فضل الصبر

مقدمة:
الباب لا يُفتَح ، والقيد لا يُكسَر ، والبعيد لا يقرب ، والغائب لا يعود ، إلا بأجل مسمًّى يقدِّره الله تعالى.

ولا بد لشعلة الأمل أن تُضيء ظلمات اليأس ، ولا بد لشجرة الصبر أن تطرح ثمار الأمل ، ومن فَقَدَ الصبر ضيع الأمل، ومن لا أمل معه ، فلا سلاح له لمواجهة معوقات الدهر ، ومكائد الدنيا ، وعقبات الحياة.

معني الصبر:

وﺍﻟﺼﺒﺮ لغة: ﺍﻟﻤﻨﻊ ﻭﺍﻟﺤﺒﺲ ﻭﻫﻮ ﻧﻘﻴﺾ ﺍﻟﺠﺰﻉ ﻭﺳﻤﻲ ﺍﻟﺼﻮﻡ ﺻﺒﺮﺍ ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺒﺲﺍﻟﻨﻔﺲ ﻋﻦ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﻭﺍﻟﺸﺮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻨﻜﺎﺡ.

 ﻭمعناه في ﺍﻻﺻﻄﻼﺡ: ﻫﻮ ﺧﻠﻖ ﻓﺎﺿﻞ ﻣﻦ ﺃﺧﻼﻕ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻳﻤﺘﻨﻊﺑﻪ المرء من ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﺴﻦ ﻭﻻ ﻳﺠﻤﻞ وحقيقته شرعا حبس النفس عن كل ما يسخط الله في القلب والسان والجوارح،

 قال سعيد ابن جبير رحمه الله: (الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه الا الصبر).

ﻭﺍﻟﺼﺒﺮ ﻭﺍﺟﺐ ﺑﺈﺟﻤﺎﻉ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ؛
قال تعالى:(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).
ﻭمما يبين أهمية الصبر وعظم منزلته في الدين أن الله ذكره في كتابه في ﺗﺴﻌﻴﻦ ﻣﻮﺿﻌﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﺘﺔ ﻋﺸﺮ ﻧﻮﻋﺎ ﻟﻜﻞ ﻧﻮﻉ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺎﺋﺪﺓ جليلة.


 أحاديث في فضل الصبر ، منها :

 عن أَبي سعيدٍ الخدريِّ رضي اللهُ عنهُ قال : قال رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم : ( من يتصبَّرْ يُصبِّرهُ اللَّهُ ، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأَوسع من الصَّبرِ ) .رواه في الصحيحين

 عن أم سلمة رضي الله عنها أَنَّها قالتْ : سمعتُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم يقُولُ : ( ما من مُسلمٍ تُصيبهُ مُصيبةٌ فيقولُ ما أمرهُ اللَّهُ " إنَّا لله وإنَّا إِليهِ راجعون ، اللهمَّ أجُرني في مُصيبتي وأخلفْ لي خَيْرًا منها " إِلا أَخلف اللَّهُ لهُ خيرًا منها )رواه مسلم

  عن صهيبٍ رضي الله عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم :( عجبًا لأَمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمرهُ كلهُ خيرٌ ، وليس ذاك لأَحدٍ إِلا للمؤْمِنِ ، إن أصابتهُ سرَّاءُ شكر فكان خيرًا لهُ ، وإن أصابتهُ ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا لهُ )رواه مسلم.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاض ( أي عوضه ) مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه .


الصبر ضياء:
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصبر بأنه ضياء كما ورد في صحيح مسلم والضياء هو النور المصحوب بالإحراق كنور الشمس قال ابن رجب رحمه الله: (ولما كان الصبر شاقا على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه كان ضياء فإن معنى الصبر في اللغة الحبس ومنه قتل الصبر وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل).

ومما يدل على أهمية الصبر وشدة حاجته أن المؤمن يتقلب في الدنيا بين حالين إما السراء فيشرع له الشكر أو الضراء فيشرع له الصبر؛
 فإذا أنعم عليه أحسن وإذا ابتلي حبس نفسه عن القول والفعل المحرم وكل ذلك خير ،
لأنه ممتثل لعبادة يحبها الله مناسبة للحال التي نزلت به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). رواه مسلم.


