع درجة الثقافة العقلية (٧)
ويقول المفكر المصري محمد فريد وجدي؛ حيث يقول: “يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين، لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان، بل إن هذا الميل سيزداد، ففطرة التدين ستلاحق الإنسان مادام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه”(٨).
إن التديُّن نزعة مغروسة في أعماق النفس البشرية وجزء منها، وهي حاجة فطرية؛ فالغريزة الدينية مشتركة بين بني البشر حتى أشدها بدائية، وإن الشوق والتطلع لما وراء الطبيعة هو نزعة إنسانية، وعلى الرغم من تطور العلوم واكتشاف الكثير من أسرار الكون وتقديمها أجوبة عن أسئلة كانت تُحال إلى الغيب، لكن أثر الأديان ظل حيّاً، بل وأخذ أبعاداً أكثر عمقاً في حياة البشر، ولم تستطع كل التطورات والاكتشافات التي تهاوت معها الكثير من الخرافات الشعبية أن تلغي وتمحي أي دين من بين 3200 دين موجود على وجه الأرض، على عكس ما تنبأ به مفكرون غربيون بأن العولمة ستضعف الشعور الديني أو تلغيه، "ولا زال الدين يمثل إحدى ركائز الهوية الجمعية لأي مجتمع؛ لأنه يحمل الكثير من تأريخ الأمة المشترك وتفاصيل حياة أفرادها اليومية في الطعام والشراب والملبس والاحتفال، على الرغم من تنبؤات بعض مفكري وفلاسفة الغرب، مثل فويرباخ ونيتشه بأن العقل والمنطق سيحل محل الأديان".(٩)
إذا الحاجة إلي الدين والإيمان بالله فطرة نابعة من عمق وجدان كل إنسان،تنمِّيها البيئة المسلمة بخلاف الفلسفات الضالة التي تري ان العقيدة قضايا وأحكام عقلية مجردة مكتسبة من البيئة
_حاجةالإنسان إلى الدين حاجة عقلية ؛
فالعقل الإنساني يحتاج إلى من يرعاه رعاية كاملة، ويبوئهُ مكانه اللائق به، فلا يهدره ولا يحط من قيمته، ولا يؤلـههُ ويحمله فوق طاقته.
فحماية العقل مما يفسده سواء في المعتقدات من شرك وخرافاتٍ، أو الأفعال من سكر وإدمان محرماتٍ، مطلبٌ ضروريٌّ للحفاظ على العقل سليما صحيحا، ومثل هذا الـمطلب لا يتحقق إلا بوجود مصدر مطلقٍ للعلم، قادر على حماية العقل، نقصد بذلك الدين.
وميز الإنسان بالعقل عن سائر الكاىنات ليعرف به حقية توحيده وبطلان الإشراك به، وقد بين القرآن الأدلة العقلية علي ذلك،وأنكر عل من يستدل بها وبين أيضاً أنه العقل يعرفُ المعاد، وحسن عبادتهِ عزوجل وحده،وقبح الشرك به .(١٠)
وبث لهم آيات توحيدهُ في الآفاق وفي أنفسهم،قال تعالي:(سنريهم ءاياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق){فصلت :٥٣}،
وأوجب عليهم النظر والتفكر فيها :فقال تعالي:(فلينظر الإنسان ممَّ خلق){الطارق٥}
والعقل يعرف ربه عزوجل من غير أدني مشقة لهُ في معرفته الاهتداء إلي وجوده وعظمة وصفاته،وإنما أرسل الرسل لتعليمهم العقائد والشرائع من أجل عبادة الله ،ولذلك فإن العقل يدرك أن المُحدَث المخلوق لايخلق شيئاً وأن المتفرد بذلك خالقهُ،كما قال تعالي:
(أفمن يخلقُ كمن لايخلقُ أفلا تذكرون){النحل:١٧}
والعقل له حدود لا يستطيع تجاوزها، خارجة عن مجال قُدرته. وهو وإن أمكنه معرفة حُسنِ العَدلِ وقبح الظلم على وجه الإجمال، لا يستطيع معرفة حكم كل فعل معيَّنٍ على وجه التفصيل. وهذا فضلًا عن أجوبةِ الأسئلةِ الوجودية الكبرى، والغيوب المتعلقة بالله،ِ وإثابة الطائعين ومعاقبة العاصين؛
فذلك مما لا يعلم إلا بتبيين الدين وتفصيله، واستقامة حال العقلِ وصلاحه مبني على ذلك. والعقل وإن استطاع الوصول للصواب في أمور مخصوصةٍ، فلا ضمانة في حصول الالتزام بما يقتضيه العقل من حق، وذلك راجعٌ للأهواء والنزوات التي ينساق وراءها كثيرٌ منَ الناسِ، فحصولُ الالتزام بالحق يحتاج إلى قوة عُليا -أي الله سبحانهُ وتعالى- لها الحقُّ المطلق والقدرة المطلقةُ، مخولة أن توجب على الناس الخضوع للحق.
