أن الوقت الذي تعيشونه في هذه الحياة الدنيا أنفس ما للإنسان، ولا يقدر بالأثمان، وكل مفقودٍ يمكن أن يسترجع إلا الوقت، فهو إن ضاع لم يتعلق بعودته أمل، ولذلك كان على المسلم أن يحفظه فيما ينفعه في آخرته ودنياه، ويصونه عن الضياع باللهو والغفلة، ويستقبل أيامه استقبال شديد الظمأ لقطرة الماء، واستقبال الضنين للثروة النفيسة، لا يفرط في قليلها فضلاً عن كثيرها، ويجتهد أن يضع كل شيء مهما ضؤل موضعه اللائق به.
الوقت هو مزرعتك :
إن العمر الذي تعيشه هو مزرعتك التي تجني ثمارها في الدار الآخرة، فإن زرعته بخيرٍ وعمل صالح جنيت السعادة والفلاح، وكنت مع الذين ينادى عليهم في الآخرة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]،
وإن ضيعته في الغفلات،وزرعته بالمعاصي والمحرمات؛ ندمت على ما قدمت يداك حيث لا ينفعك الندم، وتمنيت الرجوع إلى الدنيا لتعمل ولو حسنة واحدة ولكن هيهات هيهات،قال تعالي:(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )[فاطر:37].
فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ).
يقول ابن الجوزي رحمه الله كما في "فتح الباري" (11/234) :
قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون مُتفرِّغًا لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا ، فإذا اجتمعت (أي الصحة والفراغ) فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمَن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومَن استعملها في معصية الله فهو المغبون ؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم ، ولو لم يكن إلا الهرم.
ويقول ابن رجب رحمه الله :
أيام العافية غنيمة باردة ، وأوقات السلامة لا تشبهها فائدة ، فتناول ما دامت لديك المائدة ، فليست الساعات الذاهبات بعائدة.
وكان السلف الصالح أحرص ما يكونون على الوقت :
فها هو أبو مسلم الخولاني يقول : "لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد ، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد". (صفة الصفوة).
وقال رجل لعامر بن قيس :قف أكلمك ، قال : فامسك الشمس.
وكان داود الطائي يستف الفتيت ويقول :بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية.
وقال أبو بكر بن عياش :ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.
وكان عمير بن هانئ يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة.
قال النبي صلي الله عليه وسلم:(مَن قال سبحان الله العظيم وبحمده ؛ غُرست له نخلة في الجنة)رواه الترمذي من حديث جابر).
فكم ضيَّعنا من نخيل؟
وصدق القائل حيث قال :
إذا مر بي يوم ولم اقتبس هدى
ولم استفد علمًا فما ذاك من عمري
شباب اليوم
أما شباب اليوم فقد ماتت فيه الهمم ، وخارت العزائم ، وأصبح هناك دعة وراحة وتكاسل ، تمر الساعات والأيام ولا يحسب لها حساب
ينادى أحدهم على صاحبه قائلًا :تعال لنضيع الوقت!
فتضييع الأوقات بمشاهدة المباريات ، أو الجلوس في الطرقات، أو المحادثة على الشات ، وتضيع الساعات على النت أو الفضائيات ، وهذا كله دليل على مقت الله للعبد ، كما قيل :
من علامة المقت إضاعة الوقت
فالمؤمن ليس عنده وقت فراغ ، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح:8].
فَإِذَا فَرَغْتَ من شغلك ومن الناس ومن شواغل الحياة ، فتوجه إلى الله تعالى بالطاعة والعبادة.
يقول الشافعي رحمه الله :صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين ، سمعتهم يقولون :(الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ،
قال ابن القيم كما في "مدارج السالكين" مُعلقًا على كلام الشافعي ؛يا لها من كلمتين ما أنفعهما وأجمعهما ، وأدلهما على علو همة قائلها ويقظته. ا.هـ
فمن جهل الشباب بقيمة الوقت يفرحون بمغيب شمس كل يوم ، وهم لا يدركون أن هذا نهاية يوم من أعمارهم لن يعود أبدًا إليهم ،صحائف طويت ،وأعمال أحصيت، وأنفاس انقضت!!