الصبر والصلاة

أوصى الله عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى :( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .
 لا بد من الصبر ؛ فالصبر من أعلى المقامات التي يجب أن يتحلى بها العبد أمام شدائد الحياة في طريقه إلى الله ، الصبر وقود الحياة ، وسبيل النجاة ، وزادُ الطريق ، وباب الأمل ، ومفتاح الفرج.

كيف لا ؟!
والصبر من أعظم خصال الخير التي حثَّ الله عليها في كتابه العظيم ، وأمر بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة؟

كيف لا ؟!
وقد وردت مادة (صبر) في القرآن الكريم في مائة وأربعة مواضع ، على تنوع في مواردها وأسباب ذكرها؟

كيف لا ؟!
وقد قال الله تعالى : ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45] ، 
قيل : معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا ؛ وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ، فزِع إلى الصلاة) ،
ونُعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلى ركعتين وقرأ :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [البقرة: 153].

والمؤمن إذا تحلى بالصبر وحافظ على الصلاة ، بُشِّر بفجر صادق ، واستحوذ على نصر مبين ، ونال فتحًا قريبًا.

كيف لا ؟!
وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :وما أُعطِيَ أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر؟

كيف لا ؟!
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
إنَّ أفضل عيش أدركناه بالصبر ، ولو أنَّ الصبر كان من الرجال كان كريمًا؟

كيف لا ؟! 
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
ألا إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا قُطع الرأس باد الجسد ، ثم رفع صوته ، فقال : ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له؟

قال زياد بن عمرو رحمه الله :
كلنا نكره الموت وألم الجراح ، ولكنا نتفاضل بالصبر.

لذا فعدم الصبر دليل ضعف الإيمان ، والله تعالى أمر عباده بالصبر ، ومدح أهله في آيات كثيرة ؛ فمن ذلك قوله تعالى:(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43] ،
وقال تعالي:(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].

فإذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالها ،وترادفت الضوائق وطال ليلها ، وزادت الشدائد واشتد كربها ، فإن الصبر يشع للمسلم النور العاصم من التخبُّط ، والهادي من الضلال ، والحافظ من القنوط؛
لذلك يحتاج إليه المسلم في دينه وفي دنياه، يبني عليه أعماله وآماله.

وبالصبر تبلغ ما تريد، وبالتقوى يلين لك الحديد ، وبالأمل تبني كل جديد.

وكما أن الصفح الجميل لا أذى فيه، والهجر الجميل لا عِتاب فيه ، فالصبر الجميل لا شكوى فيه ؛ قال تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 5 - 7].

فلا تيأس إذا قَسَتْ أيامك ، وتعثرت أقدامك ، وتشوه هندامك.

وإذا سقطت في حفرة واسعة ، فسوف تخرج منها وأنت أكثر تماسكًا وأعظم يقينًا ، وأوسع صدرًا ، وأحسن قوة ، والله مع الصابرين.

وقيل في الصبر :
يا نفس صبرًا على ما قد مُنيتِ به
   فالحر يصبر عند الحادث الجللِ

والصبر ساق إيمان المؤمن الذي لا اعتماد له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة .

فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم ،وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم ، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .


الصبر والتقوي :

وعلق الفلاح بالصبر والتقوى ، فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

وأخبر عن محبته لأهله ، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين ، فقال تعالى : ( والله يحب الصابرين ) .

ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون ، فقال تعالى:( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .


الصبر واليقين :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. ثم تلا قوله تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (سورة السجدة: 24)

قال سفيان بن عيينة رحمه الله في الآية السابقة:"لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا"،

 وقال زهير بن نعيم الباني رحمه اللهإن هذا الأمر  أي الإمامة في الدين  لا يتم إلا بشيئين:الصبر واليقين، فإن كان يقينًا ولم يكن معه صبر لم يتم، فإن كان صبرًا ولم يكن معه يقين لم يتم.