وهذا هو الذي يقيمه الدين، فهو من جهة يوفر بيانًا تفصيليًا كافيًا شافيًا للحقِّ والباطل، للصالح والطالح، للحسن والسيء، ومن جهةٍ أُخرى يضمن تطبيق ذلك البيان الحقِّ في حياة الناس وشؤونهم، فبه يتحققُ العدلُ وينكسر سلطان الظُّلم.
_وحاجة الإنسان إلى الدين حاجة نفسية :
فالدين هو الذي يسمو بالنفس لتحقق الكمال الإنساني والاستقرار النفسي والروحي. وبه تقوم الصلة بين العبد وخالقه. وفيه تسمو وترقى العواطفُ النبيلة لتحقق صورتها المثالية.
وفيه من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة والآداب الحميدة ما يطهر الإنسان من مستنقع الشهوات المادية المتوحش. وبه يستطيع الإنسان التحرر من قُيود الأهواء والنزوات وسجنها، لكي يعيش حرًّا في جنب خالقهِ سبحانهُ. وفيه من الحصون والقلاع ما يحمي صاحبهُ مِن أمراض النفوس والقلوب.
يقول ابن القيم رحمه الله: لا حياةَ لهُ قلبُ الإنسانِ ولا فلاحَ ولا نعيمَ ولا سرورَ إلّا برِضاهُ الله وقُربِهِ والأنسِ بهِ؛ فبهِ يَطمئِنُّ، وإليهِ يَسكُنُ، وإليه يأوي، وبهِ يَفرحُ، وعليهِ يتوكّلُ، وبهِ يثِقُ، وإياهُ يَرجو، ولهُ يَخافُ،
فذِكرُهُ: قُوْتُهُ وغِذاؤهُ، ومحبَّتُهُ والشّوقُ إليهِ:
حياتهُ ونعيمهُ ولَذّتُهُ وسرورهُ، والالتفاتُ إلى غيرِهِ والتُعلُّقُ بِسِواهُ: دَاؤهُ، والرجوعُ إليهِ: دَوَاؤهُ، فإذا حصَلَ لهُ ربهُ سكن إليهِ، واطمأنَّ بهِ، وزالَ ذلكَ الاضطّرابُ والقلَقُ، وانسَدَّتْ تلكَ الفاقةُ؛ فإنَّ في القلبِ فاقةً لا يَسدُّها شيءٌ سوى اللهِ تعالى أبدًا، وفيهِ شَعَثٌ لا يلُمُّهُ غيرُ الإقبالِ عليهِ، وفيهِ مرضٌ لا يَشفيهِ غيرُ الإخلاصِ لهُ وعبادَتُهُ وحدَهُ “(١١).
وأيضا يتساءل ديل كارنيجي:
ترى لماذا يجلب الإيمان بالله والاعتماد عليه سبحانه وتعالى الأمان والسلام والاطمئنان؟(١٢)،
ثم يستجلب الإجابة من فيلسوف الحرية كما يطلق عليه -أحد رواد علم النفس الحديث قائلا: سأدع وليم جيمس يجيب على هذا السؤال: إن أمواج المحيط المصطحبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق ولا تقلق أمنه، وكذلك المرء الذي عمق إيمانه بالله حقا.. عصي على القلق محتفظ أبدا باتزانه مستعد دائما لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف. (١٣).
