مقدمة :

هذه الليالي المباركات يصدُق عليها أن تُسمَّى ليالي الرجاء ؛ لما يرجُوه العباد من المغفرة والرحمة والعتق من النار ، ولما يرجُونه من إدراك ليلة القدر وقيامها إيمانًا واحتسابًا ، فيكون قيام ليلة خيرًا من قيام ألف شهر.

إنَّه الرجاء في موعود الله الذي تنزَّل به القرآن الكريم ، وفصَّله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أحاديث عدَّة عن العشر المباركة وعن ليلة القدر.. وعدٌ بأجورٍ عظيمة لا تخطُر على بالٍ في ليالٍ معدودة ، فلا يرجوها إلا مؤمن ، ولا يُحرم منها إلا خاسر.

إنَّ الرجاء كلمةٌ تأخُذ بشغاف القلوب ، وتستولي على النُّفوس ، فالرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى المحبوب.. وهو قُربُ القلب من الاستبشار بجود الله سبحانه وتعالى والارتياح لِمُطالَعة كرمه،
 إنَّه الثقة بموعود الله ولا رجاء إلا بعملٍ صالح ، وأمَّا الرجاء مع الكسل عن الطاعات والإسراف في المحرمات، فهو التمنِّي والغرور ،ويوم القيامة يُقال لأصحابه:(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) [الحديد: 14] ،
قال سعيد بن جبير رحمه الله : هو أن يعمل المعصية ويتمنَّى المغفرة. 

إنَّ أهل الرجاء أهل إخبات وعبادة ، يتفقَّدون قلوبهم ، ويزكُّون بالصالحات نفوسهم ، ويُرابطون على طاعة ربهم ، تطرب قلوبهم بالقرآن ، وتقشعرُّ جلودُهم من الخشية ، وتدمع أعينُهم من الخشوع ، يلحظون نعم الله عليهم في كلِّ أمورهم ، ويرون تقصيرهم في حقِّه مهما عملوا ، فالشكر ديدنهم ، والاستغفار هجِّيراهم ، ولا تفتُر ألسنتهم عن الشكر والذكر. 

وليالي رمضان تاج ليالي العام، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، وفي كل ليلة يُفتح باب الإجابة من السماء، وخزائن الوهَّاب ملأى، فسل من جود الكريم، واطلب رحمةَ الرحيم، فهذا شهر العطايا والنفحات والمنن والهبات، وأعجزُ الناس من عجز عن الدعاء،
 ولا تعجز أن تصليَ القيام أو التراويح مع الإمام حتى ينصرف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتِب له قيام ليلة) رواه أهل السنن وهو حديث صحيح.

سُئل أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله:
ما علامة الرجاء في العبد؟
قال : أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجيًا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا ،وتمام عفوِه في الآخرة. 

ووصف الله  تعالى  للصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أهل رجاء صادق ، صدقوه بأقوالهم وأفعالهم ؛
قال تعالي: (إن الذينَ آمنُوا والذين هاجرُوا وجاهدوا فِي سبيلِ اللَّهِ أولئك يرجون رحمت اللَّهِ واللَّهُ غفُورٌ رحيمٌ ) [البقرة: 218]. 

قال قتادة رحمه الله : هؤلاء خيارُ هذه الأمَّة ، ثم جعلهم الله  أهل رجاءٍ كما تَسمَعون ، وإنَّه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .

وفي رجاء المتهجِّدين :يقول الله تعالي:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) [الزمر: 9] ،
وفي دعائهم :(تتجافَى جُنُوبُهُم عن المضاجعِ يدعُونَ ربَّهُم خوفًا وَطَمَعًا وَممَّا رزقناهُم يُنفقون ) [السجدة: 16] ، ففي تهجُّدهم رجاءٌ ، وفي دعائهم رجاءٌ ، ولم يتعلَّقوا بالرجاء بلا عمل ، ولا عملوا بلا رجاء.


وأهل الرجاء قد علَّقوا قلوبهم بالله ،واعتمدوا عليه في تحقيق ما يريدون ،ورفع ما يشتكُون ،ودفْع ما يخافون، إنهم يرجون الله في السرَّاء والضرَّاء ،وفي كلِّ أحوالهم وشؤونهم الدينيَّة والدنيويَّة والأخرويَّة.

و أن الشرف الحقيقي في الدنيا والآخرة هو في قيام الليلِ؛جاء جبريلُ عليه السلام  إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:(يا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ" .. ثُمَّ قَالَ: "واعلمْ يا مُحَمَّدُ أنَّ شَرَفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزُّه استغناؤُهُ عن النَّاسِ).