 

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: 

مثل اليقين والصبر كمثل فدادين(مزارعين) يحفران الأرض، فإذا جلس واحد جلس الآخر.



الصبر والحياة الدنيا :
والصبر قوامه طبيعة الحياة الدنيا من ناحية ،
فهي لم تكن دار جزاء وقرار ، بل امتحان وتمحيص ، والامتحان ليس كلامًا يُكتب أو أقوالًا توجه ،
بل هي الآلام التي تقتحم النفس فترهبها وتقهرها ،
 إنها النقائص التي تتخم بطون الكلاب ، وتترك الصالحين المصلحين ينامون طَاوِين ، إنها المظالم التي تجعل من يدَّعون الألوهية يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وآخرين يستشهدون وهم يدافعون عن حقوقهم المسلوبة.

الصبر نصف الإيمان:
إن الصبر يعتمد على حقيقة الإيمان ، فالإيمان يحتاج إلى ابتلاء كي يثقل ، كما يعتمد الإنسان على الابتلاء ؛ لكي يخرج أقوى عودًا ، وأعظم يقينًا ، وأوسع صدرًا.

قال تعالي:
( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [العنكبوت: 1 - 3].

والصبر نصف الإيمان ، والإيمان أن تعلم يقينًا أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.


للصبر منازل ودرجات :

الذي يريد الدرجات العلى ، والمنازل الرفيعة ، لا بد أن يدفع الثمن ، والثمن هنا يقدره الصادق الأمين رسول رب العالمين ، كيف؟!

قال صلى الله عليه وسلم : (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعملٍ ، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ، ثم صبر على ذلك ، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل)

والخير كل الخير في الابتلاء ؛ يقول صلى الله عليه وسلم : (من يُرِدِ الله به خيرًا يُصَبْ منه).

الابتلاء ليس غضبًا أو كرهًا من الله ، كلا ثم كلا ، إنما هو دليل حب الله تعالى للعبد المبتلى :(إذا أحب الله قومًا ابتلاهم ، فمن رضِيَ فله الرضا ، ومن سخط فله السخط) 


أنواع الصبر  :

الصبر على الطاعة :
منها الفرائض وقراءة القرآن ، وحسن الجوار وبر الوالدين ، وغيرها :(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [البقرة: 153].

الصبر على المعصية :
المغريات والشهوات والنزوات ، وغير ذلك :(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ )[الأعراف: 126].

الصبر علي البلاء:
ومنه المرض والأسر والموت وغيره ؛ قال ربنا :(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )[البقرة: 155].

قال ميمون بن مهران رحمه الله:
الصبر صبران : الصبر على المصيبة حسن ، وأفضل من ذلك الصبر عن المعاصي.

وقال إبراهيم التيمي رحمه الله:
ما من عبدٍ وهب الله له صبرًا على الأذى ، وصبرًا على البلاء ، وصبرًا على المصائب ، إلا وقد أُوتي أفضل ما أوتيه أحد ، بعد الإيمان بالله.


الصبر بين الاجر والجبر :
إن الله تعالى يعطي على الصبر عظيم الأجر ، والعبد الصابر يجبر الله خاطره ، ويشد من أزره ، ويضاعف أجره ، قال تعالي :
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر: 23] ، اسم الله الجبار في الآية يطمئن القلوب ، ويثلج الصدور ، ويرفع الأحزان ، ويخفف الآلام ، يحول الفقر غنًى ، والضعف قوة ، والذل عزة ، والشقاء والعناء سعادة وشفاء.

ورحم الله من قال :
يا نفس صبرًا فعقبى الصبر صالحة
        لا بد أن يأتي الرحمن بالفرج

قال النبي صلى الله عليه وسلم : 
(يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت بالمقاريض).

قال عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر :
ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فانتزعها منه ، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر ، إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزع منه ؛ثم قرأ:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر: 10]".

قال المفسرون : أي يغرف لهم من الحسنات غرفًا.

تعليقات