قيل لعمر بن عبد العزيز يوماً : أخّر هذا العمل إلى الغد، فقال : ويحكم ؛ إنه يعجزني عمل يوم واحد ،
قال داود الطائي :إنما الليل والنهار مراحل ، ينـزلها الناس مرحلة مرحلة ، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدّم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل ؛
وقال أحد الصالحين لتلاميذه :إذا خرجتم من المسجد فتفرّقوا لتقرؤوا القرآن ، وتسبّحوا الله ، فإنكم إذا اجتمعتم في الطريق ، تكلمتم وضاعت أوقاتكم.
وعن موسى بن إسماعيل قال : كان حماد بن سلمة مشغولاً وقته كله ، إما أن يحدِّث ، أو يقرأ ، أو يسبِّح ، أو يصلي ، قد قسم النهار على ذلك.
ذكر علماء التراجم في سيرة الجنيد بن محمد ، أنه حين أتته سكرات الموت ، أخذ يقرأ القرآن ، فأتى الناس قرابته وجيرانه يحدّثونه وهو في مرض الموت ، فسكت وما حدثهم ، واستمر في قراءته ،
كان معروف الكرخي يعتمر ، فأتى من يقص شاربه ، فحلق رأسه ، ثم قال للقصاص :خذ من شاربي، فأخذ معروف يسبِّح الله ، فقال له القصاص :أنا أقص شفتك ، اسكت ، قال : أنت تعمل ، وأنا أعمل.
وعن ابن عساكر قال :كان الإمام سليم بن أيوب لا يدع وقتاً يمضي بغير فائدة ، إما ينسخ ، أو يدرس ، أو يقرأ ، وكان إذا أراد أن يعدّ القلم للكتابة حرّك شفتيه بالذكر حتى ينتهي من ذلك.
قال الإمام ابن عقيل رحمه الله:إني لا يحل لي أن أضيّع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي ، وأنا على الفراش ، فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرصٍ على العلم ، وأنا في الثمانين من عمري أشد مما كنت أجده ، وأنا ابن عشرين سنة ، وأنا أقصّر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سفّ الكعك ، وتحسّيه بالماء على الخبز ، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، وإن أجلّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص ، فالتكاليف كثيرة ، والأوقات خاطفة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: إضاعة الوقت أشد من الموت ؛لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة ، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
الحرص على العلم النافع و العمل الصالح :
يجب أن تحرص على علم نافع ،أو على عمل صالح، أو على مجاهدة النفس والهوى ،أو على إصلاح ذات البين، أو على أمر بمعروف، وعلى نهي عن منكر،حتى لا يستهلك الوقت هذا الإنسان فيصبح نادماً على ما فات
الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ، ولم يزدد فيه عملي.
فبعض العلماء يرفعون إلى النبي صلي الله عليه وسلم هذا الحديث ،وبعضهم يوقفونه على أصحاب النبي :(لا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله علماً يقربني من الله عز وجل).
لا بورك لي في يوم ، هذا اليوم غير مبارك ، هذا اليوم يوم نحس ، هذا يوم ضائع ، هذا يوم خاسر ، هذا يوم لا قيمة له ،أي يوم لم تزدد فيه من الله قرباً بعمل صالح ، أو لم تزدد فيه من الله علماً ، بتحصيل علم ، فهذا اليوم ليس من عمرك ، بل ضياع في ضياع، من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه ، أو فرض أداه، أوحمد حصله ، أوخير أسسه ،أو علم اقتبسه فقد عق يومه ،وظلم نفسه .
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي :يا بن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ،فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
ما من يوم يمضي من غير حق يقضيه ، أو فرض يؤديه ، أو حمد يحصله ، أو خير يؤسسه ، أو علم يقتبسه ، فقد عقّ ذلك اليوم ، وظلم نفسه .
