وفي المقابل إذا ذكر العبد ربه فلأن القلب ذكر ، وإذا أطلق يده بالصدقة فلأن القلب أذِن ،وإذا بكت العين فلأن القلب أمر ، فالقلب مملي الكلام على اللسان إذا نطق ،وعلى اليد إذا كتبت،وعلى الأقدام إذا مشت ، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم للقلب حقه ومكانته حتى وصفه بأنه:
فكل الأفعال مردها إلى القلب وانبعاثها من القلب،وكل الأفعال تعني كل الأفعال ولو كانت لبس ثيابك وزينة بدنك!!
وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته ، وقلبت الإناء :رددته على وجهه ،
ما سُمِّي القلب إلا من تقلُّبه
فاحذر على القلب من قلب وتحول
قال النبي صلى الله عليه وسلم :(إنَّما سُمِّي القلب من تقلُّبه ، إِنَّما مثلُ القلب مثلُ ريشةٍ بالفلاة ، تعلَّقت في أصل شجرةٍ ، يُقلِّبها الريحُ ظهرًا لبطنٍ)صحيح الجامع.
وإن القلب شديد التقلب سريع التحول ، ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا فيقول :(لقلبُ ابن آدم أشدُّ انْقلابًا من القدر إذا اسْتجمعتْ غليانًا )صحيح الجامع.
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدرًا ، وعقب أكثر المواسم خيرا وفضلا ؛ أمر مستحيل؛
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك).
ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ، وأنها لا تنفع بدونها ، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح،وهل يُميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟!
وقال في موضع آخر :( فعمل القلب هو روح العبودية ولبها ، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح ).
وقال أيضا :(فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح ؛
ولهذا يسبق أصحاب القلوب أصحاب الجوارح بمراحل وعلى الدوام ،
أنواع القلوب :
قال ابن القيم رحمه الله:
القلوب ثلاثة:
- قلب خال من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه لأنه قد اتخذ بيتاً ووطناً وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن.
-القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية
فللشيطان هنالك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال.
وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر.
ومنهم من هو تارة وتارة.
-القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات
فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئاً إلا خطفه.(الوابل الصيب،ص24)
قال ابن القيِّم رحمه الله :
"ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه ؛أجلب عليه بالوساوس ، وأقبل بوجوه الشهوات إليه ، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق ، وأمدَّه من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق ، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق".
فالقلب هو الهدف المشترك بين الملك والشيطان ، كلاهما يستهدفه ، فهو موضع الصراع ، والنقطة الملتهبة ، وساحة القتال ، وأرض المعركة ، ونتيجة هذه المعركة :
ولا يدخلها أحد إلا بعد كمال طيبه وطهره ، لأنها دار الطيبين ، ولذا يُقال لهم وهم على مشارف الجنة :
ويُبشَّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملائكة : (الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ ) [ النحل : 32 ].
قال ابن القيِّم رحمه الله: فالجنة لا يدخلها خبيث ، ولا من فيه شيء من الخبث ، فمن تطهَّر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوِّق ، ومن لم يتطهر في الدنيا ؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال ، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة ، ثم يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة ، ولم توجب لهم دخول النار ، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أُذِن لهم في دخول الجنة .
من أجل ذلك جاء الأمر جازما للنبي صلى الله عليه وسلم : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ )[ المدثر : 4 ].
قال ابن القيِّم رحمه الله :وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب ، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق .
فلا القول ينفع ، ولا العمل يشفع ، بل سلامة القلب هي أصل كل نجاة ؛
القلب السليم هو القلب الذي سلم من كل شيء إلا من عبوديته لربه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر ، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ؛ فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يُمدح به .
وتأمل كيف جعل الله المال والبنون بمعنى الغنى ،كأن المعنى : يوم لا ينفع أحد غناه إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ؛
لكن تلميذا نجيبا من تلامذة ابن تيمية أفاض في شرح معنى القلب السليم ؛ يبغي بذلك إزالة أي لبس أو غموض حتى يسهل الوصول إلى المراد ،
والقلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة ، فسلم من كل آفة تبعده من الله ، وسلم من كل شبهة تعارض خبره ، ومن كل شهوة تعارض أمره ، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده ، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهذا القلب السليم فى جنة معجلة فى الدنيا ، وفى جنة فى البرزخ ، وفى جنة يوم المعاد ، ولا يتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء :
وفي آية سورة ق :(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ )[ ق : 32-33 ].