إن رجاءهم بربهم يملأ قلوبهم ، ولا يتزحزح عنها ولو تأخَّر ما يرجُون ، وتخلف ما يطلُبون ، ووقع ما يكرهون ؛ لأنَّ ثقتهم بالله أعظمُ من ثقتهم بالخلق ؛
ولأنَّ تصديقهم لوعدِه أكبرُ في نفوسهم ممَّا يرونه مخالفًا لما يرجون.

 تأمَّلوا معي رجاء يعقوب في يوسف عليهما السلام وقد فقده صبيًّا يغلب عليه الهلاك ، ثم كُفَّ بصره من البكاء حزنًا عليه ، وما انفكَّ لحظةً عن الرجاء بالله في لقياه حتى عاتَبَه بنوه فقالوا :
( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) [يوسف: 85] ، فكان جوابه جوابَ الراجي في الله ما لا يرجوه من الخلق ؛
(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [يوسف: 86].

ما الذي يعلمه من الله وهم لا يعلَمونه؟
إنَّه يعلم من لُطْفِ الله ورأفته ورحمته بعباده ما أوجَبَ حسنَ ظنِّه به ، وقوَّة رجائه فيه ، ثم تأمَّلوا دعوته لبنيه أن ينبذوا اليأس ، ويملؤوا قلوبهم بالرجاء وحسن الظن بالله ؛(يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87] ،
فلمَّا بشَّر به ( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [يوسف: 96] ،
إنه لرجاءٌ عظيم بالله  كُوفئ عليه يعقوب في الدنيا بلُقيا ولده ، وعودة بصره ، واجتماع شمله بأحبَّته ، وإزالة ما في قلوب بعضهم على بعضٍ ، مع ما نالوا من عزِّ الدنيا ورفعتها برفعة يوسف عليه السلام وأجر الآخِرة أكبر وأبقى. 

ما أحوجنا إلى رجاءٍ كرجاء يعقوب عليه السلام ونحن في ليالي الرجاء!

ما أحوجنا إلى رجاءٍ كرجاء يعقوب عليه السلام ونحن في ليالي الرجاء!

إن الواحد منَّا لو رجا لُقيا أكبر ملوك الدنيا ، ومجالسته وحدَه ، ومناجاته بمفرَده ، ونيْل أعظم جوائزه لَهجرَ الطعام والنوم من شدَّة الفرح ، ولحسب الأيام والدقائق يترقَّب موعد مجالسة الملك ومُناجاته ، ونحن في هذه الليالي المباركات قد وعدنا ربُّنا بمناجاة خاصَّة ، ليست كمناجاته في سائر العام ، وجوائزها ليست مثل جوائزها في سائر الأيَّام.

إنَّنا نرجو من الله أن يمنحنا بركة هذه الليالي المباركة ، بركة صيام نهارها، وبركة قِيامها ، وبركة قِيام ليلة القدر؛ لأنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أنَّ من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه ، وأنَّ مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه ، وأنَّ من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه ، وأنَّ لله عتقاء من النار في كلِّ ليلةٍ من رمضان ، فكيف بعشره الفاضلة؟!

  قيام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عن حذيفة رضي الله عنهُ ،قال :(صليتُ مع النبي صلي الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة ،فقلتُ :يركع عند المائة،ثم مضي ،فقلتُ :يصلي بها في ركعةٍ، فمضي فقلتُ :يركع بها ،ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها ،يقرأ مترسلًا  إذا مر بآيةٍ فيها تسبيح سبح ،وإذا مر بسؤال سأل ،وإذا مر بتعوذ تعوذ )  

 أكثر من خمسة أجزاءٍ في ركعةٍ واحدةٍ، قراءةُ ترتيلٍ مع تسبيحٍ وسؤالٍ واستعاذةٍ .. هنا تتقطَّعُ القلوبُ وهي تشعر بالتقصير في تطبيقِ قوله تعالى: (لقد كان لكُم في رسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حسنةٌ لِّمن كَانَ يَرْجُو اللَّه واليوم الآخر وذكرَ اللَّه كثيرًا) [الأحزاب: 21].

وعن عائشة رضي الله عنها ‏أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتي تتفطر قدماهُ، فقالت عائشة: (لم تصنع هذا يارسول الله ،وقد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر قال :أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا) غفر ذنبُه فقام للهِ حتى تفطرت قدماه .. فماذا عنَّا ونحنُ لا نأمنُ في يوم القيامة النَّجاة؟!

عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر رضي اللهُ عنه كان يُصلي من الليل ما شاء اللهُ أن يُصلي، حتى إذا كان آخرُ الليل، أَيقظ أهله وهو يقولُ: "الصلاة ، الصلاة، ثُم يتلو: (وأمر أهلك بالصَّلاة واصطبر عليها) [طه: 132].