_ حاجة الإنسان الي الدين حاجة شرعية؛
هذه الحاجة هي الحاجة العظمى والغاية الأسمى والتي عليها معنى الخلق كله. فإن الدين وإن احتيج لهُ فطرةً وعقلًا ونفسًا وروحًا، فالاحتياج إليه شرعًا أعظم وأظهر، وإن استطاع الإنسان معرفة بعض ما يصلح له من طريق الفطرة والعقل والحس فإن المعاني الشرعية التي يحيا بها حقيقة لا تدرك إلا من طريق الدين.
فالدين يقدم الطمأنينة للبشر حين يجيب عن أسئلتهم الوجوديّة.
عن أصلهم فمن أين أتوا؟ و هويــتهم فمن يكونون؟ وما معنى وجودهم والغرض منه؟
وأخلاقهم فكيف يجب أن يعيشوا؟ ومصيرهم فإلى أين هم ذاهبون؟
أهمية الدين للإنسان كونه يقدم التفسير والجواب الذي ينسجىم مع العقل البشري للأسئلة الوجودية الكبرى، والتي تعجز أية أجوبة أخرى عن تقديم أجوبة مقنعة. الذين حاولوا توهين أثر الدين في الحياة أو وصفه بأنه أفيوناً للشعوب، أو أنه فكر رجعي أو تخديري، كانوا ينظرون فقط إلى الدين التأريخي، ويشيرون إلى الدين الذي حكم في القرون الوسطى باسم المسيحية، أو باسم الإسلام، ولم يقاربوا فعل الدين وأثره في النفس الإنسانية؛ لأنهم كانوا متخصصي تأريخ.(١٤)
فالدين في الأساس إنما جعل ليدل الخلق على ما لا يمكنهم بلوغه إلا عن طريقِ الخبر من الله تعالى. فهو جعل ليعرِّف الخلق بخالقهم وصفاته الحسنى وأسمائه العلى، وكذا ليعرف الخلق بما ينبغي أن يكون بينهم وبينَ خالقِهِم مِن عِلاقةٍ وصِلةٍ وعبادةٍ وخضوعٍ وتذلل مما لا يكون صلاحهم إلا به. وكذا الحرص على بقاء هذه الصلة وتوثيقها في كل آنٍ وكل حينٍ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:ليس المراد بالشّرعِ التّمييزُ بينَ الضّارِّ والنّافعِ بالحِسِّ، فإنّ ذلكَ يحصُلُ للحيواناتِ العَجَمِ؛ فإنّ الحمارَ والجَمَلَ يُميِّزانِ بينَ الشّعيرِ والتُّرابِ، بلِ التّمييزُ بينَ الأفعالِ التي تَضرُّ فاعِلَها في معاشِهِ ومعادِه كنفعِ الإيمان والتوحيدِ والعدلِ والبِرِّ والتّصدُّقِ والإحسانِ والأمانةِ والعِفّةِ والشّجاعةِ والحِلمِ والصبر والأمر بالمعروف والنّهيِ عنِ المنكرِ وصلةِ الأرحامِ وبرِّ الوالدينِ والإحسانِ إلى المماليكِ والجارِ وأداء الحقوق وإخلاص العملِ للهِ والتوكُّلِ عليهِ والاستعانةِ بهِ والرّضا بمواقعِ القدَرِ والتسليمِ لحُكمِهِ والانقيادِ لأمرهِ ومُوالاةِ أوليائِهِ ومُعاداةِ أعدائهِ وخَشيَتِهِ في الغَيبِ والشّهادةِ والتقرُّبِ إليهِ بأداءِ فرائضهِ واجتنابِ محارِمهِ واحتسابِ الثّوابِ عندَهُ وتصديقِهِ وتصديق رسلِهِ في كلِّ ما أخبروا به وطاعتِهِ في كلِّ ما أمروا بهِ، مما هوَ نَفعٌ وصلاحٌ للعبدِ في دُنياهُ وآخرَتِهِ وفي ضدِّ ذلكَ شقاوَتُهُ ومَضرَّتُهُ في دُنياهُ وآخرَتِهِ. (١٥).