وتأمل قوله تعالى في الشعراء:( أتى )،وفي ق :(جاء) ، وكأن المعنى الذي يريد أن يوصله لك ربك :
وفي المقابل قد يدخل عبد النار بسبب قلب كما قال تعالى :
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ) [ الأعراف : 179 ].
بل إن حال العبد في قبره ما هو إلا انعكاس لحال قلبه في الدنيا كما قرَّر ذلك ابن القيم وهو يزيدنا في كتابه زاد المعاد :
فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا .
والأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة التي جاءت في قوله تعالى :(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب :72] ، وهي عين الإيمان ،
وفي الشطر الثاني من الحديث أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الإيمان يُنزع أول ما يُنزع كذلك من القلب ، فمن القلب الزيادة ومنه النقصان ، وفيه نشأة الخير ومولد الشر ، ولو لم يكن للقلب من فضل إلا أنه وعاء الإيمان لكفاه وفضل عليه.
والقلب كذلك هو وعاء التقوى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :(التقوى ها هنا)، وأشار إلى صدره ، علامة على أن مكان التقوى هو القلب ، والقلب وحده ، فليست التقوى نبرة خشوع أو دمعة عين أو إطالة سجدة أو غير ذلك من المظاهر الفارغة من الروحانية والخشوع ، إنما هي سر قلبي مستودع في القلب لا يطلع عليه أحد إلا الله.
ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك ،
فمريض القلب أي نفحة هواء أو هبة تراب تصيبه في مقتل ، وأي شهوة عابرة أو زلة تتسبب في فتنته ، وأعرى فخ للشيطان يسقط فيه ، وأسهل مكيدة لعدوه يسارع إليها ، والسبب في ذلك كله ضعف قلبه وانهيار أجهزة المناعة لديه.
قال ابن القيم رحمه الله :
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق ، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه ، وتألّم بجهله بالحق بحسب حياته ، وما لجرح بميت إيلام .
ومما يجعل مرض القلب أخطر من مرض البدن بكثير أن مرض القلب عذابه دائم بعد الموت لا ينقضي ؛ بعكس مرض البدن الذي يُتخَلَّص منه بالموت ، مما يجعل الاهتمام بأمراض القلوب أوجب والسعي في علاجها أدعى.
إن ما يصيب البدن من أسقام في هذه الحياة يؤجر عليه الإنسان ، أما ما يصيب القلب من أمراض فهو الإثم كله والهلاك كله في الحياة وبعد الممات ، إنك إذا دخلت معركة فقتلك العدو الظاهر وسلبك حياتك لمتّ شهيدا ، أما إذا غلبك العدو الباطن بأسلحة الشهوات والشبهات لمتّ حينئذ طريدا ، وشتان عند الله ما بين شهيد وطريد ، شتان شتان.
وسمَّاهم ربيعة الرأي بالسفلة وسفلة السفلة ، فقد روى مالك بن أنس :" قال لي أستاذي ربيعة الرأي : يا مالك! من السفلة؟ قلت : من أكل بدينه ، فقال : فمن سفلة السفلة؟ قال : من أصلح دنيا غيره بفساد دينه " .
أظهروا لله دينا
وعلى الدينار داروا
وله صاموا وصلوا
وله حجوا وزاروا
لو بدا فوق الثريا
ولهم ريش لطاروا
عالم السوء الذي لا يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره ، ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم النهر ؛ لا هي تشرب ولا هي تدع الماء يخلص إلى الزرع ..
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه
قوم غووا معه فضاع وضيَّعا
مِثل السفينة إن هوت في لجة
تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا
منزلة القلب ومكانته:
- ملك الجوارح ومحركها:
فإن استقام قلب العبد استقامت جوارحه وإن اعوج اعوجت، قال ابن القيم رحمه الله:(ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله)،
قال النبي صلى الله عليه وسلم :(إِن في الجسد مُضغةً: إِذا صلحت صلح الجسدُ كُلُّهُ، وإِذا فسدت فسد الجسدُ كُلُّهُ، ألا وهي القلبُ)أخرجه البخاري ومسلم.