وهذا عُثمان بن عفان رضي اللهُ عنه لما اجتمع عليه المُجرمون وأرادوا قتله، قالت امرأتُه: إن تقتلوه فإنه كان يُحيي الليل كلَّه في ركعةٍ يجمعُ فيها القرآن، ولهذا قال حسانُ رضي اللهُ عنه يمدحُه:

ضحَّوا بأشمط عنوانُ السجود به

           يُقطِّعُ الليل تسبيحاً وقرآنا 

وهذا علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه مع ما جرى في وقته من الفتن والمصائب العظام، والحُروب بين المسلمين؛ دخل عليه رجلٌ من أصحابِه بعد هجعةِ الليلِ وهو قائمٌ يُصلي، فقال:( يا أمير المؤمنين، صومٌ بالنهار، وسهرٌ بالليل، وتعبٌ فيما بين ذلك، فلما فرغ عليٌ من صلاتِه قال: سفرُ الآخرة طويلٌ يُحتاجُ إلى قطعه بسير الليل ).


كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل حين يبقَى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعُوني فأستجيب له؟ من يسألني فأُعطيه؟ من يستغفرني فأغفِرَ له؟" ، فكيف بليالٍ قد خُبِّئتْ فيها أفضلُ ليلةٍ في العام كلِّه؟!

إن هذا الكرم العظيم من ربِّنا في شهر الجود والعطاء ليُوجبُ امتِلاء قلوبنا رجاءً فيه عز وجل ،
فتهجَّدوا وأنتم ترجونه ، واقرؤوا وأنتم ترجونه ، واستغفروه وأنتم ترجونه ، واسألوه وأنتم ترجونه ، وادعوه وأنتم ترجونه ؛ فإنَّكم تُعاملون غنيًّا كريمًا برًّا رحيمًا، هو سبحانه  أرحمُ بكم من أنفسكم ؛
( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [فاطر: 2].

كان أبو إسحاق السَّبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشَّباب ، جدُّوا واجتهدوا ، وبادروا قوَّتكم ، واغتنِموا شبيبتَكم قبل أن تعجزوا ، فإنَّه قلَّ ما مرَّت عليَّ ليلة إلاَّ قرأت فيها بألف آية.

وكان عبد الواحد بن يزيد رحِمه الله يقول لأهله في كل ليلة : يا أهلَ الدَّار ، انتبهوا  "أي : من نومكم "
 فما هذه " أي : الدنيا "دار نوم ، عن قريب يأكلُكم الدود.

وقال محمد بن يوسف : كان سفيان الثَّوري رحمه الله
يُقيمنا في اللَّيل ويقول : قوموا يا شباب ،صلُّوا ما دمتم شبابًا ، إذا لم تصلُّوا اليوم ، فمتى؟!.

وكان بعض الصَّالحين يقف على بعض الشَّباب العبَّاد إذا وضع طعامهم ، ويقول لهم :
لا تأكلوا كثيرًا ، فتشربوا كثيرًا ، فتناموا كثيرًا ، فتخسروا كثيرًا.

وقال أبو جعفر البقال :دخلتُ على أحمد بن يحيى رحمه الله  فرأيتُه يبكي بكاء كثيرًا ما يكاد يتمالك نفسه ، فقلت له : أخبرني ما حالك؟
فأراد أن يكتُمني فلم أدعْه ، فقال لي : فاتني حزبي البارحة ، ولا أحسب ذلك إلاَّ لأمر أحدثتُه ، فعوقبت بمنْع حزبي ، ثم أخذ يبكي.

وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: أعياني قيام الليل ، فقال : قيَّدتك خطاياك.

وقالت امرأة مسروق بن الأجْدع : واللهِ ، ما كان مسروق يُصْبِح من ليلة من اللَّيالي إلاَّ وساقاه منتفختان من طول القيام ،
وكان  رحِمه الله  إذا طال عليه الليل وتعب ، صلى جالسًا ولا يترك الصَّلاة ، وكان إذا فرغ من صلاتِه يزحف – أي : إلى فراشه - كما يزحف البعير!

وكان ثابت البناني قد حبِّبت إليه الصلاة ،فكان يقول : اللهم إن كنت أذنت لأحدٍ أن يصلي لك في قبره ،فائذن لي أن أصلِّي في قبري.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لولا ثلاث ما أحببتُ العيش يومًا واحدًا : الظَّمأ لله بالهواجر ، والسُّجود لله في جوْف الليل ، ومجالسة أقْوام ينتقون أطايِبَ الكلام كما ينتقى أطايب الثَّمر.

وقال عبد الله بن داود : كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة ، طوى فراشه ؛ أي : كان لا ينام طول الليل.


وقال أحمد بن حرب : يا عجبًا لِمن يعرف أنَّ الجنَّة تُزَيَّن فوقه ، وأنَّ النَّار تسعَّر تحته ، كيف ينام بيْنهما؟!. 