ويقول كذلك ابن تيمية في موضع آخرٍ : والرسالةُ ضروريةٌ للعبادِ، لا بدَّ لهم مِنها، وحاجَتُهم إليها فوقَ حاجَتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والرسالةُ روحُ العالمِ ونورهُ وحياتُهُ، فأيُّ صلاحٍ للعالمِ إذا عُدِمَ الروحَ والحياةَ والنورَ؟ والدُّنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلّا ما طلَعَتْ عليه شمسُ الرّسالةِ، وكذلكَ العبدُ ما لم تُشرِق في قلبِهِ شمسُ الرّسالةِ، ويَنالُهُ مِن حياتِها وروحِها فهوَ في ظُلمةٍ، وهوَ منَ الأمواتِ، قال اللُه تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصفُ المؤمنِ؛ كانَ ميّتًا في ظلمةِ الجهلِ، فأحياهُ اللهُ بروحِ الرسالَةِ ونورِ الإيمانِ، وجعلَ لهُ نورًا يمشي بهِ في الناسِ، وأمّا الكافرُ فميِّتُ القلبِ في الظّلُماتِ.(١٦).
ذلك أن الإنسان يعلم في نفسه وواقعه، أن الحياة الدُّنيا فيها الظالم والمظلوم، والصّالح والفاسد، وقد تكون الغلبة للظّـالمين الفاسدين على أصحاب الحـق؛ فيأتي الدين – مؤكـدًا ما توصل إليه العقل إجمالاً – واعدا بأخذ حقِّ المظلوم والاقتصاص من الظّالم بالعدل والإنصاف.
_حاجة الإنسان إلي الدين حاجة إلي السعادة في الدارين:
إن الضرورة إلي الدين بشمائلها من عباده الله ومعرفة الرسل والإيمان بهم اهم شئ لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وكذلك مصيره في الدنيا من اللجوء والاستغائه والاستعانه بالله والتوكل عليه في الدنيا يكون مصيرهُ في الآخرة من الأعمال الصالحة حيث الخلود في دار النعيم .
يقول ابن القيم رحمه الله:"أعظم من ضرورة البدن إلي روحه،والعين إلي نورها ،والروح إلي حياتها،فأي ضرورة وحاجة فُرضت فضرورة العبد وحاجته إلي الرسل فوقها بكثير"(١٦) ولولا النبوة لبقي الأنسان في ضلال وشرك
ولانه بذلك يجعل المحاسب الأول للإنسان هو نفسه! حين يعرف أنه سيثاب على أعماله الصالحة، ويعاقب على سيـئاته. فيجتهد تبعًا لذلك في السعي إلى تقويم نفسه، والعمل لما ينجيه من العذاب.
وهكذا نجد أن حاجة النّاس إلى الدين كحاجتهم إلى الطـعام والشراب بل أشد؛ إذ به يصلون لرضوان الله وتحقيق مراده من خلقهم و طمأنينتهم واستقرارهم المعرفي و الروحي و السلوكي.
_حاجة الإنسان الي الدين حاجة اجتماعية:
تأثير الدينِ ليس محصورًا في الفرد من حيث هو فردٌ، بل يتعداهُ إلى إصلاح الأمم و المجتمعات. فالدين يكون رابِطةً اجتماعيةً بين أفراده أقوى وأسمى وأعدل من كلِّ الروابط القبلية والعصبيات والقوميات.
رابطةٌ مبنيةٌ على العدل والتراحم والتآخي والتكافل والتعاطف والمحبة. رابطة مرجعيتها الوحي ومركزيتها العبوديّةُ لله. والدين للمجتمعِ ضروري في تماسكه وتلاحمه، وبغيابه تنهار كل العهود والمواثيق البشرية،
يقول جون لوك: وأخيرًا لا يمكن التسامح على الإطلاقِ مع الذين ينكرون وجود الله. فالوعد والعهد والقسمُ، من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمةٌ بالنسبة للملحد. فإنكار الله، حتى لو كان بالفكر فقط، يفككُ جميع الأشياء(١٧).