فهو ملكها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما كان يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته.
وهو المسؤول عنها كلها ؛"لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون.
والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون.
وقال ابن تيمية رحمه الله: القلبُ هُو الأصلُ فإذا كان فيهِ معرفةٌ وإِرادةٌ سرى ذلك إلى البدن بالضَّرُورة لا يُمكنُ أن يتخلَّف البدنُ عَمَّا يُريدُهُ القلبُ.
- محل التقوى:
القلب له منزلة عظمى تفوق سائر أعضاء الجسد، وهو محِل امتحان تقوى العبد كما قال تعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) [الحجرات: 3]،
وقال صلى الله عليه وسلم:(التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره، ثلاث مراتٍ).رواه مسلم
- محِل نظر الإله:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)اخرجه مسلم
قال المناوي رحمه الله: فكم من ظريف اللسان جميل المنظر عظيم الشأن هالك غدا في القيامة لسوء عمله وكآبة منقلبه وقبح سيرته وسوء سريرته، فالقلب هو محل نظر الحق فلا عبرة بحسن الظاهر وزخرف اللسان مع خبث الجنان.
- تتفاوت الدرجات بتفاوت ما في القلوب:
قال ابن القيم رحمه الله: (إِنَّ الأعمال لا تتفاضلُ بِصُوَرِهَا وعددها، وإِنَّما تتفاضلُ بتفاضُل ما في القلُوب، فتكُونُ صُورةُ العملينِ واحدةً، وبينهُما في التَّفاضل كما بين السَّماء والأرض، والرَّجُلان يكونُ مقامُهما في الصَّفِّ واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السَّماء والأَرض) .
ومع عظم منزلة القلب إلا أنه سريع التقلب من حال إلى حال، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، قَالَ: مَا آمنُ على أحدٍ بعد الذي سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:(لقلبُ ابن آدم أَسرعُ تقلُّبًا من القدر إذا استَجمعت غليانًا)،ولله در القائل:
ما سُمِّي القلبُ إِلَّا من تقلُّبهِ
فاحذر عَلى القلب من قلبٍ وتحويل
وقال بعض السلف: مثل القلب في سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن. ويكفى في هذا قوله تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الأنفال: 24]،
فأي قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له فى كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إِلَهَ إلا هو.
أسباب فساد القلب:
إن الاهتمام بصلاح القلوب، والبحث عن أسباب فسادها أمرٌ في غاية الأهمية، فصلاح القلب يترتب عليه صلاح الأعمال والسلوكيات، وهناك كثير من الأسباب وراء فساد القلب وقسوته وغلظته منها:
- الغفلة عن ذكر الله وتدبر القرآن، والتأمل في آياته الكونية:
لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب، كما قال سبحانه:(إِنّ في ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[ق: 37].
وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لما يُحيِيكُمْ)[الأنفال: 24].
فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان.
وقال ابن القيم رحمه الله:( فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً).
وقد توعد الله أصحاب هذه القلوب وعيداً شديداً فقال(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
- البعد عن الحق بعد معرفته:
قال تعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]،
وقال تعالي:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)[الصف: 5]
أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان.
فعاقبهم سُبحانهُ بإزاغة قُلُوبهم عن الحق لما زاغوا عنهُ ابتداءً، ولهذا قيل من عرض عليهِ حق فرده فلم يقبله عُوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه.
- كثرة الذنوب والمعاصي:
ومن أدمن الذنوب واستسهلها بلغ به الحال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (وإنَّ الفاجر يرى ذُنُوبهُ كذُبابٍ مرَّ على أَنفهِ، فقال به هكذا).أخرجهُ البخاري
فهذا يموت قلبه، ويتلبَّد إحساسه، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا.
قال المحاسبي رحمه الله:اعلم أنَّ الذنوب تورث الغفلة، والغفلة تورث القسوة، والقسوة تورث البعد من الله، والبعد من الله يورث النار .
من أعظم الذنوب إفسادًا للقلب النظر لما حرم الله، فالبصرُ هو البابُ الأكبرُ إلى القلب، وأعمرُ طُرقِ الحواس إليهِ، وبحسب ذلك كثر السُّقُوطُ من جهته. ووجب التَّحذيرُ منهُ، وغضُّهُ واجبٌ عن جميع المحرَّمات، وكُلِّ ما يُخشى الفتنةُ من أجلهِ.