قال معمر :صلَّى إلى جنبي سليمان التيْمي رحِمه الله بعد العشاء الآخرة، فسمعتُه يقرأ في صلاتِه :( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الملك: 1] حتَّى أتى على هذه الآية :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )[الملك: 27] ،
فجعل يردِّدها حتَّى خفَّ أهل المسجد وانصرفوا ، ثمَّ خرجتُ إلى بيْتي ، فلمَّا رجعتُ إلى المسجد لأؤذِّن الفجر ، فإذا سليمان التيْمي في مكانه كما تركتُه البارحة ، وهو واقف يردِّد هذه الآية لم يُجاوزها :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله :إذا لم تقْدر على قيام اللَّيل ، وصيام النَّهار ، فاعلم أنَّك مَحْروم مكبَّل ، كبَّلتك خطيئتُك. 

وكان أحد الصَّالحين يصلِّي حتَّى تتورَّم قدماه ، فيضربُها ويقول : يا أمَّارة بالسوء ، ما خلقت إلاَّ للعبادة.

وصلى سيِّد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله
الفجْر خمسين سنة بوضوء العِشاء ، وكان يسرُد الصَّوم.

وقال يزيد بن أبان الرقاشي رحِمه الله :إذا نِمْتُ فاستيقظْتُ ، ثمَّ عُدتُ في النَّوم ، فلا أنام اللهُ عيني.

وكان عبد العزيز بن أبي روَّاد  رحِمه الله يُفرش له فراشه لينام عليْه باللَّيل ، فكان يضَع يده على الفراش فيتحسَّسه ثمَّ يقول : ما ألينك! ولكن فراش الجنَّة ألين منك ، ثمَّ يقوم إلى صلاته.

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : ربَّما أقوم خمس ليالٍ متوالية بآيةٍ واحدة ، أردِّدُها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها، ولولا أنَّ الله تعالى يمنُّ عليَّ بالغفلة ، لما تعدَّيت تلك الآية طول عمري ؛
لأنَّ لي في كلٍّ تدبُّر علمًا جديدًا ، والقُرآن لا تنقضي عجائبُه.

قال رجلٌ لإبراهيم بن أدهم رحِمه الله : إني لا أقْدِر على قيام اللَّيل ، فصف لي دواء ، فقال :
لا تعْصِه بالنَّهار ، وهو يقيمُك بين يديْه في اللَّيل ، فإنَّ وقوفك بين يديه في اللَّيل من أعْظم الشرف ، والعاصي لا يستحقُّ ذلك الشَّرف.

فأطيعوا الله ، واملؤوا قلوبكم حسن ظنٍّ به ، ورجاءً لرحمته ، وخوفًا من عذابه ؛
( فمن كان يرجُو لقاء رَبِّهِ فليعمل عملًا صالحًا ولا يُشرِكْ بعبادةِ رَبِّهِ أَحَدًا )[الكهف: 110].

فينبغي للعبد أن يجعل هذا الشهر .. بداية الانطلاق لمنافسة أهل الليل .. وأن يصبر ويجاهد نفسَه .. فاللهُ  يقولُ: (والَّذين جاهدُوا فينا لنهدينَّهُم سُبُلنا وإِنَّ الله لمع المُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]

يقولُ ثابتُ البُناني رحمه الله :جاهدتُ نفسي على قيام الليل عشرين سنةً، ثم تلذذتُ به عشرين سنةً.

ما هذه اللَّذةُ التي وجدوها؟ .. فهل يا تُرى سنذوقُ لذَّة القيام قبل القدوم على الله عز وجلّ؟

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : أهلُ الليل في ليلهم ألذ من أهل اللَّهو في لهوهِم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاء في الدنيا.

  قال مالكُ بن دينارٍ  رحمه اللهُ : كان لي أحزابٌ أقرؤها كل ليلةٍ، فنمتُ ذات ليلةٍ، فإذا أنا في المنام بجاريةٍ ذات حُسنٍ وجمال وبيدها رقعةٌ، فقالت: أتحسن أن تقرأَ؟، فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعة، فإذا فيها مكتوبٌ:

لهاك النَّومُ عن طلبِ الأماني

      وعن تلكَ الأوانسِ في الجِنانِ

تعيشُ مخلَّداً لا موتَ فيها

      وتلهو في الخيامِ مع الحِسانِ

تَنبَّه من منامِك إن خيراً

          من النَّومِ التَّهجدُ 

فلنحسن ختام هذا الشهر الكريم ؛ فلعلَّ منَّا من لا يُدركه العام القادم ، لنستثمر ما بقي من لياليه ، ولنُكثر من الاستغفار في ختامه ، ولنلحَّ على الله و نسأله القبول.
تعليقات