ويقول عباس محمود العقاد في وصف حاجة المجتمع للدينِ:إنَّ تجارُبَ التاريخِ تقرِّرُ لنا أصالةَ الدّينِ في جميعِ حرَكاتِ التاريخِ الكُبرى، ولا تَسمحُ لأحدٍ أن يَزعُمَ أنَّ العقيدةَ الدّينيّةَ شيءٌ تَستطيعُ الجماعَةُ أنْ تُلغيَهُ، ويستطيعُ الفردُ أنْ يَستغنيَ عنهُ، في عِلاقتِهِ بتلكَ الجَماعةِ، أو فيما بينَهُ وبينَ سريرَتهِ المطويّةِ مِنْ حولِهِ، ولو كانوا مِن أقربِ الناسِ إليهِ. ويقرِّرُ لنا التاريخُ أنّهُ لم يكُنْ قَطُّ لعاملٍ مِن عوامِلِ الحرَكاتِ الإنسانيّةِ أثرٌ أقوى وأعظمُ مِن عاملِ الدّينِ، وكلُّ ما عداهُ منَ العوامِلِ الأخرى في حركاتِ الأمَمِ، فإنّها تتَفاوَتُ فيها القوةُ بمقدارِ ما بينَها وبينَ العقيدةِ الدّينيةِ منَ المشابَهةِ في التّمكُّنِ مِن أصالةِ الشُّعورِ وبواطنِ السَّريرةِ. هذهِ القوّةُ لا تُضارِعُها قوّةُ العصبيّة، ولا قوّةُ الوطَنيّةِ، ولا قوّةُ العُرفِ، ولا قوّةُ الأخلاقِ، ولا قوّةُ الشّرائِعِ والقوانينِ؛ إذْ كانَت هذهِ القوّةُ إنما تَرتبِطُ بالعِلاقَةِ بينَ المرءِ ووطنِهِ، أو العلاقةِ بينَه وبين مُجتمعِه، أوِ العلاقةِ بينَهُ وبينَ نوعِهِ، على تعدُّدِ الأوطانِ والأقوامِ. أمّا الدّينُ فمرجِعُهُ إلى العلاقةِ بينَ المرءِ وبينَ الوجود بأسْرِهِ، ومَيدانُهُ يتّسعُ لكلِّ ما في الوجودِ مِن ظاهرٍ وباطنٍ، ومِن علانِيَةٍ وسرٍّ، ومِن ماضٍ أوْ مَصيرٍ إلى غيرِ نهايةٍ، بين آزالٍ لا تُحصى في القِدَمِ، وآبادٍ لا تُحصى فيما ينكشِفُ عنهُ عالَمُ الغيوبِ. وهذا على الأقلِّ هوِ مَيدانُ العقيدةِ الدينيّةِ في مَثَلها الأعلى، وغاياتِها القُصوى، وإنْ لم تستَوعبْها ضمائرُ المُتدينينَ في جميعِ العُصورِ.(١٨).
ويشير الدكتور علي شريعتي :إن الدين كان الأساس الفكري والثقافي لكل المجتمعات في طول التأريخ.وإن الدين هو محور الحضارات القديمة.(١٩)
_وحاجة الإنسان إلي الدين حاجة سياسية:
وهي في بناء المجتمع تماثلها الحاجة إليه في سياسة الناس ورعايةحقوقهم وشؤون دنياهم. فالإسلام دين يشمل جميع مناحي الحياة تشريعًا ورعايةً، يحكم بين الناسِ بميزان القسْطِ والعدلِ ويقود الخلق بشريعة خالقهم العليم اللطيف الخبير. ومحاولة حصره في الشعائر التعبدية وإبعاده عن حياة الناس مزلقٌ خطيرٌ وتعدٍّ مهلكٌ على حقِّ الخالق في التشريع والحكم والتحاكم إليه.
يقول الشاطبي رحمه الله: المصالحُ التي تقومُ بها أحوالُ العبدِ لا يعرِفُها حقَّ معرِفَتِها إلا خالِقُها وواضِعُها، وليسَ للعبدِ بها علمٌ إلا مِن بعضِ الوجوهِ، والذي يَخفى عليهِ مِنها أكثرُ منَ الذي يبدو لهُ، فقد يكونُ ساعيًا في مَصلَحةِ نفسِهِ مِن وجهٍ لا يوصِّلُهُ إليها، أوْ يوصِّلهُ إليها عاجلًا لا آجلًا، أو يوصِّلهُ إليها ناقصةً لا كاملةً، أوْ يكونُ فيها مَفسدةٌ تُربّي -في المُوازنةِ- على المصلحةِ، فلا يَقومُ خَيرُها بِشَرِّها. وكم مِن مُدبِّرٍ أمرًا لا يَتِمُّ لهُ على كمالِهِ أصلًا، ولا يَجني منهُ ثمرةً أصلًا، وهوَ معلومٌ مُشاهَدٌ بينَ العُقَلاء، فلِهذا بعَث اللهُ النّبيينَ مُبَشِّرينَ ومنذِرينَ، فإذا كانَ كذلكَ فالرجوعُ إلى الوَجهِ الذي وضعَهُ الشّارعُ، رجوعٌ إلى وجهِ حُصولِ المَصلحَةِ والتّخفيفِ على الكمالِ بخلافِ الرجوع إلى ما خالفَهُ.(٢٠).