- الانشغال بالدنيا والانهماك في طلبها والمنافسة عليها:
قال تعالى:(فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37 - 39].
قال ابن القيم رحمه الله:متى رأيت القلب قد ترَحَّلَ عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حبُ المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها فالعلم أنه قد خُسَفَ به. ومتى أَقحَطَت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي .
-كثرة الأماني وطول الأمل:
قال تعالى:(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[الحديد: 14]
قال قتادة رحمه الله: في قوله تعالى: (وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ)،
أي: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه.
وفي الحديث:( لا يزالُ قلبُ الكبير شابًّا فِي اثنتين: في حُبِّ الدُّنيا وطُول الأملِ)أخرجه البخاري
قال المناوي رحمه الله: طول الأمل غرور وخداع إذ لا ساعة من ساعات العمر إلا ويمكن فيها انقضاء الأجل فلا معنى لطول الأمل المورث قسوة القلب وتسليط الشيطان وربما جر إلى الطغيان.
-كثرة الجدال والتعصب للرأي واتباع الهوى :
قال الله تعالى محذرًا نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )[الكهف: 28]،
وقال تعالي:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[الجاثية: 23]
وقال الشافعي رحمه الله: المرآءُ في العلمِ يُقسِّي القلب، ويُورِّثُ الضَّغائن .
- التوسع المذموم في المباحات:
كالأكل والشرب والنوم والكلام، فإذا تجاوزت حاجة المرء كان لها تأثيرًا سلبيًا على قلبه، وقد نهى ربنا تبارك وتعالى عن التفريط في المباحات والإسراف فيها فقال سبحانه:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]،
قال الغزالي رحمه الله:في كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب.
وقال ابن القيم رحمه الله: من مفسدات القلب كثرةُ النَّوم، فإنَّهُ يُميتُ القلب، ويُثقِّلُ البدن، ويُضيعُ الوقت، ويُورثُ كثرة الغفلةِ والكسلِ، ومنهُ المكرُوهُ جدًّا، ومنهُ الضَّارُّ غيرُ النَّافع للبدن، وأنفعُ النَّوم ما كان عند شدَّةِ الحاجَّة .
وقال أبو سليمان الداراني:إِنَّ النَّفس إِذا جاعت وعطشت صفا القلبُ ورقَّ، وَإِذَا شَبِعَتْ ورويت عمِّي القلبُ وبادَ.
والشِّبعُ المفرط يُثقلُ عن الطَّاعات، ومن أكل كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، فخسر كثيرًا.
- كثرة مخالطة الناس في غير مصلحة:
لا شك أن المرء يأخذ من سلوكيات من حوله من الناس ويتأثر بهم، فإن كانوا صالحين أخذ من صلاحهم وإن كانوا غير ذلك تأثر بهم إلا من عصمه الله تعالى، وقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: (المرءُ على دينِ خليلهِ، فلينظر أحدُكُم من يُخاللُ)أخرجه أحمد وحسنهُ الالباني.
فإن اتخذ صالحاً خليلاً يكون هو صالحاً، وإن اتخذ فاسقاً يكون هو فاسقاً. ولله در القائل:
ولا تصحب أخا الجهل
وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى
حليماً حين آخاه
وللشيء من الشيء
مقاييس وأشباه
يقاس المرء بالمرء
إذا ما المرء ماشاه
وللقلب على القلب
دليلٌ حين يلقاه.
قال الغزالي رحمه الله:الطباعُ مجبولَةٌ على التَّشبُّه والاقتداء بل الطَّبعُ يسرقُ مِنَ الطَّبع من حيثُ لا يدرِي صاحبُهُ فمجالسةُ الحريص على الدُّنيا تُحرِّك الْحرص ومُجالسةُ الزاهد تُزهِّدُ في الدُّنيا .