وهناك أناس وما أكثرهم ، يقتلون الوقت ، إنهم ينتحرون ، ولكن انتحارهم هو انتحار بطيء . أحد العلماء الصالحين كان يمشي في الطريق مع أحد تلاميذه فرأى مقهى يعج برواده ، فقال: آه لو أن الوقت يشترى من هؤلاء ، لو أن الوقت يباع لاشتريته من هؤلاء .
قال بعض العلماء : من علامة المقت إضاعة الوقت ، من علامة المقت ، أي من علامة مقت الله لهذا الإنسان أن يضيع وقته .
قال تعالي:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)
كبر مقتاً ، هذا الذي يستهلك أوقاته في القيل والقال ، في المعاصي ،في الترهات ، في الأباطيل ،في الأعمال الفارغة ، في أعمال لا تقدم ولا تؤخر ، هذا يمقته الله عز وجل.
أهمية وقيمة الوقت :
إن الوقت الذي هو الحياة، الوقت الذي هو عمر الإنسان، وكل واحدٍ من البشر يملك في اليوم والليلة أربعًا وعشرين ساعةً، هي حياته وعمره في هذه الدنيا.
قال تعالي:(وَالْعَصْرِ )، والمقصود بالعصر أي: الوقت والدهر،
كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وقد اختاره ابن جرير الطبري في “تفسيره”، ونسبه للأكثر، وقال: إن تسمية الدهر عصرًا أمرٌ معروفٌ في لغة العرب.
فقد أقسم الله تعالى به جملةً، ثم أقسم به على وجه التفصيل بأجزاء منه،
قال تعالي:(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىوَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)،
وقال تعالي:(وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)،
وقال تعالي:(وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ).
ومن المعلوم أن الله تعالى إذا أقسم بشيءٍ؛ دلَّ ذلك على عظمة المُقْسَم به، وعلى أهميته وعلو شأنه.
يتفاوت الناس في قضاء الوقت :
هذا الوقت النفيس يتفاوت الناس في كيفية إمضائه تفاوتًا عظيمًا:
فمن الناس مَن يعيش عمرًا طويلًا وسنين عديدةً، وعندما تتأمل في واقعه تجد أن معظم وقته ضائعٌ مُبعثرٌ في إمضاء الوقت فيما لا ينفع، وكأن هذا الإنسان مخلوقٌ لا هدف له في الحياة!
بينما تجد آخرين منَّ الله تعالى عليهم فاغتنموا أوقاتهم فيما ينفعهم، فهم يرون أن الواجبات أكثر من الأوقات، فعمَّروا أوقاتهم بما ينفعهم من أمور آخرتهم ودنياهم.
إن الوقت هو عمر الإنسان في هذه الحياة، وقد كُتِبَ لكل إنسانٍ أن يعيش وقتًا محددًا في هذه الدنيا، لا يتقدم عنه لحظةً، ولا يتأخر عنه لحظةً،
قال تعالي:(إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[يونس:49].
هذا الوقت هو عمره، هذا الوقت الذي يعيشه الإنسان في الدنيا هو محلُّ اختبارٍ له: ماذا يعمل فيه؟
فنحن الآن نعيش في هذا الاختبار العظيم، تُحْصَى علينا جميع أعمالنا وأقوالنا،
قال تعالي:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:18].
وهذه الليالي والأيام بمثابة الخزائن التي نُودع فيها كل يومٍ أعمالًا، ثم يوم القيامة تُفْتَح هذه الخزائن، ويُحاسب الإنسان على ما أودعه فيها حسابًا دقيقًا،قال تعالي:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة:7-8].
فهل رأيتم أحدًا عمل صالحًا وندم؟
هل رأيتم أحدًا استقام على طاعة ربه وأناب إليه وندم؟
كلا والله، بل إن صاحب الطاعة يُسَرُّ ويَسْعَد ويغتبط بتوفيق الله تعالى له.