_وحاجة الإنسان إلي الدين حاجة إقتصادية:
فبابُ المال من أكثر الأبواب التي تقع فيها المظالم والخلافات، بل والحروب. والنفس الإنسانية مَفطورةٌ على حبِّ المال،
قالَ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران 14)
ولذا فهي تحتاج إلى نظام عادل متوافقٍ مع جبلتها يقيها أنْ تحيد أو تزيغ في بابِ المال والمعاملاتِ. والأمثلة كثيرة ومتوافرة على الحالِ التي آلت لها البشريةُ في زمن طغيان المادية والرأسمالية والنفعية، التي بلغ فيها الجشع البشريّ أبشع صُوره. حيث نشرت منظمةُ أوكسفام في يناير ٢٠٢٠ إحصائيةً تفيد بأن الثروةَ التي يملكها ألفانِ ومائةٌ وثلاثةٌ وخمسون شخصًا تفوق ما يَملكُه 4.6 مليار إنسانٍ من سكان العالم.
وإحصائيّةٌ أُخرى لنفس المنظمة أشارت إلى أنَّ اثنين وثمانين بالمئة من الثروة التي جمعت في عام ألفين وسبعة عشر حصل عليها واحدٌ بالمئة فقط من سكان العالم من الطبقة الأكثر ثراءً. فمثل هذا التفاوُت الفاحشِ هوَ النّتيجةُ الحتميةُ لغياب الدين عن الحياة الاقتصاديّةِ للناسِ. والإسلام في تشريعاته لا يمنع الفرد مِنْ حقِّ الامتلاكِ مثلما تفعل بعض المذاهب والأيديولوجيات، مخالفةً بذلك فطرةَ الإنسان نفسه، بل يُنَظِّمُ الحياةَ الاقتصاديةَ بتشريعاتٍ تحققُ العدلَ والقِسطَ، وتَحفَظُ للفقير حقهُ من عند أخيه الغنيِّ، في مجتمع الجسد الواحد المتراحم المتماسك. فلا يوجد صراع بين الطبقاتِ يدور في فلكه التاريخ، ولا إطلاقٌ كُليٌّ لأهواء البشرِ في التعاملاتِ المالية.
_وحاجة الإنسان إلي الدين حاجة علمية:
وهي تشمل الحاجة إليهِ في ميدان العلوم التجريبية. يقول الدّكتور سلطان العميري: فإن العلم التّجريبي قاصِرٌ عن إدراك القيم العليا التي تضبط حياة الإنسانِ، وحياة الإنسان أوسع من أن يستوعبها منهج تجريبيٌّ لا يمكنُهُ إدراك ما خرج عن الأمور الحسية، والعلم الحديثُ قاصِرٌ عن إدراك الكونِ الحسيِّ، فكيف يمكنهُ أن يدرك ما هو أعلى منه وأجل؟! (٢١).
فمسائل كالقيم والأخلاق والوعي والإدراك والإرادة الحرةِ لا يستطيع العلم التجريبي المادي فهم كنهها ولا الإدلاء بدلوِّه فيها. والعلم التجريبيُّ الخالي مِنْ ضوابطَ قيمةٍ تقوده وتدله، خطيرٌ على الجنس البشري ككلٍّ، وآثارُهُ وخيمةٌ ومدمرة.
حيث يقول ألبرت آينشتاين عنِ العلمِ في هذا الصّددِ:إنهُ لمْ يُستَخدَم حتى اليومَ إلا في خَلقِ العَبيدِ، ففِي زمَنِ الحربِ يُستَخدَمُ في تسميمنا وتشويهنا، وفي زمنِ السِّلمِ يجعلُ حياتنا منهوكةً، ومرهقةً.(٢٢).
