حسن النية

مقدمة:
حسن النية سر النجاح، والذكر الجميل، والفوز والقبول .. بل إن الأعمال التي تفتقر لحسن النية أعمال جوفاء لا بركة فيها .. ومصيرها وبال على صاحبها في الدنيا والآخرة.

معني النية :

والنية في اللغة: بمعنى القصد والإرادة.

وفي الشرع: يقصد بها أحد معنيين:

- أولهما تمييز العبادات بعضها من بعض؛

كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك؛

- وثانيهما بمعنى تمييز المقصود بالعمل؛

وهل هو لله وحده لا شريك له؟ أم لغيره؟ أم لله ولغيره؟ وهذه هي النية المقصودة التي جاء بها كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة.

وقد ورد ذكر هذه النية في القرآن الكريم بغير لفظ النية بألفاظ كثيرة مقاربة، ومنها الإرادة مثل قوله تعالى:(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران:152]،

وقوله تعالي:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى:20]،

ووردت بمعنى الابتغاء، مثل قوله تعالى:(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) [الليل:20]،

وقوله تعالي :(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) [البقرة:265].

وأما النية بلفظها والألفاظ التي بمعناها فقد وردت كثيرا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي كلام سلف الأمة؛

قال صلى الله عليه وسلم:(مَن غزا في سبيل الله ولم ينوِ إلا عقالا فله ما نوى) أخرجه النسائي.

وقال صلى الله عليه وسلم:(مَن كانت الدنيا همه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)رواه ابن ماجة.

وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:

(إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك" رواه الشيخان؛ فانظر إلى روعة هذا الحديث فهو مع بيانه لأهمية الإخلاص يهدف إلى أمرين :أولهما الإشارة إلى روعة هذا الدين، وسعة رحمة الله تعالى، وأن الإنسان يثاب حتى في الأمور المباحة التي فيها فرحته وسروره؛ وثانيهما التنبيه على أهمية مثل هذه الأمور العاطفية؛ من التعامل الحسَن مع الزوجة وكسب مودتها، وإرضاء عاطفتها.

يقول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.

وقال داود الطائي رحمه الله : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية. 

ويقول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي، لأنها تتقلب عليَّ.

وقال بعضهم: تخليص النية من فسادها أشَدُّ على العاملين من طول الاجتهاد.

وقال ابن المبارك رحمه الله: رب عمل صغير تعظمه النيه، ورب عمل كبير تصغره النية.

هكذا كان السلف الصالح يهتمون بأمر النية ووجوب الإخلاص فيها لله تعالى، ولهم في ذلك كلمات جميلة، وعبارات مؤثرة، منها ما تقدم.

ومن القرآن، قوله تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [غافر:65]،

 وقال تعالي: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]،

 وقال تعالي :(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:2-3]،

 وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].


فالإخلاص تصفية العمل من كل شوب، وتنقيته من كل كدر؛

 جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ماله؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا شيء له)، فأعاد ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا شيء له)، ثم قال:(إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه) رواه النسائي.

يقول أحد السلف: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.

ويقول الآخَر: المخلص من كتم حسناته كما يكتم سيئاته.

وقال الآخَر: اللهم إني أستغفرك مما زعمتُ فيه الإخلاص، وقد خالط بشاشة قلبي غير ذلك.

 وقال مكحول رحمه الله: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه.

 وقال يوسف بن الحسين رحمه الله: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر .

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجلهم شرك، والإخلاص الخلاص من هذين.


النية أساس الفلاح :

قال الرسول صلى الله عليه وسلم :(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.

فالنية أساس الفلاح، وعنوان النجاح، إن صفت صفا العمل، وإن حسنت قُبل، وإن طابت طاب، وإن ساءت النية ساء العمل، واعتراه الخلل، وباء بالفشل؛

يكون العمل قليلا فتُكَثِّرُه النية، ويكون كثيرا فتقلله النية أو تمحقه، (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه).


بالنية قد يصل المرء إلى أعلى عليين، وبالنية قد يهوي إلى أسفل سافلين؛

من صلحت نيته صلح عمله، وبورك فعله، وحسن قوله، وطاب سلوكه، قال تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) [الفتح:18]،

ومن ساءت نيته فالعمل مردود، والطريق مسدود، والفعل مرذول، والمستقبل مظلم، والوعيد مخيف، والبركة ممحوقة.

من خبثت نيته خبثت نفسه، وخبث جنانه، وخبث لسانه، وخبثت آثاره، وشاهت أخباره،

 قال تعالي: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومَاً مَدْحُورَاً) [الإسراء:18]،

ومن زكت نيته زكت نفسه، وزكا قلبه، وزكا لسانه، وزكت جوارحه، وعظم عطاؤه، وشكر سعيه،

قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً) [الإسراء:19].

كم من متظاهر بالإحسان، ومُدَّعٍ للإخلاص، يشم الناس فساد نيته، ويعرفون خبث طويَّتِه، فلا ينفعه ادِّعاؤه، ولا يفيده خداعه؛ وليس الجمال في الإسلام جمال الظاهر، وقوة الجسم، وحسن الصورة، ولكن الجمال جمال الباطن، والحسن حسن النية،

قال صلى الله عليه وسلم :(إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.


النية سر العبودية وروحها:

فهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد؛ لأنها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنما الأُعمال بالنيات)(متفق عليه)،

فهي ملاك الأعمال، وعليها يكون القبول والرد، والثواب والعقاب.