إن الذي يندم هو من يعمل المعاصي، ويتجرأ على الحُرُمات، ويرتكب المُوبقات، ويندم كذلك مَن تمر عليه الليالي والأيام وهو في غفلةٍ وسُباتٍ، يتسرب العمر، وتتوالى عليه المناسبات تلو المناسبات، وهو على تلك الحال حتى يَبْغَتَه الموتُ؛ فيندم حين لا ينفع الندم.
إن الإنسان عندما يعمل طاعةً لله، فإنما يُضيفها لرصيد حسناته، كما أنه إذا عمل معصيةً فإنه يُضيفها لرصيد سيئاته، وتُجْمَع أعمال ابن آدم يوم القيامة، وتُجْعَل الحسنات في كِفَّةٍ، والسيئات في كفَّةٍ، فإن رَجَحَتْ كفَّة حسناته كان من أهل السعادة، وإن رجحتْ كفَّة سيئاته كان من أهل الشقاوة إلا أن يعفو الله عنه،
قال تعالي:(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:6-11].
على كل واحدٍ منا أن يتأمل حاله مع وقته الذي هو حياته: كيف يقضيه؟ وبماذا يعمره؟ وبماذا يملأ ساعات الليل والنهار؟
إنها أسئلةٌ مهمةٌ، والأهم منها حُسن التعامل مع الإجابة عليها، والتوفيق لاستثمارها فيما ينفع.
من خصائص الوقت :
- الوقت هو أنفس ما يملك الإنسان، الوقت أغلى من الذهب والفضة؛ لأن الذهب والفضة يمكن تعويضهما إذا فاتا، أما الوقت إذا ذهب فلا يمكن تعويضه.
- ومن خصائص الوقت أيضًا: أنه سريع الانقضاء؛فهو يمر مَرَّ السحاب، ويجري جَرْي الرياح، سواءٌ كان في زمن مسرَّةٍ وفرحٍ، أو كان في زمن اكتئابٍ وتَرْحٍ، ومهما طال عمر الإنسان في هذه الدنيا، ومهما عُمِّر فيها من سنواتٍ وعقودٍ فهو قصيرٌ، وعند الموت تنكمش الأعوام وإن طالتْ، عند الموت تتقلص العقود وإن امتدتْ، حتى تُصبح كأنها لحظاتٌ مرَّت كالبرق الخاطف.
- والوقت على سرعة انقضائه ومروره ما مضى منه لا يعود أبدًا؛ يقول الحسن رحمه الله:ما من يومٍ ينشق فجره إلا ويُنادي مُنادٍ: يا ابن آم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فتزود مني، فإني لا أعود أبدًا إلى يوم القيامة.
وكل يومٍ يمضي يُقرِّب الإنسانَ من الموت وما بعده، ويُبْعده عن الدنيا، كما كان الحسن رحمه الله يقول:يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك.
الوقت يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة :
والوقت يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة سؤالان من أربع أسئلةٍ، كما قال صلي الله عليه وسلم:(لا تزول قَدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عمره فِيمَ أفناه؟ وعن شبابه فِيمَ أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفِيمَ أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)
فانظروا إلى هذه الأسئلة الأربعة التي تُوجَّه إلى المُكلَّف يوم القيامة، يخصّ الوقتَ منها سؤالان: سؤالٌ عن العمر عامةً فِيمَ أبلاه؟ وسؤالٌ عن الشباب خاصةً، مع أن الشباب داخلٌ في العمر، ولكن يُسأل عنه سؤالًا خاصًّا؛
لأن مرحلة الشباب هي مرحلة القوة والحيوية والعزيمة: القوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.
فَلْنُعِدَّ للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
قال تعالي:( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:99-111].
واقع الناس مع الوقت :
عباد الله، إذا نظرنا إلى واقع الناس من اغتنام أوقاتهم نجد أن كثيرًا من الناس لم يعرفوا نفاسة أوقاتهم؛ ولذلك فهم يُضيعونها فيما لا ينفع:
- فمن الناس من يُضيع كثيرًا من وقته في البحث عن متعة الجسد ولو كان ذلك من حرامٍ.