فمسميات كالقنابل الذرية وأسلحة الدمار الشامل والتلوُّثِ البيئيِّ وانحسار الغابات وتآكل التربةِ والنِّفاياتِ السامة، ما هي إلا أمثلةٌ قليلة على الآثار المُهلِكةِ التي قد يؤدي إليها العلم إذا لم يكن محكومًا بشريعةٍ ربَّانيّةٍ حقَّةٍ.
يقول مؤلِّفا كتاب “انتحارِ الغَرب”:في بيانِ هذا المَعنى: كانَ منَ المُعتادِ أنْ يُعتقَدَ أنَّ العلم سوفَ يَمنحُ العالِمَ منافِعَ ضَخمةً، وكان من المعتاد أن يكون قادِرًا على الوفاءِ بهذهِ التوقعات… لكنْ قبل ذلكَ هناك تيّارٌ مُضَادٌّ قويٌّ في التّقديرِ العامِّ للعلم، وهو التّيار الذي كانَ قدْ بدأَ في السنوات التي كانت بين الحربين الأولى والثانيةُ … وهو أنَّ العلم ينزع عن الإنسانِ صفاتهُ الإنسانيّةَ، وكان أداةً سهلةً جدًّا للمستبدّين، ومنح الامتيازات للنُّخبة، وتضاعفَ الشكُّ في العلم على نحوٍ ضَخمٍ، وتعمّقَ نتيجةً لفَظائعِ هيروشيما… وقد عبرَ العلماءُ البارزون عن شكوكهم.
وقال أينشتاين بعد هيروشيما: لو كنت أعرف أنهم يستعملونَ هذا، لكنت عملت صانعَ أحذيةٍ.
وهذا دون الكلام عن ما قد يحدِثهُ التّقدُّمُ التِّكنولوجيُّ غير المنضبط مِن تغييراتٍ على الإنسان والمجتمعات. فالحاجة إلى نظام أعلى يضع العلم في مكانهِ الخاصِّ به ويجعلهُ وسيلةً في تحقيق الغاية من خلق الإنسان حاجةٌ شديدةٌ، بل ضرورية.
................
المراجع/
(١)رواه البخاري ومسلم،واللفظ له
(٢)انظر:الدين ،محمد عبدالله دراز،دائرة المعارف،القرن العشرين،ص٧٥,٧٦
(٣)انظر:الدين،لمحمدعبدالله الدراز،دائرة المعارف ،القرن العشرين،ص٩١
(٤)وانظر :"موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين"للشيخ مصطفي صبري ١٤/٢
(٥)تاريخُ الإنسانيّة،لأرنود توينبي
(٦)انظر:الدين،للدكتور محمد عبدالله دراز ،دائرة المعرف،القرن العشرين
(٧)الفطرة ،للدكتور علي القرني ص٤٣٠
(٨)انظر: مادة دين ،لمحمد عبدالله الدراز،دائرة معارف،القرن العشرون،4/111
(٩)هبة الشريف، ديني ودين الناس، العربي للنشر والتوزيع ص 239 ط 2017
(١٠)انظر:الدلاله العقلية في القرآن للدكتور عبدالكريم عبيدات،ط،دار النفائس،الاردن،1420
(١١)إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان،لابن القيم الجوزية
(١٢)دع القلق وابدأ الحياة،ديل كارنيجي، ٢٣٢
(١٣)دع القلق وابدأ الحياة,ديل كارنيجي،٢٣٢
(١٤) الدين ضد الدين بتصرف،لعلي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد،مؤسسة العطار الثقافية،ط 1، 2007 ص 50
(١٥)مجموعُ الفَتاوى، لابن تيمية
(١٦)مجموع الفتاوى,لابن تيمية
(١٧)انظر :زاد المعاد،لابن القيم الجوزية،١٥/١؛
وانظر إلي مفتاح دار السعادة ٢/٢ لابن القيم الجوزية
(١٨)رسالة في التسامح،لجون لوك
(١٩)حقائقُ الإسلامِ وأباطيلُ خصومِهِ،لعباس محمود العقاد
(٢٠) الدين ضد الدين،لعلي شريعتي ،ترجمة حيدر مجيد، مؤسسة العطار الثقافية ط ١، ٢٠٠٧،ص ٥٦