بالنية يبلغ الإنسان مالا يبلغ بعمله :
فقد يعجز المرءُ عن عمل الخير الذي يصبو إليه لرقة حاله، أو ضعف صحته، أو قلةِ حيلته، لكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه، لأن طِيبَ مقصدهم أرجحُ لديه من عجز وسائلهم.

فما أعظم النية!

فإنك تستطيع بنيتك الصادقة وعمل قلبك الخالص أن تلحق بأجر المحسن العظيم، وإن لم يكن لديك مال تتصدق به، ففي حديث أبي كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر :عبدٍ رزقهُ الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيهِ ربهُ ،ويصلُ فِيه رحمهُ ،ويعلم لله فيهِ حقًا فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقهُ اللهُ علمًا ولم يرزقهُ مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملتُ بعمل فلان فهو بنيتهِ فأجرهما سواء) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله تعالي الشهادة بصدقٍ بلغهُ منازل الشهداء ،وإن مات علي فراشه)رواه مسلم،

فكل من صدق الله صدقه الله جل في علاه.


علي قدر النوايا تكون العطايا :

 نظافة قلبك، وسلامةُ صدرك، ونيتُك الصافية؛ هي مفتاح التيسير والمنح والفتوحات في هذه الحياة.


ولا يغلق باب على العبد فيصدق في نيته ويحسن الظن بربه إلا ويفتح الله له أبوابا أوسع وأرحب،قال تعالي:(إن يعلمِ اللهُ في قلوبكم خيرًا يُؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم ويغفر لكم )[الأنفال:70].


 أصلح ما في قلبك؛ ينزل الله عليك السكينة، ويفتح لك الأبواب ويحميك، مهما ظهر الأمر بخلاف ذلك، قال تعالي:(فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا ومغانم كثيرةً يأخذُونها) [الفتح:18، 19].


النية الصالحةتفتح أبواب الخير والتوفيق والمعونة :

 من أوجد نية الخير في قلبه أعانه الله على عمله، وفتح له من أبواب التوفيق والتيسير على قدر نيته، قال تعالي: (ولو عَلِم اللهُ فيهم خيرًا لأسمعهم)[الأنفال:23].

والله لا يضيع صدق النوايا ولو خفيت عن عباده، فأرح قلبك مهما أُسيئت بك الظنون، وإياك أن تدخل في نوايا الناس فلا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، قال تعالي:(ربكم أعلمُ بما في نُفُوسِكم إن تكونوا صالحين فإنهُ كان للأوابين غفورًا )[الإسراء:25].


 كتب سالمُ بنُ عبد الله إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمهم الله جميعاً في بداية خلافته: (فإن نويت الحقَّ وأردته أعانك الله عليه، وأتاحَ لك عُمَّالا، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإنَّ عونَ الله على قدر النية؛فمن تمَّت نيتُه في الخير تمَّ عونُ الله له، ومن قَصُرَت نيتُه قصر من العون بقدر ما قصر منه). أخرجه أحمد في كتاب الزهد.


سر صلاحك في صلاح سرك وباب جنتك في طهارة قلبك :

إن سرَّ صلاحِك يكمُن في إصلاحِ سرك، فضع نيةَ الخير في قلبك وسيتولى الله أمرَك، وكم من أبواب عظيمة فُتِحَت بمفتاح النية الطيبة، وكم من شخصٍ رُزِق بنيته الطيبة أكثرَ مما يتوقع، وعلى قدر نياتكم ترزقون.

لو يعلم المرءُ عن تدبير خالقهِ

     له لما ناح حُزناً أو شكا ألما

خرق السفينةِ كان الشر ظاهرهُ

      والخيرُ فيهِ فسبحان الذي حكما


النية رأس الفضائل :
فالنية رأس الفضائل، وأصل المسائل، وأساس العمل؛ والعمل بلا نية كالجسم بلا روح، والعروق بلا دم، والشجرة بلا ثمرة؛ قال صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين،
وقد روي عن الشافعي قوله: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه. وقال الإمام أحمد: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر رضي الله عنه‏ (الأعمال بالنيات)،
وحديث عائشة رضي الله عنها:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه،
وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه:
(الحلال بين والحرام بين) رواه البخاري.


 قصة قصيرة ينقلها لنا الحافظ الذهبي (المتوفى سنة 748 هـ) رحمه الله تعالى:
ولما رحلت إلى شيخنا شيخ الوقت، ومسند العصر، ورحلة الدنيا أبي الوقت، قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان على طرف بادية سجستان، فسلمت عليه وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي:
 ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إلي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلو إسنادك.
فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاء طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال:
اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا. ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى الداوودي ببوشنج، وكان لي من العمر دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يدي حجرين،
ويقول: احملهما، فكنت من خوفه أحفظهما بيدي، وأمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحداً، فألقيه ويخف عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي،
فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه, فأقول: لا.
 فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعة، ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر من يدي ويلقيه عني، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني على كتفه.
ثم قال: وكنا نلتقي على أفواه الطرق بجماعة من الفلاحين وغيرهم من المعارف، فيقولون: يا شيخ عيسى! ادفع إلينا هذا الطفل نُركِبُه وإياك إلى بوشنج، فيقول: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجاء ثوابه والانتفاع به. وكان ثمرة ذلك حسن نية والدي رحمه الله أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي، حتى صارت الوفود ترحل إلي من الأمصار.
 سير أعلام النبلاء.. للذهبي ( ١٥ / ١٠٣ ) 
تعليقات