علاج مرض القلب:
لا يمكن أن يستقيم قلب العبد على الإيمان حتى يكون سليمًا من الشبهات والشهوات، لأن سلامة القلب وخلوصه سبب في سعادة الدنيا والآخرة،قال تعالي:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
بل إن سليم القلب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الناس، فعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: قيل لرسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( أيُّ النَّاس أفضلُ؟ قال: كُلُّ مخموم القلب، صدُوق اللِّسانِ. قَالُوا: صدُوقُ اللِّسان نعرفهُ، فما مخمومُ القلب؟قال: هُو التقيُّ النقيُّ، لا إِثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد).
ومن الأمور التي تعين على صلاح القلب:
- قراءة القرآن وتدبره والتفكر فيه:
وقد أمر الله عز وجل الناس بعبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا يحدث ذلك إلا بتدبر آياته كما أمر بذلك سبحانه في كتابه فقال:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]،
وقال تعالي:(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ )[المؤمنون: 68]،
ولا ريب أن تدبر القرآن من أنفع العلاج لأمراض القلوب وقد أخبر سبحانه بذلك في قوله:(ياأَيُّها النَّاس قد جاءتكم موعظةٌ من ربِّكمْ وشفاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وهدًى ورحمةٌ للمُؤْمنينَ)[يونس: 57]
قال السعديرحمه الله: هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة. وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده.
وقال إبراهيم الخواص: دواءُ القلب خمسةُ أشياءٍ، قراءةُ الْقُرْآنِ بالتَّدبر وخلاءُ البطن وقيامُ الليل والتَّضرُّعُ عند السَّحر ومُجالسةُ الصَّالحِين .
- ذكر الله تعالى:
فقد أخبر سبحانه أنه لا اطمئنان لقلب المرء إلا بذكره فقال تعالي :(أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]. فبذكره سبحانه دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه.
وقد أمر سبحانه عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره فقال:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)[الأحزاب: 41]
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية:إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله؛ فقال:(فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء: 103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، في الصحة والسقم، في السر والعلانية وعلى كل حال.
وقال مكحول: ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء.
- الدعاء والتضرع إلى الله:
فالدعاء من أفضل العبادات، والقلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، ويصرفها كيف يشاء، فلابد للمرء أن يسأل الله التثبيت لقلبه، وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:(يا مُقلِّب القُلُوب ثبِّت قلبي على دينك).أخرجهُ الترمذي
وقال صلي الله عليه وسلم:) اللهمَّ مُصرِّف القُلُوب صرِّفْ قُلُوبنا على طاعتكَ).أخرجهُ مسلم
فإذا كان هذا هو حال نبيناصلى الله عليه وسلم مع عِظَمِ قدره ومنزلته عند ربه، فنحن أولى بذلك اقتداءً به صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى من دعاء المؤمنين في قوله تعالي:(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )[آل عمران: 8].
- ومن الأمور التي تعين على إصلاح القلب إخفاء العمل والخلوة المشروعة؛
فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه.
قال ابن تيمية رحمه الله:ولا بدَّ للعبدِ من أوقاتٍ ينفردُ بها بنفسهِ في دُعائهِ وذكرهِ وصلاتهِ وتفكُّرهِ ومُحاسبةِ نفسهِ وإصلاحِ قلبهِ.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:نعم صومعةُ الرَّجل بيتهُ، يحفظُ فيها لسانهُ وبصرهُ .
- اعتزال أماكن الفتن والشهوات، فهي تدمر القلب تدميرًا:
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته الفتن فقال: (بادروا بالأَعمال فتنًا كقطعِ اللَّيلِ المظلم، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤْمنًا ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مُؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دينهُ بعرضٍ من الدُّنيا).
قال النووي رحمه الله:معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر.
- تعظيم شعائر الله تعالى:
قال تعالى:(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]
فَالمقصُود تقوى الْقُلُوبِ للَّه وهو عبادتُها لهُ وحدهُ دُونَ ما سواهُ. بغاية العبوديَّة لهُ والعُبوديَّةُ فيها غايةُ المحبة وغايةُ الذل والإخلاص وهذه ملَّةُ إبراهيم الخليلِ.
وهذا كُلُّهُ مما يُبينُ أَن عبادة القُلُوب هي الْأَصلُ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن في الجسدِ مُضغةً إذَا صلحت صلح الجسدُ كُلُّهُ وإِذا فسدت فسد الجسدُ كلُّهُ ألا وهي الْقلبُ)شرح النووي علي مسلم