- ومنهم من يُضيع معظم وقته في مجالس اللعب واللهو والغِيبة والنَّميمة.
- ومنهم من هو مشغولٌ طيلة وقته بالتجارة، ما إن ينتهي من شغلٍ إلا وتنفتح عليه أبوابٌ أخرى، وكأنه خُلق لذلك.
- بينما نجد من الناس من عرف نفاسة وقته؛ فحدد أهدافه، واغتنم وقته فيما ينفعه في أمور دينه ودنياه.
من أسباب ضياع الوقت :
وعندما نتأمل في أسباب تضييع الوقت عند كثيرٍ من الناس نجد أن من أبرزها:
- عدم وجود أهدافٍ أو خُططٍ للحياة؛ فهو يعيش وكأنه سيُخلَّد في هذه الدنيا، تمر عليه الليالي والأيام، والشهور والأعوام، والمواسم تلو المواسم، ولا يُحدث ذلك في نفسه أثرًا، أو يدعوه لوقفة مُحاسبةٍ صادقةٍ مع النفس.
وقد ذكر الله تعالى عن الكفار أنهم يعيشون في هذه الدنيا للطعام والشراب ومتعة الجسد فحسب، وليست عندهم أهدافٌ غير ذلك؛ فحياتهم أشبه بالحيوانات، كما قال تعالى:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12].
-والمسلم أكرمه الله بالإسلام، فعليه أن يُحقق الغاية التي من أجلها خُلِقَ؛ وهي: العبودية لله تعالى؛ حتى يَسْعَد دنيا وأخرى.
ومن أسباب تضييع الوقت: الغفلة وطول الأمل؛ فهو يغفل عن مصيره الذي هو صائرٌ إليه يومًا من الأيام، مهما كدح، ومهما امتدَّ به العمر،قال تعالي:(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق:6].
- إن تذكر هذا المصير يُعين الإنسان على اغتنام الوقت؛ أما طول الأمل والغفلة عن هذا المصير الذي لا يتذكره الإنسان، وإن تذكره فإنه يتذكره مع طول الأمل في الدنيا، وكأنه قد ضمن أن يعيش عمرًا طويلًا يمكنه فيه التدارك؛
فتضيع أوقاته بسبب ذلك، مع أنه يرى الموت يتخطف الناس من حوله: أصحاء ومرضى، وصغارًا وكبارًا، وأن الأجل مُغيَّبٌ عن الإنسان.
- ومن أسباب تضييع الوقت: الصُّحبة السيئة للبطَّالين؛ الذين لا يكتفون بتضييع أوقاتهم، بل يسطون على أوقات غيرهم.
- والصُّحبة لها الأثر الكبير على الإنسان؛ ولذلك فإن مَن يُضيع أوقاته يندم يوم القيامة على الصُّحبة السيئة ويَعَضُّ على يديه، كما قال تعالى:(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:27-29]،
فيندم في ذلك الموقف ندمًا عظيمًا، ويَعَضُّ على يديه، يندم على حياةٍ مليئةٍ بالندم، لكن أشدّ ما يندم عليه الصُّحبة السيئة؛
لأنه يرى أثرها السيئ العظيم عليه، فيقول: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، ويُبين السبب في ذلك بتأثيره الكبير عليه في إضلاله،قال تعالي:(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي).
- ومن أسباب تضييع الوقت: عدم إدراك نفاسته؛ فلا يُبالي في تضييعه كيفما اتَّفق، ولو أنه استشعر نفاسة وقته، وأن الوقت هو الحياة، وهو عمر الإنسان،
وهو فرصةٌ يتمناها الأموات؛ لكي يتداركوا، وأن مصير سعادته أو شقاوته بحسب ما يملأ هذا الوقت من أعمالٍ؛ فإنه لن يُضيع وقته النفيس فيما لا ينفع.